تقديم
تصدير
إهداء
تصدير
المنبع عند المصب
في المدينة
المسرح الحي
تقديم
تصدير
إهداء
تصدير
المنبع عند المصب
في المدينة
المسرح الحي
واحات العمر
واحات العمر
سيرة ذاتية: الجزء الأول
تأليف
محمد عناني
تقديم
على نحو ما أذكر في كتابي «فن الترجمة» - وما فتئت أردد ذلك في كتبي التالية عن الترجمة - يعد المترجم مؤلفا من الناحية اللغوية، ومن ثم من الناحية الفكرية. فالترجمة في جوهرها إعادة صوغ لفكر مؤلف معين بألفاظ لغة أخرى، وهو ما يعني أن المترجم يستوعب هذا الفكر حتى يصبح جزءا من جهاز تفكيره، وذلك في صور تتفاوت من مترجم إلى آخر، فإذا أعاد صياغة هذا الفكر بلغة أخرى، وجدنا أنه يتوسل بما سميته جهاز تفكيره، فيصبح مرتبطا بهذا الجهاز. وليس الجهاز لغويا فقط، بل هو فكري ولغوي، فما اللغة إلا التجسيد للفكر، وهو تجسيد محكوم بمفهوم المترجم للنص المصدر، ومن الطبيعي أن يتفاوت المفهوم وفقا لخبرة المترجم فكريا ولغويا. وهكذا فحين يبدأ المترجم كتابة نصه المترجم، فإنه يصبح ثمرة لما كتبه المؤلف الأصلي إلى جانب مفهوم المترجم الذي يكتسي لغته الخاصة، ومن ثم يتلون إلى حد ما بفكره الخاص، بحيث يصبح النص الجديد مزيجا من النص المصدر والكساء الفكري واللغوي للمترجم، بمعنى أن النص المترجم يفصح عن عمل كاتبين؛ الكاتب الأول (أي صاحب النص المصدر)، والكاتب الثاني (أي المترجم).
وإذا كان المترجم يكتسب أبعاد المؤلف بوضوح في ترجمة النصوص الأدبية، فهو يكتسب بعض تلك الأبعاد حين يترجم النصوص العلمية، مهما اجتهد في ابتعاده عن فكره الخاص ولغته الخاصة. وتتفاوت تلك الأبعاد بتفاوت حظ المترجم من لغة العصر وفكره، فلكل عصر لغته الشائعة، ولكل مجال علمي لغته الخاصة؛ ولذلك تتفاوت أيضا أساليب المترجم ما بين عصر وعصر، مثلما تتفاوت بين ترجمة النصوص الأدبية والعلمية.
وليس أدل على ذلك من مقارنة أسلوب الكاتب حين يؤلف نصا أصليا، بأسلوبه حين يترجم نصا لمؤلف أجنبي، فالأسلوبان يتلاقيان على الورق مثلما يتلاقيان في الفكر. فلكل مؤلف، سواء كان مترجما أو أديبا ، طرائق أسلوبية يعرفها القارئ حدسا، ويعرفها الدارس بالفحص والتمحيص؛ ولذلك تقترن بعض النصوص الأدبية بأسماء مترجميها مثلما تقترن بأسماء الأدباء الذين كتبوها، ولقد توسعت في عرض هذا القول في كتبي عن الترجمة والمقدمات التي كتبتها لترجماتي الأدبية. وهكذا فقد يجد الكاتب أنه يقول قولا مستمدا من ترجمة معينة، وهو يتصور أنه قول أصيل ابتدعه كاتب النص المصدر. فإذا شاع هذا القول في النصوص المكتوبة أصبح ينتمي إلى اللغة الهدف (أي لغة الترجمة) مثلما ينتمي إلى لغة الكاتب التي يبدعها ويراها قائمة في جهاز تفكيره. وكثيرا ما تتسرب بعض هذه الأقوال إلى اللغة الدارجة فتحل محل تعابير فصحى قديمة، مثل تعبير «على جثتي
over my dead body » الذي دخل إلى العامية المصرية، بحيث حل حلولا كاملا محل التعبير الكلاسيكي «الموت دونه» (الوارد في شعر أبي فراس الحمداني)؛ وذلك لأن السامع يجد فيه معنى مختلفا لا ينقله التعبير الكلاسيكي الأصلي، وقد يعدل هذا التعبير بقوله «ولو مت دونه»، لكنه يجد أن العبارة الأجنبية أفصح وأصلح! وقد ينقل المترجم تعبيرا أجنبيا ويشيعه، وبعد زمن يتغير معناه، مثل «لمن تدق الأجراس»
for whom the bell tolls ؛ فالأصل معناه أن الهلاك قريب من سامعه (It tolls for thee) ، حسبما ورد في شعر الشاعر «جون دن»، ولكننا نجد التعبير الآن في الصحف بمعنى «آن أوان الجد» (المستعار من خطبة الحجاج حين ولي العراق):
آن أوان الجد فاشتدي زيم
قد لفها الليل بسواق حطم
ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزار على ظهر وضم
فانظر كيف أدت ترجمة الصورة الشعرية إلى تعبير عربي يختلف معناه، ويحل محل التعبير القديم (زيم اسم الفرس، وحطم أي شديد البأس، ووضم هي «القرمة» الخشبية التي يقطع الجزار عليها اللحم)، وأعتقد أن من يقارن ترجماتي بما كتبته من شعر أو مسرح أو رواية سوف يكتشف أن العلاقة بين الترجمة والتأليف أوضح من أن تحتاج إلى الإسهاب.
محمد عناني
القاهرة، 2021م
تصدير
هذه هي واحات العمر - السيرة الذاتية الأدبية - التي كانت قد صدرت في ثلاثة أجزاء على مدى خمس سنوات (1998-2002م)، وكان الجزء الأول يحمل عنوان واحات العمر (1998م) والثاني واحات الغربة (2000م) والثالث واحات مصرية (2002م)، وهي تمثل خيطا متصلا من الأحداث الأدبية في فترات ثلاث؛ فالجزء الأول يختص بالجذور والنشأة والتكوين (1945-1965م)، والثاني يتناول فترة التخصص العلمي في الخارج والاصطدام بثقافة أجنبية (1965-1975م)، والثالث يتناول العودة إلى مصر والعمل بالكتابة المسرحية والنقد والترجمة حتى نهاية العمر الوظيفي الرسمي (1975-2000م).
وقد رأى صديقي الأديب والناقد والمترجم سمير سرحان أن يجمع بين الأجزاء الثلاثة بين دفتي مجلد واحد، ما دام الخيط الزمني ممتدا ولم ينقطع؛ حتى ييسر على القارئ العربي متابعة الأحداث الأدبية التي أرويها، فهي أحداث متصلة يفضي بعضها إلى بعض، ويصب بعضها في البعض، وهي ذاتية لأنني أرويها من وجهة نظري الخاصة، ولكنها موضوعية أيضا لأنها تتناول الأحداث الأدبية العامة في مصر في النصف الأخير من القرن العشرين، وتعتبر من ثم شهادة على عصر التحولات الكبرى في المجالات الأدبية المذكورة؛ في المسرح، وهو الفن الأدبي الذي أكتبه، وفي النقد، وهو الفرع الأدبي الذي أمارسه بحكم التخصص العلمي، والترجمة وهي النشاط الذي توفرت عليه احترافا وهواية، بل وحبا جارفا كاد أن يجور على حبي للمجالين الأولين، وأقصد بالتحول بزوغ مفاهيم جديدة في كل مجال ورسوخ أقدامها، وهو ما يهم المتخصص وغير المتخصص على حد سواء.
ولقد عدت إلى زيارة هذه الواحات هذا العام (2002م)، فوجدت حكايات كنت أهملتها في غضون حرصي على التسلسل الزمني الصارم لواحات العمر، وألح علي بعض الأصدقاء ممن أكن لهم الاحترام والتقدير والحب أن أفرد لها كتابا يكون ذيلا أو ذيولا للواحات، ففعلت ذلك، وسوف تصدر حكايات الواحات باعتبارها من حواشي واحات العمر في وقت قريب، بإذن الله، في مجلد صغير منفصل.
وبعد، فلقد احتفظت في هذه السيرة الأدبية الكاملة بكل ما تميزت به الأجزاء المستقلة، ولم أشأ تغيير شيء، بما في ذلك التصديرات والمقدمات، عسى أن يجد فيها القارئ صورة لعصر كامل من التحولات، بألوانها المختلفة وكل ما تحفل به من تضارب أو اتساق؛ فالسيرة الذاتية الأدبية تجمع بين خصائص الأدب وخصائص التاريخ، وفيهما ما فيهما من فن وتسرية ، والله من وراء القصد.
محمد عناني، 2002م
إهداء
إلى رفيقة الحياة،
بكل ورودها وأشواكها،
نهاد صليحة،
حبيبة وزوجة وصاحبة.
تصدير
هذه فصول من ترجمة ذاتية حاولت التزام الصدق فيها إلى أبعد مدى ممكن، ولكن الصدق لا يأتي دائما بالحقيقة، فالحقيقة «فرض» يضعه الكاتب لما يظن أنه رآه أو سمعه، وقد يصدق الظن أو يكذب، ولكن المشاهد والمسامع تظل حية في ذهنه، وقد تتلون بتلون الدنيا من حوله، أو بتلونه هو مع الدنيا، وقد آثرت عندما قررت زيارة واحات العمر أن أتجرد مما أصبحت عليه اليوم، وأن أعيش فيها من جديد بالقلب القديم والعقل القديم معا، ولكن هيهات! فقد تصدق الذاكرة ويخون الإحساس! وقد يخرج المشهد صادقا (وفقا للمذكرات التي كنت أسجل فيها ما يحدث بانتظام، وللخطابات التي تشهد على ما وقع)، ولكن الإحساس المصاحب له قد يختلف فيغير من معناه.
ولذلك فإذا رأى بعض من عاش في هذه الواحات معي في تلك السنوات الحافلة أنني أغفلت ما لا ينبغي أن أغفل، أو دسست من مشاعري الحالية ما لا ينبغي أن أدسه، فعذري أنني تغيرت، وما فتئت أتغير، وقد أعود لما أغفلت في الجزء المقبل من الترجمة.
محمد عناني
القاهرة 1997م
المنبع عند المصب
1
كانت الساعة تقترب من السادسة صباحا عندما دق جرس الباب، واتجه والدي إليه ليرى من الطارق فوجد «أم سميح» باكية، وكنت أقف خلفه في دهشة أتطلع إلى الوجه الباكي من فرجة بين ثوبه الأبيض وبين الباب، ولم أفهم كل ما قيل، ولكنني تابعت الحوار حتى انتهى وانصرفت المرأة، وأغلق والدي الباب عائدا إلى والدتي وهو يقول: «أم سميح تقول إن الذئب أكل البطيخ». لا أدري كم كان عمري إذ ذاك، ولكننا كنا قد تخطينا سنوات الحرب العالمية الثانية؛ ولذلك فلا بد أنني كنت قد تجاوزت السادسة. وارتدى والدي جلباب الخروج الذي يضرب لونه إلى الصفرة، وخرج في عجلة إلى الحقل، أو ما كان يسميه «الأرض».
ولم يكن بوسعي أن أذهب معه لأستجلي الأمر؛ فقد كان علي أن أذهب إلى المدرسة، وأرتدي زي المدرسة وهو «حلة» ذات سروال قصير، والطربوش، دون أن أحمل كتبا؛ لأن المدرسة كان بها «درج» يغلق بقفل، توجد فيه جميع الكتب والكراريس. وشغلت طول اليوم الدراسي بموضوع الذئب. لم أكن قد رأيت ذئبا في حياتي، وإن كانت صورته في ذهني أقرب إلى الوحش الأسطوري، وكان وجوده في ذهني مرتبطا بسورة يوسف، وكنت قد حفظتها في الكتاب، وترددت في سمعي آيتان
وأخاف أن يأكله الذئب ،
قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين . الذئب إذن وحش كاسر قادر على التهام غلام، وليس من المستبعد أن يلتهم ثمار البطيخ، وعندما عدت من المدرسة سألت عمي عبد المحسن الذي كان يسكن في الشقة المقابلة أن يحدثني عن الذئب، فقص علي بعض القصص، ومن بينها «ذات الرداء الأحمر»، وقصة الرجل الذي أراد أن يداعب أبناء القرية فصاح مستغيثا «الذئب الذئب!» فلما اكتشف الناس أنه يهزل لم يعودوا يصدقونه؛ ولذلك تركوه لمصيره عندما أتاه الذئب حقيقة وصاح مستنجدا في هلع حقيقي دون أن يكترث له أحد!
وعندما انصرف عمي قصت علي والدتي قصة «الذئب والحمل»، وهي من «خرافات» لافونتين، ولكنها قصتها بعربية ما زلت أذكر منها «يا هذا عكرت علي الماء!»، ولا بد أنها كانت في قصص المدرسة لديها. وحاولت في ذهني أن أتصور كيف يأكل الذئب البطيخ دون أن يقطعه، وظل اللغز قائما يمثل «بقعة زمنية» أعود إليها لأتصور الحوض الذي زرع فيه البطيخ، وكيف كنت أراه في أرض والدي صغيرا مصفرا ثم أخضر، وكيف يمكن أن يكون الداخل أبيض ثم يتحول إلى الأحمر، وعندما علمت من والدي أن اليوم الذي أكل الذئب البطيخ فيه كان اليوم المحدد للجني وحمله إلى السوق أو إلى منازل الأقارب، تصورت أن الذئب اهتاج للون الأحمر فظنه دما أراد أن يلعقه، أو نسيجا حيا يريد أن ينهشه.
كان المنزل يسمى «بيت عناني » وهو منزل حديث الطراز، يقع في شارع النيل؛ أي إنه كان يقع في الشارع الموازي للنيل، وإن كان يفصله عن المنزل منزل أو منزلان متجاوران؛ هما منزل الكسار (وأسرة الكسار من تجار الخشب)، ومنزل محارم (وهي أسرة أخرى يعمل رجالها بالتجارة)، وبين المنزلين فضاء يرى منه الرائي النيل، وهو فضاء يشغله بعض الصيادين الذين كانوا يرسون قواربهم لدى الشط، ويعملون فيه بإصلاح شباكهم ونشرها في الشمس. وكانت البلدة - وهي رشيد - تشغل مساحة كبيرة ممتدة على شاطئ النيل، ويبدو أنها كانت تزداد توسعا في كل يوم في اتجاه الشمال الذي نسميه «بحري» (أي ناحية البحر المتوسط - حيث مصب النيل)، وتزداد هجرا للمناطق الجنوبية التي كنا نسميها «قبلي» (أي في اتجاه القبلة)، وكان الحي البحري خصبا وافر النماء، تلتف فيه أشجار الموالح والنخيل، ويستمر ما بعد محطة القطار بكيلومترات عديدة. وأذكر فيه منزلا يسمونه فيلا بدر الدين، كان يملكه الأستاذ عبد القادر بدر الدين أحد نظار المدرسة سابقا، الذي كان يرتبط بصلة قرابة إلى أسرة والدتي. وكان ذلك المنزل يلوح على البعد بلونه الضارب إلى الحمرة، وتحيطه الأشجار، وربما كانت حديقة غناء، ولكن أحدا منا لم يكن يجرؤ على الاقتراب منه. فالناظر هو الناظر، وكان له من الهيبة ما يلقي الرعب في القلوب. وكانت تقع بالقرب منه بعض مضارب الأرز التي كانت تسمى «دوائر»، منها «دايرة» عناني؛ أي مضرب الأرز الذي كان يملكه جدي ثم ورثه الأبناء، ومضرب «عرفة»، وغيرهما. وأمامهما على امتداد النيل فضاء بالغ الاتساع يسمى «المنشر» أي المكان الذي ينشر فيه الصيادون شباكهم لتجف، وإن كنا نستخدمه ملعبا لكرة القدم.
ولا أذكر الكثير عن «بيت عناني»، وإن كنت أذكر أنه يتكون من ثلاثة طوابق، وكان له سطح فيه قبة مكشوفة، وأظنه لا يزال قائما حتى اليوم. وكانت الشقة التي نسكنها تتكون من غرف كثيرة، أهمها غرفة المكتبة، وكثيرا ما كنت أتطلع من وراء زجاج الدواليب (خزانات الكتب) إلى عناوين المجلدات التي تصطف في شكل هندسي بديع - «نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب» و«العقد الفريد» و«نهاية الأرب» و«وفيات الأعيان» و«الأغاني» وهكذا - وأعجب مما عساها تقوله. وأذكر مرة كان والدي يحكي لي قصة يقرؤها في المكتبة عن قراد بن أجدع الذي عرض نفسه رهنا لسداد دين الأعرابي، وفحواها أن الملك النعمان بن المنذر ملك الحيرة أيام الجاهلية خرج في رهط له يصطاد، فضل عن الركب، ثم انتهى به الأمر إلى خباء أعرابي استضافه ثلاثة أيام حتى أدركه صحبه، فعرض عليه الملك أن يزوره في قصره ليجزيه أجر ما صنعه، وعندما وصل كان ذلك يوم نحس الملك. إذ إن الملك كان قد حدد يومين من أيام العام؛ يوم سعد، ويوم نحس، كل من يدخل عليه في يوم السعد يجازى خير جزاء، وكل من دخل عليه في يوم النحس يقتل. وعندما رآه الملك صاح: لو دخل علي ابني قابوس في هذا اليوم لقتلته! وإذ ذاك استسلم الأعرابي لأمر الملك ولكنه طلب منه أن يمهله عاما يصلح فيه من أحوال أهله، ويستعد للموت، ورفض الملك إلا أن يضمنه أحد الناس، فضمنه قراد بن أجدع. وكان الملك يأمل أن يذهب الأعرابي وينجو بحياته وأن يقتل قراد بدلا منه، وفي اليوم الأخير من العام قال قراد الشعر الذي كان والدي يحفظه، وهو مقطوعة تبدأ بالشطرة:
أيا عين لا تبكي قراد بن أجدعا!
واستعد الملك لقتل قراد، وأحضر السيف والنطع، ولكن قرادا أصر على الانتظار قائلا البيت الذي جرى مجرى الأمثال:
فإن يك صدر هذا اليوم ولى
فإن غدا لناظره قريب
وقبل أن تغرب شمس اليوم الأخير، والجلاد يوشك أن يهوي بالسيف، لاحت في الأفق سحابة يثيرها فرس الأعرابي، فانتظر الجميع وصوله، ولامه الملك على عودته سائلا إياه: «ما دفعك على أن تعود وقد نجوت؟» فأجاب الأعرابي: «ديني!» فسأله الملك: «وما دينك» قال: «النصرانية!» ومن ثم سأله الملك عما يفرضه الدين من الوفاء، فاعتنق الدين على الفور، واعتنقته معه المملكة، ومن ثم ألغي يوم السعد ويوم النحس جميعا.
كنت قد تركت الكتاب، وهو مدرسة تحفيظ القرآن آنذاك، وكانت تسمى «مدرسة الحكيمة»؛ لأن المنزل كانت تملكه حكيمة أي طبيبة، ما تزال قصتها مثار خلاف ومجالا للظن والتخمين. وكنت أتردد عليها منذ الثالثة، وفيها عرفت بعض الصغار الذين كانوا قد اقتربوا من «الختمة» (أي حفظ القرآن كاملا)، وكانوا يكبرونني بعدة أعوام، وكنت أتسلى في الفسحة (أي في ساعة الراحة) بالاستماع إلى بعضهم وهو «يسمع» أي يقرأ غيبا ما حفظه من الدروس، وكان «التوكيد» من الدروس التي «سمعها» أحدهم وما يزال مطلعه عالقا في ذاكرتي «التوكيد: التوكيد نوعان لفظي ومعنوي»! كان ذلك لغزا رفض الجميع إيضاحه لي حتى تولى ذلك الشيخ عبد الحليم الدسوقي عندما وصلت إلى السنة الثالثة الابتدائية.
كانت «مدرسة الحكيمة» تقع في حي «الإدفيني» (وهي نسبة إلى بلدة إدفينا) بالقرب من مسجد يحمل نفس الاسم، وكانت تحيط بها أشجار كثيرة ونخيل ملتف، وأمامها فضاء يعقد فيه سوق الثلاثاء، حيث يأتي الفلاحون والفلاحات بالمحاصيل الزراعية والطيور والحيوانات الداجنة، ولكن السوق كان فارغا طوال أيام الأسبوع، وكنت أتطلع إليه من شباك المدرسة فأرى في غير أيام السوق أشباحا غريبة، رجالا يأتون ويذهبون، ويتهامسون ويتسارون، ثم يختفون في الطرقات فجأة مثلما ظهروا، وظل هذا المشهد يشغل أحلامي أعواما طويلة، دونما سبب ظاهر، حتى عهد قريب.
وانتقلنا للسكنى في «بيت بدر الدين» وهو بيت جدي لوالدتي. ولا أدري متى انتقلنا إذ كنا ننتقل كثيرا بين المنزلين، ولكنني أذكر أنني كنت فرحا به لرحابته، فهو قديم بالغ القدم، ويتكون من عدة طوابق متداخلة (ثلاثة بالحساب الحديث) يستخدم الطابق الأرضي مخزنا، وبه «منضرة» (أي منظرة أو مكان انتظار الرجال)، وباب يؤدي إلى مكان مهجور يسمى «القاعة» وكانت هذه تنتمي إلى الجزء القديم جدا من البيت الذي تعرض للحريق في العصور الغابرة، وكان دخولها شبه محرم على الصغار؛ إذ قيل لنا إن بها عفاريت مقيمة، بعضها مؤمن وبعضها كافر، وكانت تظهر أحيانا في صورة كائنات حية كالثعابين والأرانب والقطط السوداء. وكنا نخاف أشد ما نخاف هذه الحيوانات خصوصا بالليل، لاحتمال أن تكون من العفاريت المتجسدة.
وكان باب البيت الأمامي مملوكيا ضخما ، لا مفتاح له، بل يغلق بالمزلاج من الداخل فقط، وفي ردهة البيت عند الباب زير من الفخار، لا أدري إن كان فارغا أو مليئا، وكان الطريق من الردهة يؤدي إلى مدخل «الصهريج» - وهو البئر الموجود تحت البيت، وهو بئر ممتد بطول البيت وعرضه، مثل السراديب القديمة، وهو مقام على ما يشبه القباب والأعمدة وكان يملأ أيام الفيضان، أي أيام فيضان النيل، ويشار إلى الفيضان في «رشيد» فقط باسم النيل، فيقال «في النيل» أي في وقت فيضانه، فيأتي السقاءون أولا لتنظيف الصهريج من الطمي الراسب، وتجفيفه، ثم تطهيره، وبعد ذلك يصب فيه الماء المنقول في براميل على عربات تجرها الحمير، حتى يقارب الامتلاء ثم يحكم إغلاقه. ولكن له فتحة علوية يخرج منها عمود ضيق يشبه المدخنة، ويمر بالطوابق الثلاثة، وبكل طابق فتحة يدلى منها دلو بحبل فيمتلئ بالماء الذي يكون قد صفا وأصبح زلالا، وما كان أبرده وأشهاه في الصيف!
أما الزير القائم في الردهة فقد شغلني، وكم تمنيت أن أملأه من بغلة العرش! وقصة «بغلة العرش» قصة رمزية لم نكن نشك في صدقها صغارا. وموجزها هو أنه في ليلة العاشر من المحرم، تمر بغلة تحمل قربتين مملوءتين بالماء على البيوت، ثم تقف البغلة أمام بيت من البيوت، عندما يميل القمر إلى المغيب، وتسود الحلكة التي تسبق السحر، وتهز البغلة رأسها فيعلو رنين الأجراس المعلقة في رقبتها، فإذا سمعها سامع وكان الحظ حليفه استيقظ وفتح الباب. والبغلة تحمل على ظهرها رأسا مقطوعا، فما على المسعود إلا أن يرفع الرأس ويقبله ويضعه جانبا، ثم يفرغ الماء في الزير الفارغ بجوار الباب. ثم يعيد الرأس مكانه، ويعود للرقاد. فإذا أصبح وجد الماء في الزير وقد تحول إلى ذهب وجواهر نفيسة. الواضح أن اسم بغلة العرش تحريف لبغلة العشر، أي يوم عاشوراء، والرأس ترمز لرأس الحسين عليه السلام الذي قتل في كربلاء، يوم الكرب والبلاء، وأن الماء يرمز إلى عطشه إذ مات فيما يرويه الرواة دون أن يشرب، ومن ثم تكون القصة ذات جذور فاطمية، وربما تسربت إلى التراث الشعبي أيام حكم الفاطميين، وتناقلتها الأجيال وأضافت إليها مخيلات أبناء الشعب تفاصيل كثيرة.
والغريب أنني كنت وأترابي حتى بعد أن تخطينا تلك السن المبكرة لا نكتفي بتصديق تلك القصة، بل كنا نناقش تفاصيلها في الليلة السابقة لعاشوراء، بعد الإفطار (إذ كنا نصوم التاسع والعاشر من المحرم)، وما بين صلاة المغرب والعشاء، ونعد العدة لها، وكثيرا ما كان أحدنا يستيقظ في هدأة الليل، ويظل ساهدا في فرق ووجل؛ آملا أن يسمع الأجراس، ثم يغلبه النعاس فيرى فيما يرى النائم أن البغلة مرت ومضت، فيهب مفزوعا ويستغفر الله ويدعوه أن يوفقه في العام التالي. بل إن بعضنا كان يجازف بالخروج من المنزل ويطوف بالطرقات طلبا للبغلة، ثم يعود حزينا مهموما. وأخشى ما كنا نخشاه هو نداء «المزيرة». والمزيرة تحريف لكلمة المتزيرة أي التي ترتدي «التزييرة» أو ملابس الزيارة، أي الملابس الجميلة التي ترتديها المرأة للخروج من المنزل أو لاستقبال الزوار. كانت «المزيرة» تقيم في المنازل الأثرية، التي ترجع إلى عصور المماليك، والتي كنا نسميها «الأثرات» بالعامية. وأمرها غريب.
عندما يتأخر الرجل في العودة إلى منزله، خصوصا حين تشتد حلكة الليل، ويمر ببيت من هذه البيوت، فربما سمع غناء شجيا، وأصواتا ساحرة تدعوه، فإذا واتته الجرأة وتطلع إلى مصدر الصوت، وجد امرأة فاتنة الجمال في الدور العلوي، يضيء وجهها في الظلام ويسطع، فإذا لم يستعذ بالله ويعد إلى أهله، أي إذا استسلم للغواية وهاجت كوامنه فرام الاقتراب، وتحديدا إذا توقف في سيره وتمنى الصعود إليها في قلبه، شدته إليها بسحر ساحر فارتفع إليها ودخل غرفتها، وهناك تسقيه خمر الألحان وخمر الجمال وخمر العنب، فإذا أذعن واحتضنته، وخزته إحدى شوكتيها في رقبته، فعلى كل جانب من جانبي رقبة هذه «المزيرة» شوكة ماضية، فيها الهلاك على الفور. وعندها لا تبزغ شمس النهار إلا وقد سلبته حياته، وعندها يرى الناس آثار الشوكة ويعرفون أنه راح ضحية لغواية «المزيرة».
ولذلك كنا صغارا نخاف نداء المزيرة، ولا نجرؤ على التطلع للوجوه الجميلة خلف المشربيات في البيوت العتيقة، بل لم نكن نعرف من يسكنها، أو حتى إذا كان ساكنوها من الإنس أو الجن. وكان الحاج محمود الترامسي، رحمه الله، من أصدقاء والدي الذين يفخرون بقدرتهم على التمييز بين الجن والإنس فيما يرى من كائنات، لم يكن أحد يؤمن بأشباح الموتى، ولكن الجميع كانوا يشعرون بوجود الجن بين ظهرانيهم ومشاركتهم حياتهم. وكان الترامسي دائما ما يقص علينا نوادره مع «فرخ جن» (أي جني صغير) يسكن في أرض فضاء مجاورة لمنزله، وكان والدي رحمه الله يكذبه دائما وهو يقول له إن هذه «تهيؤات»، ولكن نبرات الصدق في حديث الترامسي كانت تشدني إلى ما يقول دائما، خصوصا لأنه كان في غير ذلك من أمور الحياة واقعيا منطقي التفكير، وكان يمتاز برجاحة عقل نادرة. ولذلك أصغيت مبهورا عندما قص علينا ذات يوم خبر اعتزامه الزواج من فتاة تصغره بأعوام كثيرة تقترب من الثلاثين، حتى يمنع «فرخ الجن» المذكور من الاقتران بها! وانهمك يحكي تفاصيل مناقشاته معه ووسائل إحباط مسعى «فرخ الجن» بقراءة القرآن، وما إن حل رمضان، الشهر الذي لا يسمح فيه للجن بالخروج من محابسها، حتى تزوج الترامسي من تلك الفتاة وفرض عليها أن تمكث في المنزل دائما بعد الغروب، وألا تنقطع عن قراءة السورة التي أحفظها إياها من القرآن (إذ كانت لا تعرف القراءة). ثم أصبح الترامسي يغيب كثيرا عن دروس العصر في الجامع، وبدأت ألاحظ في عينيه شرودا وفي كلامه بعض التردد، ولكنني لم أجرؤ على السؤال عما حدث لفرخ الجن بعد زواجه، ولم يكتب لي أبدا أن أعرف نتيجة الصراع بينهما حتى بلغني نبأ وفاته فجأة.
لم أكن أخاف الجن في تلك الأيام، وكان والدي يسمح لي بصلاة الفجر في المسجد وأنا بعد صغير، وكان يتحدى من يقولون إنهم شاهدوا العفاريت قائلا: «أروني إياها!» وشاع في البلد أننا أسرة لا تستطيع رؤية العفاريت لأن دمها «زفر»، ولم أفهم أبدا معنى «زفارة» الدم وكيف يمكن أن تحول دون رؤية الجان. ولكنني كنت أخاف من الجمل ، ومن منظر النعش. وأذكر أنني ذات يوم كنت في السوق «البحري» وتطلعت فوقي فجأة فشاهدت بطن جمل، وربما كان ذلك سبب خوفي بسبب ما سمعته من أنه يبرك أو ينوخ على عدوه فيقتله، أما النعش فكنت أخافه بسبب الضجيج الذي كان يصاحبه، ولأن العادة كانت تقضي بوضع جثمان المتوفى في صندوق ينتهي بقامة عليها طربوش إذا كان ذكرا، وأن يحمله الناس ويسيروا خلفه في شارع السوق من المسجد الكبير - جامع المحلي، وهو شيخ اسمه «علي المحلي» (نسبة إلى المحلة الكبرى) - حتى المقابر في جنوب البلد، وكانت تسمى «الجبابين» لا الجبانات، ويتقدم الموكب شيوخ ينشدون كلاما دينيا له رنة غريبة، كنت أتبين نغمتها والألفاظ البارزة فيها، وهي «مولاي صل وسلم دائما أبدا» وبينهم شيخ أعرفه جيدا؛ لأنه يقفز أو يتواثب على عكازين بسبب ضمور ساقيه وهو الشيخ «حلمي الحداد» رحمه الله. وكانت الجنازة أحيانا تسمى «المشهد»، وقد لازمني الخوف من النعش حتى دخلت المدرسة الابتدائية.
