واحات عمر: سيرة ذاتية: برخه لومړۍ

محمد عناني d. 1443 AH
138

واحات عمر: سيرة ذاتية: برخه لومړۍ

واحات العمر: سيرة ذاتية: الجزء الأول

ژانرونه

وسجلت ملاحظاته في كراسة لدي ما زلت أحتفظ بها، وعدت إلى قراءة تلك القصيدة التي كنت ترجمتها ذات يوم في مصر، ولاقت إعجابا من أستاذي مجدي وهبة، رحمه الله، وشغلت يوما أو يومين بهذه الرؤية الشرقية المحضة لحياة الروح الإنسانية، وانتهيت إلى أنها لا تعدو أن تكون رؤية شاعر، وأنها لا تصل أبدا إلى يقين العلم؛ فالروح من أمر ربي، وما أوتي البشر من العلم إلا قليلا، ولكن أحببت أن أستزيد من العلم بهذه الفلسفة الشرقية التي كتب لها أن تظل ضربا خاصا من الاستبطان (introspection)

وألا ترقى أبدا إلى مرتبة الفكر الحقيقي. وعندما صارحته بذلك دار بيننا حوار أرجو أن أنجح في تلخيصه هنا استنادا إلى مذكراتي؛ إذ التفت إلي ببسمة الواثق قائلا: - لقد تدربت على التفكير الذي ينسب كل ما لا تعرفه إلى السماء؛ أي إلى مصدر خارج النفس، ولديكم في الإسلام والمسيحية رموز تتوسلون بها حتى تتجنبوا حياة الروح الحقيقية، ولكن أستاذنا بوذا يعلمنا كيف نغتني بالمواجهة الصادقة مع النفس عن رموز الجنة والنار، وعن تصور الملائكة والشياطين، ومفهومنا للخير نسبي، وكذلك مفهومنا للشر؛ فكل ما يؤدي إلى التوافق والتناغم والسلام خير، وكل ما يفسد ذلك شر، وأفكارنا الدينية أقرب إلى البراجماتية والعيش في هذا الكون من أفكاركم التي ترجئ كل شيء ليوم الحساب!

د. حسين ربيع أمام ميدان رسل في لندن عام 1966م. - ولكنك تستعين بالرموز في صلاتك، وتستخدم طقوس البخور والصور! - هذه ليست رموزا، بل هي من العوامل التي أستعين بها في التركيز! - ورياضة اليوجا؟ - هذه ليست رياضة بالمعنى المفهوم، بل هي تدريب للروح على تقبل الجسم الذي قدر لها أن تعيش فيه، وتدريب الجسم على تقبل الروح التي تسكنه! - أنت إذن تفصل بين مفهوم الروح ومفهوم الجسد، وهي الفلسفة الثنائية التي ينكرها علم النفس الحديث وتنكرها الفلسفة اللغوية المعاصرة! - الفصل قائم يا صديقي، مهما برع العلماء المزعومون في تبيان الصلات وإقامة العلائق! قل لي: ألا تشعر أحيانا بأن في ذاتك نوازع غريبة عنك؟ ألا تشعر أحيانا بأنك لا تعرف تلك النفس التي يقطع العلماء بوجودها؟ بل لعلك أحسست يوما ما بأن في داخلك ما تسميه الأديان بالملائكة والشياطين! إنها نوازع الروح التي تخاطبك بما لا تعرف! - وهل يعني ذلك أن الروح جاءت من كائن حي آخر؟ - قل لي وكن صريحا معي .. ألم تشعر يوما أن مشهدا ما قد سبقت لك رؤيته؟ ألم يداهمك الإحساس بأن نغما ما يثير نفسك فجأة دون سبب؟ ألم تنظر يوما إلى السماء فتدرك أن ما تراه ليس غريبا عليك؟ - ربما سبق لي أن شاهدته في الطفولة! - وعندما كنت طفلا .. ألم تكن تشعر أحيانا بأن منظرا ما مألوف لديك؟ - لقد انتهى علماء النفس من تحليل ذلك! - لم ينته أحد من شيء! كلنا يحاول ترويض روحه حتى تقبل الجسم وتقبل العالم .. وقد ننجح أو نفشل .. لكننا في الحالين لا نستطيع تغيير طبيعة الروح الخالدة .. قد تكون ذات خير فتدفع الجسم إلى الخير، وقد تكون ذات شر فتدفع الجسم إلى الشر، ونحن في صراع دائم مع الخير والشر معا! - وذلك ما تقول به الأديان السماوية .. كل ما هناك هو أننا ننسب الخير إلى دوافع عليا يرسمها العقل، وننسب الشر إلى دوافع سفلى يرسمها الشيطان! ونحن نهتدي بما أوحي إلى الأنبياء من آيات وأنزل عليهم من هدى!

