واحات عمر: سيرة ذاتية: برخه لومړۍ
واحات العمر: سيرة ذاتية: الجزء الأول
ژانرونه
فإن غدا لناظره قريب
وقبل أن تغرب شمس اليوم الأخير، والجلاد يوشك أن يهوي بالسيف، لاحت في الأفق سحابة يثيرها فرس الأعرابي، فانتظر الجميع وصوله، ولامه الملك على عودته سائلا إياه: «ما دفعك على أن تعود وقد نجوت؟» فأجاب الأعرابي: «ديني!» فسأله الملك: «وما دينك» قال: «النصرانية!» ومن ثم سأله الملك عما يفرضه الدين من الوفاء، فاعتنق الدين على الفور، واعتنقته معه المملكة، ومن ثم ألغي يوم السعد ويوم النحس جميعا.
كنت قد تركت الكتاب، وهو مدرسة تحفيظ القرآن آنذاك، وكانت تسمى «مدرسة الحكيمة»؛ لأن المنزل كانت تملكه حكيمة أي طبيبة، ما تزال قصتها مثار خلاف ومجالا للظن والتخمين. وكنت أتردد عليها منذ الثالثة، وفيها عرفت بعض الصغار الذين كانوا قد اقتربوا من «الختمة» (أي حفظ القرآن كاملا)، وكانوا يكبرونني بعدة أعوام، وكنت أتسلى في الفسحة (أي في ساعة الراحة) بالاستماع إلى بعضهم وهو «يسمع» أي يقرأ غيبا ما حفظه من الدروس، وكان «التوكيد» من الدروس التي «سمعها» أحدهم وما يزال مطلعه عالقا في ذاكرتي «التوكيد: التوكيد نوعان لفظي ومعنوي»! كان ذلك لغزا رفض الجميع إيضاحه لي حتى تولى ذلك الشيخ عبد الحليم الدسوقي عندما وصلت إلى السنة الثالثة الابتدائية.
كانت «مدرسة الحكيمة» تقع في حي «الإدفيني» (وهي نسبة إلى بلدة إدفينا) بالقرب من مسجد يحمل نفس الاسم، وكانت تحيط بها أشجار كثيرة ونخيل ملتف، وأمامها فضاء يعقد فيه سوق الثلاثاء، حيث يأتي الفلاحون والفلاحات بالمحاصيل الزراعية والطيور والحيوانات الداجنة، ولكن السوق كان فارغا طوال أيام الأسبوع، وكنت أتطلع إليه من شباك المدرسة فأرى في غير أيام السوق أشباحا غريبة، رجالا يأتون ويذهبون، ويتهامسون ويتسارون، ثم يختفون في الطرقات فجأة مثلما ظهروا، وظل هذا المشهد يشغل أحلامي أعواما طويلة، دونما سبب ظاهر، حتى عهد قريب.
وانتقلنا للسكنى في «بيت بدر الدين» وهو بيت جدي لوالدتي. ولا أدري متى انتقلنا إذ كنا ننتقل كثيرا بين المنزلين، ولكنني أذكر أنني كنت فرحا به لرحابته، فهو قديم بالغ القدم، ويتكون من عدة طوابق متداخلة (ثلاثة بالحساب الحديث) يستخدم الطابق الأرضي مخزنا، وبه «منضرة» (أي منظرة أو مكان انتظار الرجال)، وباب يؤدي إلى مكان مهجور يسمى «القاعة» وكانت هذه تنتمي إلى الجزء القديم جدا من البيت الذي تعرض للحريق في العصور الغابرة، وكان دخولها شبه محرم على الصغار؛ إذ قيل لنا إن بها عفاريت مقيمة، بعضها مؤمن وبعضها كافر، وكانت تظهر أحيانا في صورة كائنات حية كالثعابين والأرانب والقطط السوداء. وكنا نخاف أشد ما نخاف هذه الحيوانات خصوصا بالليل، لاحتمال أن تكون من العفاريت المتجسدة.