2
كان والدي واحدا من تسعة إخوة وأخوات أنجبهم جدي الحاج محمد عناني الكبير، وكان لم ينجب من زوجته الأولى، وبعد أن توفيت تزوج أختها «رشيدة» فأنجب إبراهيم، ومحمد (والدي) وعبد المحسن، ومن الإناث زينب وفاطمة وسعاد، وعندما توفيت تزوج أختها الصغرى «فاطمة» وأنجب منها جميعة وصلوحة وأحمد. ثم توفي هو. وكان عصاميا وأميا، واشتغل بالتجارة أولا ثم عمل على إنشاء مصنع لضرب الأرز؛ أي لفصل القشر عن الحب، وبالأسلوب القديم الآلي، وكانوا يسمونه أسلوب «اللاط» أي الضرب بمطرقة خشبية تصعد وتهبط بمحرك يدار بالبخار. وكان أي محرك يعمل بالبخار يسمى «الوابور» ثم حرفت إلى «بابور»، وكان البخار الصاعد يستغل في إصدار صوت صفير كصفير القاطرة البخارية أو الباخرة (وابور البحر)، وذلك في مناسبات معينة، أهمها تحديد ساعة الإفطار، ولما كان البلد حافلا بمضارب الأرز، كنت تسمع عندما تغرب شمس نهار رمضان صفيرا عاليا يسمعه القاصي والداني؛ ولذلك كانت الإشارة إلى موعد الإفطار لا يشار إليها بالمدفع بل بالصفارة أو الزمارة (من المزمار). وكان ضرب الأرز حرفة أو صناعة متشعبة؛ فبعد الضرب تفصل الحبوب المكسورة بالغربلة وتسمى «الدشيش»، وتباع لخلطها بدقيق القمح للانتفاع بها في خبز «العيش البيتي» بنسبة كيلة دشيش إلى كيلتين من القمح المطحون، أما القشر الخارج من الضرب فكان يسمى «السرس» وكان يستعمل وقودا في الأفران البلدية، وكانت الصناعة تستلزم صناعات فرعية مساندة مثل صناعة الأجولة (جمع جوال من جوالق، والتي تحولت فيها الجيم المعطشة إلى شين). وصناعة الحبال، وعربات الجر، وكذلك تجارة الملح الذي يستخرج من ملاحات إدكو، وهي بلدة قريبة من رشيد، تجفف مساحات من بحيرتها ويصدر منها الملح الذي يستخدم في تجفيف الأرز قبل التعبئة بمقادير طفيفة.
ولذلك لم تكن «الدايرة» مضربا وحسب بل منطقة صناعية تجارية، لكنني لا أذكر أني شاهدت مديرا (ناهيك بمجلس إدارة) أو محاسبين أو مراجعين؛ إذ كان النظام ريفيا في جوهره يعتمد على «كلمة» البائع و«كلمة» المشتري، وكانت مناطق زراعة الأرز في شمال الدلتا قريبة من رشيد؛ مما كان ييسر نقل المحصول وتخزينه وضربه وتسويقه؛ إما بقطار البضائع (في السكك الحديدية) أو بالشاحنات الكبيرة إلى شتى البلدان المجاورة، وإلى الإسكندرية والقاهرة بطبيعة الحال. ونادرا ما كان النقل النهري من الوسائل الرئيسية؛ إما لصعوبة الإبحار ضد التيار، رغم توافر الرياح الشمالية المواتية، وإما بسبب وجود «سد إدفينا»، وهو سد ترابي كان يقام كل عام عند بلدة إدفينا القريبة لمنع مياه البحر المالحة من الدخول جنوبا في مجرى النيل؛ ولذلك كنت أسمع وأنا صغير إشارات إلى أسماك قبلي السد وبحري السد، أي النيلية والبحرية. وقد أقيمت في عام 1950م تقريبا قناطر إدفينا مكان هذا السد، وربما كان ذلك في عهد وزارة الوفد، لأنني أذكر أن مصطفى النحاس باشا رئيس الوزراء هو الذي افتتحها، ويقابلها على الفرع الآخر من النيل (فرع دمياط) سد فارسكور ثم قناطر فارسكور.
وكان والدي يصحبني أحيانا إلى «الدايرة» لمتابعة العمل، ولكن الواضح أنه لم يكن يشغل باله بشئون التجارة، بل كان يقضي الوقت في القراءة، وفي تأمل الطيور الزائرة لمصر، وفي إعداد «الأرض» التي اشتراها واستصلحها لتكون حديقة غناء تأتي إليها طيور أوروبا. وكانت «الأرض» فدانين لا أكثر من الرمال في المدخل الجنوبي للمدينة، تولى تمهيدها وتزويدها بالمياه العذبة، وزراعة النخيل (البلح الزغلول أساسا) وأشجار المانجو (الأنبج) والقشدة الخضراء، وشجرة برقوق واحدة، وشجرتين للتفاح. وبنى في وسطها منزلا صغيرا سرعان ما أزال سقفه وأحاله مشتلا، وأحاط الحديقة بأشجار الكازورينا سريعة النمو، حتى بدأت الحديقة تزهر وتثمر، وأذكر أنها كانت تشبه جنة خضراء وارفة الظلال، في وسطها حوض البطيخ الذي أكله الذئب!
كان والدي قد ورث مالا كثيرا عن أبيه، إلى جانب الشقة التي يسكنها ونصيبه في مضرب الأرز، ولكنه كان ينفق بلا حساب على الأرض وعلى الكتب، ولا يكاد يلقي بالا إلى شئون «الدائرة». وقد علمت فيما بعد أنه كان قد التحق بكلية الآداب، جامعة القاهرة، بعد حصوله على البكالوريا من الفريدية الثانوية (حيث كان يجلس إلى جوار المرحوم الدكتور عبد العزيز كامل، وزير الأوقاف الأسبق) ثم أقنعه أخوه الأكبر بترك الجامعة والتفرغ للتجارة والعودة إلى رشيد، وكان ذلك بعد مولدي بفترة قصيرة. لا أعرف تماما ظروف هجر الدراسة المنتظمة، ولكن الثلاثينيات لم تكن بالفترة التي يأمل الصغار فيها تأمين مستقبلهم عن طريق الوظائف، ولا شك أن والدي كان لكثرة ما قرأ من كتب العرب يرى أنه يعيش في عصر سابق لهذا العصر؛ فهو لم يسمع أن أحدا ممن قرأ لهم في تلك العصور الخوالي كان موظفا في «الحكومة» أو يتقيد بساعات وظيفية محددة، وكان يحب الحرية التي أتاحها له المال، وربما كان ذلك دافعا على العودة إلى رشيد.
اعتدت أن أراه منذ نعومة أظفاري يقظا في الصباح الباكر؛ إما في الفجر أو قبل أن تشرق الشمس، وكان يصلي ويخرج للعمل في «الأرض» حتى يبدأ حر النهار فيعود إلى «البلد» ويشتري لوازم البيت ويرسلها إلى المنزل، ثم يصلي الظهر في مسجد المحلي ويعود لتناول الغداء ثم ينام ساعة أو بعض ساعة، وينهض ليتوضأ ويصلي العصر، ويبدأ القراءة والكتابة. فإذا اقترب موعد الغروب خرج ثانية إلى المسجد وأحيانا كان يلتف حوله بعض أهل البلدة ليطرحوا أسئلة دينية كان يجيب عليها، وكثيرا ما كنت أصحبه أثناء العطلات في جولاته اليومية؛ إذ كنت أستمتع بالقصص التي يقصها عن العرب القدماء، ويروي ما فيها من شعر صحيحا معربا، فأكاد أتصور نفسي وقد عدت القهقرى في الزمن إلى عصر هؤلاء الأجداد، وكان يساعدني على تصور الحياة البدوية ما يحيط برشيد من رمال شاسعة، بحار لا نهاية لها من الرمال تنمو فيها آلاف النخيل، بل آلاف الآلاف لأنك حين تركب القطار المتجه من رشيد إلى الإسكندرية ترى النخيل ممتدة حتى الأفق على الجانبين لعشرات الكيلومترات، وكانت الترعة التي تخرج من النيل «قبلي السد» تمتد وسطها، وعلى الجانبين توجد حقول واسعة يمتلكها بعض أبناء البلد، ويسمى كل منها «غيط فلان»، وكانت هذه الغيطان «مسقاوية» أي تعتمد على الري وتزرع فيها المحاصيل، في حين كانت النخيل، بطبيعة الحال، «بعلية» أي تروى بماء المطر.
كنت أحب قصص القدماء، وأحب اللغة التي تدر علي دخلا لا بأس به، قرشا أو قرشين لاستكمال «مصروفي» وشراء ما يلذ لي من اللب (بذور البطيخ) والفول السوداني والحمص من مقلى شهير في شارع السوق اسمه مقلى إمام، وكان الشائع نطقها بإضافة هاء؛ أي «مقلاة»، وذلك قبل أن تتحول الكلمة في القاهرة إلى كائن غريب اسمه «المقلة» بفتح الميم لا بضمها. وكنت أغافل والدي أحيانا فلا أنبهه إلى أنه سبق أن سألني نفس السؤال؛ إذ كان كثيرا ما ينسى، فأفوز بالقرش دون وجه حق! واكتشفت ذات يوم وسيلة «للتنبؤ» بما سوف يطرحه علي من الأسئلة، إذ كان يترك كتبه مفتوحة عند الصفحات التي يريد نقل اقتباسات منها في مجلد ضخم يسجل فيها ما يعجبه من الشعر والنثر، وكان يسميه «الموسوعة الأدبية أو بيت الحكمة». ولن أنسى المأزق الذي وقعت فيه حين قرأت ذات يوم بيتا من الشعر لم أفهمه، ولم أكن أعرف كيف أفهمه، ولا كنت قادرا على فتح دولاب الكتب (فهو يغلقه بالمفتاح) الذي يوجد فيه القاموس المحيط للفيروزابادي. وكنت أخشى أن يسألني عن معناه في وقت قريب، وكان لي بعض الأصدقاء الذين يدرسون في المعهد الأزهري في الإسكندرية من زملائي السابقين في الكتاب، فسألت أحدهم في عصر ذلك اليوم ونحن نسير على شاطئ النيل عن معناه وهو:
لو بغير الماء حلقي شرق
كنت كالغصان بالماء اعتصاري
فأجابني بأنه لا يعرف وأنه «غير مقرر»، ولم أفهم معنى المقرر آنذاك؛ فقد كان الأمر يتعلق بقرش يأتي بقراطيس اللب والفول السوداني والحمص، وربما بعض الجلاطة (الجيلاتي) أيضا، ولم أستطع أن أعثر على أحد يدلني على المعنى، وكان أن ضاع القرش! أما المعنى فلم أعرفه إلا عند ضياع القرش؛ ولذلك ظل محفورا بألفاظه في ذاكرتي لا أنساه أبدا «شرقت بالماء، ولو غصصت بغيره لشربت الماء لإزالة الغصة؛ أي للاعتصار!» أي ما يقابله بلغة الصحافة اليوم دوائي هو الداء فأين الدواء؟
كنت أحب والدي لما يرويه من قصص، ولما يتغنى به من أغاني عبد الوهاب. كان صوته رخيما وكان مشهورا في رشيد بإجادة قراءته للقرآن، وإنشاده التسابيح، التي كانوا يسمونها «تواشيح»، قبل أذان الفجر في رمضان، فكان يصعد إلى المئذنة في جامع المحلي، دون مكبر صوت طبعا، وينشد تلك التسابيح التي كان يسهر لها أهل البلد. وكان يحب الشيخ مصطفى إسماعيل (رحمه الله) حبا جما، وكان الشيخ مصطفى صديقا لأحد الأثرياء في رشيد واسمه إبراهيم حجاج، فكان يستضيفه لقراءة القرآن في مناسبات لا أذكرها، وكانت الخيمة، أو السرادق الذي يقام خصيصا له يزدحم بالرجال بعد صلاة العشاء للاستماع إليه حتى ساعة متأخرة من الليل. وكان والدي يحفظ أسلوب الشيخ مصطفى في الأداء وينفي عنه أنه يلحن القرآن، على عكس ما كان يرميه منافسوه به، وكان يقول لي إن التلحين هو فرض قالب موسيقي خارجي على الكلمات قد يقتضي الخروج عن أصول القراءة، إما بإضافة حركات في غير موضعها أو بحذف المد من مواضعه وهكذا، مثلما يقول عبد الوهاب في الخطايا :
حسبنا ما كان فاهدأ ها هنا
في ضلوعي واحتبس خلف الحنايا
فإنه يغنيها بإضافة ألف مد بعد الحاء في الحنايا هكذا «خلفا لحانايا» ولكن الشيخ مصطفى لا يفعل ذلك أبدا. والعامية المصرية «تخطف» الحركات؛ أي تلغي المد وتسكن أواخر الكلمات وتغير تشكيلها (أي حركاتها الداخلية)، وهي لهذا - يقول والدي - لغة ملحونة!
ومثلما أحببت الشيخ مصطفى إسماعيل أحببت عبد الوهاب، وكنت أسمع كلا منهما بصوت والدي، وقد أتانا جهاز الراديو لأول مرة في بيت بدر الدين في تلك الأيام، وربما كان موجودا منذ قيام محطة الإذاعة اللاسلكية في منتصف الثلاثينيات، ولكنني أصبحت مدركا لوجوده وأهميته في أوائل الأربعينيات وأواسطها، وكان الشيخ محمد رفعت يرتل سورة الكهف كل يوم جمعة في الشتاء، وربما كان ذلك عام 1944م، فحفظت أسلوبه في قراءتها، وحذقت طريقته في «التقفيل» (أي العودة إلى الطبقة الصوتية التي بدأ منها) و«التصدير» أي الخروج عن «سلم الأداء» ثم العودة إليه، وما زلت أذكر تسجيلاته التي ضاعت، أو قراءته التي لم تسجل، ولكن والدي كان متعصبا للشيخ مصطفى إسماعيل ويقول دائما «أبو درش ما فيش منه» وأبو درش، أي أبو درويش، هي كنية كل من يسمى مصطفى، وأبو، حسبما شرح لي والدي، قد تعني «الابن» بالعربية، فهي تفيد النسبة وحسب، كأن تقول حسن أبو علي لتعني حسن بن علي، وربما كان السبب في هذا هو ميل الأب إلى تسمية ابنه باسم الجد، فتجد في بعض الأسرات سلاسل من مصطفى درويش وحسن علي وعلي حسن وغير ذلك.
وكانت الإذاعة اللاسلكية تذيع برنامجا في الثانية عصرا اسمه «أسطوانات»، تقدم فيه أغاني أم كلثوم وبعض مطربي ومطربات العصر الغابر، وكنت أستمع أنا ووالدتي إلى هذه الأسطوانات، فلم يكن مسموحا لي أن أستمع إلى الراديو وحدي؛ حتى لا أستهلك البطارية السائلة، وكان يأتي بها رجل اسمه أحمد القناديلي يعمل في الدائرة كل يومين، ويأخذ الفارغة إلى «كهربائي» لشحنها، وهي تشبه بطاريات السيارات تماما. وكانت جدتي تستمع كل صباح في السابعة والنصف إلى القرآن حتى الثامنة، وكان يعقب التلاوة حديث للشيخ محمود شلتوت، ومن الراديو تعلمت أشياء كثيرة ، وبعد أن تعددت البطاريات سمح للأطفال (أنا وأخي حسن الذي يصغرني بعامين) بالاستماع إلى الراديو الذي كان يبدأ إرساله في الخامسة بعد الظهر، وكنا نحرص على برنامج «بابا شارو» - أي برنامج الأطفال - ونتابع البرامج الغنائية مثل «علي بابا» و«عوف الأصيل» و«آذار» و«قسم» و«خوفو»، وكنت أحفظها حوارا وأنغاما عن ظهر قلب.
وذات يوم في عام 1948م مرض جدي الحاج أحمد بدر الدين مرضا شديدا، وكنت أدرك من القلق البادي على الوجوه، وحضور أخوالي من القاهرة والإسكندرية إلى رشيد، أن الأمر خطير. ولم يلبث أن توفي، ومن ثم استقر بنا الحال بصفة نهائية في «بيت بدر الدين» لا يسكنه غيرنا، مع جدتي، إذ كان أخوالي الدكتور محمد علي، وعبد الحليم، ومصطفى كمال يعيشون خارج رشيد، وخالتي سكينة في القاهرة، وكانت قد تزوجت من الأستاذ حسن الخطيب الذي كان مراقبا عاما بوزارة المعارف ثم أصبح أستاذا في كلية الشريعة، وخالتي الحاجة لطيفة تقيم مع زوجها الأستاذ أحمد عجمية في منزل مستقل (فيلا بلغة العصر الحديث) على الطريق الزراعي. وفي تلك الأيام كنا نسمع عن الحرب بين العرب وإسرائيل، وسمعنا عن اغتيال الكونت برنادوت مندوب الأمم المتحدة في فلسطين، وكان ذلك على ما أذكر في رمضان، في شهر يوليو، وكنا ننام بعد الإفطار ثم نقوم في الثانية صباحا لتناول السحور، وفي اليوم التالي جاءنا خبر الحريق الذي شب في مضرب الأرز الذي تملكه أسرة عجمية ويديره زوج خالتي.
كان هذا الحريق رمزا للتحول الكامل في صناعة ضرب الأرز. فالواقع أن بعض المصانع الحديثة كانت قد أنشئت في الإسكندرية وبدأت «تسرق» السوق من رشيد. فهي لا تعتمد كثيرا على اليد العاملة (ما يسمى بكثافة العمالة بلغة الاقتصاد)، بل تستخدم الآلات في معظم المراحل، وهي تعتمد أيضا على ما يسميه المتخصصون باقتصاد الحجم الكبير، أي توسيع نطاق الإنتاج تخفيفا للتكاليف، ومن ثم كانت منافستها لا تحتمل، وكان على مضارب الأرز في رشيد إما أن تتحول إلى النظم الحديثة أو تفلس. وهكذا وجدها آل عجمية فرصة لتحديث المضرب، وكلفهم ذلك خمسة عشر ألف جنيه، وكانت ثروة هائلة بأسعار تلك الفترة، وأصبح مصنعا حديثا قادرا على البقاء وسط عمالقة مدينة الإسكندرية. ولكن ذلك «الرمز» لم يصل معناه إلى كثير من المضارب الأخرى التي تقاعست عن التجديد أو لم تجد التمويل اللازم آنذاك، وكان أن انطوت صفحتها وكاد أن يقضى على صناعة ضرب الأرز في رشيد.
كنا في رمضان، كما قلت، وكان أولاد خالتي (أبناء الأستاذ حسن الخطيب) يأتون في الصيف لقضاء العطلة في بيت الأسرة الكبيرة. وكان صلاح أقربهم مني سنا وميولا، فكنا نخرج معا لأداء صلاة العشاء و«التراويح» (صلاة القيام) في مساجد مختلفة، وتعلمت من والدي بعض التسابيح التي كنت أرددها بصوت عال بعد كل ركعتين؛ فالتراويح عشرون ركعة، وما زلت أذكر إحداها وهي «يا علام الغيوب، أطفئ ظمأ القلوب، وتب على من يتوب، واغفر لنا يا كريم». وكان في الشهادة الابتدائية أي في الرابعة، وأنا في الثالثة، وكانت تلك شهادة عامة (أي تعقد على مستوى المنطقة كلها)؛ ولذلك فرح بنجاحه فرحا شديدا، وكانت تتلوها المرحلة الثانوية من خمسة أعوام وتنقسم إلى قسمين: الشهادة العامة وهي الثقافة (بعد أربع سنوات) ثم الشهادة الخاصة وهي التوجيهية لعام واحد. وكنا نلتقي أحيانا مع والدي لنتحادث في اللغة والدين، ولكن ابن خالتي لم يكن يحب ما يسميه بالأسئلة، وما أعتبره أنا مصدرا لزيادة الدخل!
وفي العيد زارنا خالي عبد الحليم بدر الدين، وكان قد استقر في تجارة الأجهزة العلمية وأدوات المعامل في القاهرة، وانفرد بإدارة الشركة وملكيتها بعد عودة «هيلشر» شريكه الألماني إلى برلين الغربية. وكان خالي قد تخرج في مدرسة المعلمين العليا (التي توازي كليات التربية حاليا) وعمل بالتدريس فترة في الثلاثينيات قبل أن يشارك هيلشر التاجر الألماني الذي كان قد أوكل إليه إدارة فرع الشركة في القاهرة، ثم افتتحا فرعا في الإسكندرية وآخر في الخرطوم، وكلها تتبع الفرع الرئيسي في برلين. فلما نشبت الحرب جاء إلى القاهرة وتولى إدارة فرع القاهرة بنفسه، وحالت الحرب دون عودته، فلما انتهت الحرب أعاد خالي إلى إدارة الفروع المحلية، ثم نقل إليه ملكية الشركة وعاد هو لبنائها من جديد في ألمانيا. وكانت أحوال التجارة قد تدهورت أثناء الحرب، ولكن لم تمض ثلاثة أعوام حتى عادت للانتعاش، وأذكر مناقشة مستفيضة لتلك الأحوال ذات مساء على ضوء الكلوب (الجلوب)، وأذكر أن خالي عرض على والدي المشاركة في رأس مال الشركة بألف جنيه، سرعان ما بارك الله فيها، وكانت آخر ما بقي له من التركة التي كان ينفق منها بسخاء على الكتب وعلى «الأرض».
وكان ثمة عامل مشترك يجمع بين والدي وخالي؛ وهو حبهما للصيد. ففي الشتاء كانا يذهبان لصيد البط البري المهاجر من أوروبا في بحيرة إدكو، وكانا مع رفقائهما من أعضاء «نادي الصيد الملكي» يقضيان جزءا من الليل في استراحة يملكها السيوفي بك، الأمين الثاني للملك فاروق في مكان يسمى «المعدية» وهو مكان التقاء البحيرة بالبحر المتوسط، ثم ينهضان في الفجر للصيد في براميل خاصة وضعت وسط أعشاب البحيرة الطويلة، بينما يحضر الصبيان لهما ولزملائهما الطيور التي صيدت وسقطت في ماء البحيرة، بقوارب مسطحة صغيرة. أما في سبتمبر، فكان موسم صيد الطيور المهاجرة من أوروبا لقضاء فصل الشتاء في السودان. وكان والدي يهتم بجمال الطيور وألوانها أكثر من اهتمامه بأكل لحومها، وكثيرا ما كنت أشاهده في أثناء قيامه بتحنيط بعض تلك الطيور أو رسم صورها بألوانه الخاصة.
وحل في العام التالي (1949م) حدث كبير؛ هو المعرض الصناعي الزراعي في مدينة القاهرة، فاصطحبني والدي لزيارته، ونزلت أنا ضيفا عند خالي، بينما أقام والدي عند أحد أقاربه. وكان يأتي كل يوم لاصطحابي إلى المعرض، وكانت تلك أول مرة أشاهد فيها تلك المدينة الشاسعة، وكان والدي من عشاق الخديوي إسماعيل، فكان يتعمد بعد كل زيارة لمتحف أو لنصب أو لمكتبة أن يعدد لي مناقبه، وما زلت أذكر أول مرة أشاهد فيها دار الأوبرا القديمة، وميدان الإسماعيلية (التحرير حاليا )، وأرى ثكنات الجيش البريطاني قائمة بلون برتقالي فاتح ظننته أحمر، في مكان مبنى جامعة الدول العربية وفندق هيلتون النيل. كانت المشاهد مثل الأحلام لطفل في العاشرة، وأذكر أننا عبرنا كوبري قصر النيل سيرا على الأقدام، ودخلنا المعرض بينما كان والدي منهمكا في رواية التاريخ القريب لي، وكفاح المصريين من أجل الاستقلال.
وتركني والدي في المعرض ذات يوم خارج مكان لبيع الأسطوانات، وغاب طويلا لكنني لم أقلق؛ فقد كانت الرؤى مثل عالم جديد جميل، وكان الرائحون والغادون يرتدون الحلل الزاهية، والنساء والفتيات يرتدين الملابس الأوروبية، حاسرات ضاحكات عابثات، وكانت فنون العرض باهرة، وبائعو المشروبات يبالغون في أسعارها، ولا يمكن شراء شيء بمليمين أو ثلاثة مثل رشيد، ثم عاد والدي ومعه أسطوانة مسجلة بصوته. كان صاحب الشركة قد أعجب بصوته وطلب منه تسجيل بعض أسطوانات القرآن، وأعطاه هدية هي تسجيل صوته هو وهو يقرأ سورة طه. وكان يحاكي فيها أسلوب الشيخ السعدني في القراءة وهو الذي كنا نسمعه في محطة الشرق الأدنى. وما زلت أحفظ هذا الأسلوب، وكان الوجه الأول ينتهي بالآية
الرحمن على العرش استوى . وعندما عدنا إلى رشيد كان والدي قد أعد لي مفاجأة إذ أتى لي ببعض أسطوانات أم كلثوم كنت أديرها على الحاكي (الجراموفون) ذي البوق الضخم، الذي يملأ باليد (زنبرك) وكانت لدينا أسطوانات قديمة لمنيرة المهدية وعبد الحي حلمي ومحمد عثمان وصالح عبد الحي.
ويبدو أن خالي قد اتفق مع والدي على أن يتولى هو إدارة مكتب الإسكندرية مقابل مرتب شهري، على أن تنتقل الأسرة إلى الإقامة في الإسكندرية؛ حتى لا يضطر إلى السفر كل يوم (المسافة ستون كيلومترا). وفعلا انتقل الجميع في سبتمبر 1949م؛ أنا وأخواي حسن ومصطفى ووالدتي للإقامة في شارع جرين في حي محرم بك. والتحقت أنا بمدرسة العباسية الثانوية الواقعة في الشارع نفسه، والتحق أخواي بمدرستين قريبتين. كانت الإسكندرية صورة من القاهرة، ولكن أهم ما يميزها هو وجود أعمامي وعماتي فيها، ووجود أقرب الناس إلى قلبي؛ خالي الدكتور مصطفى كمال بدر الدين، الذي كان قد حصل لتوه على الدكتوراه في طب الأطفال، وعين مدرسا في كلية الطب بجامعة فاروق الأول (الإسكندرية).
3
كانت العباسية الثانوية بالنسبة لي مدينة غريبة. كان أول إحساس لي هو أنني غريب. لم يكن أحد يعرفني، بينما كان الجميع في رشيد يعرفونني نسبا ونشأة. لم أكن بلغت الحادية عشرة بعد، ولكنني كنت أشعر دائما أنني أكبر ممن حولي. كان يشاركني في المقعد تلميذ يسمى محمد البحر، وهو من أحفاد سيد درويش، وكان في آخر الفصل تلميذ يسمى خميس عبيد جاد، اشتهر بإجادته الخطوط العربية، وبأنه «حلنجي» أي بارع في التحايل والمراوغة. وكنت أجلس إلى جوار النافذة، مما جعلني أسرح الطرف فيما حولي، أسمع نداءات البائعين من نغم البيات، وأرقب السيارات (لم يكن في رشيد سيارات)، وأصغي إلى الدروس في الوقت نفسه. كنت تائها معظم الوقت، حتى جاء أستاذ اللغة العربية «عباس القاضي» وطلب منا كتابة موضوع إنشاء في المنزل. وعندما أعاد لنا الكراسات لم يعطني درجة بل كتب «إن كان هذا كلامك فهو حسن.» ولم يرق لي الشك في أمانتي فاعترضت، فقال لي «أعرب لفظة كلامك، فإن أصبت قبلت الموضوع»، فقلت له إنها خبر كان مضاف، ولا بد أن تفتح! فطرح السؤال على باقي الطلبة فاختلفوا ثم قرروا التضامن ضد الرشيدي الغريب فقالوا إنني أخطأت، ولا بد أن ترفع، ويبدو أن المدرس كان يخشى بأس التلاميذ فقال إنها مسألة خلافية يجوز فيها الرفع والنصب، ولكنني اعترضت وقلت إن التقدير هنا لا لزوم له، فكيف نتصور أنه اسم كان مؤخر مع أنك إذا قلبت الجملة وأخرت اسم الإشارة؛ أصبح نوعا من التوكيد وضاع منا الخبر! وكأنما صدمته الإجابة فقال لي أفصح! فقلت نصب الكلمة لا يقتضي تقديرا؛ فاسم الإشارة مبتدأ لا يحتاج إلى بدل لوجود الكلام نفسه أما في حالة التقدير فسوف تكون الجملة معقدة: إن كان كلامك هذا [هو كلامك] - بل إن المعنى سوف يتغير! وتفكر لحظة وقال: عندك حق! وعندها هاج الطلبة وماجوا، وكنت سعيدا بانتصاري، ولكن الأستاذ عاد فقال: «لا لا! الكلام مستواه أعلى من سنة أولى! عموما ننتظر ونرى!» وفرح الطلبة وسكتوا.
في ذلك اليوم خرجت مهموما. وظللت أقلب الجملة في رأسي. ربما كنت مخطئا. هل يصح الرفع؟ ولم أبح بالسر لأحد. ولم أعد إلى المنزل في ساعة الغداء، بل اشتريت «شقة فول» بنصف قرش، واكتشفت أن البائع باعني ثلث رغيف فقط ليزيد من مكسبه، ولكنه كان لذيذا على أية حال، وانتهيت منه بسرعة وذهبت إلى ملعب الجمباز، فرأيت طالبين (محسن والمصري) يتدربان على جهاز «المتوازي» وجهاز «العقلة» وذهلت! وألهاني الاستمتاع بفنونهما عن الخبر المنصوب، وبعد الفسحة لم يكن في ذهني سوى الرياضة! كانا «يتشقلبان» في الهواء مثل البهلوانات، وكان المنافسون لهما يقعون ولا يفلحون! وقررت أن أحاول الالتحاق برياضة ما في المدرسة، فقالوا لي عليك بالملاكمة لأنها تحتاج إلى «النفس الطويل»، ومن ثم أقلعت عن عادة العودة إلى المنزل في الفسحة وصرت أقضي الوقت في التدريب، ومن بعده الحمام البارد، دون أن أخبر أحدا.
ويبدو أنني كنت أتقدم في التدريب، إذ جاءني الأستاذ «فضالي» ذات يوم، مدرس الألعاب، وقال لي إنك مطلوب للبقاء في المدرسة ثلاثة أيام في الأسبوع للاستعداد للبطولة. ولم أعلق. ولكنني عندما أخبرت والدي رفض رفضا حاسما، وقال إن الرياضة يجب ألا تطغى على الدراسة، وإن علي أن أهتم بدروسي أولا. وأيدته والدتي. وانتهى حلم الملاكمة.
وفي يوم جمعة لا أنساه، عندما عدت من الصلاة في المسجد القريب، وجدت خالي في المنزل. وانتهزت الفرصة لأسأله عن كيفية نظم الشعر. كنا في يناير 1950، وكان الجو صحوا، وهو في حالة نفسية رائعة، بعد أن شاهد فتاة أحبها وقرر الزواج منها. ولم يسألني خالي (الطبيب) كيف عرفت أنه يكتب الشعر أو يعرف أسرار النظم، (وكنت قد عثرت على مجموعة شعرية قديمة كتبها في صباه بين الكتب في منزل بدر الدين)، ولكنه جاء بالورق والقلم وشرح لي بأسلوب المدرس المحترف كيفية تقطيع البيت التالي:
إذا كشف الزمان لك القناعا
وهب إليك صرف الدهر باعا
وتركني وذهب إلى والدتي ليصل ما انقطع من حديثه. وسرعان ما كتبت كلاما على الوزن نفسه، هو:
وكم من أحجيات قد رأينا
يحار لحلها العقل اللبيب
ولكنني لاحظت أنني، على نجاحي في محاكاة الشطر الثاني تماما، سكنت خامس التفعيلة في الشطر الأول مرتين. وحاولت مرارا إصلاح ذلك دون جدوى، فسألت خالي فقال دون اهتمام ودون تقطيع: «صح. يجوز»، وعاد للحديث مع والدتي. وقضيت اليوم كله أحاول أن أكتب كلاما له معنى في هذا البحر، وكلما عرضته على خالي ضحك وقال: لا .. لا معنى له! وعندما دافعت قائلا إنه له معنى ما بالتأكيد، رد قائلا: المفروض أن يكون له معنى له قيمة، معنى يعتد به! وعندما كبرت ودرست قول القائل إن الشعر كلام موزون مقفى له معنى، عادت إلى ذهني هذه العبارة التي قالها طبيب لم يدرس النقد الأدبي ولم يتخصص فيه.
وعثرت ذات يوم على صفحة في الكتاب الذي كان يسجل فيه والدي ما يعجبه من أقوال (الموسوعة الأدبية) تتضمن بحور الشعر الستة عشرة، وأمام كل بحر شطر يذكر الإنسان بالوزن؛ فالرجز أمامه «في أبحر الأرجاز بحر يسهل»، والهزج أمامه «على الأهزاج تسهيل»، والطويل «طويل له دون البحور فضائل» وهكذا، وقد علمت فيما بعد أن واضعها هو صفي الدين الحلي. وتعلمت أن أنظم الكلام في معظم البحور، وإن كان بعضها يمثل عقبة كأداء مثل المديد والمقتضب والمنسرح والمضارع، ولكن السريع كان دائما يتحول إلى رجز! ولم تمض شهور حتى أصبحت أجيد تقطيع ما أسمعه من نظم. وكان خالي قد خطب الفتاة واسمها اعتدال (واسم الدلال عدولة)، ونظم أبياتا أعطاها لوالدي ليلحنها له. ولم أكن سمعت بذلك إلا في اجتماع عائلي، وكان خالي معجبا بصوت والدي أيما إعجاب، ويقول إنه لو احترف الغناء لأصبح مثل عبد الوهاب! كانت كلمات المطلع تقول:
اعتدالي وأنت صفو الغواني،
اعتدالي يا خلودا في الزمان!