ولكن فيكرام لم يكن - رغم عدم تصديقه للأديان السماوية - ممن يسخرون منها أو يهزءون بما أنزل على غيرهم من الأمم، بل كانت البسمة لا تفارق شفتيه، وكان هادئ الطبع، «طويل البال»، وكان أحيانا يطلب مني مغادرة الغرفة؛ لأنه يريد «التأمل» وحده، ولم أكن أعارضه، بل كنت أحمل كتبي وأهبط إلى قاعة الدرس، فأقضي الوقت الذي حدده وحدي، ثم أصعد لأنام.

ثم جاء يوم من أيام ديسمبر عدت فيه من الكلية مرهقا، فوجدته يطلب مني «إخلاء» الغرفة ساعتين، وكان لدي عمل كثير؛ إذ كنت قد بدأت تصنيف الصور الشعرية التي كنت كتبتها في بطاقات كثيرة في مصر، وكانت نهاد خطيبتي قد أرسلتها في طرد كبير، وكنت أعيد قراءة هذه الصور على ضوء ما قرأته عن الشاعر في مراجع لم تكن متوافرة في مصر، فأخذت أوراقي وهبطت إلى قاعة الدرس، وجعلت أعمل بجد حتى انقضى الوقت، وكنت قد تناولت العشاء في الكلية على مائدة طلاب الدراسات العليا والأساتذة، فشعرت بأنني لا بد أن آوي للفراش.

وعندما طرقت باب غرفتنا، فتح لي فيكرام، وكان يرتدي ملابس الخروج مع أن الساعة قد تجاوزت العاشرة، ودخلت فإذا بحسناء إنجليزية الملامح واللهجة تجلس على سريري وفي يدها قدح حدست أن فيه خمرا، فقدمني إليها وعرفني بها، ثم قال إننا نرجوك الانتظار نصف ساعة أخرى فنحن على وشك الانتهاء من الحديث الشائق ذي الشجون! وانعقد لساني من المفاجأة، ولم أشأ أن أعترض، فوضعت الكتب على المكتب، وخرجت.

محمد عناني يكتب على الآلة الكاتبة في حجرته عام 1966م.

وفي قاعة الاستقبال التي كانت ما تزال تحمل ملامح الفندق القديم، جلست شارد النظرات لا أدري ما أصنع، هل كان ذلك دأبه في كل مرة طلب مني مغادرة الغرفة؟ وقررت الانتقال إلى غرفة مستقلة

single room

مهما كلفني ذلك من مال؛ فنحن نطلق في مصر لفظا غير كريم وغير مشرف على من يحتمل ما احتملت، ولم أقل شيئا لأصدقائي العرب الذين أدهشهم وجودي في ذلك الوقت المتأخر في قاعة الاستقبال، وشغلت بالحديث مع بعض الزملاء السودانيين ممن يدرسون تخصصات مختلفة في جامعة لندن، وكان عدد آخر من دارسي الأرصاد الجوية يجلسون قريبا؛ ثلاثة منهم من سوريا والرابع ليبي، وسرعان ما اشتعل النقاش وحمي وطيس الجدل، فنسيت ما أنا فيه، ولم أفق إلا حين رأيت الحسناء تغادر البيت.

ناپیژندل شوی مخ