انتقل رالف ووالده إلى المزرعة الجديدة في آخر أيام شهر أغسطس، وأرسل السيد ويلر خطابا يقول إنه في أواخر فصل الخريف سيرسل حمولة سيارة من العجول التي تتغذى على الحشائش إلى المنزل من أجل تسمينها في فصل الشتاء. بذلك، علم كلود أنه ستكون هناك حاجة إلى العلف. كان لديهم حقل بمساحة خمسين فدانا من الذرة غربي النهير؛ على مرمى البصر عندما ينظر المرء من النوافذ الغربية للمنزل. قرر كلود أن يزرع هذا الحقل بالقمح الشتوي، وفي بداية شهر سبتمبر بدأ يحصد الذرة المزروعة ويحزمها من أجل العلف. وبمجرد جمع الذرة، حرث الأرض وبذر القمح في وقت زراعة القمح في الحقول الأخرى.
كان هذا أول ابتكار من كلود، ولكنه لم يلق استحسانا. لما جاء بايليس ليقضي يوم الأحد مع والدته، سألها عما يظن كلود أنه يفعله على أي حال. إذا كان يريد تغيير المحصول في ذلك الحقل، فلماذا لا يزرع الشوفان في الربيع ثم يزرع القمح في الخريف التالي؟ كان يرى أن حصاد العلف وإعداد الأرض في ذلك الوقت لن يؤدي إلا إلى تعطيله عن عمله. وعندما أتى السيد ويلر إلى المنزل في زيارة قصيرة، أشار إلى تلك القطعة مازحا باسم «حقل قمح كلود».
شرع كلود فيما نوى فعله، ولكنه ظل قلقا وخائفا طوال شهر سبتمبر من الطقس. إن هطلت أمطار غزيرة فستجعله يتأخر في زراعة القمح، وبالتأكيد سيلقى انتقادا على ذلك. في الحقيقة لم يأبه أحد لتأخر موعد الزراعة ولا لتقدمه، ولكن كلود كان يظن أنهم يأبهون، وكان يستيقظ في بعض الأحيان مذعورا من تباطؤ تقدمه. جعل دان وواحد من أبناء أوجست يودر الأربعة يساعدونه، وظل يعمل ليل نهار. حرث الحقل الجديد وبذر البذور فيه بنفسه. ووضع فيه قدرا كبيرا من طاقة الشباب، ودفن قدرا كبيرا من السخط في أخاديده المظلمة. ويوما بعد يوم، كان يرمي بنفسه في أحضان الأرض ويزرعها بما يختمر في نفسه، ويسعد بالتعب الشديد في الليل لأنه يمنعه عن التفكير.
عاد رالف إلى المنزل كي يحضر زفاف ليونارد دوسن في الأول من أكتوبر. حضرت كل عائلة ويلر حفل الزفاف، حتى ماهيلي، وحضر جمع غفير من أهل البلدة وأهل المدينة.
بعدما غادر رالف، امتلك كلود زمام المكان مرة أخرى، وسار العمل كالمعتاد. الماشية كانت ترعى على ما يرام، ويخلو العمل من المعوقات المزعجة. استمر الطقس المعتدل، وفي كل صباح يستيقظ فيه كلود كان يرى يوما جديدا تتناثر فيه أشعة الشمس الذهبية وكأنها سجادة متلألئة. ولما كان يصعقه السؤال عما تطويه له الأيام على طرف سريره كان يسرع كي يرتدي ملابسه وينزل في الوقت المناسب؛ كي يحضر الخشب والفحم من أجل ماهيلي. غالبا ما كانا يصلان إلى المطبخ في وقت واحد، وتشير هي إليه بإصبعها قائلة: «لقد نزلت كي تساعدني، أيها الفتى الطيب!» على الأقل، كان يقدم لماهيلي بعض المساعدة. بإمكان والده أن يوظف أحد أبناء يودر كي يعتني بالمكان، ولكنها لن تدع أي أحد آخر يساعدها.
استمتعت السيدة ويلر، كما هو الحال بالنسبة إلى ماهيلي، بذلك الخريف. كانت تنام حتى وقت متأخر في الصباح، وتقرأ وتأخذ بعض الراحة فيما بعد الظهيرة. حاكت لنفسها بعض الملابس المنزلية الجديدة من قماش رمادي اختاره كلود. كانت تقول أحيانا: «يبدو الأمر وكأن عروسا ترعى المنزل من أجلك أنت يا كلود.»