وشعرت على الفور أن هناك خللا ما، فأحضرت الورق والقلم، وتأكد لي أن كلا من الشطرين ينتمي لبحر مختلف؛ الأول للخفيف والثاني للرمل! وكنت سأبدي هذه الملاحظة لولا أن والدي استمر في الغناء - وكان الشطر الثالث «أين روحي والورد في وجنتيك» وهو خفيف صريح، ولكن الذي راعني هو أن اللحن مسروق من عبد الوهاب: (والفراشات ملت الزهر لما .. حدثتها الأنسام عن شفتيك) - عندها تكلمت، فقال لي خالي: إن عبد الوهاب نفسه يسرق الألحان الغربية والشرقية! ولكن والدي قال إنه مقتبس، مع التعديل، فعدت أقول: ولكن المزج هنا واضح بين الرمل والخفيف! فضحك الجميع؛ فالمناسبة لم تكن تحتمل المناقشات العروضية.
بعد أيام صحوت مبكرا، وكنا في فبراير؛ لأرى الثلج يتساقط لأول مرة في حياتي، لم يكن البرد، بل كان الثلج الذي عرفته فيما بعد في أوروبا، وإن كان من حادثتهم فيه أسموه صقيعا. وكانت الجدران حافلة باللافتات الخاصة بالدعاية الانتخابية، وكان مرشح حزب الوفد (1950م) اسمه الحلواني، وكان شارع محرم بك يمتلئ أحيانا بأنصار ذلك المرشح، وهم يحملون على الأكتاف شخصا يصيح «حلاوته حلوة» فيردون عليه: «حلواني» [حالواني]، ثم يصيح «كبش وعطاني» فيردون: حالواني، وهكذا.
وسرعان ما ظهرت جريدة الأهرام وعنوان الصفحة الرئيسية يقول [خطأ]: الوفد يشكل وزارته السابعة، ثم صححها في اليوم التالي إلى «السادسة»! ولكن المدرسة كانت فيما يبدو غير مستريحة للنتائج؛ إذ كثرت المظاهرات، وكان الطلبة يترقبون في لهفة وصول أصوات الهتاف الصادرة عن مظاهرة كلية الهندسة، قائدة جميع المظاهرات، فيهب منهم من يهتف «يسقط الاستعمار!» أو «الجلاء التام أو الموت الزؤام!» ويردد الباقون خلفه ما يقول، وينسحب المدرس في هدوء إلى خارج الفصل، ثم يجري إلى غرفة الناظر للاحتماء، ومعنى هذا أن الإضراب عن الدراسة قد بدأ، وكنت حينذاك ألتحق بالجموع الخارجة، حتى نغادر باب المدرسة، ومن ثم أعود إلى المنزل.
وكان لدينا مدرس للتاريخ والجغرافيا اسمه «يوسف خليل» يتميز بجرأة غير معهودة في ذلك الوقت؛ إذ كان يتحدث بإسهاب عن «سوء توزيع الثروة»، وهذه هي ألفاظه نفسها، وعن استغلال الفلاحين، وكان كل درس سواء في التاريخ أو في الجغرافيا يؤدي إلى مناقشة مستفيضة حول ما كان يسميه ب «أحوال البلد »، وكيف أن العلاج لن يأتي برحيل الإنجليز، فالقاعدة البريطانية في قناة السويس مآلها التصفية خصوصا بعد اتجاه إنجلترا إلى تصفية قواعدها «شرقي السويس»؛ لأن خروجها من الهند أدى إلى تغيير كامل في شكل الإمبراطورية القديمة، أما العلاج الحقيقي في رأيه فكان يتمثل في استثمار طاقات أهل البلد بنشر التعليم والتصنيع وتطوير الأساليب الزراعية العتيقة لتنويع المحاصيل. كان كلام يوسف خليل ثوريا، ولكنه كان يقوله بثقة العالم لا بحماس الثائر، وكان يدعم كل ما يقوله بالأرقام والإحصاءات، وكان قصير الجسم نحيلا، صوته خفيض، ونبراته مطمئنة لا تنم عن الفوران الداخلي الذي كانت تتسم به خطابات السياسيين.
كنت أستمع إلى ما يقوله صامتا، خصوصا إلى التعبيرات الجديدة التي كنت أنقلها إلى المنزل فلا تلقى صدى عند أحد. كنت غريبا في المدرسة وبدأت أحس بالغربة في المنزل، ووجدتني لأول مرة أهتم بقراءة الصحف، فسمعت عن كلمنت أتلي، رئيس حزب العمال البريطاني الذي أتى إلى الحكم، وسمعت قول ونستون تشيرشيل زعيم حزب المحافظين إن بريطانيا ستجلو عن قاعدة قناة السويس؛ اكتفاء بقاعدة قبرص، وبدأت أسمع عن مشكلة السودان، وأقرأ عن وحدة وادي النيل، واستمعت يوما في الراديو إلى أغنية أم كلثوم التي كان أحمد شوقي قد كتبها تحية لخروج عدد من الشبان المصريين من السجن، والتي تبدأ بالغزل قبل أن تنتهي إلى الموضوع الرئيسي للقصيدة، أي تبدأ هكذا:
بأبي وروحي الناعمات الغيدا
الباسمات عن اليتيم نضيدا
ثم ينتهي إلى القول:
طلبوا الجلاء على الجهاد مثوبة
لم يطلبوا ثمن الجهاد زهيدا
والله ما دون الجلاء ويومه
يوم تسميه الكنانة عيدا
وتوقفت عند بيت آخر هو:
يرفلن في ذهب الأصيل ووشيه
ملء الغلائل لؤلؤا وفريدا
لأنه ذكرني بقصيدة كتبها والدي وأدرجها في كتابه المخطوط ولم ينشرها، والواقع أنه لم ينشر أيا من شعره أبدا:
الكون من أنفاسهن تعطرا
والغصن للإعجاب مال تخطرا
يذرفن في ذهب الأصيل ووشيه
دمعا على الخدين لؤلؤه جرى
وبدت لي السرقة واضحة فسألت والدي فقال لي إنه يسمى تضمينا؛ فإن البحر الذي اختاره يماثل بحر شوقي (الكامل)، وهو الذي أتى إليه بالتعبير نفسه، وهذا من المسموح به في الشعر ! والواقع أن القصيدة كان الوالد قد كتبها في «مدح» الإمام حسن البنا قبل اغتياله؛ لأنه يخرج من الغزل إلى القول:
فسألتهن لم البكاء أجبنني
خوفا على الإسلام أن يتقهقرا
فأجبتهن الله أيد دينه
وأقام للإسلام فيه غضنفرا
هو ذلك البنا أساس جهادنا
منه الإله النفس والمال اشترى!
وكانت تلك آنذاك إشارة إلى شرعية جمعية الإخوان، ولكنني لا أذكر قط أن والدي كان يذهب إلى الشعبة (أي المقر المحلي للجمعية)، أو أنه كان يصادق أحدا من رجالها. ولم أفهم إلا بعد وقت طويل سبب عزوف والدي عن المشاركة في أي عمل يقتضي الإلزام والالتزام؛ إذ كان يرى ذلك ماسا بحريته، والحرية لديه هي الحياة نفسها. وكان يرفض الحديث في الموضوع، لكنني ألححت في السؤال، فقال لي إن حسن البنا «رجل طيب» ولم يزد.
وخرجت ذات يوم لصلاة الجمعة، وبعد الصلاة لم أشأ أن أعود إلى المنزل، بل سرت في شارع محرم بك حتى آخره، ودخلت في شارع الرصافة، الذي كان هادئا تظلله الأشجار، ثم عرجت على كوبري محرم بك، ومنه إلى حدائق الشلالات، وساعة الزهور، وعندها سمعت لأول مرة ما يسمى بالصوت الداخلي، أي صوت الأفكار، وهو يتحدث بالعربية الفصحى. كان الحديث أمشاجا مختلطة مما قرأته وسمعته، وقلت في نفسي إن هذا الصوت إذا كتب أصبح تأليفا، ولكنه نثر، أما لو كان نظما فربما أصبح شعرا، وعدت أدراجي مسرعا إذ كان الجو ينذر بالمطر وقد عقدت العزم على كتابة شيء ما، تمنيت أن يكون شعرا، دون جدوى. كان الصوت يتكلم بنبرة خطابية تبدو مضحكة على الورق، وكانت الأفكار هزيلة، فأيقنت أن الفصحى وحدها لا تصنع كاتبا.
لم أكن أدري أن ما انتابني هو صوت المراهق الذي دخل عامه الثاني عشر وأصبح يشعر بذاته لا أكثر، كنت أحس يوما بعد يوم بأنني فريد يختلف عن الآخرين، مثلما يحس كل مراهق، وأنه يريد أن يثبت ذلك بطريقة ما، ولم يكن أمامي إلا الشعر! ولكن الشعر لا يأتي بسهولة، وإن أمكن النظم فهل تأتي القوافي؟ كان الذي يشغلني أولا هو النظم، وكنت أقرأ أبياتا أظنها مكسورة وهي موزونة لأنني كنت لا أعرف شيئا عن الزحافات والعلل، ولم أقرأ ما يكفي من الشعر العربي حتى أعتمد على أذني وحدها، وكنت قد انتهيت لتوي من قراءة كتابين عن حياة نابليون؛ الأول من تأليف ستيفان زفايج، والثاني من تأليف حسن جلال، وهو مستشار في القضاء، يكتب كثيرا في المجلات السيارة. ولذلك فعندما قرأت قصيدة شوقي ومطلعها:
أعلى الممالك ما كرسيه الماء
وما دعامته بالحق شماء
وأتيت إلى البيت الذي يقول فيه:
ما أنجبت مثل شكسبير حاضرة
ولا نمت عن كريم الطير غناء
تصورت أن به كسرا، وقلت لخالي إن الوزن يستقيم لو وضعنا نابليون مكان شكسبير! فضحك الجميع وقال خالي لي: إنه موزون، ولكن بالتفعيلة خبنا (أي حذف الثاني الساكن)، واعترضت لأن هذه تفعيلة الرجز وهذا بحر البسيط، فازدادت الضحكات، وقال لي والدي: «لا تشغل بالك بالأوزان واقرأ الشعر نفسه.» وعندما انقضى العام الدراسي وتقرر أن نعود إلى رشيد، لا أدري لماذا، كنت قد قررت أن أقرأ كل ما تقع عليه عيني من شعر، دون أن أحاول حفظه، وإن كنت أحفظه رغما عني، في العطلة الصيفية.
4
كانت العودة إلى رشيد عودة إلى الطبيعة، فعدت إلى ارتداء الجلباب، وتحررت من الملابس المدرسية، وعدت إلى أقراني أحدثهم عن الإسكندرية وهم يدهشون لما أحكيه، وكان لدينا زميل جديد يشاركنا اللعب بالكرة، ولكنه من القاهرة، وفد إلى رشيد بسبب انتقال والده إلى وظيفة حكومية في البلد. كان كلما ذكرت شيئا عن الإسكندرية يعلق قائلا: هذا لا شيء إذا قورن بالقاهرة! وكان يشتط في قصصه أحيانا فيحكي عن ملاعب لكرة القدم فوق أسطح المباني، فإذا صادف آذانا مصدقة زاد في القصة أن اللاعب قد «يشوط» الكرة من ملعب فوق سطح مبنى لتستقر في الهدف على سطح مبنى مجاور! وكان من أفراد الشلة من يكذبه، خصوصا زبقة (وتنطق زبأه - بفتح الزاي والباء وتشديد الهمزة) وسمونة، بتشديد الميم. كانا قد انقطعا عن الدراسة وعمل الأول في ورشة خراطة والثاني في صناعة الأقفاص من سعف النخيل (من الجريد)، لكنهما كانا لا يزالان في فريق الكرة، وكان «عجيب» - وهذا هو اسم القاهري - يحتقرهما ويقول لهما إن «الكرة الشراب» (أي المصنوعة من الجوارب القديمة) قطعا لا تستطيع الانتقال من سطح إلى سطح، بخلاف الكرة «الكفر» أي ذات الغطاء الجلدي الذي يحمي الأنبوب المطاطي الذي ينفخ بالداخل؛ فهي ذات مرونة كبيرة، وقد يضربها اللاعب فتحلق في الهواء مسافات بعيدة، بل قد يبلغ من قوة اندفاعها أن تقتل شخصا! ما الذي يحكيه «عجيب»؟ وانتحى بي زميل آخر كان قد انقطع عن الدراسة هو الآخر، واسمه سالمة (اسمه بالكامل محمود علي سالمة)، وقال لي: هل تصدق ما يقوله عجيب؟ إنه «نتاش» - أي فشار (أي نفاج بالفصحى)، ولم نكن قد سمعنا تعبير «يسرح ب» بعد، بمعنى يكذب علي - وهي كناية مهذبة. ولكننا كنا نعرف كلمات مثل «ينتش» بكسر التاء، ويمعر بضم العين. وكلها تصف النفج.
وعندما بدأ العام الدراسي، وكنا في السنة الثانية من الدراسة الثانوية (تقابل الشهادة الإعدادية حاليا)؛ كان في فصلي القديم تغيير لا شك فيه. كان يجلس إلى جواري غلام ضئيل الحجم، أسمر البشرة إلى حد بعيد، اسمه أحمد قادوم، وكان ذلك مصدر سخرية للطلبة، وكان بعضهم يدعوه «بالشاكوش»، وكنت أتصور أن اسمه تحريف للصفة قدوم بمعنى سريع القدوم أو مقدام، على غرار صيغة عطوف وخئون، وكان أبوه يعمل معاونا بأحد المساجد ويرتدي العمة والجبة والقفطان، ومن تحته الكاكولا، وكان لديه ستة إخوة وأخوات، وكان مجدا في دروسه ويؤمن بنظام دقيق في استثمار وقته في حفظ الدروس؛ فهو لا يؤمن مثلما كنت أومن بضرورة قراءة الصحف والكتب غير المدرسية؛ لأنها كانت في نظره مضيعة صريحة للوقت، وكان لدينا في الفصل نفسه تلميذ يكبرنا بعدة سنوات؛ لأنه لم يلتحق بالمدرسة إلا بعد الانتهاء من حفظ القرآن، فكنا نسميه الشيخ نجيب عبد الحليم ، وكان سعيدا بالتسمية، وكان يجلس في الصفوف الأخيرة مع اثنين من الكبار (وكانا في نحو الخامسة عشرة )، هما إبراهيم شحتوت، وإبراهيم عثمان. وكان كلاهما من لاعبي كرة القدم المهرة، وإذا كان نجيب خفيض الصوت رزينا، فإن كلا منهما كان عالي الصوت جهيرا، وكانا يشتركان أيضا في طول شعر الرأس وتصفيفه. ومن الأسماء التي راعتني شخص من إدكو اسمه «قاقا» (تنطق ءاءا)، يجلس بجوار تلميذ من أهل البلد اسمه «مطش» (وهو اسم العائلة التي تعمل بصناعة الأخشاب). كما كان من نوابغ الفصل شاب يميل إلى الطول اسمه خميس سعد خضر (الذي أصبح فيما بعد أستاذا في حقوق القاهرة)، وكنت أسمع عن وجود نابغة في سنة تانية «ب» اسمه مصطفى الجمال، من «البر التاني» أي من محافظة الغربية قبل أن ينقسم الجزء الشمالي ويصبح محافظة كفر الشيخ، وكان يعبر النيل في قارب كل يوم قادما إلى المدرسة وعائدا منها (وقد أصبح فيما بعد أستاذا في حقوق الإسكندرية مع ابن عمه عبد الحميد الذي أصبح عميدا للكلية نفسها).
أما التغيير الذي أحسسته فهو وجود موضوعات «سرية» يختص بها الكبار، ولا يسمح للصغار الجالسين في الصفوف الأولى بالاستماع إليها، ناهيك بالمشاركة فيها. وبدأ عدد من الصغار في محاولة استكشاف هذه الموضوعات، ويبدو أن بعض الأساتذة كانوا على علم بها، ويشيرون إليها باسم «الشقاوة» ويحذرون الفصل عموما منها، لكنني لم أشهد لا في المدرسة ولا خارجها ما يدل على «شقاوة» هؤلاء الكبار، بل إن الشيخ نجيب نفسه كان يشارك في الحديث مع الكبار في حلقات، وكانوا يطربون لسماع فتاواه! وتصورت أن وسيلتي لقهر الكبار هي الجد والعمل، ولاحت لي فرصة لإثبات ذلك حين عقد مدرس اللغة العربية الأستاذ عبد الفتاح خطاب مسابقة لنا في كتابة الإنشاء، وكان الموضوع هو مظاهر الجمال في البر والبحر بالليل والنهار! وكنت شبه واثق من فوزي بالمركز الأول، ولكن الذي فاز هو الشيخ نجيب، وقال المدرس وهو يعلن النتيجة في اليوم التالي: «لقد تساوت الكفتان، ولكن الآيات القرآنية رجحت كفة الشيخ عبد الحليم»، وهي الهزيمة التي علمتني ما يريده أساتذة العربية.
وذات يوم تأخرت في العودة إلى المنزل؛ لأنني كنت مشاركا في جمعية الرسم، وكنا نقضي الوقت في غرفة فسيحة تحولت إلى مرسم في الدور العلوي، وكانت الغرفة تدخلها الشمس بعد الظهر، وبها مرآة ضخمة، ولا أدري ما الذي جعلني أقترب من المرآة، وأتأمل وجهي فإذا بسواد ينتشر تحت أنفي ظننته أول الأمر من ألوان الرسم، وكدت أحاول أن أزيله، لولا أنني عندما دققت النظر شاهدت زغبا كثيفا يكاد أن يكون شعرا! وأحسست بالخوف والفرحة معا، فأنا تجاوزت الثانية عشرة وربما بلغت مبلغ الرجال دون أن أدري! ودخل الغرفة فجأة إبراهيم عثمان، وكان فنانا موهوبا، وكان مدرس الرسم مفيد تاوضروس (الذي حذرنا من هجاء اسمه تادرس) يقول إن إبراهيم لديه من الصبر ما يجعله فنانا، ونظر إبراهيم إلي وقال بطريقة عابرة: «أنت طلع لك شنب! احلقه!» وأحسست كأن الرعدة تسري في أوصالي، ولم أعقب، بل عدت إلى اللوحة التي كنت أرسمها ونسيت الوقت حتى دخل الأستاذ مفيد وصاح بي: «اللوحة خلصت! لازم تبوظها؟» وقال إن عيبي أنني لا أعرف متى أتوقف! وأبديت الأسف وعدت إلى المنزل.
وفي اليوم التالي أحسست أن في الفصل همسات تتعلق بي، وضحكات مكتومة، وفجأة قبل أن يدخل المدرس بلحظات وجه إبراهيم شحتوت الخطاب إلي قائلا: «أنت جالك زردق؟» وارتفعت في مؤخرة الفصل ضحكات عالية، ولم يتح لي أن أسأل من هو زردق، وإن كان اسما معروفا لأسرة تعمل بنشر الأخشاب وإعدادها للنجارة في حي «قبلي». وشغلت بموضوع زردق طيلة النهار، حتى إنني كنت لا أستطيع التركيز في الدرس. وعندما انتهى اليوم الدراسي عدت في طريق المنزل شاردا، أفكر في حل ذلك اللغز، وكنت مارا في طريق السوق على مقهى صاخب يصدح فيه عبد الوهاب بأغنية الجندول، وتسمرت في مكاني! كانت الألحان قاهرة، والكلمات باهرة، واللحظة نفسها ساحرة! وناداني عامل المقهى ودعاني إلى الجلوس، ولكنني شكرته وانصرفت. وعندما وصلت إلى المنزل أحسست بعزوف عن الجميع، فأبدلت ملابسي وارتديت الجلباب وخرجت. كان في نفسي حزن غريب، حزن له جمال ورقة، دفعني إلى شاطئ النيل ، بدلا من «السكة الزراعية» وهي الطريق الذي يمر بين الحقول ثم يفضي إلى الصحراء، وظللت أسير وأبيات من الشعر تتزاحم في ذهني، كان أولها من أبي العلاء:
عللاني فإن بيض الأماني
فنيت والظلام ليس بفاني
وسمعت الصوت الداخلي ينشد أبياتا أخرى وأخرى، حتى انتهيت إلى:
يا شاطئ النيل هل أشجتك أنغامي
وهل سمعت صدى شدوي وآلامي
وهل سمعت ترانيما معذبة
تفيض من خاطر يحيا بأوهام
واستقرت في داخلي إيقاعات عزيز أباظة وأحسست براحة عميقة لا علاقة لها بمعاني الكلمات، وعندما آذنت الشمس بالمغيب قفلت عائدا وأنا أستمع إلى الصوت الداخلي ينشد:
يا شاطئ النيل هل أشجتك أنغامي
وهل سمعت صدى شدوي وآلامي
وهل سمعت ترانيما معذبة
تفيض من خاطر يحيا بأوهام
وحاولت أن أزيد فلم أفلح، ولم تكن علي واجبات مدرسية، فقضيت بقية المساء أقرأ الشعر حتى غلبني النوم.
وقد اكتشفت في الأيام التالية معنى «زردق»، لكنني لم أشف غليل السائلين أو أفصح لهم عما حدث لي أو يحدث لي؛ فقد كنت مشغولا أيضا بما يحدث في مصر منذ أن بدأت أقرأ الصحف، وأستمع إلى نشرات الأخبار، وأتردد على شعبة الإخوان المسلمين.
كانت الصحف غاصة بأخبار قضية «الأسلحة الفاسدة»، وهي القضية التي أثارها إحسان عبد القدوس في مجلة «روز اليوسف»، وكثيرا ما كانت المجلة تصل إلينا في رشيد قبل أن تصادر أعدادها في القاهرة، فكنا نقرأ ما لا يقرؤه القاهريون، وكانت أحيانا تصل وقد شطب الرقيب فقرات أو مقالات كاملة، وكان الهجوم شديدا على الفساد في الحكومة، وعندما وقعت مذبحة الشرطة في قناة السويس (على أيدي الإنجليز) كان الهجوم لا يتوقف على فؤاد سراج الدين باشا وزير الداخلية، الذي أمر الشرطة بالمقاومة وهم لا قبل لهم بها، وكان الهجوم يصيب أيضا السيدة زينب الوكيل حرم النحاس باشا، وأحمد عبود باشا، صاحب شركات السكر والبواخر، وفرغلي باشا تاجر القطن، وباختصار كبار الرأسماليين وأصحاب الأراضي الشاسعة مثل البدراوي عاشور وغيره. وكان الأستاذ أنيس مدرس الجغرافيا قد قدم لنا تصوره عن الفرق بين الرأسمالية والشيوعية، فقال إن الأولى تتميز بملكية الأفراد لوسائل الإنتاج، والثانية بملكية الدولة لها، أما الاشتراكية فهي تملك العمال أنفسهم مصانعهم أو مزارعهم؛ ولذلك فهي تجعل العامل هو نفسه صاحب العمل؛ مما يجعله حريصا على نجاحه وصيانته وتطويره. وقال لنا إن العدل الحقيقي هو أن يكون الأجر جزءا من المكسب، وأن يشرف العمال على رعاية أنفسهم صحيا واجتماعيا، وأن تتحدد الأجور تبعا للعمل كما وكيفا، لا على أساس الامتلاك الذي يولد الاستغلال. وكان عبد المنعم درويش (واسمه الأصلي «الصباغ») رحمه الله مدرس التاريخ يقارن نفسه بمصطفى النحاس الذي ضحكت له الدنيا؛ لأنه دخل كلية الحقوق فأصبح قاضيا وسياسيا مرموقا، يرتدي رباط عنق بثلاثة جنيهات، بينما دخل هو كلية الآداب فأصبح مدرسا يرتدي رباط عنق «بعشرة صاغ من على الرصيف!»
ولما كان عطشي للقراءة لا يكاد يرتوي، لجأت إلى حيلة فريدة، فكنت أذهب إلى عطار في السوق الرئيسية اسمه أمين البحة (بتشديد الحاء)، وأقترض منه حزمة من المجلات القديمة التي تباع بالوزن لاستخدامها في بيع العطارة، وكنت أقرؤها ثم أعيدها مقابل نصف قرش فقط، فكنت آتي «بالمصور» و«الاثنين» و«آخر ساعة»، ومجلة الراديو القديمة وبعض الصحف أيضا، وكنت أبدأ بقراءة القصص والشعر، ثم آتي على التحقيقات الصحفية والتعليقات والأخبار التي تكون قد فقدت قيمتها. ولكن الاكتشاف الذي كانت له أكبر قيمة هو مخزن «المقتطف» و«الهلال» و«الكاتب المصري» و«الكتاب» (التي كان يحررها عادل الغضبان) في الطابق العلوي. كانت تنتمي لا شك لأخوالي باستثناء «الكتاب» التي كان والدي يشتريها بانتظام، وفيها وجدت مادة خصبة لخيالي، وقصصا بأقلام مشاهير المستقبل، وأشعارا لناجي والمازني ومحمود عماد؛ ممن كنا نجهل شعرهم في المدرسة. وأذكر من أسماء دار الهلال التي كانت تصادفني كثيرا بنت الشاطئ وأمير بقطر وطاهر الطناحي وعباس علام ووليم باسيلي وصوفي عبد الله وأبو بثينة (الزجال).
كان صيف 1951 ممتعا، لم يعكره لغز زردق (وقد اكتشفت أنه لم يكن زارني كما توهم «الكبار»)، بل كان الصيف رحلة دائبة لا تنقطع على صفحات الكتب والمجلات، وفي العصر كنا نخرج أنا والزملاء للنزهة على الطريق الزراعي الذي تحيطه الكثبان الرملية على الجانبين، ثم نعود فنتوقف قليلا عند «سينما رشيد»، وهو مبنى قديم كان يستخدم جراجا لشاحنات الجيش البريطاني، ثم اشتراه أحد التجار وحوله إلى دار للسينما، ولكن التذاكر كانت غالية، فكرسي البلكون رسميا بتسعة قروش ووديا بستة ونصف، ومنتصف الصالة رسميا بستة ونصف ووديا بقرشين ونصف، أما مقدمة الصالة فهي دكك خشبية خشنة، رسميا بقرشين ونصف، ووديا بقرش صاغ واحد. وكان الفيلم الذي استمر عرضه طويلا وكنا نقف خارج السينما للاستماع إلى أغانيه هو «غزل البنات» دون أن ندفع شيئا، وكان «الكبار» من زملائي يقفون وهم يذرفون الدموع مع أغنية عبد الوهاب الأخيرة «عاشق الروح»، لكنني لم أكن أشاركهم التأثر.
كان والدي في هذه الأثناء يذهب إلى فرع الشركة بالإسكندرية (وكان يسمى المكتب) وكان يعمل معه أيضا عمي عبد المحسن وعمي أحمد، اللذان شاركا خالي بمقدار معين من المال، وكان والدي يصطحبني أحيانا لقضاء أيام معه في الإسكندرية، وكنت أحب هذه الأيام، خصوصا ميل والدي إلى الأكل في المطاعم، وفي وقت مبكر، فما إن تحل ساعة الغداء في الثانية عشرة حتى يقول لي هيا! وكثيرا ما كنا نذهب إلى مطعم مصطفى درويش بائع الكباب، وكانت أشهى الوجبات لا يزيد سعرها عن قروش معدودة. وكان والدي قد تحول اهتمامه أو تحول جانب من اهتمامه إلى الطيور فصار يحدثني عن أنواعها وفصائلها، وخصائصها وألوانها وعاداتها، وكان يتحدث دائما بلهجة من يشاركها حريتها وانطلاقها، وكثيرا ما كان يقضي الوقت في قراءة كتب الطيور الأجنبية في ساعات العمل بالمكتب، أو في رسم صورها الملونة، وجمع المادة الخاصة بالطيور التي تزور مصر، وقد نمت تلك النزعة لديه حتى أصبح يمتلك مكتبة خاصة بالطيور يزيد عدد الكتب فيها عن ألف كتاب بالإنجليزية، ثم وضع المادة في صورة كتاب قام بتلوين لوحاته بنفسه ، واستغرق منه عشرين سنة.
5
عندما عدت إلى المدرسة (الثالثة الثانوية) كانت قراءاتي قد تشعبت واتضح تأثير لغة الصحافة في معظم ما أكتب، فقلت الزركشة اللفظية بعض الشيء، وقل الاستشهاد بالشعر، وكان ذلك يجري دون وعي كامل مني، ولكنني اكتشفته فيما بعد عندما قرأت الخطابات التي كنت أرسلها إلى صلاح الخطيب ابن خالتي، في الجيزة. وكان أهم كنزين في حوزتي هما ديوان «الهوى والشباب» للأخطل الصغير، وديوان «شرق وغرب» لعلي محمود طه، وكان يجلس إلى جواري في الفصل تلميذ نابه اسمه طلعت لبيب عزيز، وكان هو مندوب مجلة «سندباد» في رشيد، وكانت صورته تظهر كثيرا في تلك المجلة، والغريب أنني لم أكن أغار منه مطلقا؛ ربما لأنني أتصور أن تلك المجلة هي حقا «مجلة الأولاد في جميع البلاد» كما كان سعيد العريان يكتب على غلافها، وربما لأنني لم أكن أولي النثر احتراما شديدا، ومع بداية العام حدث تطور لم أكن مستعدا له.
كنت واقفا في الفصل أهزل مع بعض الطلبة حين اقترب مني «طلعت الكسار» رحمه الله، وكان يجلس في الصف الأول وقال لي بلهجة جادة تكاد تكون مخيفة: «إياك والضحك؛ فإنه يميت القلب»، فسألته عما يعني، فقال إنك الآن تنتمي لجماعة جادة ولا بد أن تتسم بالرزانة والرصانة في كل سلوكك. فأنت مراقب. وسكت. وفي ساعة الغداء سألته عما يعني، فقال إن الزملاء في جماعة الإخوان لاحظوا أنني أحب الضحك والتلاعب بالألفاظ، وهذا لا يليق بعضو الجمعية. وأضاف قائلا احضر اليوم إلى الشعبة بعد صلاة العصر لتعرف ما أعني.
وذهبت إلى الشعبة فوجدت لفيفا من تلاميذ المدرسة، لا تزيد أعمارهم عن الخامسة عشرة، ولم أكن أنا قد بلغت الثالثة عشرة، جالسين في حلقة كأنما ليتدارسوا أمرا ما، وكان بينهم أحمد مطش، وطلعت الكسار، وعدد آخر من الصغار؛ بعضهم من الفصل نفسه، والبعض الآخر توقف عن الدراسة، وإن استمرت معهم الصداقة، وشخص آخر يدعى عزت شحاتة، وكانوا ينادونه باسم الشيخ شحاتة؛ لأن والده كان أزهريا، وقد ورث اللقب عن والده. وبعد أن حدثنا طلعت عن تعليمات الإمام الشهيد بالتزام الجد والوقار، وأن ذلك أساس قهر أعداء البلد، وضرورة استكمال التدريب العسكري للذهاب إلى القناة، وكنا قد بدأنا نتدرب فعلا على مبادئ استعمال الأسلحة، ونحلم بالشهادة، قال إن الكتائب هي عصب الإخوان، والقتال لا يكون أبدا مع الهزل والسخرية، وخصوصا من الإخوان، وأشار إلي وقال: «مثلما يفعل الأخ عناني». وحاولت الرد ولكن الشيخ عزت أسكتني وقال لي لا تقاطع ولا تعترض. واستمر طلعت يقول إن محمد الفرس (الذي أصبح فيما بعد أستاذا في كلية العلوم، جامعة الإسكندرية) أخطأ في اللغة، فإذا بعناني بدلا من أن يؤيده، يقول «إن الفرس كسر العربية»، مما أدى إلى سخرية الفصل منه، واهتزاز صورة الجماعة بين الناس.