وكان باب البيت الأمامي مملوكيا ضخما ، لا مفتاح له، بل يغلق بالمزلاج من الداخل فقط، وفي ردهة البيت عند الباب زير من الفخار، لا أدري إن كان فارغا أو مليئا، وكان الطريق من الردهة يؤدي إلى مدخل «الصهريج» - وهو البئر الموجود تحت البيت، وهو بئر ممتد بطول البيت وعرضه، مثل السراديب القديمة، وهو مقام على ما يشبه القباب والأعمدة وكان يملأ أيام الفيضان، أي أيام فيضان النيل، ويشار إلى الفيضان في «رشيد» فقط باسم النيل، فيقال «في النيل» أي في وقت فيضانه، فيأتي السقاءون أولا لتنظيف الصهريج من الطمي الراسب، وتجفيفه، ثم تطهيره، وبعد ذلك يصب فيه الماء المنقول في براميل على عربات تجرها الحمير، حتى يقارب الامتلاء ثم يحكم إغلاقه. ولكن له فتحة علوية يخرج منها عمود ضيق يشبه المدخنة، ويمر بالطوابق الثلاثة، وبكل طابق فتحة يدلى منها دلو بحبل فيمتلئ بالماء الذي يكون قد صفا وأصبح زلالا، وما كان أبرده وأشهاه في الصيف!
أما الزير القائم في الردهة فقد شغلني، وكم تمنيت أن أملأه من بغلة العرش! وقصة «بغلة العرش» قصة رمزية لم نكن نشك في صدقها صغارا. وموجزها هو أنه في ليلة العاشر من المحرم، تمر بغلة تحمل قربتين مملوءتين بالماء على البيوت، ثم تقف البغلة أمام بيت من البيوت، عندما يميل القمر إلى المغيب، وتسود الحلكة التي تسبق السحر، وتهز البغلة رأسها فيعلو رنين الأجراس المعلقة في رقبتها، فإذا سمعها سامع وكان الحظ حليفه استيقظ وفتح الباب. والبغلة تحمل على ظهرها رأسا مقطوعا، فما على المسعود إلا أن يرفع الرأس ويقبله ويضعه جانبا، ثم يفرغ الماء في الزير الفارغ بجوار الباب. ثم يعيد الرأس مكانه، ويعود للرقاد. فإذا أصبح وجد الماء في الزير وقد تحول إلى ذهب وجواهر نفيسة. الواضح أن اسم بغلة العرش تحريف لبغلة العشر، أي يوم عاشوراء، والرأس ترمز لرأس الحسين عليه السلام الذي قتل في كربلاء، يوم الكرب والبلاء، وأن الماء يرمز إلى عطشه إذ مات فيما يرويه الرواة دون أن يشرب، ومن ثم تكون القصة ذات جذور فاطمية، وربما تسربت إلى التراث الشعبي أيام حكم الفاطميين، وتناقلتها الأجيال وأضافت إليها مخيلات أبناء الشعب تفاصيل كثيرة.
والغريب أنني كنت وأترابي حتى بعد أن تخطينا تلك السن المبكرة لا نكتفي بتصديق تلك القصة، بل كنا نناقش تفاصيلها في الليلة السابقة لعاشوراء، بعد الإفطار (إذ كنا نصوم التاسع والعاشر من المحرم)، وما بين صلاة المغرب والعشاء، ونعد العدة لها، وكثيرا ما كان أحدنا يستيقظ في هدأة الليل، ويظل ساهدا في فرق ووجل؛ آملا أن يسمع الأجراس، ثم يغلبه النعاس فيرى فيما يرى النائم أن البغلة مرت ومضت، فيهب مفزوعا ويستغفر الله ويدعوه أن يوفقه في العام التالي. بل إن بعضنا كان يجازف بالخروج من المنزل ويطوف بالطرقات طلبا للبغلة، ثم يعود حزينا مهموما. وأخشى ما كنا نخشاه هو نداء «المزيرة». والمزيرة تحريف لكلمة المتزيرة أي التي ترتدي «التزييرة» أو ملابس الزيارة، أي الملابس الجميلة التي ترتديها المرأة للخروج من المنزل أو لاستقبال الزوار. كانت «المزيرة» تقيم في المنازل الأثرية، التي ترجع إلى عصور المماليك، والتي كنا نسميها «الأثرات» بالعامية. وأمرها غريب.
