واحات عمر: سيرة ذاتية: برخه لومړۍ
واحات العمر: سيرة ذاتية: الجزء الأول
ژانرونه
متقيد بعهوده ووعوده
يجري على سنن الوفاء ويصدق
والآن وأنا أذكر اللحن بعد هذه الرحلة الطويلة مع الأغنية والقصيدة، أرى كيف لحن السنباطي البيت بحيث يبرز عبقرية «التموج» في شعر شوقي؛ فكل تفعيلة (من بحر الكامل) تتماوج وحدها في الشطر الأول حتى تأتي إلى الكلمة الأساسية وهي «يجري» فتطول نغمة «على» ثم تهبط ثم تعلو في «الوفاء» وتعود إلى النغمة الأولى! هل كان شوقي واعيا بتقسيم التفعيلات الداخلية هنا؟ هل كان واعيا بحركة «الواوين» في الشطر الأول في نصف التفعيلة اللتين تحولتا إلى «ألف» ممدودة في آخر التفعيلتين الرابعة والخامسة؟ لم أكن في ذلك الوقت قد درست الشعر ولا الموسيقى بالقدر الذي يتيح لي أن أعرف أو أن أحدس، لكنني كنت أستغرق وحسب فيما حولي، فيتمثلني المنظر مثلما أتمثله! ولم أدرك ما كان يحدث حقا حتى قرأت شعر وردزورث في إنجلترا، وسمعته يقول كيف كان يطيل النظر أحيانا في صفحة البحيرة والسحب الساكنة في السماء من فوقها، فلا يدري إن كان المشهد خارج كيانه أم داخليا في نفسه! كانت تلك تماما مشاعري وأنا أرقب صفحة النيل التي تشبه البحر الساكن؛ هل هذه هي «الأفكار» التي تسبق اللغة؟
وعندما عدنا إلى القاهرة ظلت صور أسوان ماثلة في مكان ما في نفسي، وكرت أيام الدراسة سريعا وأنا «ألهو» بالعود أو أكتب القصص وأتحدث في إذاعة طابور الصباح في المدرسة بالفصحى، وكتبت مرة قصة قرأتها على الطلبة في الصباح اسمها «القلة» (لم أكن أعرف أنها فصحى حتى قرأت صحيح البخاري)، ولم يكن بها إلا عنصر التشويق؛ إذ بدأتها هكذا «رأيتها في غرفة الأساتذة، تقف عند الشباك، ولم يكن يتطلع إليها أحد، وخالستها النظر دون أن يرقبني أحد، وكان بي شوق جارف إلى أن أروي عطشي منها ...» وتعمدت ألا أفصح عما يعود إليه الضمير «هي» إلا في نهاية القصة! وضحك الأساتذة، وكان الأستاذ صبري مدرس الرسم سعيدا بطاقتي اللغوية، وكان رضاه عنها يفوق رضاه عن طاقتي في الرسم، وقد كرر على مسامعي ما سبق أن قاله مفيد تاوضروس في رشيد من أنني لا أعرف كيف أتوقف - أي لا أعرف أن اللوحة انتهت ولم تعد تقبل المزيد!
وذات يوم سألني (الدكتور) جرجس الرشيدي عما أنتوي دراسته بعد التخرج فقلت له: الأدب العربي، وقال بأسلوبه الهادئ الواثق: ليه ؟ ولم أستطع أن أجيبه. واستمر قائلا: «هل تريد أن تصبح كاتبا؟ الواضح مما قرأت لك أن لديك موهبة (وكان قد قرأ مسرحيتين كتبتهما بالإنجليزية وقصة أيضا بالإنجليزية) ولكنك لن تستطيع أن تجيد أيا من الألوان الأدبية الحديثة إلا إذا قرأت الآداب العالمية، وخير وسيلة لك هي إجادة اللغة الإنجليزية. وعليك إذن أن تلتحق بقسم اللغة الإنجليزية!» وعندما ذكرت له ما كنت أسمعه عن وجود أجانب أو أنصاف أجانب أو خريجي مدارس أجنبية في القسم لا بد أن يحتلوا المراكز الأولى قال بالثقة نفسها: «في الأول بس!» وعلى أي حال سوف تتميز عنهم باللغة العربية! وذكرت أن الإذاعة حلم من أحلامي، فقال لي إن حسني الحديدي خريج من قسم الإنجليزي، ومن قبله علي الراعي ومحمد فتحي! وصادف ذلك في نفسي هوى (خصوصا أن جمال السنهوري كان قد التحق آنذاك بالإذاعة)، فناقشت الأمر مع آخرين فتضاربت الآراء، وإن كنت في أعماقي أتمنى دخول معهد الموسيقى أو كلية الفنون الجميلة، وكثيرا ما كنت أسير في تلك الأيام في شارع محمد علي، وأتطلع إلى الآلات الموسيقية المعروضة، وتحديدا في محل جميل جورجي، وكان الرجل طاعنا في السن طيب القلب، فكان يسمح لي بالجلوس والعبث بالأوتار، مدركا رحمه الله أنني لن أشتري شيئا، ومقدرا مدى شغفي بالموسيقى.