ودخل في هذه اللحظة قطبان من أقطاب الجماعة؛ هما عبد المنعم شتا الذي كان يدرس بالمعهد الأزهري في الإسكندرية، وأخوه عبد السلام الذي كان يشاركنا الفصل نفسه. وسلما وجلسا، ولا شك أنهما كانا يعلمان بما دار، فقال الأكبر: «هل وصلتم إلى قرار؟» وقال الشيخ عزت: «لقد وعد عناني بعدم العودة للهزل مطلقا، وعدم قزقزة اللب والأكل في الشارع، وهو يعرف جيدا أن تكرار ذلك سيؤدي إلى فصله.» وسرت همهمة بين الجميع تبينت فيها حروف «لا لا .. لا قدر الله!» ووجدتني أتصبب عرقا من فرط الحرج والدهشة. كنت كلما هممت أن أتحدث أسكتني عزت، وغمز لي من تحت منظاره السميك غمزة معناها «اصبر .. أنا معك!» وبدا كأن عبد المنعم شتا يتنفس الصعداء حين قال: «الحمد الله! هذا ما قاله لي حرفوش (الذي كان يدرس الطب في الإسكندرية)، وأحمد قنديل (الذي دخل الطب بعده بسنة) فهما يثنيان على ما يحفظه عناني من القرآن وعلى تفوقه». وفجأة نهض الجميع. كنت ذاهلا غير مصدق! إدانة بغير دفاع؛ والأدهى من ذلك أنهم كانوا يتحدثون في الموضوع دون علمي ويتخذون القرارات الملزمة لي خلف ظهري. لا أضحك؟ ولا أقزقز اللب؟ وذهبت من فوري إلى السيد بلال (واسمه الحقيقي عبد الفتاح يوسف بلال) وهو زميل في نفس السنة، ولكن في فصل آخر حيث كان يجلس في وكالة الفاكهة بشارع السوق، وكنت مهموما وأريد الحديث ، وقصصت عليه ما جرى.
استقبلني السيد بلال بترحاب شديد وفرح لنجاتي من براثن هؤلاء، وقال دون مبالاة: «هل يظنون أنهم قادرون على التحكم في عباد الله؟ لا تأبه لهم!» وعندما رآنا عبد الفتاح أمان (بتفخيم الألفين مثل الكلمة التركية) جاء يستطلع الخبر، وكان يجلس في دكان أخيه سعيد الكاتب العمومي، وكان تعليقه «ولا يهمك!» وأضاف: «ما الذي يجعلك تذهب إلى الشعبة؟ للعب البنج بونج؟ العب في المدرسة يا أخي! أم من أجل النزهة في القارب والسباحة في البحر؟ دعهم يتمتعون بعبوسهم! لم لا تعود إلى كرة القدم؟» وكأنما أتى الفرج بعدة الشدة، فقررت ألا أفصح عما دار في تلك الجلسة، ولا أعتقد أن أحدا أفصح عنها قبل اليوم، وأن أتظاهر بأنها لم تحدث، مع الامتناع عن زيارة الشعبة والعودة إلى فريق كرة القدم الخاص بنا في «المنشر»!
كان لبلدية رشيد فريق رسمي أذكر من أعضائه حارس المرمى واسمه عبد المنعم (وكنيته «الناعم» وهو ميكانيكي) وعلي عرفة وسعد عرفة (توءمان) وعبد المنعم السنوسي، وإبراهيم عثمان وأخاه الأصغر علي عثمان، وكان يشترك معهم بصفة غير منتظمة بعض طلبة المدرسة النابهين مثل صلاح جلال (الأستاذ حاليا في زراعة القاهرة) وعبد الحميد الجندي، وغيرهم. ولكننا كنا متواضعين في طموحاتنا فلم نهزم أبدا مدرسة دمنهور الثانوية، وعندما جاءنا مدرس لغة فرنسية اسمه حسان المغربي الذي كان يلعب لفريق الأوليمبي السكندري، قررنا ضمه للفريق رغم فارق السن؛ إذ كان قد تجاوز العشرين وكلنا دونها كثيرا.
وفي 26 يناير 1952م، وكنا في عطلة نصف العام، وقع حريق القاهرة، وكثرت الهمهمات في رشيد عن أسباب الحريق ومن وراءه، وتضاربت الروايات، ثم تعطلت الدراسة من جديد، وعندما عدنا للدراسة كان عزمي قد استقر على ممارسة الكتابة. وسمعت إعلانا في الإذاعة عن مسابقة لكتابة قصة بين الشباب «تعالج مشكلة الطلاق» وتصورت أن «معالجة» تعني إيجاد علاج، فجعلت أفكر في حل لمشكلة لا أعرفها؛ فكل ما عرفته عن الطلاق مستقى من روايات عصمت بدر الدين، التي تربطنا بها صلة قرابة بعيدة، وكانت تأتي لزيارتنا وتقص على والدتي قصصا ممتعة عن علاقاتها المتعددة مع أزواجها. كانت تروي ما يحدث بينها وبين كل زوج بأسلوب يمزج بين الحوار والسرد، وخصوصا ما نسميه البلاغة بالالتفات أي تغيير ضمير المتحدث من متكلم إلى غائب وهكذا. وما زلت أذكر استعمالها لصيغة الأمر في رواية خناقة زوجية: «حست زينب إن جوزها مزمزأ. بس! قومي يا زينب حطي حلة الملوخية في الحوض، وادلقيها وفوقها الدمعة، وقولي لي مطرح ما تحط راسك حط رجليك، وخدي هدومك وعلى ماما. وعنها لحد الوقت غضبانة.»
وكتبت إحدى روايات عصمت، ولكنها كانت تصف وتسرد دون أن تشفي الغليل، فلجأت لخالتي الحاجة لطيفة التي لم تكن تكبرني كثيرا وكانت قارئة ممتازة، وسرعان ما عثرت على نقاط الضعف في القصة، وجاءتني في اليوم التالي بقصة بارعة مثل قصص المحترفين جعلتني أمزق قصتي وأنسى موضوع المسابقة. كانت تصف وتسرد أيضا، دون حل للمشكلة بمفهومي الساذج، ولكنها كانت تنبض بالحياة، وتخلو تماما من الزركشة اللفظية التي لم أكن قد برئت منها، وتصور قداسة العلاقة الزوجية بسخونة لم أعثر على مثيل لها إلا في كتابات «هنري جيمس» بعد ذلك بسنوات طويلة.
النثر إذن صعب. كنت في الشعر أجد شكلا ثابتا على الأقل. فوجود قافية ووجود وزن يهبان الكتابة شكلا مميزا، أما كتابة النثر فلم أكن أدري لها شكلا. وذات يوم عثرت على كتاب مبسط بالإنجليزية يحكي قصص ألف ليلة وليلة، ومكتوب عليه ترجمة «ريتشارد بيرتون» واختصار وتبسيط «مايكل وست». كان ينتمي لأحد أخوالي ولا شك. وعندما شرعت في قراءته لم تستوقفني كلمات جديدة (مما نسميه الكلمات الصعبة) فإذا بي أسير فيه حثيثا إلى آخره. وتساءلت إذا كان الملخص المبسط بهذا الجمال فما بالك بالأصل! وأين عساه يكون الأصل؟ كانت الحكايات شائقة وممتعة. وتذكرت الحكايات التي كانت تحكيها لي أم سعد وأم إبراهيم، اللتان كانتا تقومان بخبز «العيش البيتي» لنا مرة كل ثلاثة أسابيع في فرن المنزل القديم، والقصص التي حكتها لي والدتي وجدتي، وحاولت أن أكتب إحداها، وكانت تتعلق «بأمنا الغولة» ومحاولتها التهام الأطفال، وخرجت المحاولة مضحكة، وحاولت كتابة قصة أخرى اسمها «القصر المنشي في الهوا يمشي» تتضمن أكل لحوم الأطفال، ووضع أرواح الأحياء في زجاجات وتعليقها على الشجر في الحديقة، ولم تكن النتيجة أفضل. وحاولت مرة أخرى؛ قصة «ماء الحياة» عن أميرة تحبس خطابها وتذيقهم مر الهوان، وأخرى عن «الطائر الذهبي» (الطيرة الدهب) وأبناء السلطان وسياحتهم في الأرض وما شاهدوه من ألوان السحر، وأخرى بعنوان «مطاوع أمه» الذي تزوجت أخواته من أسد وضبع وثعبان، وجاءت جيوش النمل لمساعدته، والكلاب وسحلية بارعة في صناعة الملابس، وكنت كلما أحاول الكتابة أصدم بالعقبة الكبرى وهي تحويل العامية إلى فصحى. لم تكن العقبة تتمثل في إيجاد المقابل، فالمقابل يسير - مثلا «مزمزأ» في عبارة عصمت في الفقرة الأخيرة قد تساوي كلمة متبرم أو ضجر، أو يوشك أن يبدأ شجارا، ولكن أيا من هذه المقابلات لن تكون في قوة «الزمزأة»، و«يدلق» تساوي يسكب، ولكن شتان، أما المثل الشعبي «مطرح ما تحط راسك حط رجليك» فلن يساوي أبدا مقابله بالفصحى «حتى لو انقلبت رأسا على عقب!» لا. ليست المشكلة في موازاة المعنى، بل في شيء آخر فشلت في تحديد كنهه، ولم أكن أجرؤ على تفادي المشكلة برمتها بأن أكتب الحكاية العامية! كانت العامية آنذاك أبعد ما تكون عن منزلة الأدب!
وقد شغلني موضوع العامية شهورا؛ لأنني كنت أستمع بشغف إلى حكايات الناس في المسجد، وأتمنى أن أكتبها؛ فمعظمها يصلح قصصا خيالية مثل ألف ليلة وليلة، خصوصا حكايات «جنايني» (بستاني) اسمه ظفر (ولم أعرف له اسما آخر) إذ كانت جعبته حافلة دائما، وكان يروي مغامراته أثناء قضائه فترة التجنيد الإجباري في فرقة ضربت خيامها في منطقة قناة السويس، وكان يقص علينا كيف كان هو وزملاؤه يسرقون المؤن والذخائر من الإنجليز، وكيف يحفرون السراديب والخنادق ويضعون اللون الأسود على وجوههم حتى لا يراهم الأعداء، وكيف سرقوا ذات يوم دبابة كاملة! (وكم كانت دهشتي حين كبرت وقرأت الطبري - تاريخ الرسل والملوك - فوجدت الكلمة نفسها بمعنى آلة الحرب التي تدق الحصون ويختبئ فيها الرجال في الجزء الرابع!) كانت أقاصيصه تصلح مادة للتاريخ والأدب جميعا، وقد خرج علينا محمد حسنين هيكل في «ملفات السويس» بتفسير لها يقول إن الإنجليز كانوا على علم بالسرقات وكانوا يسهلونها للمصريين بغية الضغط على حكومتهم للجلاء عن القاعدة. على أي حال، كانت القصص بالعامية وتحويلها للفصحى يفقدها شيئا كنت أجهله، وأعرف الآن أنه، بلغة النقد الحديث، البعد الثقافي، فالثقافة ذات ارتباط وثيق بالزمان والمكان، والإحالة إلى الفصحى تحيل القارئ إلى مكان آخر وزمان بعيد! ولذلك فأنا أقول هذه الأيام إن الترجمة إلى العامية من لغة أجنبية أقرب إلى التمصير والتحديث منها إلى الترجمة.
وعندما اكتشف تلاميذ الفصل ثالثة «ب» أنني ذو ولع بالكتابة واللغة العربية، قالوا لي إن إمام الفصحى في المدرسة طالب اسمه فوزي أبو العلا، فهو خطيب مفلق، ومتحدث ذو بيان ساحر، وإن علي إن شئت الاستزادة أن أصادقه. ولكن فوزي كان يصادق تلاميذ من الكبار، ويستنكف مصادقة الأوائل العاكفين على الدروس، فكنت أقترب منه حذرا فأسمعه يغني لأم كلثوم، أو ينشد شعر شوقي الذي تغنيه، أو يكتب على السبورة في مدخل المدرسة أبياتا لشوقي يغنيها عبد الوهاب، وأذكر منها قصيدة دمشق. وحاولت الاقتراب ولاقيت الصدود، ونصحني سمير نور، ابن أحد حلاقي الصحة الرئيسيين (الآخر هو مصطفى عابدين)، أن أطلعه على شيء من شعري، وأومأت برأسي موافقا ولكن لم يكن لدي سوى البيتين القديمين، فأضفت إليهما بيتا هو:
هل كنت تسمع والأنسام تلعب بي
والليل يحضنني والبدر يرعاني
ودفعت بالأبيات الثلاثة إليه فأشرق وجهه، وقال لي: اليوم هو الخميس الأول من الشهر، وأم كلثوم ستغني في الإذاعة ثلاث وصلات، أراهنك على أن الأغنية الأولى هي: ياللي كان يشجيك أنيني (رامي والسنباطي)، والثانية هي النيل (شوقي والسنباطي)، فسألته: والثالثة؟ فضحك وقال: نكون نمنا! وقلت له إنني لا أستطيع السهر لسماع أم كلثوم فتعجب وقال: تعال معنا إلى كازينو أبو علفة! وكان ذلك مقهى ريفيا متواضعا أشد التواضع، يضع الكراسي على شاطئ النيل، ويقدم الشيشة (النارجيلة) للزبائن والشاي المغلي (بنصف قرش) أو الشاي الكشري؛ أي غير المغلي (بقرش كامل)، والقهوة للأغنياء (بقرش ونصف).
وذهبت للسهر مع الشلة، وكان ذلك بمثابة تخرجي من مرحلة الطفولة ومن الإخوان ومن حياة العزلة، ولكن البعوض كان جائعا جوعا غير مسبوق، فجعل يمتص دمي وأنا صابر حتى إذا بدأت قصيدة النيل عدت أدراجي، والمثل السائر يتردد في ذهني «ولا بد دون الشهد من إبر النحل!» لم ينقطع صوت أم كلثوم المنبعث من المقاهي حتى وصلت المنزل ونمت هربا من آلام البعوض، ولكن فرحتي بالتخرج أنستني كل شيء. وتمنيت لو من الله علي ببيت آخر أو بيتين يؤكدان «أوراق الاعتماد»، ولكن القريحة كانت قد نضبت.
كان يوم الجمعة يوم راحة للجميع. وكانت والدتي لا تطبخ في هذا اليوم بل تعطيني عشرة قروش أشتري بثمانية أو تسعة أقة سمك (1,248 كيلوجرام)، وآخذه إلى الفرن حيث يشوى بنصف قرش، وأشتري بما يتبقى خضروات السلطة (طماطم وخيار وليمون وجرجير). كنت نسيت أحداث الليلة البارحة، وإن كانت أنغام «ياللي كان يشجيك أنيني» ما تزال تصعد بي إلى السماء، واتجهت قبل الصلاة إلى السوق لأشتري السمك، فإذا بفوزي أبو العلا مع الشلة يتسامرون، فخجلت أن أشتري السمك أمامهم، وترددت كثيرا، ثم ذكرت أن ثمة سوقا أخرى للسمك في «قبلي» فذهبت إليها، وصليت في مسجد آخر، وصنعت مثلما أصنع كل جمعة. ولكنني أحسست أن التخرج له ثمن أكبر من طاقتي، خصوصا عندما طلب مني إبراهيم شحتوت، وهو من دعائم الشلة، أن أتخلى عن الجلباب وأرتدي الحلة مثل بقية المحترمين!
فعلت مثلما فعلت مع الإخوان؛ إذ أظهرت الموافقة، وأضمرت الخلاف، وقررت أن أعود للحرية. وانتهزت فرصة انتهاء العام الدراسي وعدم الحاجة إلى ارتداء البدلة صباحا، وأصبح الجلباب هو زيي ليلا ونهارا. ولاحظت أن جدران البلدة ألصقت عليها صور شخص اسمه عبد الحليم حافظ، فسألت سمير نور فقال إنه مطرب جديد، وذات يوم وكنا في يوليو 1952م رأيت في الصحيفة إشارة في برنامج الإذاعة إلى أغنية اسمها «على قد الشوق»، فاتجهت إلى سمير نور، وكنا في مسجد المحلي نصلي العصر، ها هو المطرب سوف يغني اليوم، فقال بثقة لا لا .. هذا خطأ .. الأغنية اسمها «على مدد الشوف». وطبقا للقواعد الريفية أمن الباقون على كلامه، فلزمت الصمت، ثم انتظرت موعد الأغنية وكانت كما جاء في الصحيفة. من هذا المطرب؟
ولم تمض أيام حتى قامت الثورة، وبدأ الناس يتساءلون عما حدث، وقالت جدتي ماذا حدث للملك؟ «حسرة على شبابه .. ملك ويعملوا فيه كده؟» وكنت أنا نفسي لا أدري ماذا حدث؛ فالصحف تصف التأييد الشعبي الساحق، واللواء محمد نجيب يبتسم ابتسامته الساحرة، وعلي ماهر باشا مكلف بتشكيل الوزارة الجديدة، ولا أحد يعرف ما يكون. وناداني أحد معارف والدي وكان يجلس إلى منضدة صغيرة في مقهى كبير بشارع السوق وقال لي: «محمد أفندي! قل لي! الثورة دي حتعمل إيه؟ حتفتح مطاعم مثلا؟» ولم أعرف ماذا أقول. قلت له إنها ستزيل الفساد وتصلح الأحوال. فرد في يأس «يعني مش حتفتح مطاعم؟!»
6
كانت الثورة بمثابة الحدث العام الذي يرمز إلى الحدث الخاص؛ على عكس ما تعلمته فيما بعد في النقد الأدبي! فطالما كنا في رشيد نحس كأننا بمعزل عن أحداث مصر، وكنا بالتأكيد بمنجى من الكوارث التي تصيب العاصمة، مثل وباء الكوليرا الذي لم يقرب من البلد (لبعد الشقة!) أو الحركات السياسية، ومصادمات جيش الاحتلال! كان «الكامبو» وهو معسكر الجيش الإنجليزي القديم يواجه حديقة والدي «الأرض» أيام الحرب، ولكن كل من كانوا فيه، حسبما سمعت، قد تأقلموا على الحياة الريفية التي هي أقرب إلى الحياة الصحراوية، رغم أنها «تعريفا» غير بدوية! كان الذي يشرف على «الأرض» شخصا يدعى الحاج غضبان شعير (وغضبان اسم الشهرة، فاسمه الحقيقي محمد)، وكانت كنيته «أبو سميح»، ومن هنا كانت زوجته تسمى «أم سميح» التي أبلغت والدي بنبأ أكل الذئب للبطيخ. وأذكر من أولاده «سميح» (طبعا) الذي كان فارع الطول (194سم؛ وفقا لشهادة التجنيد ) وإسماعيل الذي كان يشرب اللبن من ضرع الجاموسة مباشرة، وسلومة التي كانت تكبرني بعام، وفريحة (الكبرى) ثم «روضة» التي كانت تصغرني بعدة أعوام، ثم حسن، «هرطل»، وهو تحريف «هتلر» الاسم الذي أطلقه عليه جنود «الكامبو» الإنجليز. وكان الجميع يعيشون في «الأرض» ويتقاضون أجرا مقابل الحراسة والعمل الزراعي، إلى جانب مصاريف «الأرض» التي لم تكن حساباتها تتميز دائما بالدقة والأمانة. وبمرور الأيام تزوج الكبار وتركوا الأرض، وأصبحت أم سميح تستغل المساحات فيما بين الأشجار لزراعة الخضر، وتربية الدواجن، ولم يكن والدي راضيا عن ذلك، بل كان من الأسباب التي دفعته إلى بيع «الأرض» في نهاية الأمر.
كان الهدوء الذي يخيم على رشيد ليلا ونهارا، والجو الصافي، بسبب عدم وجود مصانع حديثة أو سيارات تخرج نفايات تلوث الجو، وسقوط الأمطار في الشتاء، وقربها من البحر (بل إن مياه البحر كانت تدخل إلى النيل بعد انحسار الفيضان) كان كل هذا مجتمعا، يساهم في خلق روح سلام واطمئنان يندر أن يعكره شيء. كما أن معرفة الناس بعضهم بعضا كانت بمثابة الآصرة القوية التي يصعب فصمها، فلا مهرب لمذنب، ولا مكان لمن يريد الاختباء! ولم تشهد البلد أي لون من «الصراع الطبقي» الذي امتلأت به أجهزة الإعلام في عهد الثورة؛ فأكبر ملكية للأرض كانت سبعين فدانا، وهي أرض العمدة (غيط العمدة)، وأكبر مصانع هي مصانع الطوب الأحمر (الآجر أو القرميد) على شاطئ النيل في أقصى الشمال التي تملكها أسرة يونس وأسرة منسي. وهي حتى بمقاييس ذلك الوقت متواضعة القيمة. وكانت الحيازة صغيرة قد لا تتجاوز قراريط وقد تصل إلى 15 فدانا، وكان يوجد على بعد عشرة كيلومترات تقريبا غرب رشيد، على طريق الإسكندرية، مكان مخصص للمشاتل واستنبات البذور وإعداد التقاوي، وكان يسمى «البصيلي»، وأعتقد أن الكلمة مشتقة من بصيلة وهي التي تستخدم في إنبات الزهور. ويمتد الطريق بعدها فيما بين بحيرة إدكو والبحر المتوسط حتى المعمورة، مارا بطريق فرعي يوصل إلى «أبو قير»، وعندما تبدأ الحدائق والمزارع الكبيرة في الظهور حتى نصل إلى المنتزه حيث يوجد القصر الملكي.
ولذلك لم يكن أهل رشيد يحسون أن قانون الإصلاح الزراعي الأول الذي صدر بعد أسابيع من قيام الثورة سوف يمسهم من قريب أو بعيد، وكان مشروع تجفيف بحيرة إدكو واستصلاحها الذي بدأته حكومة الوفد يجري تنفيذه، وكان الأهالي يشترون قطعا صغيرة من الأراضي المستصلحة، مما أدى إلى نشوء قرى ودساكر على طول طريق الإسكندرية، أصبحت محطات يقف عندها أوتوبيس رشيد، فبعد كوبري الجدية، يمر «بالبصيلي» ثم «الطرح» ثم «الطلمبات» ثم «إدكو» ثم «المعدية» ثم «المعمورة» «فالمنتزه» - والإسكندرية! وكما توحي أسماء هذه الأماكن، كان معظمها متصلا بعمليات الاستصلاح، والاستزراع، وعند البصيلي يتفرع طريق يؤدي إلى قرية «الحماد» التي دارت عندها موقعة رشيد الشهيرة عام 1807م - التي سنعود إليها.
كانت الثورة إذن مسألة بعيدة عن الحياة اليومية لأهل رشيد. كنا نسمع في الراديو: «ما خلاص اتعدلت، والحالة اتبدلت، ولا حدش عاد، يشكي استبداد، من يوم ما اتعدلت والحالة اتبدلت»، أو «ع الدوار ... بالأخبار قلبك يتهنى، كنا في نار وبقينا في جنة»، ولكنك لا تلمح أثرا لإحساس بالتغيير أو إدراك لمعناه، كأنما كان الأمر يعني بلدا آخر وزمانا آخر! إلا، وهذا هو المهم، في صفوف المدرسة الوحيدة التي أصبحت ثانوية قبل فترة قليلة؛ إذ كان بها من يقرءون ويكتبون، وكان يأتيها المدرسون كل يوم من الإسكندرية في قطار الصباح ثم يعودون آخر اليوم المدرسي.
في أول يوم من أيام الدراسة وقف الناظر للترحيب بالطلبة، وكان ضخما طويلا اسمه أحمد السعيد جاد، وقال لنا إن الألقاب قد ألغيت، وعلينا ألا نقول للمدرس يا بيه، ولكن يا أستاذي أو يا حضرة الأستاذ! وكان يلقي الأمر بأسلوب بث الخوف في النفوس، فكتمنا أنفاسنا ريثما صعدنا إلى غرف الدراسة، وبدأت الهمهمة. كنا الآن في الرابعة، أي في سنة شهادة عامة هي شهادة الثقافة، وامتحاناتها تعقد في الإسكندرية، على عكس امتحانات النقل التي تعقد داخل المدرسة. ولكنها كانت سنة اختبار من نوع آخر؛ إذ كان «زردق» قد زار جميع الطلبة، ولم يعفني أنا أيضا، فاستغل ذلك بعض الطلبة في طرح أسئلة على مدرس اللغة ظاهرها محاولة الاستفادة (شروط الغسل وإزالة الحدث الأكبر)، وباطنها السخرية منه، كما كان لدينا طالب من إدكو اسمه عبد الستار عبد الغفار شرف، يزعم الإحاطة التامة بالأمور التي كانت تهم الجميع في هذه السن، ويتجمع حوله الطلبة بين الدروس وهو يصدر فتاواه وأحكامه.
ثم بدأنا دروس اللغة الإنجليزية، وكان المدرس جمال السنهوري قد تخرج لتوه في كلية الآداب، شابا وسيما زاخرا بالحيوية والنشاط، وبعد أن أخضع الجميع له بنكاته «وقفشاته»، بدأ يحدثنا عما يهمنا جميعا خارج موضوع «زردق» وإن كان يتصل به من قريب، ألا وهو الحب، أو العلاقة بين الرجل والمرأة. كان الغريب أنه يتحدث الإنجليزية المبسطة التي كان معظمنا يفهمها، وهو ما لم نشهده من قبل، بل إنه منع الحديث بالعربية أثناء الحصة تماما، مما كان له تأثير الصدمة على البعض، فإن انتهك أحد تلك القاعدة أحاله إلى الناظر، وما أدراك ما الإحالة إلى الناظر! كانت تعني - دون تحقيق في الأمر أو دفاع - بأن «يعبط» المذنب، أي أن «يعبطه» (بمعنى يحتضنه) أحد الفراشين، ثم يضربه الناظر بالخرزانة على «ذنبه» (أي على مؤخرته)! أما الفارق الوحيد بين العقوبة المغلظة والعقوبة المخففة فلم يكن عدد الضربات، بل مكان توقيع العقوبة، فالمغلظة تجري علنا أمام الطلبة، وفي ذلك ما فيه من إهانة. والغريب أيضا ألا ينتهك أحد ذلك القانون الذي وضعه السنهوري، فكان من لا يستطيع أو قل من لا تواتيه الجرأة على النطق بالإنجليزية يخلد إلى الصمت.
وحدثنا السنهوري عن عقدة أوديب، وعن فرويد، وعن داروين، وأسهب وأفاض فيما لم يخطر لنا على بال. ولم تمض شهور حتى أصبحنا نتحدث عن تحرير المرأة؛ أولا بتمكينها من التعليم، ومن العمل جنبا إلى جنب مع الرجل، وأذكر أنه عندما ذكر ذلك التعبير بالإنجليزية قلت له أسأله: تعني أن تعمل المرأة قريبا من الرجل؟ فقال
not too close ، وضحك، ولم نفهم النكتة، ولكنني ضحكت مجاراة له فظنني الطلبة قد فهمت وأقبلوا علي يسألونني بعد الدرس. وتمنعت عن الإجابة ، فالصمت منجاة في حالة الجهل.
وقرر جمال السنهوري إنشاء جمعية للتمثيل بالعربية وبالإنجليزية! كان هو رمز الثورة التي اجتاحت المدرسة، وعلى الفور بدأنا العمل، وبرز في التدريبات المسرحية مهرج بالفطرة اسمه فؤاد خضر، كان أبوه شيخا للبلد، وكان «مرحا» بالمعنى الحديث، وشخص آخر يسمى «بشخر» (واسمه الأصلي محمد جلال)، وسرعان ما قدمنا حفلا متواضعا في نصف العام يتضمن مسرحية أعدها بنفسه عن قصة قرأها في إحدى الصحف، بالتعاون مع مدرس لغة إنجليزية آخر هو عصمت والي (الدكتور حاليا)، وتولى إخراجها بنفسه. ومن الطبيعي أن تلاقي «إسلام عمر» (وهذا هو اسم المسرحية) ترحيبا شديدا من الجميع، خصوصا من أهالي البلد الذين كانوا يشاهدون المسرح لأول مرة في حياتهم، وكنت أقوم فيها بدور «أبي جهل»، ولم يكن مسموحا بتمثيل الخلفاء على المسرح، فكان السنهوري نفسه يقوم بدور الراوي الذي يملأ الفراغات (بمعنى الثغرات) في الأحداث، ويروي كلام عمر بن الخطاب بلهجة إذاعية جذابة.
وفي بداية الفصل الدراسي الثاني سمعنا أن رجال الثورة مهتمون بموقعة رشيد، التي انتصر فيها أهل البلد على حملة فريزر، وأنهم قرروا زيارة رشيد لحضور الاحتفال الذي يقام يوم 31 مارس 1953م بهذه المناسبة. ومن ثم جمعنا الأستاذ عبد المقصود الطيباني مدرس التاريخ، وهو من أبناء رشيد، من أسرة تعمل بتجارة الحبوب؛ ليقص علينا قصة هذا الانتصار كما وردت في الجبرتي وعبد الرحمن الرافعي (باختصار) وليلهب مشاعرنا التي كانت قد بدأت تستجيب للروح الوطنية التي كانت تسود الجميع.
وموجز القصة هو أن الحملة الفرنسية فتحت عيون الغرب على الشرق، وبدأ الاهتمام غير المسبوق بمنطقة الشرق الأوسط التي كانت تسمى الشرق الأدنى، خصوصا بولايات الدولة العثمانية (رجل أوروبا المريض) التي كانت الدول البحرية تتنازع على امتلاكها أو وراثتها، وعلى رأسها إنجلترا وفرنسا. فما إن رحل نابليون، ورحلت الحملة الفرنسية عام 1801م بعد صلح أميان، حتى قررت إنجلترا غزو مصر. وعلى عكس الفرنسيين الذين أرسلوا حملة كاملة تضم العلماء والكتاب والرسامين، أرسل الإنجليز حملة عسكرية فقط، والمأثورة عن الإنجليز هو التفكير الاقتصادي الذي يرجع إلى ممارسة التجارة، وما يسمى هذه الأيام بفاعلية التكاليف؛ أي أقل التكاليف الممكنة للحصول على أكبر مكسب ممكن، ومن ثم درسوا «الجدوى الاقتصادية» للحملة بناء على المعلومات المستقاة من حملة نابليون، وأرسلوا سفنهم التي رست في الإسكندرية وهناك وضعت خطة للاستيلاء على رشيد، وهزيمة قوات محمد علي باشا، الذي كان قد أصبح حاكم «ولاية» مصر، ثم الإبحار في النيل حتى القاهرة لهزيمة من بقي من المماليك، بدلا من الطريق البري الذي سلكه نابليون. ولكن محمد علي كان في الصعيد يحارب المماليك الذين هربوا، وكانت شوكتهم كبيرة وماضية؛ فالمملوك محارب محترف، وقوات محمد علي من المصريين وأخلاط منوعة من الأرناءود (الألبان) والانكشارية وغيرهم. وربما كان فريزر على علم بذلك، وأكد ما علمه أنه لم يلق كيدا حين وصل إلى الإسكندرية، فقرر إرسال فرقته الرئيسية إلى رشيد لتسير بحذاء البحر، في الطريق الذي كان آنذاك صحراويا لا ماء فيه، على أن تخرج الفرقة في الصباح الباكر؛ إذ كانت الخطة أن يفاجئ رشيد ويستولي عليها، ثم تلحق به باقي فرق الحملة، التي كانت لا تزيد عن كتائب بالمفهوم المعاصر.