عندما يتأخر الرجل في العودة إلى منزله، خصوصا حين تشتد حلكة الليل، ويمر ببيت من هذه البيوت، فربما سمع غناء شجيا، وأصواتا ساحرة تدعوه، فإذا واتته الجرأة وتطلع إلى مصدر الصوت، وجد امرأة فاتنة الجمال في الدور العلوي، يضيء وجهها في الظلام ويسطع، فإذا لم يستعذ بالله ويعد إلى أهله، أي إذا استسلم للغواية وهاجت كوامنه فرام الاقتراب، وتحديدا إذا توقف في سيره وتمنى الصعود إليها في قلبه، شدته إليها بسحر ساحر فارتفع إليها ودخل غرفتها، وهناك تسقيه خمر الألحان وخمر الجمال وخمر العنب، فإذا أذعن واحتضنته، وخزته إحدى شوكتيها في رقبته، فعلى كل جانب من جانبي رقبة هذه «المزيرة» شوكة ماضية، فيها الهلاك على الفور. وعندها لا تبزغ شمس النهار إلا وقد سلبته حياته، وعندها يرى الناس آثار الشوكة ويعرفون أنه راح ضحية لغواية «المزيرة».
ولذلك كنا صغارا نخاف نداء المزيرة، ولا نجرؤ على التطلع للوجوه الجميلة خلف المشربيات في البيوت العتيقة، بل لم نكن نعرف من يسكنها، أو حتى إذا كان ساكنوها من الإنس أو الجن. وكان الحاج محمود الترامسي، رحمه الله، من أصدقاء والدي الذين يفخرون بقدرتهم على التمييز بين الجن والإنس فيما يرى من كائنات، لم يكن أحد يؤمن بأشباح الموتى، ولكن الجميع كانوا يشعرون بوجود الجن بين ظهرانيهم ومشاركتهم حياتهم. وكان الترامسي دائما ما يقص علينا نوادره مع «فرخ جن» (أي جني صغير) يسكن في أرض فضاء مجاورة لمنزله، وكان والدي رحمه الله يكذبه دائما وهو يقول له إن هذه «تهيؤات»، ولكن نبرات الصدق في حديث الترامسي كانت تشدني إلى ما يقول دائما، خصوصا لأنه كان في غير ذلك من أمور الحياة واقعيا منطقي التفكير، وكان يمتاز برجاحة عقل نادرة. ولذلك أصغيت مبهورا عندما قص علينا ذات يوم خبر اعتزامه الزواج من فتاة تصغره بأعوام كثيرة تقترب من الثلاثين، حتى يمنع «فرخ الجن» المذكور من الاقتران بها! وانهمك يحكي تفاصيل مناقشاته معه ووسائل إحباط مسعى «فرخ الجن» بقراءة القرآن، وما إن حل رمضان، الشهر الذي لا يسمح فيه للجن بالخروج من محابسها، حتى تزوج الترامسي من تلك الفتاة وفرض عليها أن تمكث في المنزل دائما بعد الغروب، وألا تنقطع عن قراءة السورة التي أحفظها إياها من القرآن (إذ كانت لا تعرف القراءة). ثم أصبح الترامسي يغيب كثيرا عن دروس العصر في الجامع، وبدأت ألاحظ في عينيه شرودا وفي كلامه بعض التردد، ولكنني لم أجرؤ على السؤال عما حدث لفرخ الجن بعد زواجه، ولم يكتب لي أبدا أن أعرف نتيجة الصراع بينهما حتى بلغني نبأ وفاته فجأة.
ناپیژندل شوی مخ