سرعان ما ابتهج كلود لما رأى الخضرة تنمو في حقول القمح البنية الخاصة به؛ إذ رآها أول ما رآها في النقر والتجاويف الصغيرة، ثم بدت تتلألأ فوق الأجزاء البارزة والأجزاء المستوية وكأنها ابتسامة سريعة. شاهد الأنصال الخضراء وهي تنمو كل يوم لما كان يذهب مع دان إلى الحقل ومعهما العربات من أجل جمع الذرة. كلود أرسل دان كي يقشر الأكواز في القطعة الشمالية، وعمل هو في القطعة الجنوبية. كان دائما يحضر حمولة إضافية فوق ما يحضره دان، وكان هذا متوقعا. بحسب ظن كلود، وضح دان السبب في ذلك على نحو منطقي جدا في عصر أحد الأيام لما كانا يربطان حيوانات الجر في عربتيهما. «لا عجب في أنك تنقض على حقل الذرة وكأنك تنقض سجادة يا كلود؛ فهو في النهاية حقلك، أو تحت إمرتك على أي حال. ستحول تلك الحقول دائما بينك وبين المتاعب. ولكن الأجير لا يملك إلا صحته، وعليه أن يحافظ عليها. أظن أنه لم يتبق لي سوى قدر صغير من الصحة، ولن أضيعها في نقل حمولات ذرة تخص شخصا آخر.» «ما الأمر؟ لم ألمح إلى ضرورة أن تجد أكثر في نقل الذرة، أليس كذلك؟» «نعم أنت لم تفعل، ولكني أردت فقط أن تعلم أن لكل شيء سببا.» وحينها، ركب دان عربته وغادر. وعلى الأرجح ظل يتفكر فيما قاله بعض الوقت.
بعد ظهر ذلك اليوم، توقف كلود فجأة عن طرح الأكواز البيضاء داخل العربة التي بجانبه. كانت الساعة الخامسة تقريبا، وهي تعد أصفى ساعة في نهار أيام الخريف. وقف تائها وسط غابة من أوراق الذرة الخفيفة والجافة، التي يصدر منها صوت خشخشة، منزويا تماما عن العالم. ولما خلع قفازات التقشير مسح العرق من جبينه، وصعد إلى صندوق العربة واستلقى على الذرة ذات اللون العاجي. تقدمت الخيول بحذر خطوة أو خطوتين، وقضمت برضا كبير أكواز الذرة التي قطعتها من السيقان بأسنانها.
استلقى كلود ساكنا واضعا ذراعيه تحت رأسه، وأخذ ينظر إلى السماء الزرقاء اللامعة المتماسكة، ويراقب أسراب الغربان وهي تمر من فوق الحقول حيث تتغذى على الحبوب المتناثرة، ثم تعود إلى أعشاشها فوق الأشجار النامية بطول نهير لافلي كريك. كان يفكر فيما قاله دان وهما يرتبطان حيوانات الجر إلى عربتيهما. لا شك أن كلامه ينطوي على قدر كبير من الحقيقة. ولكن بالنسبة إليه، كثيرا ما كان يشعر أن السفر وكسب لقمة العيش بين الأغراب خير له من الكد في ظل تلك المسئولية الجزئية عن حقول ومحاصيل ليست ملكا له. كان يعلم أن سكان البلدة يطلقون على والده في بعض الأحيان اسم «خنزير أراض»، وهو نفسه بدأ يشعر أنه ليس من الصواب أن يمتلكوا هذه المساحة الكبيرة من الأراضي؛ سواء من أجل الزراعة أو الإيجار أو تركها مهملة حسبما يختارون. الغريب أنه على مر القرون والعصور، لم تتغير مسألة امتلاك الثروات إلى الأفضل. الثروة تستعبد أصحابها، وأصحابها يستعبدون من هم أفقر منهم.
نزل من العربة كي يكمل حمولتها تحت أشعة الشمس الذهبية. خيم صمت دافئ على حقل الذرة. كان يهب للحظات نسيم خفيف في بعض الأحيان، ويذر أوراق الذرة اليابسة والجافة، وهو نفسه كان يحدث صوت خشخشة وقرقعة عاليا وهو ينزع القشر من الأكواز.
ناپیژندل شوی مخ