وجاءت الأخبار إلى قائد حامية (وكانت تسمى مسلحة) رشيد، واسمه علي بك السلانكلي، بوصول الحملة وباعتزامها الهجوم على رشيد. وكان الشيخ البواب، وهو من أعيان رشيد (وصهر الجنرال مينو خليفة كليبر ونابليون) قد ابتدع طريقة لا بد أنه قرأ عنها في تاريخ فتح بلاد فارس، بعد معركة القادسية، وهي عدم الاعتماد على البريد، بل ما يمكن تسميته بسلسلة الأخبار، ومعناها أن يقسم الطريق إلى الإسكندرية إلى مراحل، وأن يجعل في كل مرحلة رقيبا (ناضورجي = صاحب النظر) بيده راية يرفعها وقت الخطر لينذر من يليه، وهكذا يمكن أن يعلم من في رشيد بما يدور في الإسكندرية فور وقوعه، ويختلف لون الراية بطبيعة الحال وفقا لنوع الخطر (أو عدم وجود الخطر). وعمل السلانكلي بنصيحة الشيخ البواب، وأقام المراقبين على طول الطريق، وعندما تحركت الحملة في الفجر، جاء النذير إلى أهل البلد، فنهض الجميع واستعدوا وكانوا قدروا أن تصل في الظهيرة؛ ومن ثم كانت الخطة أن يسدوا جميع منافذ البلد الغربية سوى منفذ واحد، هو المنفذ الرئيسي، الذي يؤدي إلى سفح تل صغير لدى مسجد العرابي، وأن يجعلوا الطريق أمامه مفتوحا إلى السوق القبلية، وتتفرع منه شوارع ضيقة متشابكة، وعلى جانبيه بيوت مملوكية عالية، تتقارب أسطحها.
أما الخطة نفسها فهي أن يهجر الجميع الشوارع، ويتحصنوا في البيوت حتى إذا دخلت الحملة، انهال عليها الرصاص من كل جانب، وأعد الرجال كل ما يستطيعون من أسلحة، وأعدت النساء الزيت المغلي، وأعد الصبيان الأحجار والمقاليع، وأكياس الرمل الصغيرة، وأصدر رئيس الكنيسة القبطية (القبلية) أمرا بأن يتحصن الأقباط في الكنيسة، ورئيس كنيسة الروم (البحرية) بأن يتحصن الأروام فيها، كما طاف بالبلد المنادي بعدم إقامة الصلاة في المسجد وإقامتها في البيوت حتى تنجلي الغمة. أما قوات الحامية نفسها فقد استعدت في منطقة البياصة في آخر شارع العرابي عند النيل؛ استعدادا لملاقاة رجال الحملة. وكان أخشى ما يخشاه السلانكلي بك أن يقوم الإنجليز بنصب مدافعهم على تلال «أبو مندور» (وهو اسم الشهرة لأحد الصالحين، واسمه الحقيقي أبو النظر ومن ثم تحولت إلى أبو منظور، أو أبو منضور، ومنها الاسم الشائع، وقد بنى له الخديوي عباس حلمي الثاني مسجدا مجاورا للتل الرئيسي)، ومن ثم بعث من يرسل إليه الإشارة اللازمة إذا حدث ذلك، على أن يتجنب الجميع الاشتباك قبل أن يصدر الأمر بذلك، وكانت الإشارة هي رفع الرايات الحمراء فوق مآذن المساجد. كما لم يفت السلانكلي أن يأمر بإخفاء جميع مصادر الماء من أزيار وسبل (السبيل هو ماء الشرب الذي يقدم في السبيل؛ أي في الطريق عند نواص محددة، وقد تحول إلى صنابير المياه الجارية حاليا) بحيث ينهك العطش الغزاة.
وكان اليوم حارا بصورة غير عادية، واستغرقت المسافة مدة أطول مما توقعه لها المهاجمون، فوصلوا بعد الظهر، وقد بلغ الحر أشده، وبلغ بهم الإجهاد كل مبلغ، وكانت العيون قد سبقتهم تستطلع المكان فعادت بالأمان، وظن الجميع أن رشيد قد سقطت، فدخلوا ينشدون الأناشيد واستلقوا على طول الطريق يشربون ما لذ لهم من شراب معهم، وأراحوا الخيل وقدموا لها ما كان لديهم من علف وماء، وما هي إلا لحظات حتى كان النعاس قد غلب الكثيرين، بينما انبثت العيون داخل البلد تستطلع المكان فلم تجد أحدا، فزاد اطمئنانهم، وربما كان السلانكلي لا ينتوي إطلاق إشارة الهجوم قبل ساعة أو بعض ساعة، لولا أن رأى بعضهم يتجه إلى بعض الكثبان لنصب المدافع فأمر برفع الرايات الحمر.
وفي لحظات كان الرصاص ينهمر من كل جانب، كان الرجال يصوبون والنساء يعدن شحن البنادق، ويلقين بالزيت المغلي، والصبيان يتبارون في إصابة الأعداء بالحجارة، فساد الذعر وصحا من نام، وأفاق من غفل، وتفرقوا في الحواري فكان الواحد إذا مر أمام باب فتح وجذبته الأيدي إلى الداخل وقيدته، وكانت ساعة أذان العصر قد حانت، فعصى المؤذن أمر القائد وأذن فوق مئذنة مسجد زغلول، فتبعه المؤذنون في كل المساجد الذين كانوا يرفعون الرايات، وما هي إلا ساعة حتى كان مصير الحملة القتل والأسر، إلا من فر هاربا في الصحراء لا يلوي على شيء.
وعادت الحياة إلى رشيد واستولت الحامية على الأسلحة والذخائر، وقضى الجميع الساعات الباقية في إطعام الأسرى ومداواة الجرحى، ولم يفت السلانكلي بك أن يطير الخبر عن طريق سلسلة الرايات إلى الإسكندرية، فوصلت الأخبار صباح اليوم التالي إلى القاهرة بالنصر على فريزر، وأسر المئات من أفراد حملته. وقام بعض رجال الحملة بنقل الأسرى إلى القاهرة حتى يرى الباشا فيهم أمره، وكانت قد بلغته أنباء النصر فعاد في مساء اليوم التالي إلى القاهرة، وقد اطمأن قلبه، وقدر أن الإنجليز لا بد منتقمون، ومن ثم كان لا بد من السعي إليهم في الإسكندرية.
وأقام السلانكلي بعض مدافعه الضخمة على تلال أبو مندور، وزود أبناء البلد ممن قاتلوا وأظهروا البسالة بالأسلحة الإنجليزية، وأراح الخيل يومين وقدم لها العلف والماء، حتى جاءته الإشارة من الإسكندرية أن الحملة قد اتجهت صوب رشيد من طريق آخر، وكان يعرف المنطقة خير المعرفة، فقدر أنهم لا بد أن يسلكوا طريق «الحماد»، وهي قرية في سفح تل مرتفع، ورجح أن يحتموا بالتل قبل الهجوم، أي أن يقرروا هم مكان المعركة، بل وتوقيتها إذا نصبوا المدافع على التل. ومن ثم أرسل مدافعهم نفسها فأقامها فوق التل، وكان صعود المدافع المحمولة على عربات تجرها الخيل من المهام الشاقة؛ إذ استغرقت يوما أو بعض يوم، كما لجأ أهل «الحماد» إلى حيلة مبتكرة تتمثل في تمهيد الطريق إلى سفح التل؛ حتى لا يتعثر السائرون فيه، بل يسرعون إلى الموقع الذي قدر السلانكلي أن المعركة ستدور فيه. وكان لا يزال ينتظر المدد من محمد علي باشا، الذي بادر بإرساله فغاب في الطريق وأطال الغياب.
ووصل الإنجليز إلى المكان الذي كان السلانكلي يتوقعه، ولم يتعرض لهم أحد حتى استقروا ونصبوا مدافعهم على السهل، واتخذوا مواقعهم حول التل، وكان السلانكلي ينتظر وصول الإمدادات حين فوجئ بالإنجليز يتسلقون التل، ومن ثم أصدر الأمر بإطلاق النار، وعلى الفور انهالت القذائف على الأعداء من المدافع، وطلقات الرصاص من كل جانب، فوجد الإنجليز أنفسهم محاصرين، في أرض لا يعرفونها، وبين ناس لا يعرفون لغتهم، وما انتصف النهار حتى اكتشف فريزر أنه لو استمر فسوف يهلك هو ومن معه؛ لأنه لا يستطيع الحصول على إمدادات من البحر أو البر، ولأن مئونته ستنفد، ومن ثم أعلن أنه يطلب التسليم برفع الرايات البيضاء، ولكن السلانكلي لم ينخدع حتى رأى فلولهم تجري مهرولة من حيث جاءت، فأمر بالتوقف عن إطلاق النار، وجمع الغنائم.
وهزم الغازون وانسحبوا إلى الإسكندرية (من بقي منهم)، وعاد السلانكلي إلى رشيد ليجد أن القوات التي أرسلها محمد علي قد وصلت، فسلمهم الأسرى وبعض الغنائم، وبات أهل البلد يتحدثون عما حدث، وكل يروي قصصه للأبناء، وأصبح النصر حديث الجميع، وسرعان ما نسجت حوله الروايات الفردية والقصص والأشعار، وكان من المصادر التي ألهمت أبناء الشعب ما يتناقلونه من أخبار، بل احتفظت بعض الأسرات بتذكارات من الحملة، تتوارثها أبا عن جد، ولا شك أن لها قيمة تاريخية.
وانهمك أعضاء جماعة الرسم في المدرسة، وكنت منهم، في إعداد اللوحات الزيتية الكبيرة التي تصور مشاركة الرجال والنساء في المعركة، وهي لوحات حائطية ضخمة، كما استدعى جمال السنهوري شاعرا من أهل البلد اسمه حسن شهاب، وكان يتقاسم إمارة شعر الفصحى مع إبراهيم الكتبي (بتسكين التاء) والزجل مع فتحي الجارم، الذي يلقي أزجاله في نادي الموظفين على شاطئ النيل. وكتب شهاب نشيدا قصيرا، قام السنهوري بتلحينه؛ يقول مطلعه:
نحن في فرح وعيد
فاسعدي اليوم رشيد
واذكري اليوم المجيد
باعتزاز وافتخار
انتصرت في القتال
وهزمت الإحتلال
فتوارى في الرمال
تحت ذل وانكسار
وكان اللحن يشبه إلى حد ما لحن «بلادي بلادي» للشيخ سيد درويش، ولكن المشكلة كانت عدم وجود فرقة موسيقية للآلات الوترية في رشيد، فاستدعى السنهوري فرقة «الطبالين» وهي فرقة شعبية تستعمل آلات النفخ النحاسية، وتعمل أساسا في الأفراح، وعلمهم النشيد، وحفظه طلبة المدرسة، واستعد الجميع لزيارة رجال الثورة.
واستعد مدرس التاريخ بخطبة عن «انتصار رشيد»، وأقيم سرادق ضخم على شاطئ النيل، وجاءت الإذاعة المصرية لنقل الحفل على الهواء مباشرة، ورأيت لأول مرة حسني الحديدي المذيع المرموق وهو يمسك بالميكروفون و«يتكلم في الراديو» ثم وصل رجال الثورة، وبدلا من أن يصل اللواء محمد نجيب، وصل ضابط برتبة بمباشي (وهي لفظة تركية، معناها رئيس ألف جندي) (بكباشي) اسمه جمال عبد الناصر، ومعه مجموعة أذكر منها صلاح سالم وجمال سالم، وحسن إبراهيم، وعبد اللطيف البغدادي، ووجيه أباظة، وكمال الدين حسين.
وبدأ الاحتفال بقراءة القرآن، ثم ألقى مدرس التاريخ خطبته، ثم توالى الخطباء، وبعدها قام جمال عبد الناصر فتحدث حديثا وطنيا حماسيا، ألهب المشاعر، لكنه، رحمه الله، كان يخطئ في اللغة العربية، مما أغضب منه أساتذة العربية وكثيرا من المستمعين، وكانت إجادة اللغة العربية لا تزال المثل الأعلى للخطيب، وانفض الاحتفال بعد أن بدا أن رشيد قد دبت الحياة في أوصالها، وكأنما عشنا من جديد انتصارنا على الإنجليز. ولكن حادثة صغيرة أثناء الحفل دفعت أفكاري في طريق آخر؛ إذ بينما كنا نتزاحم لرؤية الزعماء الجدد، وكنت واقفا على كرسي بجوار صبي في المدرسة غريب عن البلدة، يعمل والده مفتشا للري في البصيلي (اسمه «ميدو») أحسست بيد تخمشني في مكان أوثر ألا أفصح عنه، وابتعدت مرة أو مرتين، ثم استسلمت للإلحاح، فوجدت للخمش لذة تشبه لذة «زردق»، فعجبت أن يحدث ذلك بالنهار وقد اعتدت زيارته ليلا، ونزلت على الفور من الكرسي، وخرجت من السرادق.
7
وقصصت ما حدث لزميلي في القمطر طلعت لبيب عزيز، فقال دون اكتراث: «ألا تعرف ميدو؟ إن لديه دودة!» وتظاهرت بالفهم، وما هي إلا أيام حتى كان الجميع قد عرف بأمر محاولة «ميدو»، وجاءني عبد الستار عبد الغفار (الحجة والمرجع) فحذرني من «ميدو»، وقال لي ببساطة: إنت بتكردش؟ (كردش كلمة عامية ربما كانت تحريفا لكردس) وأجبت على الفور: لا! أبدا! دون أن أعرف ما يعني؛ إذ خشيت أن يكون فعلا قبيحا، ولكنه أردف قائلا وبسرعة: «ولم لا؟ هذا أفضل من اللجوء إلى ميدو وأمثاله!» واضطررت لموافقته، وانصرف.
كان زردق كثير الزيارة في تلك الأيام، وكنت أضطر إلى تسخين ماء بالوابور الجاز (بريموس) في صفيحة كاملة للاستحمام كل يوم تقريبا، ولاحظت جدتي ذلك فنادتني وقالت: «إنت كبرت يا محمد؟» ونظرت في حيرة لا أدري ماذا أقول. ربما كانت تقصد زيارة زردق؟ ولكنني آخر من زاره في الفصل! ولم يكن يبدو أن ذلك شيء مهم. وصممت أن أسأل بعض العالمين ببواطن الأمور في المسألة فقالوا لي إن عبد القادر البنا هو الحجة، فذهبت إليه، وكانت لديه وسيلة خاصة في الإقناع، وهي أسلوب «قدر» - ومعناها «فلنفترض» - وشرحها هو أنه يطرح سؤالا ردا على سؤال السائل يبدأ ب «قدر»، فيضع افتراضا بعد افتراض حتى يصل إلى النتيجة المرجوة، وهو عادة يفترض أسوأ الفروض ثم ينتهي منها إلى حال يطمئن معها بال السائل. وهكذا مضى يلعب هذه اللعبة معي حتى طابت نفسي واقتنعت بأنني لا أعصي الله، وأن «الكردشة» مستحبة لتجنب زيارة زردق ليلا، والاضطرار إلى الاستحمام في الصباح أمام الجميع، مما يمنع الحرج ويجنب الإنسان المعاصي.
وكنت أقابل زملائي الذين أحسوا بأنني هجرت «الإخوان» ولم أعد أزور الشعبة إطلاقا، فانتهزوا فرصة صلاة العصر ذات يوم في جامع المحلي، ودعوني إلى التمشية معهم على شاطئ النيل، وناقشنا موضوع الساعة، ألا وهو خروج الملك وإعلان الجمهورية، والتغيرات المرتقبة في الحكومة، وامتد بنا الحديث، ثم تشعب إلى دور الإخوان في الحكم، وعندها قال عبد المنعم شتا: «الوزارة في جيبي!» ولم أفهم. فأوضح قائلا إنه يعني أسماء الوزراء في الوزارة الجديدة؛ فكلهم من الإخوان، وإن القوة الحقيقية في يدي كمال الدين حسين، وإنه لن يلبث حتى يتولى الحكم ويعزل محمد نجيب، وازداد حماس الشلة لخطط الثورة، مؤكدين أن الحكم سيئول لهم، وأنهم سوف يعودون بالبلد إلى أحضان الاستقامة والصلاح، بعد سنوات الفساد والانحلال. ولم ينس المتحدثون أن يوجهوا تهديدات مستترة إلى كل من عارضهم، خصوصا إلى الذين نكصوا على أعقابهم، «ومن ينكص على عقبيه فلن يضر الله شيئا».
كثيرا ما كنت أحلم أنني استشهدت في قتال الإنجليز ودخلت الجنة، وكنت كثيرا ما أرى نفسي في حالة من السعادة النورانية لا مثيل لها، فأستيقظ هانئا لأبدأ يومي سعيدا، ولكن حلمي الآن لم يعد كذلك؛ فكنت أخاف «الجماعة» وأقول في نفسي هل أعود إلى الشعبة من باب «التقية»، ثم أتردد وأقلع عما اعتزمته، وأعود للقراءة والكتابة.
وفي آخر العام، شهدت رشيد حفلا لم يسبق له مثيل؛ إذ استأجرت المدرسة مبنى السينما لتقديم حفل يتضمن مسرحيات وأغاني واسكتشات، وقد كان نجاح الحفل ساحقا؛ إذ قدمت فيه مسرحية بالإنجليزية اسمها
Dears and Devils (أعزاء وشياطين) من تأليف عصمت والي، مدرس الإنجليزية، وتصور حال مدرس خصوصي مع ثلاثة أولاد أثناء وجودهم في منزلهم، وشاركت في التمثيل فيها أنا وأخي الأصغر، وكانت من إخراج جمال السنهوري أيضا، وقدم الطلبة عروضا بالغة الطرافة؛ مما دفع الناظر إلى السماح بتقديم الحفل مرة ثانية .. وثالثة! وقرر السنهوري استنادا إلى هذا النجاح إنشاء ناد للطلبة، وكان الاشتراك فيه خمسة قروش في الشهر، واشتركنا جميعا، ثم انصرفت شخصيا عنه عندما اقتربت الامتحانات وسافرنا إلى الإسكندرية لأدائها.
كنا في رمضان، وكنت أسافر إلى الإسكندرية هذه المرة وحدي (أي دون والدي) وإن كنت مع الشلة، وأعطتني والدتي جنيهين للإنفاق أسبوعا على كل شيء . وركبنا التاكسي إلى الإسكندرية، ووصلنا إلى «محطة مصر» وهي محطة السكك الحديدية الموصلة إلى «مصر» أي القاهرة، وكان معنا الشيخ أحمد البحة، رحمه الله، وكان يدرس في المعهد الديني (التابع للأزهر) في رأس التين، وتجولنا بين الفنادق فوجدنا أن أحدها واسمه «لوكاندة النيل» يطالب بعشرة قروش في الليلة الواحدة، وضربنا كفا بكف عجبا ودهشة من الجشع، فقلنا نبحث في فنادق أطراف المدينة؛ لعلها أقل تكلفة، ولكن أحمد البحة عرض علينا قضاء الفترة كلها في المعهد؛ فالطلبة المقيمون سافروا لقضاء رمضان مع أهلهم في الريف، وعنابر الإقامة خالية. ووافقنا. وعند الإفطار خرجنا لتناول الإفطار في مطعم قريب (فول وفلافل) ودفع كل منا قرشا ونصفا، وطلبنا الشاي (قرش صاغ)، ثم عدنا إلى المعهد ساخطين على هذا الترتيب، واقترح الشيخ عزت شحاتة أن نعتمد على أنفسنا ونشتري طعامنا، وقال سوف أنفق وأحاسبكم، وفعلا، أيقظنا لتناول السحور، وكان سحورا فاخرا لم يكلف كل واحد سوى قرش واحد.
وانتهينا من الامتحان، فجمع عزت قرشا من كل واحد واختفى ساعة ثم عاد يحمل سردينا مشويا وكوما من الأرغفة الساخنة، ولوازم السلطة وكيسا من الشاي وقمعا من السكر، وقال لنا إنه اشترى أقة سردين وشواها في الفرن، وإنه اكتشف مخبزا يبيع كل ثلاثة أرغفة بقرش، وهكذا قضينا الأيام الباقية، وعندما عدنا إلى رشيد، كنت قد أنفقت ستة وأربعين قرشا، وقدمت باقي المبلغ إلى والدتي وذكرتها بوعدها بأن تهبني ما تبقى، وقالت إنها ستمنحني أربعة قروش فورا، وتدخر الباقي «للزمن».
كان معظم الطلبة قد هجروا المعهد باستثناء الشيخ أحمد البحة طبعا، وشخص آخر اسمه نجاح كان مصدر تسلية دائمة، ومعينا لا ينضب من القصص والحكايات. كان يقف في الشباك ليغازل الفتيات، وكنت أرقبه دون أن تراني الفتاة، وكان يتكلم وهي تسمع دون استجابة، ولكن دون أن تغلق النافذة، وكان ذا أسلوب ساحر في الحديث، وكثيرا ما كان يقنع الفتاة بأن تغير ملبسها أو أسلوب تصفيف شعرها بينما تتظاهر هي بعدم الاكتراث، سمعته مرة يقول «الورد عايز يتسقي وإلا دبل! وإن كان يصوم يبقى ينظر للقلل! النظرة تكسي الوردة حمرة من خجل! واللي حب الورد ما يعوز العسل!» ولاحظت أن كلامه منظوم مقفى، فقلت له إن هذا الغزل سيفسد صيامه، فقال لي بثقة «قول دا رب الكون بيجزي ع العمل!» وكان الزملاء يضحكون منه ولا يعترضون، وقد اشتهر بإفلاسه الدائم، حتى إن لصا اقتحم عليه مسكنه ذات يوم، فأمسك به نجاح وأصر على عدم إخلاء سبيله حتى أخذ منه عشرة قروش كانت نصف ما يملك!
الغزل لا يفسد الصيام؟ إنه على الأقل ليس حراما! وحادثت الشيخ أحمد البحة في الموضوع، فقال لي: «سيبك منه! أصله ولد ضايع!» ولكن منظر الفتيات وهن يستمعن إلى الغزل دون أن تبدو على وجوههن آثار الغضب، ظل يتملكني بعد أن عدت إلى رشيد، وظللت أعجب لماذا لم يتلق نجاح الشتم أو التوبيخ، وذهبت للسيد بلال فقال لي ألا تعرف أن البنت تحب أن تسمع الغزل؟ وحدثني عن مغامراته في حي رأس التين بالإسكندرية، إذ كان للأسرة مسكن هناك، مؤكدا أن بنات بحري كلهن يحببن الغزل واللهو، وقص علي قصة أو قصتين ألهبتا خيالي، فعدت إلى الشعراء أقرأ، وجعلت أسأل نفسي عن شعر الغزل الذي يبدأ به الشعراء قصائدهم: هل هو صادق؟ وما أثر الصدق في الشعر؟ فأنا أعرف أن أعذب الشعر أكذبه!
ومع بداية العام الدراسي حدث ما لم يكن في الحسبان. كان المنزل الذي يقابل منزلنا تقريبا (واسمه منزل الصفواني) قد تحول إلى مدرسة ابتدائية (6-10 سنوات) وجاءت بعض المدرسات للعمل في المدرسة. لم يكن المنزل يقابل منزلنا تماما. فأمام منزلنا أرض فضاء كنا نسميها الخرابة، وإلى يمينها منزل «السحت»، وإلى يسارها هذه المدرسة. وكانت المدرسات يقمن في المدرسة، في الدور الرابع، المقابل للدور الأخير في منزلنا العتيق الذي كنت قد جعلته مرسما ومكتبة وصومعة شعر. أنا أعرف الآن أن كل ما كنت أكتبه لا يمثل قيمة أدبية (وقطعا لا يصلح للنشر)، ولكنه كان يستغرق مني وقتا طويلا في كتابته وتنسيقه! كانت المشكلة، كما أعرفها الآن، هي افتقاري إلى الأفكار! وكنت أعجب من أين يأتي الشعراء بأفكارهم وصورهم! بل إن الأوزان كانت كثيرا ما تختلط علي، فأبدأ القصيدة من بحر أخرج منه إلى بحر آخر، فألوم نفسي وأتهم أذني وأفقد الأمل، وأحسست أنني يجب أن أقلع عن هذه العادة وأن أجعل همي في الدراسة، مع أن كتب المدرسة لا تستهويني لأنني قد التحقت بشعبة العلوم؛ إذ لم يكن بالمدرسة غيرها، وبدأ الإحساس بالضياع.
كان وجود «المدرسات» وهن فتيات في مقتبل العمر يضنيني كأنما هو حمل ثقيل لا أقوى على حمله، وكنت أتمثل قول بشارة الخوري:
أيها الخافق المعذب يا قل
ب نزحت الدموع من مقلتيا
أفحتم علي إرسال دمعي
كلما لاح بارق في محيا؟
كان العذاب شديدا، ولم أكن أدري له سببا، وكان أحيانا ما يشتد ولا أجد مخرجا ولا تعزية لا في الرسم ولا في الشعر، فأسير وحدي ساعات طويلة ثم أعود كئيبا لا أقبل حديثا ولا قراءة. وأخيرا اهتديت إلى النقود التي ادخرتها لي والدتي فسحبت منها مبلغا شاركت به بعض الأصدقاء في شراء كرة قدم كبيرة (كفر) وصرت أقضي ساعات العصر كلها في اللعب فأعود منهكا وأنام.
لم أكن أعرف أن والدتي تدرك تماما ما أمر به، وأن رسوبي محتوم، بل إن المدرسين أنفسهم لم يعودوا يهتمون بي كسابق عهدهم، وكان صديقي أحمد قادوم يأتي أحيانا للاستذكار معي فيعجب من إهمالي، وأنا الذي أتمتع بسمعة لا مثيل لها في الجد والاجتهاد. وكانت والدتي تدبر سرا للانتقال إلى القاهرة لإلحاقي بالشعبة الأدبية، على أن يلتحق والدي بالعمل مع خالي في مكتب القاهرة للشركة، ويلتحق أخواي بنفس المدرسة، واختارت الأورمان النموذجية، وطلبت من خالي الدكتور محمد علي بدر الدين الذي كان قد عمل مديرا للقصر العيني بعد أن أصبح وكيلا لوزارة الصحة ونال رتبة البكوية، أن يتوسط لنا في هذا ففعل، بينما تمر أيام عام 1954م الأولى وأنا شارد اللب حزين لا أعرف لحزني سببا. وعندما دار الزمان وقرأت نقد كولريدج لمسرحية شكسبير «روميو وجوليت» فهمت تماما ما يعنيه كولريدج من أن حزن روميو هو حزن المحب الذي لا يعشق شخصا بعينه، بل يعشق الحب، وفي هذا ما فيه من حب النفس (حسبما يقول كولريدج)؛ مما يعمي البصر ويشل الفكر.
مضت الأيام لا يخفف من شدتها غير انقضاض جمال عبد الناصر، الذي أصبح رئيسا للجمهورية، على جمعية الإخوان المسلمين، والوجوم الذي كنت أراه على وجوه أفراد الشلة، واقترابي الشديد من جمال السنهوري الذي كان قد نجح في امتحان المذيعين بالقاهرة، وكان ينتظر خطاب التعيين. كان جمال يعرف ما بي، ويحدثني في ألفة ومودة عن المستقبل، ويقول لي لا تنس قول شوقي:
شباب قنع لا خير فيهم
وبورك في الشباب الطامحينا!
وأحيانا كان يترنم بأغاني فريد الأطرش فحببه إلي (رحمه الله) ولن أنسى ترنمه بأغنية «حبيب العمر».
وسرت ذات يوم وحدي إلى حيث تصورت مصب النيل، بينما هو بعيد كل البعد، ووقفت أتطلع إلى صفحة النيل المنبسطة، وأتخيل معنى المنبع ومعنى المصب، وقصيدة شوقي ترن في أذني، وموسيقى السنباطي تختلط بموسيقى عبد الوهاب. لم أكن أعرف أننا سوف ننتقل إلى القاهرة، ولكنني كنت أعرف أن شيئا ما لا بد أن يحدث. لم يكن هناك مبرر قوي لهذه المشاعر الجارفة، ورأيتها في النفس مثل المياه في النيل، وكأنما هي تتدفق في ذاتي منذ الأزل، وهو ما أتصوره معنى شوقي:
من أي عهد في القرى تتدفق
وبأي كف في المدائن تغدق؟
وعدت أدراجي لأكتب وأقرأ، وأرسم، وكانت لوحاتي تملأ المدرسة دون أن أحفل بما يدور حولي، ودون أن يعرف الناس ما بي! وكنت أحس في أعماقي بأنني معزول، وأحمد الله أن والدي كانا يدركان ذلك كله، فتركاني دون تعنيف، وعندما لم أوفق في الامتحان لم يقولا شيئا. ولكننا انتقلنا بعد ذلك بشهور إلى القاهرة.
في المدينة
1
كانت القاهرة حلما كبيرا يصعب تصديقه، وعندما استقر بنا المقام في حي العجوزة، بدت لي المنطقة مزيجا من رشيد والإسكندرية؛ فهي تطل على النيل، وقرية العجوزة لا تزال على حالها ريفية مغرقة في طابعها الريفي، فوراء مدرسة الأورمان تقع الحقول الشاسعة، فإذا تجاوزت المتحف الزراعي رأيت القصب، وكان منظره مميزا لاختلافه الشديد عن محاصيل رشيد (السمسم والذرة) وشاهدت الهضبة الغربية في الأفق، وأهرام الجيزة. أما إذا عبرت النيل عند كوبري بديعة (كوبري الجلاء الآن) فستجد نفسك وسط حدائق لا نهاية لها؛ إلى اليمين حدائق مترامية، وإلى اليسار أرض المتاحف بالجزيرة، وعندما تعبر الجزيرة تصل إلى كوبري قصر النيل حيث تمثالا الأسدين الرابضين، فإذا عبرت الكوبري وصلت إلى ميدان التحرير، ومنه تتفرع أهم شوارع القاهرة القديمة، قاهرة المعز لدين الله الفاطمي في شرق النيل، حيث تلال المقطم ومسجد محمد علي، أما وسط البلد فهو أوروبي في كل شيء؛ شوارع فسيحة مرصوفة نظيفة، وعمارات ذات معمار إيطالي، بشرفات مزينة بتماثيل، ونحت بارز، ودكاكين فاخرة، ودور للسينما، وسيارات حديثة الطراز، لا تصدر ضجيجا أو دخانا، وترام يعبر شارع فؤاد (26 يوليو) ويدور حول حديقة الأزبكية (ثم تحول إلى اختراقها)؛ ليصل إلى ميدان العتبة الخضراء، التي تعتبر قلب المدينة. فيها مبان مقامة على أقواس (بواكي) ومسرح الأزبكية، وشارع الملك عبد العزيز آل سعود، ثم شارع محمد علي الذي يؤدي إلى باب الخلق حيث دار الكتب، ثم إلى قلعة صلاح الدين الأيوبي.
ما هذا الاتساع! حتى المدرسة كانت شاسعة، فيها ملاعب نظيفة وساحات، وفناء ضخم، أحيانا توضع فيه شبكة للعب الكرة الطائرة، ومكان مغلق للجمباز وألعاب القوى، وكانت الفصول تطل على الفناء، وبعضها يطل على شارع مرقص حنا، والبعض الآخر ومنها سنة خامسة أدبي حيث كان مكاني، يطل على الحقول وعلى بعض المساكن البعيدة. وكان «المستوى الاجتماعي» كما يقولون يتناقض تناقضا شديدا مع مستوى رشيد الثانوية؛ فكان لأحد الطلبة (ناجي عبد السلام) سيارة «ستروين» تقف خارج المدرسة، وكان آخر (محسن مرسي) ابنا لمدير جامعة القاهرة، وثالث من أسرة عريضة الثراء، وسرعان ما أدركت أنني أواجه لونا جديدا من التحدي، ولكن الابتعاد عن رشيد كان موجعا للقلب، ولم ألبث أن وجدت ما أكتب عنه، فوجدت بيتا يرن في أذني؛ أولا في صورة شطر وحيد هو «تركت رشيد الحب والصفو والصبا» ثم اكتمل في آخر اليوم الدراسي «وكيف يعيش المرء إن فاته الحب»، ومكثت في غرفتي ذلك اليوم أعالج القصيدة وأنابذها.
