واحات عمر: سيرة ذاتية: برخه لومړۍ
واحات العمر: سيرة ذاتية: الجزء الأول
ژانرونه
كان منزل آل النقاش يقع في وسط الحقول، وراء «نادي الصيد المصري» (الذي كان اسمه نادي الصيد الملكي قبل ذلك)، وقد مررنا عندما خرجنا بمزارع شاسعة تمتد حتى الهضبة الغربية، وسار سمير سرحان معي حتى أول «العمران» فودعني وعاد إلى الجيزة، وعدت أنا إلى المنزل وأنا أقلب الأمر على وجوهه، حائرا هل أركز على الدراسة وأهجر الشعر، أم أوازن بينهما حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا؟
8
قصصت ما حدث لعمرو برادة، صديقي الذي كان يشاركني «المذاكرة»، وكان والده الدكتور حسن برادة يعمل مديرا لمستشفى العجوزة (مستشفى الجمعية الخيرية الإسلامية بالعجوزة)، وكنا قد قسمنا مواد السنة الرابعة بيننا، فاختص هو بالدراما والرواية، وكان الشعر والنقد من نصيبي. وبعد مناقشة لموضوع الأدب وكتابتي الشعر، قررنا التفرغ للسنة الرابعة؛ فعليها يتوقف مستقبلنا. وعندما توفي والده، انتقلت الأسرة إلى شقة كبيرة فاخرة في الزمالك في شارع شجرة الدر، تواجه «برج الزمالك»، وهو عمارة شاهقة تطل على شارع 26 يوليو (شارع فؤاد سابقا). وكنت أعرف إخوته وأخواته، وأستمع لما يكتبه أخوه إسماعيل، الذي كان يدرس الطب، من شعر ونثر بالإنجليزية، وأشارك حسين أخاه الأكبر في نظام غذائي لتخفيض الوزن؛ فقد كان رحمه الله مفرط السمنة، وكنت أحيانا أقضي اليوم بطوله أستمع إلى شرحه للمادتين، أو أشرح له المادتين اللتين تكفلت بهما.
وذات يوم سمعت بمشكلة حازم بركات . كان حازم من أسرة بالغة الثراء، وكان يتيما تولت والدته تربيته، وكان لا يكاد يعرف العربية، وعندما كان يزورنا أثناء «المذاكرة» كان يبدو مشتت الذهن زائغ العينين، ثم لا يلبث أن يمضي مسرعا كأن لديه مهمة عاجلة يريد قضاءها. وقال لي عمرو إن حازما كانت لديه مشكلة فريدة، وهي حب والدته إلى درجة التقديس، مما جعله يفشل في إقامة أي علاقة عادية مع أي فتاة صغيرة، وكان قد عرض على عمرو فكرة التآخي في الدم؛ أي أن يقطع شريانا في ساعده وشريانا في ساعد عمرو، ثم يمزج دماهما حتى يرتبطا إلى الأبد، ولكن عمرو كان يرفض. أما مشكلته فهي ميوله الانتحارية؛ إذ حاول الانتحار عدة مرات، وكان عمرو يخشى أن يوفق في إحدى هذه المحاولات آخر الأمر. وبعد سنوات قليلة نجح فعلا، رحم الله حازما.
لا أدري إلى أي حد كان عمرو مصيبا في تشخيص مشكلة حازم، والأرجح أنه كان متأثرا برواية «أبناء وعشاق» للكاتب الإنجليزي د. ه. لورانس، وكنا نقضي ساعات طويلة في تحليل بعض فقراتها، بينما فعلنا ما لم يفعله غيرنا من الطلبة آنذاك وهو أن قرأنا رواية «صورة الفنان شابا» للكاتب جيمس جويس بصوت عال! كان عمرو يقرأ فصلا وأنا أتابع، ثم أقرأ أنا فصلا آخر وهو يتابع، ونعلق أثناء القراءة على النص، ولكن كلا منا قرأ رواية «لورد جيم» وحده، وانتهزت أنا فرصة مرض الإنفلونزا الذي ألزمني المنزل ثلاثة أيام للانتهاء من رواية «السفراء» للكاتب الأمريكي «هنري جيمس». وكنا نتواعد تليفونيا على اللقاء كلما قطعنا شوطا في الاستذكار.
وكان مذهبنا في دراسة شيكسبير يعتمد على قراءة النص بصوت عال وبلهجة تمثيلية، وكنا نحفظ منه فقرات مطولة هي «المونولوجات» التي يلقيها أحد الشخصيات كالملك لير مثلا، ولن أنسى ذلك اليوم الذي «سمعنا» فيه أهم المونولوجات ونحن جالسان في أتوبيس رقم 6 الذي يمر بالجامعة، وبالعجوزة وبالزمالك، ثم ينتهي إلى العتبة، في ميدان الخازندار.
