208

واحات عمر: سيرة ذاتية: برخه لومړۍ

واحات العمر: سيرة ذاتية: الجزء الأول

ژانرونه

detente ؛ إذ دخلت الصين الأمم المتحدة، والتقى زعماء أمريكا والاتحاد السوفييتي، وبدا أن التوازن الذي كان قائما في الحرب الباردة بين المعسكرين (الشرقي والغربي) قد يختل، فإذا اتفقت الدولتان العظميان على شيء أصبح من المتعذر على الدول الأخرى أن تعارضه، مما كان ينذر بعواقب «مجهولة» في أفضل الحالات، و«وخيمة» في أسوئها، وكانت سياسة مصر تتجه إلى اكتساب التأييد الأوروبي، خصوصا دول غرب أوروبا ذات النفوذ والثراء، وكانت أنباء زيارة نيكسون، رئيس الولايات المتحدة آنذاك، للصين في فبراير ثم اجتماعه مع بريجينيف، الرئيس السوفييتي في مايو 1972م من الأنباء التي هزت العالم، وإن كان الهدف الواضح هو محاولة إنهاء حرب فيتنام بأي طريقة، بعد أن اتضح أن التورط الأمريكي قد تجاوز الحدود «المسموح بها» وأن الخسائر في الأرواح أصبحت تقض مضاجع المواطنين العاديين.

وفي غمرة انشغالنا بترجمة ردود الفعل العربية وقع في آخر مايو حادث كانت له عواقب «إعلامية» كبيرة؛ إذ قام ثلاثة من اليابانيين المسلحين بإطلاق النار في مطار اللد الدولي في تل أبيب على المسافرين والمستقبلين في المطار فقتلوا 25 شخصا وجرحوا 72 آخرين، وذلك بمجرد هبوط المسلحين من طائرة تابعة لشركة إير فرانس، وقتل أحد المسلحين، وانتحر الثاني، وقبض على الثالث وكان اسمه «كوزو أوكا موتو» وقال إنه ينتمي لجيش النجم الأحمر، وهي منظمة يسارية يابانية تناصر الفدائيين العرب. أما ردود الفعل فكانت متناقضة؛ إذ قالت منظمة التحرير الفلسطينية إنها مسئولة عن الحادثة، وقال الياباني في محاكمته التي استمرت حتى 17 يوليو (وحكم عليه بالسجن عشر سنوات) إنه يمثل ضمير العالم الذي أقلقه الوفاق الدولي، وشغلت الصحف بالحديث عن الإرهاب العربي، وجعل حزب المحافظين الذي كان قد تولى السلطة قبل ذلك بعام يتحدث عن مغبة تأييد من «يلوثون أيديهم بدماء الأبرياء» كأنما كان اليابانيون عربا!

3

كان من الواضح أن حياتي لم تكن تسير في الطريق الذي رسم لها؛ إذ أصبح لي مجتمع كامل من الأصدقاء والمعارف، في الجامعة والعمل، وبدأت أتذوق لطائف اللغة الإنجليزية التي ألتقطها بشغف من أفواه هؤلاء وهؤلاء، كما اكتسبت عادة ما زلت أمارسها وهي إرهاف السمع لما يدور حولي من أحاديث، حتى ولو كانت عابرة - في الأتوبيس أو في الدكاكين أو في الطريق العام - استكناها لدلالة هذا التعبير أو ذاك، وأصبح من مصادر متعتي أن أسير ساعة أو بعض ساعة بعد الخروج من الكلية أو من العمل، فأتأمل الطبيعة من حولي، وأرقب الناس والأشياء، وقد أتجول في الأسواق، ثم أقفل راجعا راكبا.

كانت الحاسة الأولى هي حاسة السمع؛ إذ اكتسبت من الحياة الإنجليزية تحاشي «البحلقة» (الحملقة؟

staring ) التي تعتبر عيبا اجتماعيا شائنا، فكانت عيني تلمح الأشخاص أو الشخص بسرعة وتستوعب التفاصيل، ثم تتابع أذني الحوار أو الحديث المتقطع، وكان أقرب منهل لهذه الأحاديث الدكاكين الصغيرة؛ حيث تأتي العجائز اللائي يعانين من الوحدة للحديث بعضهن مع بعض، أو لمخاطبة البائع والحديث معه في شتى شئون الحياة، وكنت أتظاهر بالانشغال بانتقاء حبات الطماطم مثلا وأذني تتابع ما يدور؛ فالريف في إنجلترا ذو إيقاع هادئ، ويسمح بالوقوف والتأمل والاستماع.

وكثيرا ما كنت أستغرق أثناء تلك الجولات في تأمل ما قرأت واسترجاع ما فهمته؛ إذ كنت أحيانا أعاني مما كان عبد اللطيف الجمال يعاني منه، ألا وهو تشتت الأفكار بسبب تنوع مصادرها وعدم تناغمها؛ فالذي يقرأ في موضوع واحد يستطيع التركيز وتنسيق الأفكار، أما الذي لا يقف عند حدود البحث الذي كلف نفسه به، فهو يحتاج إلى فترات يلم فيها شعث أفكاره، بل ويلم شتات نفسه أيضا.

كنت أتصور أنني أستطيع أن أنتهي من الرسالة في الصيف، ولكن الفصل الرابع يدور حول أساليب المواويل الغربية (البالادات) وكان يقتضي البحث ساعات طويلة في المكتبة، خصوصا في غرفة الكتب المخزونة (

stack room )؛ حيث توجد بعض النصوص الأصلية، وبعض الطبعات القديمة التي أصبحت ذات قيمة تاريخية لندرتها ولم يكن يسمح لأحد بالاطلاع عليها إلا بعد إذن خاص، ولا يسمح بتصوير أي صفحات منها إلا بترخيص، وعلى ألا تتجاوز الصفحات فصلا واحدا، وكانت آلة التصوير (زيروكس) اختراعا جديدا وتكاليفه باهظة.

وفي أوائل يونيو 1972م وصلني خطاب من إدارة البعثات يقول إن مصر قد أوقفت صرف مرتبي؛ لأنني استوفيت الحد الأقصى للبعثة وهو سبع سنوات، وكان معنى ذلك هو الارتباك الشديد في أحوالي المالية؛ فأنا لا أقتصد في الإنفاق ولا أدخر شيئا من دخلي (وهذا معيب في إنجلترا) بل أنفق كل ما يأتيني سواء أكان ذلك في شراء الكتب أو شرائط الموسيقى أو في الذهاب إلى المسرح، وقررت أن أذهب إلى لندن لمخاطبة رئيس المكتب في الموضوع، فذهبت في الصباح الباكر، وما إن دخلت المكتب حتى سمعت صوتا مألوفا يناديني، والتفت فوجدت وجها مصريا يطالعني ببسمة، وخيل إلي أنه أحد أقاربي، لولا أنه ناداني بعناني! وعندما اقتربت تسمرت في مكاني: كان «عبده»! وبعد الترحيب وبعد التغلب على الدهشة الصاعقة، صحبته إلى الطابق الأول حيث قابلت رئيس المكتب، وتأكد لي استحالة مد البعثة؛ ومن ثم هبطنا وخرجنا معا حتى دون أن أسأله إن كان قد انتهى مما جاء من أجله، وعند ناصية كيرزون (Curzon)

ناپیژندل شوی مخ