وقررت أن تكون مقطوعة كاملة، تبدأ بقافية موحدة، وحبذا لو توافرت براعة الاستهلال أيضا، فكتبت:
تضيق بي الخضراء إن شرد اللب
وتنبذني البيداء إن وجب القلب
تركت رشيد الصفو والحب والصبا
وكيف يعيش المرء إن فاته الحب
هناء رفيق يغمر النفس باسما
شعاع بعين الكون باركه الرب
يدف دفيفا خافتا في خواطري
كنور ذرير لا يغيب ولا يخبو
هي الري دفاق هي العود مزهر
هي الخصب دوما لا تقولن ما الخصب
هي المجد والتاريخ والعز زاهيا
يقرب من بعد فيبتعد القرب
وفوق ضفاف النيل نخل وسندس
وأوراق زهر في تمايله عجب
وفي الجنبات الخضر طير فرادس
تحلق سربا يستجيب له سرب
وحين تغنى الشعر فوق ربوعها
روى الشرق عن تلك المناقب والغرب
فلله در الجارم الفحل شاعرا
ولله شعر في غرامك ينصب
كنت واثقا أن هذه أبيات صادقة، وأنني حافظت فيها على الوزن والقافية، وجئت بمعنى لا شك أنه «يعتد به»، حسبما قال خالي، ولكن شيئا ما في أعماقي كان يقول لي إن بها زيفا ما، وعدت إلى براعة الاستهلال، ترى لو أبدلت «وجب» ب «وجف» أو «أرجف» أكون أصدق؟ ونظرت إلى «الخضراء» وقلت في نفسي إنه صدى لقول الشاعر:
وضاقت بنا الأرض الفضاء كأننا
سقينا بكأس لا يفيق لها شرب
واتضح لي ما فعلت على الفور! لقد استعرت المعنى مع الوزن والقافية من ذلك الشاعر، بل إن الكلمة نفسها تنتهي بألف التأنيث الممدودة في البيت الذي نسجت على منواله، أما نبذ البيداء فهو قطعا من باب الزينة فحسب، فأنا لا أسكن البيداء ولا أهيم على وجهي فيها! وقررت ألا أطلع أحدا على القصيدة ، وكنت أعرف أنها مقطوعة على أي حال؛ لأنها لا تزيد على عشرة أبيات، ولم يكن لدي الجلد على كتابة بيتين آخرين.
وكرت الأيام سريعة ، كل يوم يحمل جديدا، وكان أول ما أتت به درس اللغة الإنجليزية، وكان المدرس هو جرجس الرشيدي (الدكتور فيما بعد)، المدرس الأول، وتوثقت الصداقة معه على الفور، ثم أتى درس العربية، وكان موضوع الإنشاء هو شوقي الشاعر! وكتبت موضوع إنشاء أكثرت فيه من المحسنات البديعية والزخرفة اللفظية والسجع، والاستشهاد بالشعر طبعا، وكان أن راق لمدرس اللغة العربية عبد الرءوف مخلوف (الدكتور فيما بعد)، وطلب مني إلقاءه في الفصل، ففعلت، وأبدى الطلبة إعجابهم باستثناء طالب قدر لي وله أن نصبح أصدقاء مدى الحياة، وهو أحمد السودة (المستشار ونائب رئيس هيئة النيابة الإدارية حاليا). وكان مصدر اعتراضه أنني أهتم بالألفاظ والزركشة البيانية أكثر من اهتمامي بالموضوع؛ أي بالأفكار، وقال محقا إن الموضوع لا يتضمن أي معلومات عن شوقي يمكن أن تفيد القارئ، ولكنه لا يعدو أن يكون صياغة منمقة لأفكار يعرفها الجميع! ورد عليه الأستاذ قائلا إن هذا هو المحك؛ أي وضوح التعبير وجماله، وأورد قول أحد القدماء إن الشأن ليس في إيراد المعاني؛ فالمعاني يعرفها العربي والعجمي، والبدوي والحضري، وإنما هو في اختيار اللفظ الشريف ... إلخ، وأردف قائلا إنه يعد رسالة الماجستير عن كتاب العمدة لابن رشيق القيرواني، وفيه تجد هذه النظرات «الكلاسيكية» في النقد الأدبي العربي.
وبعد الدرس تعارفنا أنا وأحمد السودة، وبدأت رحلة حب اللغة والفكر التي استمرت طول العمر معنا، وقد بدا الاختلاف بين مذهبينا عندما طلب منا المدرس كتابة موضوع بعنوان «أزمة نفسية مررت بها ثم تغلبت عليها»، فكتبت أنا عن تجربة الرسوب في السنة المنصرمة، وكتب هو عن فيلم «الطاحونة الحمراء» الذي شاهده وكيف ألقى الضوء على «أزمة» معينة وساعده في التغلب عليها. كان أسلوبه سلسا خاليا من المحسنات، وكان أسلوبي مثقلا بالصور البلاغية والشعر، ومع ذلك كنت أجد في كتابته سحرا لا أقدر على محاكاته. وكان (وما يزال) من عشاق عباس محمود العقاد، فطفق يحدثني عن مذهب العقاد في الكتابة، وعن مغبة الميل إلى «الإنشاء» إذ يكتنف المعنى ضباب من الألفاظ التي تفتقر إلى الدقة والوضوح وتشتت ذهن القارئ. وقال إن سلامة موسى يدعو إلى الأسلوب «التلغرافي»؛ أي الذي يوصل المعنى بأقل الكلمات! وسألته ما بال المنفلوطي ومصطفى صادق الرافعي؟ فقال «أناشين» - أي من أرباب الإنشاء! وذكرت كتب الرافعي لدى والدي - «وحي القلم» و«السحاب الأحمر» و«رسائل الأحزان» وعجبت كيف لا يرضى العقاد بهذا الإبداع؟
وفاتحت أستاذ اللغة الإنجليزية في الموضوع فقال لي إن الأمر يتوقف على من تخاطب، وماذا تكتب، ولماذا تكتب! المسألة إذن معقدة وليست بالبساطة التي كنت أتصورها! وشارك بعض الحاضرين في غرفة الأساتذة في الحديث، فقال أحدهم واسمه جلال جابر (الدكتور فيما بعد)، وكان أصغرهم سنا، إنك إن كنت تخاطب العامة فيجب أن تستعمل لغتهم؛ فلكل مقام مقال! فأضاف (الدكتور) جرجس: ولكن المسألة تتوقف على الهدف من الكتابة ونوعها؛ فالكتابة الناجحة هي التي تحقق الهدف منها، سواء كان توصيل المعاني؛ أي الأفكار، أو التعبير عن المشاعر. وسألتهما فلماذا تخلو الإنجليزية من البلاغة؟ وضحكا، وقال آخر واسمه «سامي» (لا أذكر اسمه الآخر): بل إن اللغة الإنجليزية حافلة بالبلاغة، وسوف تعرف ذلك حين تدرس الشعر الإنجليزي.
وعندما خرجت من غرفة الأساتذة، وعقلي يموج بهذه الأفكار، استوقفتني أنغام صادرة من غرفة مجاورة، اتضح أنها غرفة الموسيقى، فدخلتها مستفسرا فلم يعبأ بي أحد، وتأملت الطلبة والآلات في أيديهم، والمدرس وهو يجلس إلى البيانو، ثم خرجت وظللت واقفا أنصت. كان رنين الأوتار ذا قوة قاهرة ساحرة.
ونظرت إلى عود مهجور؛ إذ كان الجميع يعزفون آلات غربية، مثل الأكورديون (نصحي بقطر، والحاجري وخاطر)، والماندولين (عبد المتعال)، والبيانو طبعا (طلعت بقطر) - ولكن العود مهجور! واقتربت من الأستاذ علي حنفي مدرس الموسيقى وسألته عن العود فقال ببساطة: «خذ .. اتمرن عليه!» ولكن كيف؟ قال لي «أهم حاجة ضبط الريشة!» وبين لي مواضع السلم على الأوتار وأماكن «العفق» أي وضع الأصابع (أصابع اليد اليسرى طبعا) وقال لي: تفضل! وفي شبه ذهول جعلت أضرب على العود سلالم صاعدة هابطة حتى مللت، فعدت إليه فقال: «لن أعلمك شيئا حتى تحكم ضبط الريشة !» وكانت «الريشة» قطعة رقيقة من البلاستيك (الباغة)، وبعد أن «شبعت» من السلالم، وأضجرتني صعودا ونزولا قررت مفاتحة الأستاذ في الموضوع، فأعطاني نوتة مبسطة وتركني. وعكفت عليها حتى أتقنتها وقلت له أريد المزيد! فاعترض وقال إن علي أن أقنع بتدريب واحد مرة كل يوم فقط، وألا أتخطاه إلى غيره إلا بعد أن أكون قد أحكمته إحكاما!
وعندما اصطحبت العود الساذج إلى المنزل ذات يوم لأستكمل المران هاج والدي وماج، واتهمني «بالمجون» وهي صفة أبعد ما تكون عني، ثم إنه هو الذي أورثني حب الموسيقى! ولم أجرؤ أن آتي بالعود ثانيا إلى المنزل، ومعنى ذلك أنه كان علي قضاء وقت أطول في المدرسة للتمرين، وكنت مقبلا على العود إقبال من يرى فيه روحا جديدة، ولكنني لم أكن أتحدث في موضوع الموسيقى كثيرا بسبب الضغوط التي كنت أحسها من جميع من حولي. وكم حز في نفسي ألا أستطيع شراء عود خاص بي؛ فالعود الفاخر يتكلف خمسة جنيهات، ولا يوجد عود يقل ثمنه عن جنيهين، وكان ذلك قطعا فوق طاقتي.
وكان يجلس إلى جواري في الفصل طالب من إيران اسمه مهيار صادق نشأت، وكان حاد الذكاء، وقد انتقل إلى جواري ليحل محل يحيى يوسف، بعد أن لاحظ أنني يمكن أن أرشده إلى بعض دقائق الفصحى التي كانت تدق عليه، واغتنمت الفرصة لأعرف شيئا عن اللغة الفارسية، ولم يكن ضنينا بعلمه، والحق إنه كان يجيد العربية إجادة تامة ويتحدث العامية القاهرية كأحد أبنائها، وتوثقت صداقتنا فكان يصطحبني إلى دار الإذاعة حيث يقدم نشرة الأخبار الموجهة إلى إيران، وبرنامجا آخر، ثم ساعد أخاه شهيار في وقت لاحق في الحصول على عمل بالإذاعة أيضا. واستمرت معرفتي به حتى تخرج في كلية الحقوق ثم التحق بعمل في الأمم المتحدة في جنيف.
وكان من أعلام «خامسة أدبي» آنذاك محمود دويدار (رحمه الله) الذي كان يعتز بأصوله التركية، ويؤكد أن اسمه تركي، وهو في الحقيقة (كما علمت أخيرا) مركب من كلمة عربية هي الدواة وكلمة فارسية هي دار، أي دوادار بمعنى صاحب الدواة، أو الكاتب (بمعنى الوزير الحالي). وكانت له أختان هما زينب (واسم التدليل «زته»)، وأحلام التي سمعت أنها توفيت منذ أعوام (ومصدر معلوماتي هو شوكت دويدار الذي كان معنا في المدرسة، وهو ابن عم محمود، وكان زميلا لأخي الصغير). وكانت الأسرة تقيم في فيلا من بقايا عصر العز القديم في شارع عبد الرحيم صبري في العجوزة، وهي المكان الذي احتفلنا فيه في العام التالي بحفل رأس السنة. وكان يجلس إلى جانب دويدار طالب مهذب اسمه كمال عبد الرحمن، كان يقيم في شارع ظليل متفرع من شارع الدكتور شاهين، وكنت كثيرا ما أذهب إليه للاستذكار؛ فقد كان على مبعدة خطوات من شارعنا، وفي منزله سمعت أغنية عبد الوهاب «أنا والعذاب وهواك» لأول مرة، وعندما حاولت عزفها على البيانو لديه فوجئت بأن اللحن بالغ السهولة وبأنه لا يتضمن أية أرباع أنغام (أو ثلاثة أرباع على نحو ما يؤكد الدكتور زين نصار) مما يميز الموسيقى الشرقية، ويحفل به العود، فدهشت دهشة بالغة.
كانت دروس القسم الأدبي ممتعة إلى أقصى حد، وكان أهم شيء في المدرسة هو «النشاط المدرسي» فكان لدينا أستاذ للتمثيل، هو الفنان عبد المنعم مدبولي، وكان هو الذي نصحني بعد أن قرأ المسرحيتين اللتين كتبتهما بألا أحترف التمثيل، وقال لي إن موهبتك موهبة مؤلف لا ممثل، وإن علي أن ألتحق بقسم اللغة الإنجليزية فأقرأ «شكسبير والكلام ده» ثم اكتب بعد التخرج. وسرعان ما لاحت فرصة لإثبات قدرتي على الكتابة على مستوى المدرسة؛ إذ قرر السيد العجان، مدرس أول اللغة العربية، بالاتفاق مع الناظر خليل أبو طور، عقد مسابقة عامة في الشعر والقصة والخطابة. وقررت الدخول في المسابقة بفروعها الثلاثة، ولكنني اكتشفت أن بعض مجالات المنافسة لها المبرزون فيها في المدرسة من قبل، ومنها الخطابة (إذ كان طالب يدعى بازرعة مشهودا له بالامتياز) ومن ثم اقتصرت على الشعر والقصة، وكان المشرفون قد حددوا موضوعات معينة لكل فرع، وكان موضوع الشعر هو السيل الذي اجتاح قنا في صعيد مصر، وكان موضوع القصة هو «من التاريخ». وقررت أن أكتب قصيدة تصور مأساة أم تحمل أطفالها بعد أن شردها السيل، وكان مطلع القصيدة:
ترسل دمع من المقلتين
وسار حثيثا على الوجنتين
وسارت تبعثر خطواتها
ألا كيف تمضي الحيارى وأين
يقول الصبي لها باكيا
من الجوع كدت أموت ارحمين
تركنا بيوتا لنا قد خلت
من السيل طلا عفته السنون
وأطلعت أحد أساتذة العربية عليها، واسمه عبد العظيم الدسوقي، فما أن قرأ البيت الثاني حتى صاح: هنا كسر! واعترضت قائلا: أين؟ قال خطواتها! فقلت سكن الطاء، مثل خطوة، فصاح: لا يصح ولا يجوز! ثم همس قائلا: هل تقدمت بهذه القصيدة إلى المسابقة؟ فأومأت بالإيجاب فلم يعقب. والواقع أنه لو شاء أن يجد عيوبا أخرى لفعل (مثل الإقواء في البيت الرابع)، ولكنه آثر الصمت. أما الذي فاز بالجائزة الأولى فهو شاعر موهوب لو قدر له أن يستمر لأصبح له شأن وهو إبراهيم عارف كيرة؛ إذ كتب قصيدة مطلعها:
جرف السيل قرانا وهمى
فحسبناه من الهول دما
يا لها من نبأة قد قالها
عالم والكون منها استشأما!
وكان يقصد الإشارة إلى ما تنبأ به أحد الفلكيين من أن نهاية العالم ستقع بعد أيام، ولكن القصة التي كتبتها فازت بالمركز الأول، وكانت تحكي كيف وعدت قريش سراقة بن مالك بمائة من الإبل إن هو استطاع إدراك المهاجرين - الرسول
صلى الله عليه وسلم
وأبي بكر الصديق - وكانت فرسه كلما اقتربت منهما تسوخ حوافرها في الرمال، ولم أعبأ هنا بآراء العقاد في الأسلوب ولا بنصائح أحمد السودة، فوضعت في القصة جرعة كبيرة من المحسنات، فكان من الطبيعي أن تلقى القبول.
كان إبراهيم كيرة غلاما لطيفا، وكان أسبقنا إلى الحديث عن آلام الحب، وسهر الليالي، وكان يتحدث بإسهاب عن فتاة تعمل في مكتبة، وعندما رآها «وقع» في الحب من أول نظرة، ثم حدث أن زرناه أنا وأحمد السودة ذات يوم في منزله القديم في الدقي (إذ انتقل بعد ذلك إلى حدائق القبة) فقالت لنا والدته إنه نائم، وكانت الساعة قد قاربت على السابعة مساء، فقال لي أحمد السودة الآن أدركنا سر السهر! إنه ينام بعد الظهر طويلا، ولو لم ينم لما كان سهر الحب! وذات يوم أطلعني على قصيدة دخل بها مسابقة عنوانها «الربيع» أذكر منها المطالع والخاتمة:
يا ربيع الحب والحب حياة الكائنات،
يا ربيع العطر والنور وشدو الصائحات،
إيه غرد وابعث الفرحة فينا والحنين،
إيه غرد واطرح الظلمة عنا والأنين!
قد شهدناك على الدنيا قرونا وقرون،
أنت فجر أشرق اليوم مع الفجر المبين!
أما الختام فهو:
سرت الرعشة في غصن الحياة الذابلة،
ثم هبت من ربا الموت حياة حافلة،
ثم سارت عبر واحات القرون القافلة!
كنت عندما أقرأ مثل هذا الشعر يتنازعني الإعجاب والحسد، وكثيرا ما كنت أتساءل في نفسي كيف تتفاوت الموهبة من شخص لآخر؟ وكيف تستمر الموهبة وكيف تنمو؟ وظلت تلك جميعا أسئلة بلا إجابة، وإن كنت قد قرأت فيما بعد ما خفف من ظلمات جهلي بها.
2
والحق أن قضية «الإنشاء»، أو قضية اللفظ والمعنى، ظلت قائمة دون حل بحيث بدت كأنما تستعصي على الحل. وذات يوم كنا في الفناء في فترة الراحة الأولى (الفسحة الصغيرة) حين استمعت بالمصادفة إلى الأستاذ حسيب أستاذ اللغة العربية وهو يتكلم في هذا الموضوع الشائك، وكان ينصح أحدهم أن يفكر أولا ثم يكتب، أي أن يحدد ما يريد أن يقوله ثم يقوله، وتدخلت قائلا: ولكن التفكير يجري باللغة، ولا بد من اللغة لصياغة الأفكار، ومعنى صياغة الأفكار هو التفكير! فقال لي إن هذا منطق مغلوط، فالفكر سابق على اللغة، وهو الذي سيأتي بالألفاظ، فكر جيدا تكتب جيدا! وعدت أقول ولكنك لن تستطيع التفكير جيدا إلا إذا توافرت لك أدوات التفكير الجيد ... فقاطعني قائلا: كلنا لديه ألفاظ! ولكن المهم أن ندرب أنفسنا على أن تكون للألفاظ دلالات محددة واضحة، وعندها سنعرف كيف نفكر ونعرف كيف نكتب!
وكانت هذه نظرة جديدة لم آلفها بل لم أسمع بها من قبل! وعلى الفور بدأت أنشد أمثلة تؤكد أو تنفي ما قاله الأستاذ حسيب، ووجدتني أثناء حصة التاريخ أشرد في مسألة الفكر واللغة، ولا أكاد أتصور فكرا دون لغة إلا أن يكون صورا متتابعة في الذهن أو مشاعر مبهمة لا يمكن تحديدها إلا إذا وضعت في قالب لغوي. كيف يستطيع الفكر أن يسبق اللغة إذن؟ إننا حتى إذا افترضنا أن هذه الصور أو المشاعر التي لا تكتسي ثوبا لفظيا هي المادة الخام للفكر، فكيف يمكن للذهن أن يجعل منها أفكارا بغير اللغة؟ وفي المساء كنا نتنزه أنا وأحمد السودة فذكرت له ما قاله الأستاذ حسيب فأيده بشدة وقال إن الأفكار، بغض النظر عن صورتها اللفظية هي المهمة، وهذا الذي يجعلنا نقرأ العقاد وسلامة موسى ولا نجد شيئا نخرج به من كلام المنفلوطي والرافعي! وانتهى بنا الأمر في شارع عبد الرحيم صبري إلى منزل نبيل رضا أبو العلا وأخيه محمد، اللذين كانا معنا في الفصل. وعندما عرضنا المسألة على نبيل قال لي: «لغة إيه؟ بابا لا يفكر إلا باللون والشكل!» وكان والده رساما عظيما، وانضم إليه محمد قائلا: وكذلك نحن! كل شخص في حدود لغة الحرفة!
كان جوهر الخلاف غير قابل للحل على ضوء التجارب الشخصية، ولم نكن قد أوتينا من العلم والخبرة ما يمكننا من القطع برأي مقبول فيه، ومن ثم عدنا إلى الفكرة الأساسية التي كنا تجاهلناها في حوارنا وهي الوضوح وتحديد معاني الألفاظ. إذ كنت في تلك السن المبكرة مولعا بما يمكن أن يوحي به اللفظ من معان قد يصعب تحديدها، وكان جرس اللفظ نفسه ذا جمال وقدرة على الإيحاء، وكنت لا أتصور أن يختصر الكاتب كلامه ويحدد معانيه ويوضحها؛ لأن ذلك قد يفقدها «سحرها» وحلاوتها! لم نكن نعرف أننا نتكلم عن لونين مختلفين من الكتابة، بل عن تطور بالغ الأهمية في أسلوب الكتابة الأدبية نفسها، سواء كان ذلك بالعربية أو بلغة أخرى. ولكن هذه المناقشات ظلت حية وماثلة في ذهني حتى ذهبت إلى البعثة الدراسية إلى إنجلترا وبدأت أقرأ الفلاسفة المحدثين، وأحاول فهم ما يقولون.
كان عام 1954م يطوي صفحته، حين قرر نبيل رضا أن يحتفل بليلة رأس السنة في منزل محمود دويدار، فاجتمع الأصدقاء، وقرروا المساهمة بقرشين ونصف قرش لكل منهم، وتبرع محمود بالطعام والموسيقى، وكان الجميع يضمرون أملا في رؤية أختيه الجميلتين، وكان من أفراد الشلة عادل مجدي الذي كان يتمتع بموهبة كبيرة في فن التمثيل، وأخوه التوءم نبيل الذي كان قد التحق بكلية التجارة، وكانا يسكنان في شارع سليمان جوهر بالدقي، ورأت أخو نبيل رضا الأصغر الذي كان في مدرسة إيطالية، وغيرهم. واشترى نبيل (باعتباره الخبير) زجاجة أو زجاجتين من البيرة المصرية، وكان سعر الزجاجة أحد عشر قرشا، وتناولنا الطعام، وأقنعني نبيل بتذوق البيرة فوجدتها مرة فقال «حاول تاني .. إنها طعم الزيتون المخلل!» الغريب أن هذه المقادير الضئيلة من البيرة أوجدت أو أوحت بحالة من السعادة الغامرة، وعندما حل منتصف الليل، ووصل عام 1955م، أطفأ محمود الأنوار ثم أضاءها، ثم انصرفنا، وقد نسينا الأمل في رؤية الفتاتين الشقراوين البيضاوين ذواتي الشعر المنسدل الأصفر!
وسمعت الصوت الداخلي يهمس في ذهني وأنا عائد بأبيات من الشعر لم أنم حتى كتبتها، وما زلت أذكر مطلعها:
هل مر عام؟ قيل ذاك ومثله كرت سنون!
أو مر حول من ربيع العمر أم هذي ظنون؟
دعني إذن أقضي الليالي في انتشاء وقصوف
فإذا أنا في حفلة فيها من المتع القطوف
فيها نديمي الراح والأقداح والحب العطوف
وإذا المزاهر دندنت وأنا وأصحابي نطوف!
كانت قصيدة طويلة، وكنت قد تجرأت على البحور فقمت بتغيير البحر فيما بين الفقرات، وغيرت القافية أيضا، وأحسست أنني كنت ثائرا لا يعرف بعد أن قام بالثورة أين الطريق! وكنت أفرج همي في تعلم العود، وعثرت على نوتة موسيقية لمقطوعة «حبي» لعبد الوهاب مكتوبة من سلم «دو ماجير»، وفيها نغمة «فا دييز»، ولكن النوتة تنبه إلى تحويلها إلى «ناتوريل» (أي عادية) في كل مرة! وذهبت إلى كمال عبد الرحمن وعزفتها على البيانو، فكانت رائعة، ولكنني عندما حاولتها على العود لم أفلح، ولم أعرف إلا بعد سنوات طويلة أن المقام ليس كما كتب في النوتة، وأن نغمة «مي» هي في الواقع نصف بيمول (أي تتضمن ربع النغمة أو ثلاثة أرباع النغمة) مما يجعله مقاما شرقيا!
وفي عطلة نصف العام ذهبت مع المدرسة في الرحلة السنوية التي كانت تنظمها الوزارة إلى الأقصر وأسوان، وكانت حلما آخر من أحلام تلك الأيام؛ إذ ركبنا القطار من «باب الحديد» في الساعة السابعة والنصف مساء، وتحرك في الثامنة، ووصلنا إلى الأقصر في الخامسة من صباح اليوم التالي بعد أن قضينا ليلة من التهريج والغناء والرقص لم أشهد لها مثيلا ولم أكن أتصور أنها يمكن أن تحدث، فأخرج الطلبة ما في جعبتهم من البذاءات، وتباروا في إلقاء النكات الفاحشة، وكان يغلبني النعاس أحيانا فأجد من يوقظني بعنف لكي أشترك في مسابقة أو مباراة لفظية. وعندما وصلنا قال لنا المدرس إن برنامج الصباح غير محدد، فانطلقت وحدي بعد أن وضعت الحقيبة في مبنى المخيم، وذهبت إلى أحد المقاهي لأتناول طعام الإفطار، فجاءني بائع تحف وتماثيل، وباعني تمثالا زعم أنه فرعوني بقرش ونصف، فاشتريته، وبعد الطعام اكتشفت سرقته!
وعندما عدت إلى المخيم، وهو مبنى ضخم، وجدت نصحي بقطر يعزف موسيقى «موكب النور» لعبد الوهاب على الأكورديون! كان عزفه رائعا والموسيقى شجية، وحديقة المخيم بديعة، وسرعان ما عاد الأولاد الذين لا يتعبون أبدا إلى تقديم الاسكتشات الضاحكة بقيادة عادل مجدي، ثم لعب الكرة حتى الظهيرة، وبعد الغداء بدأ برنامج الرحلة.
ما كان أبعدنا عن رشيد! وما كان أكثر اختلاف ما كنا فيه عن أقاصيص سالمة وزبقة وسمونة! ولكنني كنت أتطلع إلى النيل وأسأل متى تصل مياهه إلى المصب؟ هذه هي جنادل أسوان التي يسمونها الشلالات، وهذه هي صفحة النيل المنبسطة، وها هو الماء الذي يأتي على موعد، وعادت إلى وجداني أنغام السنباطي وقصيدة شوقي:
متقيد بعهوده ووعوده
يجري على سنن الوفاء ويصدق
والآن وأنا أذكر اللحن بعد هذه الرحلة الطويلة مع الأغنية والقصيدة، أرى كيف لحن السنباطي البيت بحيث يبرز عبقرية «التموج» في شعر شوقي؛ فكل تفعيلة (من بحر الكامل) تتماوج وحدها في الشطر الأول حتى تأتي إلى الكلمة الأساسية وهي «يجري» فتطول نغمة «على» ثم تهبط ثم تعلو في «الوفاء» وتعود إلى النغمة الأولى! هل كان شوقي واعيا بتقسيم التفعيلات الداخلية هنا؟ هل كان واعيا بحركة «الواوين» في الشطر الأول في نصف التفعيلة اللتين تحولتا إلى «ألف» ممدودة في آخر التفعيلتين الرابعة والخامسة؟ لم أكن في ذلك الوقت قد درست الشعر ولا الموسيقى بالقدر الذي يتيح لي أن أعرف أو أن أحدس، لكنني كنت أستغرق وحسب فيما حولي، فيتمثلني المنظر مثلما أتمثله! ولم أدرك ما كان يحدث حقا حتى قرأت شعر وردزورث في إنجلترا، وسمعته يقول كيف كان يطيل النظر أحيانا في صفحة البحيرة والسحب الساكنة في السماء من فوقها، فلا يدري إن كان المشهد خارج كيانه أم داخليا في نفسه! كانت تلك تماما مشاعري وأنا أرقب صفحة النيل التي تشبه البحر الساكن؛ هل هذه هي «الأفكار» التي تسبق اللغة؟
وعندما عدنا إلى القاهرة ظلت صور أسوان ماثلة في مكان ما في نفسي، وكرت أيام الدراسة سريعا وأنا «ألهو» بالعود أو أكتب القصص وأتحدث في إذاعة طابور الصباح في المدرسة بالفصحى، وكتبت مرة قصة قرأتها على الطلبة في الصباح اسمها «القلة» (لم أكن أعرف أنها فصحى حتى قرأت صحيح البخاري)، ولم يكن بها إلا عنصر التشويق؛ إذ بدأتها هكذا «رأيتها في غرفة الأساتذة، تقف عند الشباك، ولم يكن يتطلع إليها أحد، وخالستها النظر دون أن يرقبني أحد، وكان بي شوق جارف إلى أن أروي عطشي منها ...» وتعمدت ألا أفصح عما يعود إليه الضمير «هي» إلا في نهاية القصة! وضحك الأساتذة، وكان الأستاذ صبري مدرس الرسم سعيدا بطاقتي اللغوية، وكان رضاه عنها يفوق رضاه عن طاقتي في الرسم، وقد كرر على مسامعي ما سبق أن قاله مفيد تاوضروس في رشيد من أنني لا أعرف كيف أتوقف - أي لا أعرف أن اللوحة انتهت ولم تعد تقبل المزيد!
وذات يوم سألني (الدكتور) جرجس الرشيدي عما أنتوي دراسته بعد التخرج فقلت له: الأدب العربي، وقال بأسلوبه الهادئ الواثق: ليه ؟ ولم أستطع أن أجيبه. واستمر قائلا: «هل تريد أن تصبح كاتبا؟ الواضح مما قرأت لك أن لديك موهبة (وكان قد قرأ مسرحيتين كتبتهما بالإنجليزية وقصة أيضا بالإنجليزية) ولكنك لن تستطيع أن تجيد أيا من الألوان الأدبية الحديثة إلا إذا قرأت الآداب العالمية، وخير وسيلة لك هي إجادة اللغة الإنجليزية. وعليك إذن أن تلتحق بقسم اللغة الإنجليزية!» وعندما ذكرت له ما كنت أسمعه عن وجود أجانب أو أنصاف أجانب أو خريجي مدارس أجنبية في القسم لا بد أن يحتلوا المراكز الأولى قال بالثقة نفسها: «في الأول بس!» وعلى أي حال سوف تتميز عنهم باللغة العربية! وذكرت أن الإذاعة حلم من أحلامي، فقال لي إن حسني الحديدي خريج من قسم الإنجليزي، ومن قبله علي الراعي ومحمد فتحي! وصادف ذلك في نفسي هوى (خصوصا أن جمال السنهوري كان قد التحق آنذاك بالإذاعة)، فناقشت الأمر مع آخرين فتضاربت الآراء، وإن كنت في أعماقي أتمنى دخول معهد الموسيقى أو كلية الفنون الجميلة، وكثيرا ما كنت أسير في تلك الأيام في شارع محمد علي، وأتطلع إلى الآلات الموسيقية المعروضة، وتحديدا في محل جميل جورجي، وكان الرجل طاعنا في السن طيب القلب، فكان يسمح لي بالجلوس والعبث بالأوتار، مدركا رحمه الله أنني لن أشتري شيئا، ومقدرا مدى شغفي بالموسيقى.
وكان من سمات «الكبار» في المدرسة «التزويغ»، وهذا لا يعني عدم الحضور ولكنه يعني الحضور ثم الفرار، إما بالقفز من السور، وإما بالتحايل على الفراش الموكول بالباب (البواب) لقاء مبلغ زهيد، وأحسست أنني لا بد لي أن «أزوغ» ولو مرة واحدة تدعيما لمكانتي بينهم، ولم يكن «التزويغ» مقبولا في النصف الأول من العام، ولكن الأساتذة كانوا يتغاضون عنه في النصف الثاني، وكانت الخطة هي أن يحضر الطالب الحصتين الأوليين، فيثبت أنه حضر في كشوف الغياب ثم يتسلل أثناء الفسحة الصغيرة مع من يريد من السور الخلفي (أو الباب الأمامي باتفاق سابق مع الفراش)؛ ومن ثم قررنا أنا وزميل اسمه محمود القللي أن «نزوغ» ونذهب إلى السينما، ثم نعود إلى المنزل في موعد الخروج من المدرسة. وقال لي إنه سيتكفل بالحديث مع الفراش، وما علي إلا أن أكون موجودا بالقرب من الباب في أول الفسحة، حيث يكون جميع المدرسين قد عادوا إلى غرف الأساتذة، وسأجد الباب مواربا والفراش متظاهرا بتناول طعام الإفطار فأنسل خارجا، وأختفي في أحد الشوارع الجانبية بانتظاره. ونفذنا الخطة بدقة عسكرية ووجدنا أنفسنا في طرق خالية، فعبرنا شارع نوال، ومنه إلى كوبري الجلاء وأرض المعارض ثم شارع سليمان باشا (طلعت حرب حاليا)، ثم شاهدنا فيلما ما (لا أذكر عنه أي شيء) وقفلنا في طريق العودة عن طريق العتبة، إذ كان أمامنا ساعتان. ووجدت سور حديقة الأزبكية غاصا ببائعي الصحف والكتب القديمة والمجلات المصورة بكل اللغات، فوقفت أتأملها، بينما كان هو يلح علي أن نستأنف السير. وأخيرا يئس مني فتركني ومضى، واستغرقتني الكتب، وكانت أثمانها تتراوح بين قرش وخمسة قروش، فقضيت وقتا لا أدريه، حتى وجدت يدا تربت كتفي في رفق، فتلفت فإذا هو الأستاذ محمد الشيخ، صديق الأسرة، الذي تعرفت عليه والدتي أثناء الحج عام 1950م.