وقد ترك لي عمرو مهمة إعداد مذكرات كاملة له في اللغة العربية يحفظها عن ظهر قلب، ففعلت ذلك، وكانت نتيجة امتحان الفصل الدراسي الأول أجمل مما أتوقع؛ إذ كنت أعلى الطلبة درجات في كل شيء، والأول بلا منازع. ولم يكن ذلك يعني إلا أن جهودنا آتت أكلها، وأن علينا مواصلة الجهد حتى نقهر الآخرين في الصراع على القمة. وعندما زرت أخي حسن في الإسكندرية، حيث كنت استدعيت للتجنيد، أخبرته بالنتيجة، وكان يقيم بالمدينة الجامعية في سموحة، ويدرس في كلية العلوم، وجعلنا نقارن بين ما أدرسه أنا وما يدرسه هو، وكنت مغرما بالعلوم، فتحدث وأفاض، وتعرفت عن طريقه على عدد من زملائه النوابغ الذين يتمتعون بجذور ريفية، ولم يستطيعوا التخلص من عاداتهم القروية في المدينة، فكان أحدهم يقضي حاجته في الخلاء (في الغائط)؛ لأنه لم يستطع التكيف مع النظم الأوروبية، وكان كثيرا ما يصطدم مع سلطات المدينة الجامعية لهذا السبب، ولكنه كان، فيما يبدو، لا يملك تغيير العادة التي اكتسبها طفلا ودرج عليها، وعندما قابلته في لندن بعد سنوات، وكان يدرس للدكتوراه في ليفربول، ذكرته بأحوال الإسكندرية فضحك وقال إنه يخادع الإنجليز ويفعل ما يحلو له بطريقة مبتكرة!
في بداية الفصل الدراسي الثاني، أي في أوائل عام 1959م، دعانا الدكتور رشاد رشدي لمشاهدة مسرحيته الثانية «لعبة الحب» في دار الأوبرا القديمة، التي احترقت بعد ذلك بعشر سنوات، وكان الحشد كبيرا والعرض شائقا، فالتقينا في الاستراحة (سمير سرحان ووحيد النقاش وأنا)، وتناقشنا في إبداع عبد الحفيظ التطاوي وزيزي مصطفى وليلى نصر (التي كانت تقوم بدور خادمة بلهاء) وميمي جمال وغيرهم، ولكنني أحسست أن عاصفة ما توشك أن تهب، فمع أن المسرحية كانت في صلبها «أخلاقية» تدعو إلى الإخلاص في العلاقات الزوجية، و«التفرد» في الحب، فقد كان تصوير العلاقات الجنسية على المسرح، وهو الذي عمد إليه الكاتب حتى يدينه، جذابا بطبيعته مثيرا للتفكير، مما كان ينذر بإساءة فهمه وتفسيره. وكانت فرقة «المسرح الحر» التي قدمت الرواية تريد ولا شك اجتذاب الجمهور، وكان المخرج «كمال يس» يقسم اهتمامه بالتساوي بين الإخلاص للنص والإخلاص للجمهور!
وهبت العاصفة المتوقعة، وكان رشدي غاضبا من إساءة فهم رمز «الذرة»؛ إذ كان يصور الفتاة في صورة دجاجة حبيسة في قفص، يحاول الرجل إغراءها بالخروج منه عن طريق التلويح بحبات الذرة، وكان النص يصف حبات الذرة بأنها طرية ولذيذة، ولكن المخرج وضع في يد الممثل «كوز ذرة» مما جعل الرمز يقبل تفسيرا مختلفا! وتوالت المقالات التي تسب المسرحية، مما زاد من إقبال الجمهور، ولاحت الفرصة لأصحاب الاستقطاب والتصنيف لأن يضعوا رشاد رشدي في «خانة» اليمين الذي يكتب الفن من أجل الفن، وتوجيه التهمة الصريحة إليه بأنه يعزل نفسه عن قضايا المجتمع، وخرجت إحدى المقالات تقول: لقد تجاهل أزمة المواصلات ومشاكل الكادحين، وجعل يتحدث بدلا من ذلك عن ضرورة الإخلاص والوفاء! وليته (يقول المقال) عالج الإخلاص للوطن، ولكنه عالج الإخلاص للمرأة! وهل المرأة (يقول المقال) من القضايا الملحة للمجتمع؟
وبانتهاء العام الدراسي، والاطمئنان إلى حد ما إلى ما ستكون النتيجة عليه، عدت إلى مكتبي. كان والدي قد أعطاني مكتبه الضخم الذي نقله من «رشيد»، وكانت أمتع أوقاتي هي التي أقضيها جالسا أقرأ في الكرسي الضخم، أو أكتب أو أترجم. كنت قد اكتشفت موردا لا ينضب للمال عن طريق الترجمة لدار الشعب؛ إذ كنت بدأت في الصيف ترجمة كتاب «فنون الجنس البشري» من تأليف هندريك ويليم فان لون (وهو هولندي)، وكنت كلما سلمت فصلا مترجما إلى الأستاذ إسماعيل شوقي، رئيس تحرير المطبوعات، نفحني خمسة جنيهات، فكان ذلك دخلا هائلا يتيح لي أن أذهب إلى السينما وأن أتناول الطعام في المطاعم الفاخرة، وعدم اللجوء إلى خالي عبد الحليم كلما احتجت إلى المال. ولكن الكتاب طويل، وكنت أعاني في ترجمته معاناة شديدة.
ناپیژندل شوی مخ