وكان من سمات «الكبار» في المدرسة «التزويغ»، وهذا لا يعني عدم الحضور ولكنه يعني الحضور ثم الفرار، إما بالقفز من السور، وإما بالتحايل على الفراش الموكول بالباب (البواب) لقاء مبلغ زهيد، وأحسست أنني لا بد لي أن «أزوغ» ولو مرة واحدة تدعيما لمكانتي بينهم، ولم يكن «التزويغ» مقبولا في النصف الأول من العام، ولكن الأساتذة كانوا يتغاضون عنه في النصف الثاني، وكانت الخطة هي أن يحضر الطالب الحصتين الأوليين، فيثبت أنه حضر في كشوف الغياب ثم يتسلل أثناء الفسحة الصغيرة مع من يريد من السور الخلفي (أو الباب الأمامي باتفاق سابق مع الفراش)؛ ومن ثم قررنا أنا وزميل اسمه محمود القللي أن «نزوغ» ونذهب إلى السينما، ثم نعود إلى المنزل في موعد الخروج من المدرسة. وقال لي إنه سيتكفل بالحديث مع الفراش، وما علي إلا أن أكون موجودا بالقرب من الباب في أول الفسحة، حيث يكون جميع المدرسين قد عادوا إلى غرف الأساتذة، وسأجد الباب مواربا والفراش متظاهرا بتناول طعام الإفطار فأنسل خارجا، وأختفي في أحد الشوارع الجانبية بانتظاره. ونفذنا الخطة بدقة عسكرية ووجدنا أنفسنا في طرق خالية، فعبرنا شارع نوال، ومنه إلى كوبري الجلاء وأرض المعارض ثم شارع سليمان باشا (طلعت حرب حاليا)، ثم شاهدنا فيلما ما (لا أذكر عنه أي شيء) وقفلنا في طريق العودة عن طريق العتبة، إذ كان أمامنا ساعتان. ووجدت سور حديقة الأزبكية غاصا ببائعي الصحف والكتب القديمة والمجلات المصورة بكل اللغات، فوقفت أتأملها، بينما كان هو يلح علي أن نستأنف السير. وأخيرا يئس مني فتركني ومضى، واستغرقتني الكتب، وكانت أثمانها تتراوح بين قرش وخمسة قروش، فقضيت وقتا لا أدريه، حتى وجدت يدا تربت كتفي في رفق، فتلفت فإذا هو الأستاذ محمد الشيخ، صديق الأسرة، الذي تعرفت عليه والدتي أثناء الحج عام 1950م.
ولم يقل شيئا ومضى ببسمته الهادئة، ولكنني أدركت أنه لا بد مخبر الأسرة بما يفعله التلميذ «المجتهد»، وقررت أن ألتزم الصمت، وألا أخوض في الموضوع أو أتعرض له، لا صدقا ولا كذبا، وعندما رن التليفون ذلك المساء، وسرت في المنزل الهمهمة المتوقعة تربصت أنظر ما أفعل، ولكن العاصفة مرت بسلام، وكان الصمت الذي عوملت به أبلغ من كل صراخ أو غضب.
وعندما عقدت وزارة التعليم، التي كان على رأسها كمال الدين حسين، مسابقة بين تلاميذ المدراس على مستوى الجمهورية في كتاب «فلسفة الثورة» من تأليف جمال عبد الناصر، كان النظام هو أن يعقد امتحان على مستوى المدرسة لاختيار الثلاثة الأوائل لدخول مسابقة المنطقة، ثم التصفية النهائية. وكان ترتيبي الأول في المدرسة، ولكن امتحان المنطقة كان مخيبا للآمال؛ إذ كان المصححون من خارج الوزارة، وكان «مجلس قيادة الثورة» هو الذي أعد نماذج الإجابات، وقد أخطأت دون أن أدري خطأ فاحشا حين ذكرت أفضال محمد علي باشا على مصر الحديثة، وكان ذلك كفيلا باستبعاد ورقتي من الامتحان؛ إذ كان الممتحنون يعتبرونه خطأ قاتلا. ولكن أحد أبناء المدرسة فاز بمركز متقدم وهو أحمد علي حسن، وفاز بالمركز الرابع على مستوى الجمهورية، ففاز بمبلغ خمسة عشر جنيها ونزهة نيلية للأوائل مع الوزير نفسه.
انتهى العام الدراسي، وتقدمنا إلى مكتب التنسيق الذي كان قد أنشئ في العام السابق، رغم إصرار والدي أن أدخل كلية الشرطة، وبرغم «الواسطة» العليا التي استعنا بها، لم أقبل بعد أن اجتزت جميع الاختبارات، فيما كان يسمى بكشف «الهيئة». وما زلت أذكر رئيس اللجنة وهو يقول لي: إن درجاتك في العربية والإنجليزية أعلى من المعتاد .. هل أنت واثق أنك تريد أن تصبح ضابط شرطة؟ وأجبت بالإيجاب، فأردف قائلا: ولكنني سمعت أن والدك يريد إجبارك على ذلك؟ ويبدو أنني تلعثمت فقال لي: «شكرا .. اتفضل.» ولم أخبر والدي أبدا بما حدث؛ إذ يبدو أن «الواسطة» قد «ذكرت» الحقيقة لرئيس اللجنة، فكان ما كان!
في أعماقي كنت سعيدا، بل كنت بالغ السعادة. وكان أحد مصادر السحر يكمن في الزي الرسمي للشرطة، وكان سحر زي طلبة «كلية البوليس» كما كانت تسمى، يتمثل في إقبال الفتيات على لابسيه، مما أحزنني بعض الشيء، ولكنني عندما التحقت بكلية الآداب، وشاهدت الجميلات وحادثتهن، نسيت كل سحر للزي الرسمي، وبدأت مرحلة جديدة حافلة عاصفة في حياتي الأدبية.
ناپیژندل شوی مخ