ولم يقل شيئا ومضى ببسمته الهادئة، ولكنني أدركت أنه لا بد مخبر الأسرة بما يفعله التلميذ «المجتهد»، وقررت أن ألتزم الصمت، وألا أخوض في الموضوع أو أتعرض له، لا صدقا ولا كذبا، وعندما رن التليفون ذلك المساء، وسرت في المنزل الهمهمة المتوقعة تربصت أنظر ما أفعل، ولكن العاصفة مرت بسلام، وكان الصمت الذي عوملت به أبلغ من كل صراخ أو غضب.
وعندما عقدت وزارة التعليم، التي كان على رأسها كمال الدين حسين، مسابقة بين تلاميذ المدراس على مستوى الجمهورية في كتاب «فلسفة الثورة» من تأليف جمال عبد الناصر، كان النظام هو أن يعقد امتحان على مستوى المدرسة لاختيار الثلاثة الأوائل لدخول مسابقة المنطقة، ثم التصفية النهائية. وكان ترتيبي الأول في المدرسة، ولكن امتحان المنطقة كان مخيبا للآمال؛ إذ كان المصححون من خارج الوزارة، وكان «مجلس قيادة الثورة» هو الذي أعد نماذج الإجابات، وقد أخطأت دون أن أدري خطأ فاحشا حين ذكرت أفضال محمد علي باشا على مصر الحديثة، وكان ذلك كفيلا باستبعاد ورقتي من الامتحان؛ إذ كان الممتحنون يعتبرونه خطأ قاتلا. ولكن أحد أبناء المدرسة فاز بمركز متقدم وهو أحمد علي حسن، وفاز بالمركز الرابع على مستوى الجمهورية، ففاز بمبلغ خمسة عشر جنيها ونزهة نيلية للأوائل مع الوزير نفسه.
انتهى العام الدراسي، وتقدمنا إلى مكتب التنسيق الذي كان قد أنشئ في العام السابق، رغم إصرار والدي أن أدخل كلية الشرطة، وبرغم «الواسطة» العليا التي استعنا بها، لم أقبل بعد أن اجتزت جميع الاختبارات، فيما كان يسمى بكشف «الهيئة». وما زلت أذكر رئيس اللجنة وهو يقول لي: إن درجاتك في العربية والإنجليزية أعلى من المعتاد .. هل أنت واثق أنك تريد أن تصبح ضابط شرطة؟ وأجبت بالإيجاب، فأردف قائلا: ولكنني سمعت أن والدك يريد إجبارك على ذلك؟ ويبدو أنني تلعثمت فقال لي: «شكرا .. اتفضل.» ولم أخبر والدي أبدا بما حدث؛ إذ يبدو أن «الواسطة» قد «ذكرت» الحقيقة لرئيس اللجنة، فكان ما كان!
في أعماقي كنت سعيدا، بل كنت بالغ السعادة. وكان أحد مصادر السحر يكمن في الزي الرسمي للشرطة، وكان سحر زي طلبة «كلية البوليس» كما كانت تسمى، يتمثل في إقبال الفتيات على لابسيه، مما أحزنني بعض الشيء، ولكنني عندما التحقت بكلية الآداب، وشاهدت الجميلات وحادثتهن، نسيت كل سحر للزي الرسمي، وبدأت مرحلة جديدة حافلة عاصفة في حياتي الأدبية.
3
كانت أول ريح هبت لتثير الموج في أعماقي هي قصائد «شلي»! كان الكتاب «المقرر» هو «الكنز الذهبي» الذي جمع فيه بولجريف قصائد تمثل أذواق العصر الفكتوري، وهي قصائد في جوهرها رومانسية، ونصيب الكلاسيكيين فيه محدود. وكان لدينا أستاذ اسمه الدكتور شوقي السكري، كان قد عاد لتوه من بريطانيا حيث حصل على الدكتوراه في شعر وليم موريس، الشاعر الفكتوري، الذي اشتهر بأفكاره الاجتماعية أكثر من براعته الفنية. وكان د. شوقي لا يقول كلاما كثيرا عن الشعر نفسه، بل كان يلقيه إلقاء جميلا فيسحرنا به، وجعل يلقي القصيدة من بعد القصيدة ونحن لا نفهم إلا قليلا . ومن ثم عكفت على قراءة القصائد بنفسي، وكنت أستيقظ في الفجر كما كنا نفعل في رشيد، لكنني لم يكن علي أن أذهب كل يوم في نفس الموعد إلى الجامعة؛ ولذلك اعتدت (ولازمتني هذه العادة حتى اليوم) أن أقرأ ما أريد تفهمه بعد صلاة الفجر، ويوما بعد يوم وجدتني أرى في «شلي» الشاعر المثالي، بل وجدتني أقول ذات يوم لأحد الأصدقاء: «هذا هو الشعر!»
وسرعان ما أفسد علينا المدرس متعة القراءة والتذوق بأن «قرر» علينا كتابا يصدر في ملازم عن الشعر الإنجليزي، يتضمن البحور، والأشكال البلاغية، وتاريخا موجزا للشعر الإنجليزي، ثم فقرات محددة من كتاب «موجز تاريخ الأدب الإنجليزي» من تأليف أيفور-إيفانز (وهو من ويلز). وكان عدد أشكال المجاز ستا وثلاثين، مع شروح لها وأمثلة عليها، حفظتها كلها، ثم نسيتها، وعدت إلى الشعر! مفتاح الشعر هو الإنسان والطبيعة إذن! وفي نوفمبر كتبت أبياتا أحاكي فيها فن شلي:
أواه يا ورق الخريف!
يا مهبط الوحي الرهيف!
أي النسائم أنطقت فيك الحفيف؟
أي الغصون رمتك يا ورقي الأليف؟
هل أنت مثلي أعجف البنيان مقرور الكيان؟
هل أنت مثلي عاجز الألحان معقود اللسان؟
ونظرت إلى الأبيات في دهشة، وربما لم أدرك كل الإدراك أنني أخرج بهذا اللون من التأليف، غير المنتظم في عدد التفعيلات، عن عمود الشعر العربي، ولكنها كانت أبياتا ذات وقع يرضي أذني، ثم نظرت فيها ثانيا فلم أجد الصدق الذي أوصاني أستاذ اللغة العربية به، ولم أجد نظاما محكما للقافية، فتوقفت. وعندما عرضت الأبيات على صديقي أحمد السودة لقيت منه كثيرا من التشجيع. كان قد التحق بكلية الحقوق ولكننا ازددنا قربا، وتوثقت علاقتنا، وكنا (وما زلنا) نتزاور ونتبادل الكتب، وإذ ذاك ألمح لي أنني أفعل في شعري ما افتقده العقاد في شعر شوقي - وكان يعني الصدق طبعا! هل أنا صادق إذن؟
كان الدكتور عبد العزيز الأهواني (رحمه الله) هو الذي يدرس لنا مادة اللغة العربية، وكان الموضوع هو «الشعر المعاصر»، وقد بهرتني قدرته على الحديث في موضوعه مباشرة ودون «إنشاء » ساعة متواصلة، هي طول المحاضرة، بالفصحى التامة السليمة، وبهرني وضوحه ودقة تعبيره. لم يكن يحمل كتبا، بل كان يضع يديه أمامه على منضدة الأستاذ ويتكلم! وتمنيت في أعماقي أن أستطيع ذلك يوما ما، وقد حققت مأربي إلى حد ما عندما عدت من البعثة عام 1975م وبدأت أدرس مادة الشعر الإنجليزي، فلم أكن أحمل كتبا، وعندما طلبت مني الدكتورة فاطمة موسى، رئيس القسم آنذاك، أن ألقي محاضرة عن قصيدة المقدمة للشاعر وردزورث، وأعتقد أن ذلك كان عام 1977م، جلست نفس جلسته، وتحدثت بالإنجليزية حديثا متواصلا مستفيضا ساعة كاملة، فأوفيت الموضوع حقه بوضوح ودقة ما زال البعض يذكرونني بها، دون أن أدري أنني كنت أحاكي الدكتور الأهواني!
وذكر لنا الدكتور الأهواني كتابا للعقاد عنوانه «شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي» باعتباره من المراجع المهمة، وسرعان ما اشتريته وقرأته، ولكنني أحسست أن العقاد يتجنى على شوقي. كيف يقطع الإنسان بأن شاعرا ما كاذب أو صادق في شعره؟ هل فنون الصنعة تنفي الصدق؟ وهل كان المتنبي أكبر الكذابين؟ ما المعيار؟
ودرسنا الرواية الطويلة المكتوبة نثرا، ودرسنا مسرحيتين لشكسبير، وكثيرا ما كنت أتألم من صعوبة اللغة القديمة، فكانت عملية القراءة ذاتها مرهقة مضنية، وسمعت أن جامعة عين شمس (الجديدة) تتبع منهجا مختلفا؛ إذ يدرس الطلبة اللغة المعاصرة أولا فإذا أحكموا معرفتها تحولوا إلى اللغة القديمة، وأحسست بحسد دفين، لكن ما السبيل إلى الاعتراض؟ وكان امتحان الفصل الدراسي الأول في مواد التخصص الرئيسية وهي الرواية والدراما والشعر، واللغة العربية. وعندما جاء موعد الفصل الدراسي الثاني كنت أحس أنني لا أريد الاستمرار! ولكن الدكتور رشاد رشدي كان قد عاد من أمريكا بعد منحة دراسية لمدة عام؛ للاطلاع على مذاهب النقد الحديث، وبدأ يعلمنا هذه المذاهب بأسلوب مبسط ساحر، فأنساني هموم الفصل الأول، وهموم اللغة القديمة، ومع أنه لم يكن وسيما بالمعنى المفهوم فقد كانت لديه قوة اجتذاب الجنس الآخر، ربما بسبب سلاسة منطقه وطاقته على الإقناع، وكان صبورا هادئ الأعصاب وذا حنكة في التعامل مع الناس لا يجاريه فيها أحد!
وكان ذلك دافعا لي على الاستمرار، خصوصا أننا أصبحنا شبه متفرغين لمادة النقد الأدبي، فالمواد الأخرى جميعا يسيرة (اللغة الفرنسية، واللغة اللاتينية، والمقال والنحو، وأعمال السنة). وكان في السنة الرابعة آنذاك تلميذ نابه هو أحمد مختار الجمال (دمياطي)، وقرر أن يصدر مجلة حائط لقسم اللغة الإنجليزية أسماها «أضواء» (وكنت أعاونه في كتابتها ونشر كاريكاتير من رسمي أنا في كل عدد)، بإشراف الدكتور شوقي السكري وكانت الرحلات شبه أسبوعية؛ إما إلى الأهرام أو القناطر الخيرية أو إلى الإسماعيلية - بقيادة شوقي السكري أيضا، وكان نادي الخريجين المصري (الذي أنشأه خريجو قسم اللغة الإنجليزية الأوائل) يمارس أنشطة علمية وثقافية - برئاسة شوقي السكري كذلك، واتضح لي فيما بعد أن شوقي السكري كان قد عاد من البعثة في الوقت الذي سافر فيه رشاد رشدي إلى أمريكا الذي كان رئيسا للقسم (أو قائما بأعمال رئيس القسم؛ لأنه كان أستاذا مساعدا)، فانتهز شوقي الفرصة، وعمل على اجتذاب أكبر عدد من الطلبة إليه، والقيام بأكبر قدر من «النشاط» تمهيدا لمنافسة رشاد رشدي وربما - إذا ترقى هو الآخر - لرئاسة القسم بدلا منه!
وكنا نسمع عن ذلك ولا نراه، ثم أعلن فريق التمثيل بالكلية عن اختيار بعض العناصر القادرة للعمل في حفل مسرحي كبير، وعقد أقطاب الفريق القديم امتحانا للجدد، وكان الأقطاب هم أحمد زكي (المخرج) الذي كان في السنة الرابعة بقسم الاجتماع، ومصطفى أبو حطب (رحمه الله)، وكان في الرابعة بالقسم الإنجليزي، وكلاهما على وشك التخرج من معهد الفنون المسرحية، ونبيلة سيد أحمد (3 إنجليزي) ونبيلة أندراوس (2 إنجليزي) ونوال راتب (2 إنجليزي). وتقدم للامتحان كثيرون رسبوا جميعا ومن بينهم حسين الشربيني (اجتماع) والضيف أحمد الضيف (رحمه الله) (تاريخ) وأنا! وكان المرحوم المأمون أبو شوشة طالبا منتسبا في قسم الإنجليزي، وكان يشاع أنه لا يزال طالبا في كلية العلوم، وأنه يرفض التخرج ؛ خشية توقف دخل كان يأتيه طالما كان طالبا فإذا تخرج انقطع. وفي أول اجتماع للفريق، كان يجلس إلى جانبي شاب نحيل عرفني بنفسه وحذرني من الاقتراب منه كي لا تصيبني «العدوى»، وسألته عن مرضه فقال إنه مرض القراءة! وكان اسمه يحيى عبد الله - رئيس قسم الدراسات اليونانية واللاتينية حاليا. وارتفعت صيحات الاحتجاج من الراسبين في امتحان التمثيل، فوعدنا أحمد زكي بأن «يشوف لنا أدوار»، ثم دخل رشاد رشدي وتحدث عن خطة الفرقة فقال إنه ترجم مسرحية «الزواج» من تأليف جوجول، وأعدها للتمثيل بالعامية المصرية، كما ترجم مسرحية «هرناني» لفيكتور هوجو، و«المفتش العام» لجوجول أيضا، وقال: اختاروا ما تريدون، وخرج.
واستقر الرأي على المسرحيتين الأولى والثانية، وبدأنا التدريبات، كانت الأولى بالعامية، والثانية بالفصحى، وكان المخرج هو كامل يوسف، من خريجي قسمنا، ويعمل مخرجا بالإذاعة. وكان يعاونه مخرج مساعد شاب اسمه يوسف مرزوق. وكان الموعد هو الثانية ظهرا كل يوم، للقراءة، ثم بعد أسبوعين تبدأ «الحركة»، ثم ننتقل إلى المسرح! وقضينا ثلاثة أسابيع في القراءة دون الاتفاق على منهج محدد في الأداء، فكان كامل يوسف يقول شيئا، فإذا غاب قال مساعده شيئا مختلفا، فإذا كنا دون مخرج قال أحمد زكي شيئا آخر تماما! وقال لنا أبو شوشة إن هذا أكثر مما يحتمل، والأفضل أن نتظاهر بالطاعة، ثم نفعل ما نريد على خشبة المسرح، ومن ثم دعا الفريق إلى السينما في صباح اليوم التالي، وكان الفيلم هو «ذهب مع الريح»، وكان طويلا، فلما عدنا كان كامل يوسف يرغي ويزبد، وهدد بالتوقف عن العمل! ووجه إليه أبو شوشة تهديدا مستترا ردا على ذلك، قائلا: قطعا لا تريدني أن أحل محلك الآن! وفهم كامل يوسف مرماه وعدنا للتجارب المسرحية.
وكانت تجربة وقوفي على المسرح (بعد تحذير عبد المنعم مدبولي) مخاطرة كبيرة. كما أنني لم أكن واثقا من منهج الأداء، وقبل الدخول إلى المسرح بحت لأبو شوشة بما كان يقلقني، وكان يلعب هو دور البطولة، فقال لي لا تقلق! جرب حركة جديدة وانتظر رد فعل الصالة، فإذا نجحت وسمعت الضحك أو التصفيق، (وكان الأول يسمى إفيه بتشديد الفاء والألف الممالة، والثاني يسمى سوكسيه) فالتزم بها طول العرض!
ولأول مرة في حياتي كنت أمارس الخروج على النص! لم أقل كلاما من عندي، ولكنني فعلت شيئا من عندي - شممت وردة وضعها أحد الخطاب في عروة السترة في مشهد يضم جميع الخطاب في منزل العروس! لم أكن أتصور أن هذا مضحك إلى هذا الحد، ولكني كنت أقاطع أحاديث الجميع وحركتهم بشم الوردة، وكانت النتيجة هي أنني كنت بمجرد دخولي إلى المسرح يصمت الجميع ترقبا لما سأفعل، وكنت في كل مرة أفعل شيئا مختلفا فتتصاعد ضحكاتهم ثم يصفقون! وعندما انتهى العرض ودخلت إلى المسرح لتحية الجمهور تأكد لي أن الجمهور كان سعيدا!
وفي نهاية الحفلة عدنا إلى غرفة الملابس، فاكتشفت «سرقة» ورقة مالية بعشرة قروش من جيبي، وأحسست بحزن شديد، لا لأنني لن أستطيع العودة في الأتوبيس إذ كان عندي اشتراك شهري، بل لأنني كنت وعدت أحد الأصدقاء بأن أدعوه إلى «تحية ما» بعد العرض! وذكرت ذلك لأبو شوشة فأعطاني ورقة مالية بخمسة قروش وفت بالغرض وانتهت الليلة. لم أنس شهامته أبدا، ولا أنسى رفضه أداء الدين، وقد زاد اقترابنا من بعضنا البعض، وكثرت لقاءاتنا حتى بعد أن عمل في الإذاعة في تقديم برنامج اسمه «صواريخ» حتى توفاه الله.
4
عندما كنا في الأورمان في العام السابق، كانت تقع أمام الفناء الخلفي للمدرسة عمارة من أربعة طوابق، وكان في الطابق الرابع فتاة من المحال رؤية ملامحها بوضوح؛ لبعد المسافة، وكانت تقف كثيرا في الشرفة أو النافذة وعيون الجميع معلقة بها، وكلهم يتصور أنها تعرفه وتعنيه بحركاتها، واقفة أو جالسة، فإذا لوحت بيدها، فكل منهم عاشق ولهان تلقى إشارة القبول. وقد نسج الطلبة حولها الأساطير، وعندما فاتحت نبيل رضا في الموضوع قال لي إنه هو المقصود بالإشارة، وأمن على كلامه ابن خالته علاء (الذي هاجر إلى ألمانيا)، ولكن أخاه الأكبر محمد اعترض، ومن ثم تركنا الموضوع دون حسم. وذات يوم كنت أزور يحيى يوسف (المستشار بمجلس الدولة حاليا) وانتهى موعد الزيارة لوصول أستاذ اللغة الفرنسية «يوحنا ويصا فلسطين» الذي كان مدرسا أول بالمدرسة، فخرجت بعد الغروب بقليل، وبدلا من أن أعود إلى المنزل سلكت شارع المدرسة، فلاحظت أن بعض راكبي الدراجات يحومون حول ذلك المنزل، وتصورت أنهم يتسابقون، ولكنني تعرفت على أحدهم، وهو زميل لنا اسمه وجيه صلاح الدين (أصبح لواء في الشرطة فيما بعد). ورغم عجبي ودهشتي تركت المكان لأتمتع برؤية الغروب في الحقول.
كان الموقف يذكرني بالمعلمات في مدرسة رشيد المقابلة لمنزلنا. ولكن عام خامسة أدبي لم يدع لي مجالا للتفكير في أي منهن، وكأنما غربت صورهن مع صور التلال والنخيل، وعندما التحقت بكلية الآداب ووجدت الزميلات يحادثنني دون خشية أو تردد، زالت مخاوفي من هذا الشيء الغامض، هذا الذي يتحدث عنه الشعراء وأحاكيهم فيه، وذلك السر الغريب الذي يقض مضجع إبراهيم كيرة! كنت دائما أرى نفسي مختلفا، ولم أشأ أن أكون مثل الجميع في هذا فأفكر في عيني فلانة وكلام علانة! ولكنني ذات صباح من أيام نوفمبر 1955م، أثناء درس من دروس الرواية، أحسست أن عينا ما تراقبني، فتلفت فإذا وجه صبوح، وإذا ببسمة صافية تنير الصباح! وابتسمت ردا على البسمة، كأنما أقر بأنني مثل الآخرين، وبأنني «يا هند من لحم ودم»!
لم يحدث شيء يدعو للابتسام. لم يكن في الدرس قطعا ما يدعو للفرح؛ فالدكتورة أنجيل بطرس سمعان تعدد أنواع الروايات وتحدد خصائص كل نوع، والدقة لازمة في رصد هذه الخصائص! فما الذي دعا الفتاة للابتسام؟ وما اسمها؟ وما هذا الزلزال الذي يهز كياني هزا فيمنعني من التفكير ومن الكتابة ومن الحركة! تجمدت دون أن أجرؤ على النظر ثانيا خشية أن أراها مقطبة. وقلت في نفسي لعلها أخطأت وكانت تبتسم لغيري، أو لعل بسمتها حركة لا إرادية لا معنى لها، أو لعلها لم تبتسم أصلا وكان ما رأيت وهما! وتظاهرت بالكتابة، واستغثت بالشعر فأبى واستعصم، وشعرت كأن سحابة هبطت على الكون من مكان لا أعرفه فاكتنفتني، ووددت لو أن لي أصدقاء أشكو إليهم حالي، وظللت في مكاني حتى انتهى الدرس وانصرف الجميع وأنا جامد ساكن.
وأهرعت إلى زميلي جلال نصيف الذي كان يعمل ليلا في شركة مقار ، ويأتي في الصباح إلى الجامعة، وكان وسيما وله شارب ويهوى الموسيقى مثلي، فقال لي «قاعد والا ماشي؟» وفي شبه ذهول قلت له أفكر في عبد الوهاب - وقال «بالمناسبة جبت لك نوتة «المماليك» - سيكا تركز على سي بيمول ...» ثم أخرج من حقيبته ورقة تتضمن نوتة موسيقية وأعطاها لي، وعرض علي الذهاب إلى البوفيه، ووجدتني أسير ذاهلا، وعندما جلسنا قلت له إنني أفكر في أغنية «مقادير»، فنظر إلي غير فاهم فقلت له المطلع:
مقادير من جفنيك حولن حاليا
فذقت الهوى من بعد ما كنت خاليا
نفذن علي اللب بالسهم مرسلا
وبالسحر مقضيا وباللحظ قاضيا
فضحك وقال: وهل هذه صعبة؟ وخفت حدة ذهولي وبعد قليل شكرته وانصرفت.
لم أكن في ذلك اليوم قادرا على الحديث مع أحد، كنت أسيرا لتلك البسمة، أحيانا أحس بتحليق لم أعهده في أجواء غريبة، وأحيانا تغمرني الفرحة، ثم أعود أناقش الموضوع، وذكرت ما قاله الأستاذ كمال نايل مدرس الفلسفة في المدرسة عن عذاب المحب الذي لا يستطيع أن يتذكر وجه المحبوب، وكان قد أعد رسالته للماجستير في علم النفس (بإشراف الدكتور يوسف مراد) بعنوان «الغرضية في السلوك الإنساني»، ولكنني كنت قادرا على استدعاء بسمتها في كل لحظة، بل كانت البسمة ثابتة لا تبارح خيالي. وتنبهت إلى أنني أناقش الأمر باعتباره لونا من الحب الذي يتحدث عنه الشعراء، وأن البيت الذي أتى بقصيدة شوقي هو «وما هو إلا العين بالعين تلتقي!» - وانثالت أبيات شوقي في ذهني:
ومن تضحك الدنيا إليه فيغترر
يمت كقتيل الغيد بالبسمات
وعدت إلى الشوقيات أرى فيها ما قاله العبقري الذي لم يعجب العقاد، دون أن يفتح علي الله ببيت واحد يناسب المقام!
أما ما حدث بعد ذلك فمألوف في هذه الحالات؛ إذ شاعت البسمات في قسمنا، وشاع تبادل الحديث، وبعد أن تعرفنا وتوثقت علاقات الزمالة زال السحر الذي أتى بمشاعر، أو أحيا مشاعر، لم تكن في الحسبان! كان الحال يختلف عن رشيد، فنحن نتحادث كل يوم، ونجلس في البوفيه لتناول الشاي والتعليق على الدروس، وإن كانت لحظة البسمة قد رسخت في نفسي إلى الأبد (على حد تعبير جيمس جويس).
وعندما عدنا إلى رشيد في الصيف، أحسست بأنني كبرت عشرين عاما! لم أكن قد تجاوزت السادسة عشرة إلا بشهور، ولكنني كنت أشعر أنني قد تجاوزت سن الرشد، وبلغت مبلغ الرجال وتجاوزته! وكان الزملاء يسألونني عن القاهرة فلا أقول الكثير، بل كنت أفضل الاستماع. وذات يوم قص علي أحد «الإخوان» السابقين قصة إدراكه معنى الحب، فقال إنه كان يسكن في الطابق الأرضي بإحدى العمارات بالإسكندرية، وكان يتبادل النظرات مع فتاة في الطابق الأعلى (الأخير) وكانا كثيرا ما يتبادلان التحية دون أمل في اللقاء، أو أمل في علاقة؛ فهو تلميذ ريفي فقير في كلية الزراعة، ومصيره إلى الحقل مع والده وإخوته، وهي ابنة صاحب العمارة، حديثة الملبس والكلام (ألافرانكه)، وذات يوم دعته إلى الصعود إليها في المساء، فقلت له مداعبا: «سعيت إليها بعدما نام أهلها» ولم يفطن إلى مصدر بيت الشعر فرد بحماس: «لأ .. كانوا صاحيين!» - «أكمل»! فقال إنه عندما وصل إلى الطابق السادس شعر بخفقان شديد في قلبه، وبحرارة ورجفة، فقال: «هذا هو الحب!» وكان من العبث إقناعه بأن هذه المظاهر لها أسباب أخرى غير الحب، ولكنه أكد لي أنه الحب، وأنه استعاذ بالله من الشيطان الرجيم، ونزل مسرعا خوفا من الحب!
كان معظم زملائي في المدرسة الرشيدية قد سبقوني بعام إلى الجامعة، وكانوا جميعا في الإسكندرية، فجعل كل منهم يحكي عن أحوال الدراسة والحياة بعيدا عن رشيد، وكان معظمهم من الأوائل، خصوصا أحمد قادوم الذي كان يحصل على تقدير ممتاز في جميع المواد في زراعة الإسكندرية، وكنا نضحك من عدم اهتمامه بالمعلومات العامة، وكان يسر إلي أنه ما زال على عهده لا يقرأ الصحف ولا يستمع إلى الراديو ولا يخرج، وأن هؤلاء ضالون إذ يضيعون أوقاتهم فيما لا يسمن ولا يغني من جوع. وسألت عن بعض الزملاء الذين لم يوفقوا في دراستهم فعلمت أنهم تركوا رشيد إلى العمل في الإسكندرية، وعلم معظمهم في شركة مياه الإسكندرية ؛ لأن رئيس مجلس الإدارة كان من أسرة مرزوق في رشيد، وكان يعطف على أبناء البلد.
وفي الصيف شهدت أول حادثة قتل في حياتي. كان أحد القفاصين واسمه «ريشة» موتورا من بائع كتاكيت (فراريج) اسمه «الزربون»، وكان «الزربون» يطوف راكبا حماره، وعلى الجنبين قفصان فيهما الكتاكيت، وينادي «الملاح ياللي تربي الملاح!» في طول رشيد وعرضها، ويبدو أن خلافا ما وقع بين بائع أقفاص (هو أبو ريشة) وبين الزربون فقرر ابنه «ريشة» الانتقام. وذات يوم أثناء دخول سينما رشيد في الدرجة الثالثة، وأثناء الزحام قام ريشة بطعن الزربون بمدية أو بسكين، وكنا أنا والأصدقاء نرقب المشهد، وعلى الفور أسرع الجميع بالمصاب إلى المستشفى، وبالمعتدي إلى سجن المركز. كانت الطعنة نافذة، وكان الصراخ شديدا، وجاء الفلاحون من وراء الكثبان الرملية ليشهدوا ما حدث، ولإبلاغ الأسرتين.
وفي الصباح ذهبنا إلى المركز فسمعنا عجبا! لقد جاء والد المعتدي بعيد القبض عليه ومعه «عزوة» (أبناء وعدد من القفاصين) ودخلوا ساحة المركز، وأتى والد بابنه ولامه لوما شديدا على رعونته، وعلى ما أبداه من طيش، وصرخ في الشاويش النبطشي (النوبتجي) قائلا: «ده ابني! وأنا اللي أربيه! إذا كان غلط يبقى أنا اللي أعلمه الأدب! يالله ع الدار يا ولد! وقعتك سودة!» وجر ابنه بين ذهول الحاضرين (كان الضابط غائبا ليلة الخميس) وانطلق الجميع بالولد خارج السجن!
ولكن أين ريشة؟ وجاءت الإجابة: أبوه يرفض تسليمه، وقال أحد الموجودين «أصل الزربون فيه نفس، وعملوا له عملية، والشاويش خايف يروح للبيه الضابط البيت يصحيه!» وانصرفنا بين مصدق ومكذب، وعلمنا بعد الظهر أنه كان في الإسكندرية كعادته في «الويك إند» (!) إذ نادرا ما يحدث ما يستدعي بقاءه في رشيد، وعندما جاء يوم السبت ألقى الضابط بنفسه القبض على ريشة (وكان الزربون قد توفي) وقام بترحيله بنفسه إلى الإسكندرية!
كان صيف 1956م ساخنا، بعد تأميم شركة قناة السويس، ولكن الناس في رشيد وكنا في سبتمبر، كانوا ما يزالون يعيشون في حياتهم بعيدا عن الأحداث العامة. وأذكر أننا كنا وزملائي نتنزه في الطريق الزراعي بين كثبان الرمال فشهدت كوكب المريخ بلونه الأحمر القاني يميل للغروب، وكنت أحب الفلك حبا جما، فقلت لهم إن هناك أسطورة تقول إنه كلما اقترب كوكب المريخ في فلكه البيضاوي من الأرض تقوم الحروب؛ ولذلك أسماه اليونان مارس إله الحرب! وأن ذلك يحدث كل 11 سنة، وأنه الآن في أقرب نقطة إلى الأرض، ووقفنا نتأمل الكوكب الأحمر، فالجو الصافي في رشيد يساعد على رؤية الكواكب والنجوم بوضوح، وضحك أحدنا قائلا: معنى هذا أن تحدث حرب عام 1956م .. وعام 1967؟ ولم أقل شيئا، وانصرفنا، ثم عدت إلى القاهرة.
5
تخرج أحمد مختار الجمال، وعمل بالخارجية، وأورثني مجلة الحائط «أضواء». كانت تتكون من ثلاث صفحات فولسكاب متوازية، وينشر فيها كل ما يهم طلبة القسم ولكن باللغة العربية، وكانت تصدر أي تعلق صباح الإثنين، وكانت تنشر أيضا بعض الإنتاج الأدبي من شعر وقصص، إلى جانب الكاريكاتير الذي كنت أحتكر رسمه. ومن خلالها عرفت طلبة القسم في السنوات السابقة واللاحقة، وكنت أنشر صورهم وأخبارهم (من سافر ومن تزوجت!) ثم كون زميل عزيز لي اسمه ناجي رياض أول أسرة من نوعها، وأسماها «سراباند»، وكان رائدها هو الدكتور سعد جمال الدين، وكانت الأسرة تقوم برحلات وتقيم حفلات، كانوا يسمونها حفلات السمر آنذاك، ولكننا لم نكد نبدأ حتى وقع العدوان الثلاثي على مصر. والغريب أن الدراسة لم تتعطل إلا فترة محدودة، بينما اندفع كثير منا إلى التطوع، وكان مركز التجنيد في المدينة الجامعية، وكان التصنيف يستند إلى المعرفة السابقة بحمل السلاح، ولما كنت ممن سبق لهم التدريب في رشيد وفي الأورمان، فقد أتممت الإجراءات بسرعة، وتلقيت بندقية «لي أنفيلد» عتيقة الطراز، وبعد يومين فهمت أن الهدف هو الدفاع المدني لا الحرب، وفي اليوم الثالث، سرحوا الجميع!
