واحات عمر: سيرة ذاتية: برخه لومړۍ

محمد عناني d. 1443 AH
151

واحات عمر: سيرة ذاتية: برخه لومړۍ

واحات العمر: سيرة ذاتية: الجزء الأول

ژانرونه

كان مجتمعا غريبا؛ فكل منهم له قصة، وكل منهم يعيش حياة تختلط فيها صور الماضي بالحاضر دون أن يرى له مستقبلا، كان العرب يندفعون مع الإنجليز كل صباح إلى العمل، ثم يطلون في أحاديثهم على الذكريات التي يبتعد بها قطار الزمن فتختلف ألوانها وتشحب، وتتداخل خطوطها وتشتبك، وكان معظم المصريين هناك ممن جاءوا إلى بريطانيا أصلا للدراسة، ثم انقطعت رواتبهم فالتحقوا بالعمل وهم يرون شمعة الدراسة تذوي ويخفت ضوءها، وتزوج بعضهم من إنجليزيات واشترى له بيتا ذا حديقة، وأنجب أطفالا يحملون الجنسية الإنجليزية ولا يتكلمون العربية، وظلت صورة الوطن كما هي - أي كما تركوه - وكانوا يتأثرون قطعا بما يسمعونه في أجهزة الإعلام، وكان بعضهم يحاول أن يبرر حكمة خروجه من مصر وعدم العودة إليها، وبعضهم يبدي الندم في لحظات نادرة عابرة، وكان من بين هؤلاء عزت أبو هندية (رحمه الله) الذي ينتمي إلى دمياط، وقد اشتهر عنه إمساك اليد، ولو أن هذا يرجع إلى فقر أيام الدراسة، وهو يقول إنه على استعداد للعودة إذا وافقت إدارة البعثات على دفع تكاليف تعليمه طيلة فترة عمله وإنفاقه على نفسه. وكان يعيش خارج لندن في منزل اشتراه، وكان لا يريد الزواج حتى لا تستولي زوجته على أمواله، وكان يحاكي الإنجليز في «تعقلهم» في الإنفاق والحرص على المال، وكذلك رغم تقدمه في السن (إذ كان قد جاوز الخمسين) ورغم مرض القلب الذي يعاني منه في مصادقة الفتيات. حتى وقعت الحادثة التالية:

اقترحت إفادات كيبرون أن تعرفه بفتاة ثرية اسمها شيلا جرين تعمل في العلاقات العامة، وأفهمت كلا منهما أن صاحبه ممتاز (وكانت شيلا ولا شك ممتازة) وعملت إفادات على «توفيق رأسين في الحلال» حتى يجد الدكتور عزت من يرعاه إذا مرض، ومن يعتني به في حياته اليومية حتى يظهر بالمظهر اللائق بجميع المصريين. وكنت حاضرا أثناء المقابلة، ومال كل منهما - كما يبدو - إلى صاحبه، وأصبحنا نتوقع إعلان الزفاف بين لحظة وأخرى، ولكن عزت تراجع في آخر لحظة، ويبدو أنه سمع منها ما يفيد أنها تعرف أنه مريض بالقلب، فتخيل أنها تريد أن ترث ماله حين يوافيه الأجل، ولم يمض أسبوعان حتى نعى الناعي شيلا جرين، وقال قائل إنها توفيت دون أن تعاني من أي مرض، ولكن الأجل المحتوم لا يحتاج إلى مرض، كما تحدث المتحدثون عما خلفته من ثروة طائلة، آلت إلى الحكومة؛ لأنها لم يكن لها وريث، وأصبحنا نرى الدكتور عزت وهو شارد اللب، يفيض صوته بالحزن، ثم فوجئنا به في المكتب ذات يوم يقول «أنا أعرف حظي .. لو تزوجتها لعاشت مائة عام!»

أما ريمون مكلف فكان إسكندرانيا ظريفا (ابن بلد وابن نكته) يحمل جواز سفر بريطانيا لأن أصله من مالطة وأبوه مالطي يحمل الجنسية البريطانية، واستقر أخيرا في الإسكندرية. وحين طرد الإنجليز (ومن يحملون جوازات سفر إنجليزية) من مصر إبان العدوان الثلاثي عام 1956م، كان ريمون قد ارتبط بغرام مشبوب بفتاة من حي بحري بالإسكندرية (وتقيم في شارع رأس التين) اسمها جانيت، وكانت ما تزال تلميذة في المدرسة الثانوية، وكان يتمنى أن يخطبها فور حصولها على التوجيهية (الثانوية العامة) ثم فوجئ بقرار الطرد، فجاء إلى لندن حيث عمل في بحوث المستمعين، لكن خطاباته لم تنقطع إلى جانيت، وما إن تحسنت الأحوال السياسية حتى هبط مصر بالطائرة وتزوجها في اليوم التالي، وبعد يومين كانا في لندن، فاشترى بيتا في جنوب لندن، في منطقة

Streatham ، وأنجب منها ثلاثة ذكور، أحدهم مريض بالهيموفيليا (مرض سيولة الدم) وعندما زرته صباح يوم من أيام السبت شممت رائحة مصرية محببة كنت افتقدتها من زمن، وعندما سألته قال «أصل جانيت لازم تدمس الفول بنفسها!» ولا شك أنها كانت مدبرة منزل رائعة، ولا أظن أنني أكلت فولا أشهى مذاقا من فول جانيت.

5

كان من نتائج عملي الجديد، الذي تطلب إذنا خاصا من وزارة الداخلية (بالعمل خلال الصيف للطلاب) أن اختلف نظام حياتي فتعلمت السهر، خصوصا بعد أن طال النهار واعتدل الجو، واشتريت جهازا للراديو ماركة بوش

Bush (ما يزال يعمل حتى الآن) أغناني عن الراديو المشترك للفندق القديم، واشتريت قلنسوة من الفراء، كندية الصنع، بخمسة جنيهات، ما زلت أرتديها حتى اليوم في شتاء أوروبا، وبدأت أتردد على بعض المطاعم الهندية التي تقدم وجبات كثيرة التوابل، ومتنوعة الطعوم يطلق عليها الأجانب مجتمعة لفظ كري بتفخيم الكاف

curry (وتنطق في مصر كاري بترقيقها ومد الفتحة) كما اكتشفت كشكا يبيع الكتب القديمة بنصف الثمن، وأحيانا ما كانت كتبا جديدة أصابها تلف طفيف، فبدأت أقرأ بنهم في شتى الموضوعات، خصوصا في الفلسفة وعلم النفس؛ إذ كان الأستاذ هاردنج

Harding ، أستاذ علم النفس بكلية بدفورد مولعا بالشاعر الذي أدرسه، وكان يوجهني إلى قراءة كتب معينة في علم النفس يرى أنها لازمة لدراسة هذا الشاعر، كما بدأ في ذلك الوقت غرامي الشديد بالفيلسوف الألماني كانط

Kant ، بعد أن قرأت مدى تأثر كولريدج

ناپیژندل شوی مخ