واحات عمر: سيرة ذاتية: برخه لومړۍ
واحات العمر: سيرة ذاتية: الجزء الأول
ژانرونه
كان موعد دخولي الجيش قد حان، فذهبت إلى منطقة تجنيد الإسكندرية، واصطف مواليد عام 1939م صفا، وخرج علينا ضابط يقول: «كل من لا يحمل مؤهلا غير مطلوب للتجنيد، أما حملة المؤهلات (التوجيهية على الأقل) فسوف يحصلون على تأجيل آخر». واندفع الجميع إلى غرفة الحصول على الإعفاء، أما أنا فكنت رابع أربعة من حملة المؤهلات، لم يعرفوا كيف يحصلون على شهادة التأجيل. وظللنا في موقفنا إلى أن جاء قائد المنطقة الشمالية، البمباشي أو البكباشي (المقدم) محمد علي رشيد، وصاح بلهجة عسكرية: من أنتم؟ وذكر كل واحد منا اسمه. وعندما سمع اسمي أمرني بالتوجه إلى المكتب، فتوجهت مذعورا مع أحد الجنود، حيث انتظرت واقفا إلى أن عاد، ثم أمرني بالدخول إلى غرفته وسألني: هل أنت قريب لمحمد إبراهيم عناني؟ فقلت له: إنه ابن عمي! وعلى الفور، انفرجت أساريره وقال: «إذن نحن أقرباء!» كان اسمه الأصلي محمد علي تيرانا، وكان من أسرة ذات أصول ألبانية (كما هو واضح من اسمه)، وكانت للأسرة فيلا تجاور فيلا عجمية (زوج خالتي) على الطريق الزراعي، ولكنه مثل كثيرين من أبناء رشيد الذين تركوا البلد، قد غير اسمه إلى رشيد، وبعضهم غير اسمه إلى الرشيدي - مثل أفراد أسرة «الخياط» و«الفساسي» وهم من كبار التجار. ولكننا لم نكن أقرباء، بل كانت زوجته من أسرة «عجوة» ذات الثراء العريض، أختا لزوجة ابن عمي الذي كان قد عين بعد تخرجه من كلية العلوم في شركة الحرير الصناعي بكفر الدوار.
أدى هذا الاكتشاف، على أي حال، إلى سرعة حصولي على شهادة التأجيل، وكان تأجيلا مفتوحا، وينص على أنني أستطيع استخدامه في التوظف؛ مما يسر لي استخدامه في التعيين بالجامعة، ولكنني لم أذهب إلى القاهرة مباشرة بل عرجت على رشيد ، وكان القصد أن أتزود بالفاكهة التي تتميز بها رشيد في ذلك الوقت من العام، وكان أخي الأصغر في الإسكندرية، وأصغر أخوتي مصطفى مع الأسرة في القاهرة، ومن ثم رأيتها فرصة سانحة لتأمل المستقبل. وفي اليوم التالي لوصولي بدأ توافد الزوار، ومنهم علمت أن السيدة صاحبة المشكلة المذكورة قد «غضبت» من زوجها مرة أخرى بسبب «كعك العيد»! وقررت أن أسافر في اليوم التالي هربا من مشكلة لم يعد لها في نظري حل! ولكن السيدة كانت أول الطارقين في صباح اليوم التالي، وكان «كعك العيد» هذه المرة هو أن زوجها يأتي بضيوف من رؤسائه في العمل، ويتركهم في المنزل مع زوجته التي لم تعتد ذلك (وتخاف على نفسها)، بل إنه ذات يوم ترك «ناظر المحطة» السويسي (وكان هو يعمل في وظيفة عطشجي بالقطارات)؛ ليبيت الليلة في المنزل، بحجة عدم وجود فنادق رخيصة! وبعد المناقشات المطولة التي أدركت منها أن ذلك الرجل ميئوس منه، وعدتها أن أذهب إليه وأحذره للمرة الأخيرة! ولكنني علمت بعد يومين من وصولي أنه توفي فجأة، وكان قد تجاوز الحادية والسبعين، ومن ثم كان لزاما علي حضور العزاء.
كان المتحدث الرئيسي في العزاء هو «أحمد» زوج ابنته، الذي قص على الحاضرين قصة تبين أن الآجال بيد الله، وأن أحدا لا يستطيع أبدا معرفة سبب الموت، وكان ما يزال ملازما أول، على سنه الكبيرة؛ إذ كان ترقى في الجيش «من تحت السلاح» أي دون تخرج في الكلية الحربية، ومن ثم قال بصوت رزين ونبرات هادئة إنه سوف يحكي لنا ما حدث لرئيسه في الوحدة. قال إن رئيسه أصيب بورم خبيث في مخه، وبعد الفحوصات المضنية في المستشفى، قرر الأطباء أن حالته ميئوس منها، وأن عليه ألا يغادر سريره حتى يأتي أمر الله. وقال «أحمد»: «أمرني أن أحضر مسدسه الميري فرفضت، ولكنه قال إن ذلك أمر ولا بد لي أن أطيعه، ومن ثم أعطيته المسدس باكيا، وقبلته قبلة الوداع وخرجت. ولكنني لم أنم تلك الليلة حزنا على فراق رئيسي، وفي الصباح اتصلت بأفراد الأسرة أطلب منهم التواجد في المستشفى لأمر هام. وعندما فتحت عليه الباب في الساعة الثامنة، وجدته جالسا في السرير يتناول طعام الإفطار - من الفول والبيض! وقد ربطت ضمادات كثيرة حول رأسه حتى أخفت نصفها! وقلنا في صوت واحد: الله أكبر! وشعرت بنا الممرضة فنادت الطبيب الذي شرح لنا أن الضابط قد تهور، وكان معه مسدسه الميري، في مخالفة صريحة للتعليمات، فأطلق رصاصة على رأسه بقصد الانتحار!» وتوقف أحمد ثم قال في نبرات لا أستطيع أن أقصيها عن ذاكرتي: «يشاء السميع العليم أن تأخذ الرصاصة الورم وتخرج به من الناحية الأخرى!» ثم أردف قائلا: «وعندما دخل به الأطباء غرفة العمليات وجدوا أن الدماغ سليمة فخيطوا الجرح وكتبت له الحياة!»
