18

كان يعرف أن ماهيلي تسعد بعودته إلى المنزل أكثر من أي أحد آخر عدا والدته. ولما سمع وقع خطوات والدته المتنقلة وغير الواثقة على السلم المسيج، فتح الباب وجرى كي يقابلها في منتصف السلم واحتضنها بقوة بعض الشيء، ولكن بحنان كان يشعر به دوما، ولكن نادرا ما كان يستطيع إظهاره. مدت كلتا يديها باتجاهه وربتت على شعره للحظة، وأخذت تضحك كما يفعل المرء مع الصبي الصغير، وتخبره بأنها تظن أن حمرة شعره تزداد في كل مرة يعود فيها. «هل حصدنا كل الذرة يا أمي؟» «كلا يا كلود، لم نفعل. تعلم أننا دائما متأخرون. كان الطقس جيدا، ومناسبا للتقشير أيضا. ولكننا على الأقل تخلصنا من هذا البائس الذي يدعى جيري، وهذا شيء محمود. ما حدث أنه لما كان في المدينة في أحد الأيام، دخل في نوبة غضب شديدة وهو عائد إلى المنزل، ورآه ليونارد دوسن وهو يضرب أحد خيولنا بمقرن الرقبة. أخبر ليونارد والدك وعبر عن رأيه بصراحة، وعليه طرد والدك جيري. لو أخبرته أنت أو رالف بالأمر، فعلى الأرجح ما كان يرجى أن يتخذ أي إجراء. ولكني أظن أن كل الآباء على هذا المنوال.» انطلقت منها ضحكة خافتة على نحو واثق، وأخذت تتكئ على ذراع كلود وهما ينزلان على السلم. «أظن ذلك. هل تأذى الفرس كثيرا؟ أي فرس كان يضربه؟» «الفرس الصغير الأسود، بومبي. أعتقد أنه فرس سيئ بعض الشيء. يقول الناس إن إحدى العظام الموجودة فوق عينه قد كسرت، ولكنه على الأرجح سيتعافى ويصبح بحال جيدة.» «بومبي ليس سيئا؛ إنه عصبي. كل الخيل يكره جيري، ولديهم الحق في ذلك.» هز كلود كتفه كي يطرد صور هذا النذل المثيرة للاشمئزاز التي استرجعها عقله. سبق أن رأى أشياء تحدث في الحظيرة ولم يستطع أن يخبر والده عنها على الإطلاق. دخل السيد ويلر إلى المطبخ، وتوقف في طريقه وهو صاعد إلى الطابق العلوي بعض الوقت ليقول: «مرحبا يا كلود. تبدو بصحة جيدة جدا.» «نعم يا أبي. أنا بخير، شكرا لك.» «أخبرني بايليس أنك كنت تلعب كرة القدم كثيرا.» «ليس أكثر من المعتاد. لعبنا ست مباريات، واستطعنا الفوز فيها بوجه عام. ولكن جامعة الولاية لديها فريق رائع.»

رد السيد ويلر متشدقا وهو يصعد السلم: «توقعت ذلك.»

مر العشاء كالمعتاد. ظل دان يبتسم ابتسامة عريضة ويغمز إلى كلود؛ إذ كان يحاول أن يعرف إن كان قد علم بالفعل بما آل إليه مصير جيري أم لا. أخبره رالف بما جرى في الجوار؛ جارهم الألماني جاس يودر رفع قضية ضد مزارع أطلق النار على كلبه. كما أن ليونارد دوسن كان يعتزم الزواج من سوزي جراي. تذكر كلود أنها الفتاة التي صفع ليونارد بايليس بسببها.

بعد العشاء، خرج رالف والسيد ويلر بالسيارة لحضور احتفال بعيد الميلاد في مبنى مدرسة البلدة. جلس كلود وأمه كي يحظيا بحديث هادئ بجانب المدفأة التي تعمل بالفحم الصلب في غرفة المعيشة بالطابق العلوي. كان كلود يحب هذه الغرفة، خاصة عندما يغيب والده عن المنزل. السجادة القديمة والكراسي الباهتة اللون وطاولة الكتابة والنقش المهترئ البادي على الأريكة، والمستمدة كافة المشاهد البادية عليه من كتاب «رحلة الحاج»؛ كانت تشعره هذه الأشياء بالراحة الشديدة. كثيرا ما كان رالف يقترح إعادة تأثيث الغرفة باستخدام خشب البلوط، وأسلوب التصميم القائم على البساطة وقلة الزخرفة، ولكن كلود ووالدته حافظا عليها بشكلها الحالي حتى ذلك الحين.

