كان يستيقظ المزارع ويأخذ إلى السوق الأشياء ذات القيمة العالية؛ يأخذ القمح والذرة اللذين بجودة يمكن أن تضاهي نظيرهما على مستوى العالم، وأخذ أفضل الخنازير والماشية. في طريق العودة، كان يشتري بعض الأغراض المصنعة ذات الجودة الرديئة؛ قطع أثاث براقة مكسرة، سجاجيد وستائر بهت لونها، ملابس تجعل الوسيم الذي يرتديها مثل المهرج. وكان ينفق معظم أمواله على الآلات - وهذه أيضا تحطمت. لم تكن تصمد آلة الدرس البخارية مدة طويلة، ويعيش أحد الأحصنة مدة تجاوزت العمر الافتراضي لثلاث سيارات.
أحس كلود لما كان صغيرا، وكان جميع الجيران فقراء، أنهم ومنازلهم ومزارعهم حظوا بشخصية فريدة أكثر. كان المزارعون حينها يستغرقون وقتا أطول في زراعة بساتين أشجار الحور القطني البديعة في مزارعهم، وفي عمل سياجات بزراعة أشجار برتقال أو ساج بطول حدود حقولهم. قطعت كل هذه الأشجار الآن واقتلعت من أماكنها. لم يكن أحد يعلم السبب؛ تسببوا في انخفاض خصوبة الأرض، تسببوا في الركامات الثلجية، لم تعد توجد لدى أحد أي من هذه الأشجار. تولد نوع من قسوة القلب من رحم الرخاء؛ إذ يريد كل امرئ أن يدمر الأشياء القديمة التي اعتاد أن يفخر بها. البساتين التي رعيت وحوفظ عليها طيلة عشرين سنة باتت متروكة الآن كي تموت من الإهمال. بات الذهاب إلى المدينة بالسيارة لشراء الفاكهة أسهل من زراعتها.
تغير الناس أنفسهم. إنه يتذكر وقت أن كان جميع المزارعين في هذه البلدة يكنون الود بعضهم تجاه بعض، أما الآن فلا تنتهي المنازعات القضائية فيما بينهم. أبناؤهم إما يتصفون بالبخل والجشع أو الإسراف والكسل، ولا ينفكون عن إثارة المشاكل. من الواضح أن إنفاق المال يحتاج إلى فطنة أكبر من كسبه.
عندما تأمل كلود هذا الاستنتاج، فكر في آل إرليش. بإمكان يوليوس أن يسافر إلى الخارج ويدرس كي يحصل على درجة الدكتوراه، ويعيش على دخل أقل مما ينفقه رالف في العام. لن يكون أبدا لرالف مهنة أو تجارة، ولن يقوم أبدا بشيء يحتاج إليه العالم.
لم يجد حاله أفضل من حال أخيه. كان يبلغ واحدا وعشرين عاما ولا يمتلك مهارات ولا تدريبا، ولا قدرة على الوجود وسط الناس الذين يحب أن يكون بينهم. إنه فتى مزارع أخرق وغبي، وحتى بدا أن السيدة إرليش كانت تعتقد أن المزرعة أفضل مكان بالنسبة إليه. ربما كان هذا صحيحا؛ ورغم ذلك لم يجد تلك الحياة تستحق عناء الاستيقاظ كل صباح. إنه لا يستطيع رؤية فائدة العمل من أجل المال ما دام المال لا يحقق له ما يريد. كانت تقول السيدة إرليش إن المال يجلب الأمن. كان يظن أحيانا أن هذا الأمن هو سبب تعاسة الجميع؛ فالأمان التام لا يؤدي إلا إلى قتل أفضل الصفات لدى الناس وإظهار أسوأ ما فيهم.
إرنست أيضا كان يقول: «إنها الحياة الأفضل على وجه الأرض يا كلود.»
لكن إن ذهبت إلى السرير مهزوما كل ليلة وخشيت الاستيقاظ في الصباح، فمن الواضح أنها ليست الحياة المثلى بالنسبة إليك. بالنسبة إلى شخص في عمره، عدم الخوف من فوات ثلاث وجبات في اليوم والنوم لمدة كافية لا يقل عن الاطمئنان إلى الحظوة بمدفن لائق. الأمان، الأمن ؛ إذا اتبع المرء هذا المنطق، فالذين لم يولدوا بعد والذين لن يولدوا مطلقا يحظون بأكبر أمان؛ إذ لا يمكن أن يحدث لهم شيء.
بدا أن كلود كان يعلم - كما كان يعلم الجميع - أن هناك شيئا خطأ فيه. لم يستطع إخفاء شعوره بالسخط. كان يخشى السيد ويلر أن يكون من أصحاب الرؤى الحالمة الذين يتسببون في متاعب غير ضرورية لأنفسهم ولغيرهم. كانت تظن السيدة ويلر أن مشكلة ابنها تكمن في عدم قربه من الرب حتى الآن. كان بايليس مقتنعا أن أخاه متمرد أخلاقي، وأنه خلف تحفظه وحذره كان يخفي أخطر الآراء. الجيران كانوا يحبون كلود، ولكنهم كانوا يسخرون منه، ويقولون إن ثراء والده أتى في صالحه. كان يدرك كلود أنه بدلا من أن يستفيد من طاقته في تحقيق شيء، فإنه يبددها في مقاومة ظروف لا تتغير، وفي محاولات لا تجدي نفعا لقمع طبيعته. عندما كان يظن أنه استطاع التحكم في نفسه في النهاية، فلحظة كفيلة بأن تبدد جهود أيام كاملة؛ كان يتحول في لمح البصر من عمود خشبي إلى فتى مفعم بالحيوية. كان ينهض على قدميه، أو يتقلب بسرعة على السرير، أو يتوقف عن المشي؛ لأن الاعتقاد القديم يتقد في عقله، ويشعل الأمل والألم فيه؛ إنه الاعتقاد بوجود شيء جميل في الحياة، لو يستطيع فقط العثور عليه.
19
بعد العاصفة الشديدة، حدثت تقلبات في الأحوال الجوية. حدث ذوبان جزئي أنذر بحدوث طوفان، ثم تجمد الثلج مرة أخرى. تلألأت البلدة بكاملها بطبقة من الثلج، وتجول الناس على أرضية من الثلج المتجمد، كانت في مستوى أعلى بكثير من مستوى الحياة العادية. أخرج كلود مركبة الجليد الزوجية القديمة الخاصة بالسيد ويلر من بين كومة من الأشياء غير المتجانسة التي ظلت قابعة فوقها لسنوات، وأحضر الأجراس الصدئة الخاصة بها إلى المنزل كي تلمعها ماهيلي باستخدام غبار الطوب. نظرا إلى أن معظم المزارعين أصبح لديهم سيارات الآن، فقد تركوا مركبات الجليد الخاصة بهم حتى تحطمت. ولكن آل ويلر كانوا دائما ما يحافظون على أشيائهم.
ناپیژندل شوی مخ