وبذلت جهدا مضنيا لأكتم ضحكي، والجميع من حولي يهللون ويكبرون! كان الموقف يتطلب ضبط النفس، وأسرعت بعدها بالخروج من المأتم، وقد رأيت أن الحياة قد أبعدتني عن الشعر لتدنيني من الدراما! هذا هو المسرح الحي حقا، وهذا هو ما سوف أتجه إليه!
المسرح الحي
1
لم أكن كتبت المسرح بالمعنى المفهوم حتى تلك اللحظة. كانت محاولات المدرسة الثانوية لا تزيد عن كونها «محاولات» مبتدئ، ولم تكن، على ترحيب الجميع، ذات قيمة تذكر؛ فالمسرحية التي نشرتها في مجلة المدرسة بالإنجليزية تندرج تحت باب «الاسكتش» أو الصورة الفكهة، وكانت مسرحية «الشبح» التي أخرجها عبد المنعم مدبولي في المدرسة «تدريبا» في فن كتابة الحوار بالفصحى، وأما تمثيليات الإذاعة التي كنت أكتبها بعد التخرج فكانت «حكايات» محكمة الصنع، مادتها مستقاة من تمثيليات الإذاعة التي كنا نسمعها ونتابعها في شغف صغارا، ولا تتضمن أي «تجربة» فنية أو موضوعية بالمعنى المفهوم. وكانت صلتي بالفنانين مقصورة على أعضاء المسرح الحر التي كانت قد قدمت مسرحيات نعمان عاشور ورشاد رشدي، ومسرحية زقاق المدق التي أعدتها أمينة الصاوي عن رواية نجيب محفوظ، وكان أهم هؤلاء الفنانين: مدبولي وفؤاد المهندس الذي كان يشرف على فريق الجامعة من خلال فريق كلية التجارة، وكان يحبه زملاء المدرسة الذين التحقوا بكلية التجارة وعلى رأسهم نبيل مجدي. وكنت مقتنعا كل الاقتناع بنصيحة مدبولي لي ألا أعتلي خشبة ممثلا، بل أن أركز على الكتابة. فأقرأ «شيكسبير والكلام ده» ثم أكتب بعد التخرج.
كان اللون الوحيد من العروض المسرحية التي شاهدتها في طفولتي يندرج في باب «التسالي» أو ما يسمى بالمنوعات حاليا، وكان الأقدمون يسمونها فنون «الفرجة» بمعنى التفريج عن النفس، ثم أصبحت الكلمة تصف كل عرض مسرحي أو غنائي أو راقص، بل أصبح الفعل «يتفرج» بالعامية يعني «يشاهد»! كانت إحدى فرق الغوازي تأتي من رشيد في المواسم والأعياد لتقديم العروض التي يطلق عليها «التمثيل» فقط. وكنت وإخوتي نحب «الفرجة» عليها، وكانت أسعار التذاكر زهيدة، وكان إقبال الريفيين كبيرا، وقد قصصت ما حدث ذات يوم في مقدمتي للترجمة الإنجليزية لمسرحيات «السجين والسجان»، و«البحيرة»، و«الصديقان»، وهما ثلاث مسرحيات في مجلد واحد - صدر بالعربية مع مسرحية رابعة هي «الصديقتان» عام 1980م وبالإنجليزية دونها عام 1987م - ولذلك سوف أتغاضى عن التفاصيل هنا، وأركز على بائع «شربة الحاج محمود» الذي يقف في السوق المركزية برشيد بعد صلاة الجمعة، ويتجمع حوله العشرات بل والمئات؛ فمنهم من يشتري، ومنهم من «يتفرج».
كان هذا البائع يقدم عرضا مسرحيا كاملا؛ مما يمكن أن نطلق عليه حاليا المونودراما، فإذا أخذنا في اعتبارنا مشاركة الحاضرين في الحوار والأداء، كان «العرض» يندرج في باب المسرح المرتجل، وهو من الصورة الأصلية لبعض البدع الحديثة في أوروبا وأمريكا مثل «مسرح الحدث المرتجل» (
The happening-The event ) أو حتى الصورة المتطورة له، وهي صورة المسرح الحي (
ناپیژندل شوی مخ