جلس كلود على كرسيه المفضل وبدأ يخبر والدته عن أولاد إرليش وأمهم. استمعت إليه ولكنه لاحظ أنها كانت مهتمة أكثر بأحوال آل تشابين، وهل تحسن حلق إدوارد أم لا، وأين يعظ هذا الخريف. كانت تلك واحدة من الأشياء التي كانت تثبط رغبته في العودة إلى المنزل؛ كان لا يمكنه قط أن يثير اهتمام والدته بأي أشياء جديدة أو أشخاص جدد إلا إذا كانوا مرتبطين بالكنيسة بنحو أو بآخر. كان يعلم أيضا أنها دائما ما تتمنى أن تسمع أنه في النهاية شعر بالحاجة إلى أن يكون قريبا أكثر من الكنيسة. إنها لم تكن تلح عليه فيما يتعلق بهذه الأشياء، ولكنها أخبرته مرة أو مرتين أن لا شيء يمكن أن يحدث في العالم ويسعدها أكثر من أن تراه قريبا من الرب. ولما تحدث معها عن آل إرليش، أدرك أنها كانت تتساءل عما إذا كانوا من «أهل الدنيا» بشدة أم لا، وخشيت من تأثيرهم عليه. لم تسر الأمسية على النحو المطلوب؛ ومن ثم ذهب إلى الفراش مبكرا.

كان كلود يمر بوقت عصيب؛ إذ كان يعتصره الشك والخوف عندما يفكر كثيرا في الدين. ظل عدة سنوات - من سن الرابعة عشرة إلى الثامنة عشرة - يعتقد أنه سيضيع إذا لم يتب ويخضع لهذا التغيير الغامض المسمى بالهداية. ولكن كان بداخله شيء عنيد يحول دون استفادته من هذا العفو المقدم. كان يشعر بالذنب، ولكنه كان لا يريد أن يزهد في عالم لا يعرف عنه شيئا حتى الآن. كان يريد أن يخوض غمار الحياة بكل قوته، مطلقا العنان لكل ملكاته. لم يرد أن يكون مثل الشباب الصغير الذين يقولون في اجتماعات الصلاة إنهم يعتمدون على مخلصهم. لقد كان يكره طريقتهم في القبول الخانع للمتع المباحة.

في تلك الأيام، كان لديه خوف جسدي شديد من الموت. كانت أي جنازة - مشهد أحد الجيران وهو راقد متيبس في نعشه الأسود - يملأ أوصاله بالرعب. اعتاد أن يستلقي مستيقظا في الظلام ويفكر في الموت، ويحاول أن يضع خطة للهروب منه، ويتمنى غاضبا لو لم يولد من الأساس. ألا توجد طريقة للخروج من العالم غير تلك؟ عندما كان يفكر في ملايين المخلوقات الوحيدة المتحللة تحت الأرض، لا يرى الحياة سوى فخ يصيد الناس وينهي حياتهم نهاية مروعة. لم يظهر على الأرض إنسان مهما بلغ من القوة والصلاح استطاع الهروب من الموت. ولكنه كان يتسلل إليه شعور أكيد في بعض الأحيان بأنه هو - كلود ويلر - سيستطيع الهروب من الموت؛ كان يعتقد في واقع الأمر أنه سيبتكر تحولا ذكيا ما كي ينقذ نفسه من التحلل. وعندما يعثر عليه فلن يخبر أحدا؛ سيكون ماكرا وسيبقي الأمر طي الكتمان. التعفن، التحلل ... كان لا يستطيع أن يسلم جسده الجميل الذي ينبض بالحياة إلى هذا الفساد! ما الذي تعنيه تلك الآية الواردة في الكتاب المقدس التي تقول: «لن تدع تقيك يرى فسادا»؟

إن كان هناك شيء يمكن أن يشفي صدر فتى ذكي من المخاوف الدينية المرضية، فإنه كلية دينية مثل تلك التي أرسل إليها كلود. لقد نبذ الآن كل اللاهوت المسيحي لأنه يراه مليئا بالمراوغات والمغالطات، بحيث يصعب الاعتماد عليه. كان متأكدا أن من وضعوه لا يختلفون عمن يدرسونه. ووفقا لنظريتهم، يمكن أن يذهب للجحيم أنبل الناس، في حين يمكن أن ينقذ أي إنسان وضيع الأخلاق بسبب إيمانه. «الإيمان» - كما رآه يتجسد في أعضاء هيئة التدريس بكلية تمبل - يستعاض به عن معظم الصفات الإنسانية التي يعجب بها. كان يريد الشباب أن يصبحوا قساوسة لأن الخجل أو الكسل دربهم، ويريدون للمجتمع أن يقوم على رعايتهم، ولأنهم يريدون أن تدللهم نساء لطيفات وبريئات، مثل والدته.

على الرغم من أن كلود لم يهتم باللاهوت وعلماء اللاهوت، فإنه كان سيقول إنه مسيحي. إنه كان يؤمن بالرب وبقدسية الأناجيل الأربعة وبعظة الجبل. اعتاد أن يتوقف ويتأمل آية «طوبى للودعاء»، حتى إنه فكر في أحد الأيام أن تلك الآية نزلت تحديدا في أناس مثل ماهيلي، ولا ريب أنها كانت مباركة!

8

ناپیژندل شوی مخ