وانطلقت أهيم على وجهي كل يوم في شوارع القاهرة، ملتهب الحماس متقد المشاعر ، ولكن الناس كانت هادئة تعيش حياتها اليومية، دون تغيير يذكر باستثناء صوت جلال معوض وهو يذيع البيانات العسكرية، وأم كلثوم وهي تقول «والله زمان يا سلاحي» ونشيد «الله أكبر»! وكان من أبناء خئولة نبيل رضا شاب رقيق اسمه عز الدين فهمي عبد الخالق، وكثيرا ما كنت أزوره في المنزل أو أتجه معه إلى معهد الموسيقى العربية، وقلت له إنني أريد أن أشتري عودا، فقد برح بي الشوق إلى الموسيقى. فقال إنه يعرف صديقا اسمه مدحت الرشيدي، وإن أباه يملك دكانا لبيع الآلات الموسيقية، ولعله يساعدنا. لم يكن معي سوى جنيه ونصف جنيه اقتصدتها من مصروفي. فذهبنا إلى شارع محمد علي حيث الدكان، ولكن مدحت قال إن أرخص عود بثلاثة جنيهات، وكذلك قال جميل جورجي، ومن ثم اتجهنا إلى محل لا نعرف له وصفا بسبب ما ترك الدهر عليه من آثار البلى ولم نكن على ثقة إن كان مفتوحا أم مغلقا. وطرقنا الباب، وانتظرنا، وطرقنا ثانيا، وأخيرا فتحه رجل هرم، لا شك أنه كان مريضا، فرحب بنا، وذكرنا له حاجتنا فرحب وقال اختاروا ما شئتم. وتناولت عودا عاطلا من الزخرفة والزينة فضبطت الأوتار وهو يرمقني، ثم بدأت أعزف التقاسيم التي أستعين بها في ضبط الأوتار، وهي مقدمة فريد الأطرش (القديمة) لأغنية «أول همسة»، وكانت ويا للعجب من مقام الكرد مع أن الأغنية نهاوند! وسألنا محمود علي (وكان هذا هو الاسم الموجود على لافتة المحل) عن ثمنه فقال ثلاثة جنيهات. واحتج عز بأن العود عاطل فقير، فقال: لن تجدا ما هو أرخص من ذلك. وغلبني الحزن ولكنني مضيت في العزف، فغيرت المقام إلى الحجاز فاحتج قائلا «خليك في الكرد!» وعدت إلى الكرد وظللت أعزف وعز يسمع ويرقب وجه الرجل الذي كان خاليا من أي تعبير، ثم نهض عز، وأومأ إلي أن هيا بنا، وعندها قال الرجل: عشان خاطركم باتنين جنيه. وقلت له يا عم محمود! أنا قبلت، ولكن كل ما في جيبي هو جنيه ونصف، وأعدك أن آتيك بالنصف الباقي حالما يتيسر لي! وغمغم الرجل، لكنه لم يتكلم، ومد يده فوضعت فيها النقود، وخرجنا ونحن نعجب منه. وعندما دارت الأيام وذهبت أسدد الباقي كان المحل مغلقا فسألت أهل الحي فقالوا لي «تعيش انت!» فقصصت عليهم القصة، فقالوا أعط النقود لأرملة المرحوم «حسن أتله» الممثل البدين، وهي تتولى توصيل المبلغ إلى مستحقيه، وفعلت ذلك.
وكان «حضور» العود إلى المنزل حدثا ذا مذاق فريد؛ فقد أحيا في نفسي احتضان عبد الوهاب للعود في فيلم «يوم سعيد»، وبكاءه عليه في «يحيا الحب»، وكان ما ارتبط بالعود في خيالي من ألحان الشعراء وعالمها السحري، فكان ملاذي وجنتي، وبدأت أتردد على عز في منزله القريب من منزلي ليساعدني في فك طلاسم الموسيقى الشرقية، وكان يدرس آلة الكمان، فكنا أحيانا نعزف معا أو نناقش إمكانية «تصوير» بعض الألحان؛ أي عزفها من مكان آخر لتناسب صوت المغني، والصعوبات الناشئة عن التصوير، خصوصا مقام «البيات»، أما عندما كنت أذهب إلى المعهد، فكنت مثل الذي دخل بنفسه إلى عالم خيالي لا يدري إن كان يستطيع تصديقه أم تكذيبه.
رأيت «أنور منسي» عازف الكمان الأشهر، الذي يعزف مقدمة أغنية «الفن» والذي ظهر في فيلم «غزل البنات» وهو يعزف «الصولو» في أغنية «ماليش أمل». وذات يوم ونحن جالسان في «البوفيه» دخلت أم كلثوم! كنت كمن شاهد آية من عند الله سبحانه وتعالى! تلفتت ثم حادثت أحدهم وخرجت، وتهامس الموجودون: البروفة! وجمدت في مكاني حتى أومأ إلي عز أن «قم!» فنهضنا واسترقنا السمع إلى بروفة الأغنية الجديدة، وكان في الفرقة سبعة عشر عازفا للكمان، وصوت أم كلثوم يطغى عليهم جميعا!
كان الليل لا يكفي للشعر والموسيقى، والنهار يضيق بدروس اللغة الإنجليزية! كان للمجلس البريطاني مقر في شارع عدلي، وكنت أتردد على المكتبة فأنقل آراء النقاد الإنجليز في الروايات التي أدرسها في كشاكيل ضخمة. وأظل في المكتبة حتى موعد الإغلاق ثم أذهب إلى المعهد، ثم أعود في ساعة متأخرة فأصحو في الفجر! وبدأت اللغة الإنجليزية تكشف أسرارها لي، فلم أعد أعاني من الصعوبة القديمة في الكتابة، ثم دخل إلينا الفصل ذات يوم أستاذ عاد لتوه من إنجلترا هو المرحوم الدكتور محمود ماهر الذي انتهى نهاية فاجعة لا بد لي من روايتها!
كان الدكتور ماهر يدرس لنا مادة الدراما، وكنت مبهورا بهذه المادة؛ إذ كنا تخطينا «المقدمات» وبدأنا الغوص في دراما القرنين السادس عشر والسابع عشر، وكان يقدس «ألاردايس نيكول» الباحث البريطاني في الدراما، ويبدو في سلوكه وكلامه غائبا عن العالم المعاصر، مستغرقا فيما يقرأ وفي أفكاره، وكانت له أحيانا ملاحظات تفيض بالمرارة ويصعب تفسيرها. سأله أحدنا ذات يوم عن «هامليت» وكيف يمكن أن يكون والد «هامليت» عالما بخيانة زوجته له مع «كلوديوس» (عم هامليت)، وكيف يقول إنها ضالعة مع عشيقها في قتل زوجها؟ وأردف السائل: الأرجح أنه كان يجهل ذلك، إذا كان حدث، وإلا لكان قد وضع حدا لتلك العلاقة الآثمة! وضحك الدكتور ماهر ضحكة فيها ألم، وقال بإنجليزية رفيعة: «وكم من زوج يعرف ويسكت! ماذا عساه فاعل؟ خصوصا إذا كان يحب زوجته ويكره فراقها!» وعندما حاول السائل الاعتراض هب فيه الأستاذ صائحا: وماذا تعرف أنت عن ذلك؟ انتظر حتى تتزوج امرأة جميلة تحبها، وسوف تصبر في ألم!
وعلمنا بعد ذلك أن الأستاذ يسكن في فيلا خاصة في مصر الجديدة، مع زوجة إنجليزية شغفته حبا، وأنه يغار عليها ويحمل مسدسا يهدد به من يقترب من الفيلا. وتحققنا من موضوع المسدس حين اقتحم الأستاذ غرفة الدكتور محمد يس العيوطي رحمه الله، وكان أستاذا مساعدا آنذاك، وقال له: أنا متخصص في دراما القرنين السادس عشر والسابع عشر، وإن لم تترك أنت تلك المادة حتى أدرس أنا ما تخصصت فيه، فسوف أعرف كيف أنتقم منك! وحينما أجابه الدكتور العيوطي بأنه (أي ماهر) ما زال مدرسا وتكفيه مناهج السنة الأولى والثانية، أخرج د. ماهر المسدس وقال له: «إذن نتخلص منك!» وذهل العيوطي وانعقد لسانه خوفا ودهشة، وقال له: «درس ما شئت!»
وعندما علم العميد الدكتور عز الدين فريد بالقصة استدعى الدكتور رشاد رشدي رئيس القسم، وتباحثا فيما يمكن اتخاذه من إجراءات لتفادي أخطار المسدس، ولكن الأيام التالية أتت بأخبار جديدة، أرويها طبقا لما نشر في صحيفة الأهرام على لسان العميد. يبدو أن بستانيا - يعمل في حديقة الدكتور ماهر - كان من عادته إطالة الوقوف عند حوض زهور معين بالقرب من شباك الزوجة الإنجليزية، وسواء كانت إطالة المكث بسبب الطبيعة الخاصة للزهور أم لأسباب أخرى، فقد أثار ذلك غضب د. ماهر ودفعه إلى تقريع البستاني. وكان للبستاني أخ يصغره بعدة أعوام يساعده في المهام الصغيرة، فعندما سمع الصغير الإهانات الموجهة إلى أخيه أهرع قادما ليسأل ففاجأه د. ماهر بسباب أهدر كرامته، وهو قبطي من صعيد مصر يأبى الضيم، فهجم عليه فأخرج ماهر المسدس وأطلقه عليه فأرداه قتيلا! وعندها فر الأخ الأكبر وماهر خلفه يطلق الرصاص حتى نفد رصاص المسدس، فتحول من المطاردة إلى الفرار، ولكن البستاني أدركه وثأر لمقتل أخيه فورا. رحم الله د. ماهر.
ومع بداية الفصل الدراسي الثاني، وكانت القوات المعتدية قد رحلت، وانجلت الغمة، تبارى الشعراء في وصف الانتصار الذي أحرزه الشعب المصري بقيادة الجيش المصري الذي انسحب انسحابا تكتيكيا من سيناء، وغنت أم كلثوم «صوت السلام»، وبرزت لأول مرة روح القومية العربية التي ألهبها الزعيم الخالد، وتضامن سوريا مع مصر الذي تمثل في قيام عبد الحميد السراج بتفجير محطة تصدير البترول إلى الغرب، وتردد الحديث عن تحول بريطانيا وفرنسا إلى دول من الدرجة الثانية، وسطوع نجم الاتحاد السوفيتي وأمريكا، ودورهما الحاسم في وقف العدوان الثلاثي، وغضب أيزنهاور الرئيس الأمريكي، وإنذار بولجانين الرئيس السوفيتي بضرب بريطانيا وفرنسا بالصواريخ. كان العالم - أو صورة العالم بعد الحرب العالمية الثانية - في تغير مستمر، وكان تركيز الأنظار على مصر يزيد من تعميق الوعي بالانتماء الوطني والقومي، واشترك الفنانون في عدة أغان لحنها عبد الوهاب وشارك في الغناء فيها، وبدا أن عصرا جديدا قد بدأ يغرب، وأن أضواء عصر جديد تلوح في الأفق.
وسرعان ما استؤنفت العلاقات مع بريطانيا، ورحل عدد من الأساتذة إلى إنجلترا؛ للحصول على الدكتوراه، فاضطر رئيس القسم إلى انتداب عدد كبير من خارج الكلية للتدريس فيها، ولم يكن قد بقي من الأجانب في القسم إلا مستر كروفورد الأيرلندي أستاذ اللغة اللاتينية، ومستر فيرهايدن الهولندي أستاذ مادة الحضارة، وكان الباقون إما من الكبار (رشاد رشدي، ومحمد يس العيوطي، وأمين روفائيل، وشوقي السكري) أو من مدرسي اللغة الإنجليزية الذين كانوا ينتدبون من المدارس الثانوية للمشاركة في التدريس. ولكن الكلية كانت قد قررت إقامة حفل ضخم في ختام العام الدراسي تقدم فيه مسرحية من تأليف ستانلي هوتون وعنوانها «الراحل العزيز»، وعهد جمال حمدي - الطالب بقسم الصحافة - إلى قسم اللغة الإنجليزية بإعدادها، وكان من نصيبي أن أتولى الترجمة والإعداد، وبدلا من أن أترجمها إلى الفصحى ترجمتها إلى العامية مباشرة حتى يسهل إعدادها، ولكنني ما إن عرضت الترجمة على المخرج «عثمان بدران» حتى اعتبرها إعدادا؛ ومن ثم بدأت التدريبات المسرحية!
وعهدت إلي الكلية بتولي أمر الفرقة الموسيقية، فأهرعت إلى عز، فصاح دون تردد: «رفعت!» ثم أوضح لي أن عددا من طلبة المعهد قد كونوا فرقة فيها مجموعة لا بأس بها؛ مثل هيكل عازف الكمان الموهوب (عميد المعهد بأكاديمية الفنون حاليا)، وبسيوني عازف القانون، واثنان من عازفي العود هما ممدوح الذي يشبه فريد الأطرش (في صوته وعزفه وشكله، بل وفي قصره)، وحلمي بكر المطرب الذي يماثل عبد الحليم حافظ (الذي أصبح ملحنا شهيرا)، وكمال عازف العود الماهر، وعدد كبير من عازفي الكمان؛ على رأسهم «رفعت» نفسه وعز الدين فهمي! وفرحت بهذا الترتيب، وقلت له إن الكلية قد رصدت مبلغ خمسة عشر جنيها أجرا للفرقة، فانهمك في توزيع الأجور بين الطبال والزمار والمغني، ثم تواعدنا على اللقاء في المعهد.
وفي المعهد دار النقاش حول موضوع الهواية والاحتراف؛ لأن بزوغ نجم عبد الحليم حافظ وكثرة عدد من يقلدونه، أو من يقلدون معاصريه من الناشئين مثل عبد اللطيف التلباني ومحرم فؤاد وماهر العطار، على تميز كل منهم وتفرده، جعل الساحة تموج بل تغص بالمحترفين؛ فبعد أن كان محمد الموجي وكمال الطويل يحتكران التلحين لعبد الحليم، ظهر لهما منافس قوي هو بليغ حمدي الذي بدأ بمحاكاة عبد الوهاب خصوصا في استخدام الألحان المبسطة، ثم استقل عنه، وبدأ يهجر الغناء ويركز في التلحين، مما دفع إلى الظل بعباقرة الموسيقى الشرقية القدماء محمد القصبجي وزكريا أحمد وتلاميذهما النجباء مثل محمود الشريف وأحمد صدقي، وامتد النقاش، وتردد اسم فايزة أحمد، المطربة السورية التي لمعت فور اشتغالها بالغناء، ووردة الجزائرية التي تنبأ لها البعض بمنافسة أم كلثوم، وباختصار كان الموقف، على حد تعبير رفعت «يتطلب الاحتراف»! وكانت النتيجة رفض التعامل مع الكلية إلا إذا رفعت الأجر إلى مستوى الاحتراف، وهو أربعون جنيها بالتمام والكمال!
وأبلغت العميد الدكتور عز الدين فريد فوافق! وعقدت الحفلة في مسرح كلية التجارة، وكان من المشاركين مطرب ناشئ اسمه أحمد سامي (لم يكتب له أن يحقق الشهرة) وآخر اسمه محمد عليش، لم يكن حظه أفضل، ولكن الحفل كان فرصة للتعرف على «شباب» الوسط الموسيقي، واكتساب معرفة أوسع نطاقا بالأصوات المتاحة، وكانت لدينا في أحد أقسام الكلية طالبة ذات عيون خضراء وصوت رخيم اسمها «فتحية» تفكر في ممارسة الغناء، وكان وجهها صبوحا وأداؤها عميقا مؤثرا، ولكنها رأت إصرار الجميع على أن السبيل الأوحد هو الاحتراف، فترددت ثم سألتني، فكان لا بد أن أعلن تأييدي لرأي الأغلبية، وكان مما قالته إنهم يريدون أن يغيروا اسمها! وهذا أمر لا يمكن أن يقبله أهلها المتحفظون أو المحافظون، وكان ذلك هو ما حسم الأمر وأقنعها بالعدول عن احتراف الغناء.
وكانت نتائج هذا العام الدراسي أفضل كثيرا من نتائج العام السابق، فاطمأنت الأسرة، وتركتني وذهبت إلى رشيد، ومكثت مع والدي وحدنا في القاهرة، وكنت أقضي وقتا طويلا مع أحمد السودة الذي كان دائما ما يدعوني إلى مشاهدة الأفلام التاريخية والأدبية ودور السينما الصيفية، ويتولى هو دائما دفع كل شيء؛ من ثمن التذاكر إلى الساندوتشات والكوكاكولا، كما كان يفعل في المدرسة، معي ومع غيري من الطلبة، فقد كان (وما يزال) يتميز بالسخاء الفياض، وكانت تلك خصيصة أثرت في أكبر تأثير؛ إذ أدركت أن كرم النفس وراء كرم اليد، وأصبحت أقيس كرم النفس بمدى الاستعداد للعطاء واحتقار حطام الدنيا، ولم يكن أحمد السودة أغنى طالب في الفصل؛ فقد كان هناك قطعا من هم من أسرات مماثلة في الغنى والعراقة ، ولكنه كان يتميز بما يسميه الإنجليز بالروح العالية، وهو شيء أنظر حولي هذه الأيام فلا أجده عند الكثيرين، ولا أنسى موقفه ذات يوم عندما اشتريت حلوى من بائع في شارع سليمان بوسط البلد، وظننت أن البائع أخطأ في الحساب فأعطاني نصف قرش فوق الحساب فصاح أحمد: «ده راجل غلبان .. رجعه له.» وفعلت، مما ذكرني بمواقف والدتي في طفولتي.
6
ومع بداية العام الدراسي 1957-1958م اختلفت صورة الكلية؛ إذ عاد اثنان من الأساتذة بالدكتوراه من إنجلترا؛ هما مجدي وهبة وفاطمة موسى. وكان مجدي وهبة يدرس لنا عدة مواد منها الشعر، ولكنه كان ذا رؤية ثقافية جديدة تدفعه إلى إقامة الجسور مع الأدب العربي واللغة القومية، فكان يحترم الترجمة ويؤمن بأنها من الجسور التي لا بد من إقامتها بين الأدبين العربي والإنجليزي، وكان يتحدث بلغة إنجليزية رفيعة وبلهجة راقية يسمونها لهجة جامعة أكسفورد، ومع ذلك فقد كان لا يجد عيبا في كتابة كلمة بالعربية على السبورة إذا لزم الأمر، أو النطق بعبارة بالعربية في الفصل، وكان ذلك من المحرمات في العامين السابقين. وسرعان ما أعلن عن مسابقة بين طلبة السنة الثالثة لترجمة مقطوعة من قصيدة طويلة للشاعر الإنجليزي الكلاسيكي «ألكسندر بوب».
وتبارى هواة الترجمة في الصياغة العربية، وكان مطلع المقطوعة هو:
A little learning is a dangerous thing;
Drink deep or taste not the Pierian spring;
There shallow draughts intoxicate the brain,
Drinking largely sobers us again;
وقلت في ترجمتي: «لا تقنع من العلم بنزر يسير؛ فهذا جد خطير، فإما أن تجرع كئوسه المترعة أو لا تقرب النبع المقدس. فقطراته اليسيرة تذهب بصوابنا، وجرعاته الحافلة تعيد لنا رشدنا!» وذهبت إليه فأبدى إعجابه وقال: ربما فزت بالمركز الأول! وفي الأسبوع التالي أعلن النتيجة وكان الفائز هو شوقي جمعة (المخرج في التليفزيون حاليا)، الذي أصاب قدرا أكبر من التوفيق في ترجمة مطلع البيت الثاني فأخرجه على هذا النحو: «عب منه عبا!» وكان يساعد الدكتور مجدي في الحكم أستاذ في كلية دار العلوم اسمه كامل المهندس، ويبدو أنه هو الذي رجح كفة ترجمة شوقي جمعة. وفي المسابقات التالية تعلمت ألا أغفل عن أدق إيحاءات الكلمات، فكنت أفوز بالمركز الأول دون منازع، وكانت الهدايا مغرية؛ إذ كانت كتبا مهمة في الأدب الإنجليزي، ما زلت أحتفظ ببعضها، وذات مرة شاركتني سعاد عبد الرسول في المركز الأول فلم أحزن ولم أغضب؛ فمتعة الترجمة أتاحت لي أن أجمع ترجمات عديدة لقصائد من الشعر الرومانسي، كنت أعرضها على أستاذ فيبدي لي ما يعن له من الملاحظات، حتى اكتملت عندي كراستان حافلتان.
وذات يوم دعاني الدكتور مجدي وقال لي إنه ينصحني أن أنشر هذه المجموعة (24 قصيدة) بالاشتراك مع شاب من جامعة الإسكندرية. وكان الدكتور محمد مصطفى بدوي، نظيره في جامعة الإسكندرية، قد ذكر له أن نابها اسمه عبد الوهاب المسيري (الدكتور الآن) قد ترجم عددا من القصائد يمكن ضمه إلى المجموعة. ورفضت قائلا إن الترجمة مثل التأليف لا تحتمل المشاركة، فقال لي بل أنت تريد الاستئثار بالمجد! وكانت كلمة «المجد» جديدة على مسمعي وذات وقع غريب، فأنكرت وقلت مخلصا: إنني أريد وحسب أن يعرف صاحب الأسلوب من ترجمته. فنصحني قائلا إن كنت أود ذلك حقا فعلي أن أتصل بالدكتور لويس عوض الذي كان يعمل بالصحافة، ويعتبر أقدر من ترجم الشعر الرومانسي. واتصلت بالدكتور لويس فضرب لي موعدا في مساء الأحد التالي، وعندما زرته أحسست بأن مسار حياتي الأدبية قد تحول إلى الأبد!
كانت غرفة مكتبه، في شقته بشارع القصر العيني، تمتلئ بالكتب إلى السقف، وكان يجلس إلى مكتب في ركن الغرفة وبجواره شباكان يطل كل منهما على حديقة مشمسة، وبعد أن فتح الباب لي سمعت صوتا نسائيا يسأله بالفرنسية: «من القادم؟» فأجاب بالفرنسية: «إنه رجل». وعلى الفور بدأنا نقرأ ترجمة «الملاح الهرم»، وكان يمسك بالنص الإنجليزي وأنا أقرأ النص العربي، وكان أحيانا يستوقفني ليسألني إذا ما كانت إحدى الكلمات التي استخدمتها عربية حقا، مثل كلمة السارية أو الصاري، فأؤكد له أنها فصحى، وفي ذهني يتردد صدى معركة ذات السواري أو الصواري، وهكذا حتى ننتهي. وأحيانا ما كان يزوره بعض الضيوف أثناء هذه الجلسات فيطلب منهم أن يلزموا أماكنهم ريثما نصل إلى نقطة نستطيع التوقف عندها.
وفي منزل الدكتور لويس تعرفت على بعض الشخصيات الأدبية وشهدت حواره معها، وبعض الشخصيات السياسية أيضا، وكان صريحا حادا في تعليقاته وملاحظاته وفي نقده الأدبي. فكان يقول إنه لا يؤمن بالقومية العربية؛ لأن تاريخ مصر يعزلها عزلا حضاريا عن سائر الشعوب العربية باستثناء الشام، ويقصد به بلدان «بر الشام» كلها إلا سوريا فقط؛ فالاتصال الحضاري بينهما قائم على مر التاريخ القديم والقريب، أما ثقافة الصحراء فهي غريبة على مصر، ولا تكفي اللغة الواحدة لتكوين الأمة. وعندما قرأ له أحمد عبد المعطي حجازي قصيدة يقول مطلعها:
إني هنا فوق الطريق يا حبيبي أنتظر،
الناس مروا من هنا،
مروا ذراعا في ذراع،
مروا كلاما هامسا وبسمة بلا انقطاع.
قال لويس: «أيوه كويس .. بس عاملة زي: كل الأحبة اتنين اتنين، وانت يا قلبي حبيبك فين!» فضحك الموجودون وأذكر منهم «هدى» حبيشة (الدكتورة)، ومديحة كمال (زوجة علي حمدي الجمال)، وديزي روفائيل (زوجة أحمد بهاء الدين) وحلمي شعراوي (الذي تخصص في إفريقيا فيما بعد). وفي تلك الجلسة نوقش الشعر العامي، ونوقش صلاح جاهين، وكان لويس مغرما مثل الناقد الإنجليزي ف. ر. ليفيز بالأحكام، وتحديد «طبقات الشعراء» ومراكزهم، فلم يوافق الدكتور لويس على ما ذكرته هدى حبيشة من أن جاهين «أعظم» شعراء العامية، وإن كان «أفضل الموجودين». كانت رنة الثقة في حديث لويس توحي بالثقة والاطمئنان، وإن كنت أستمتع بقراءاته للشعر الإنجليزي أكثر من استمتاعي بهذه المناقشات.
واستمر بنا المجلس ذات مساء حتى الحادية عشرة ونحن نقرأ شلي، حين جاء زائل لم أره من قبل، وهو نظمي خليل الذي كان يعمل مفتشا للغة الإنجليزية آنذاك في وزارة التربية، وعندما تحول النقاش إلى فلسفة الثورة وأزمة الديمقراطية وضرورة الاشتراكية، استأذنت وغادرت المجلس. وسرت وحدي ذلك المساء وقد بدأت في ذهني مساجلات بين الدعاوي السياسية التي لا شأن لي بها، والطموحات الأدبية التي تتملكني. كانت أحلام الأدب أكبر من خيالي المحدود؛ إذ كان الفن الأدبي الشائع في تلك الأثناء هو فن القصة القصيرة وكان «الكتاب الذهبي» الذي تصدره دار روز اليوسف قد بدأ يقدم عددا من الكتاب الذين سرعان ما احتلوا مراكز مرموقة في الحياة الأدبية؛ مثل يوسف إدريس، ومحمد عبد الحليم عبد الله، ويوسف السباعي، وأمين يوسف غراب، وإحسان عبد القدوس، وعبد الحميد جودة السحار، وغيرهم ممن خرج من «معطف» محمود تيمور. ولم يكن من السهل علي أن أحاكي أيا منهم، وكانت مكتبة الأنجلو المصرية تصدر سلاسل أدبية إنجليزية ندرسها في الجامعة، بعد أن توقف استيراد الكتب في أعقاب العدوان الثلاثي من إنجلترا، وكان الذي يتولى اختيار القصص والمسرحيات د. رشاد رشدي ود. لويس مرقص، الذي أصبح رئيسا للقسم الإنجليزي في كلية الآداب الجديدة بجامعة عين شمس التي أنشأها المرحوم د. مهدي علام (وكانت كلية تربية حتى عام 1953م). وكنت أقرأ هذه القصص وتلك المسرحيات فيزداد يأسي من القدرة على محاكاتها.
وفي الفصل الدراسي الثاني بدأت ملامح أحلامي تتضح. كان الذي يعلمنا مادة الترجمة شابا من قسم اللغة العربية اسمه الدكتور شكري عياد، وكان يكتب قصصا ينشرها في مجلة «صباح الخير» ويسمح لنفسه باستخدام بعض الألفاظ العامية فيها، وكان في أوائل الثلاثينيات من عمره أو في منتصفها، وكان، على تخصصه في اللغة العربية وحبه الشديد لها، يكره ميلي إلى التأنق في الأسلوب، ودائما ما ينبهني إلى أن الغاية هي الوضوح وقوة التعبير و«صلابته» على حد قوله، وكان يعني بذلك دقة الألفاظ وإفصاحها عن المعنى مباشرة. ولذلك فإن دروس الترجمة معه كانت في الواقع دروسا في علم دلالة الألفاظ، وعلى يديه أحببت الغوص في المعاجم بحثا عن الدقة، وهربا من الغموض والالتواء.
وفي ربيع عام 1958م، وكنا في رمضان، أحسست بما للجوع من أثر على صفاء الذهن ورقة المشاعر! أو هذا هو ما قلته بعد أعوام معدودة للدكتور شفيق مجلي عندما عاد بالدكتوراه من إنجلترا وبدأ يدعو للإقلال من الطعام! كان إقبالي على الطعام يشبه إقبالي على اللغة وعلى الأدب، ولكن دروس الترجمة التي كانت دائما بعد الظهر أو العصر كانت تنسيني حاجتي إلى الطعام، وكنا نجد في تفتح الزهور ولون الخضرة الذي عاد يكسو الأشجار مصدر بهجة غامرة، سرعان ما تحولت إلى مشاعر حب دفاقة بين الصغار (كنا جميعا دون العشرين)، فتصور كل منا أنه عاشق واله، وكانت النظرات مثقلة بمشاعر لا يدري أحد كنهها، وقد علمت فيما بعد أن هذه المشاعر التي يمكن إرجاعها إلى أسباب مادية، في طبيعة البشر وطبيعة الكون، تميز الإنسان عن الحيوان؛ لأنها وليدة عقل الإنسان، ووثيقة الصلة بذهنه، وباللغة التي تميزه عن الكائنات الأخرى!
وكان شكري عياد صبورا. يقرأ شعري وينقده دون برم. ويناقشني في شعر «شلي» مناقشات تشبه مناقشات لويس عوض، وكنا نخرج معا من الجامعة فنسير الهوينى حتى محطة الأتوبيس، فنستقله حتى المنزل، وكان يقيم في العجوزة (في «المحطة» التالية) وأحيانا كنت أغادر المركبة معه ثم أقفل عائدا، وأحيانا كان يغادرها معي ثم نسير «المحطة» الباقية إلى منزله. وأذكر مرة طال بنا النقاش فظللنا نتردد بين المحطتين حتى حان موعد الإفطار فافترقنا.
وفي ذلك العام الدراسي كان رشاد رشدي قد انقض على شوقي السكري فأغلق مجلة الحائط، وبدأ يناوئه في ألوان النشاط الأخرى فبدأ رشدي نشاطا مقابلا يتمثل في ندوات أسبوعية للقصة القصيرة والشعر بين الطلبة، كما كثف من خروجه إلى الحياة العامة بعد نجاح مجموعة قصصية كتبها قبل ثلاثة أعوام عنوانها «عربة الحريم»، فكتب مسرحية اسمها «الفراشة» قدمتها له فرقة المسرح الحر، وكان يعد العدة لتقديم مسرحية أخرى هي «لعبة الحب»، كما بدأ يلقي الأحاديث في الإذاعة عن النقد الحديث ويهاجم دعاة تسخير الأدب والفن لأغراض الدعاية السياسية باسم الأيديولوجيا، وكان تحليل أحد النقاد للمناخ الأدبي حينذاك هو أن دفاع الاتحاد السوفيتي عن مصر ووقوفه بجانبها منذ صفقة الأسلحة «التشيكية» قبل ثلاثة أعوام، يعتبر بداية لصداقة مع الدول العظمى تمتاز بعدم الانحياز إلى أي من الجانبين، كما أعلن ذلك أقطاب الحركة التي اجتمع قادتها في باندونج بإندونيسيا، وعلى رأسهم جواهر لال نهرو الرئيس الهندي وجوزيف بروز تيتو الرئيس اليوغوسلافي، وسوكارنو الرئيس الإندونيسي وجمال عبد الناصر الزعيم العربي، باعتباره رئيس الجمهورية العربية المتحدة التي تضم سوريا ومصر. ومن ثم فلم يعد من المقبول أن يظل الشرق الأوسط كما كان منطقة نفوذ للغرب، بل كان لا بد أن ينحسر هذا النفوذ، بل وأن يتلاشى، وأن يسود مبدأ الاستقلال الفكري في الكتابة والأدب؛ تبعا لسيادته في السياسة والاقتصاد.
ولكن مبدأ الاستقلال كان يعني وضع موازنات دقيقة بين الكتلتين، وإذا كان ذلك ممكنا في السياسة، فهو عسير في الأدب، فكانت القيادة السياسية تشجع فريق مناصرة الشرق (الشيوعي)، وفريق مناصرة الغرب (الرأسمالي) في الوقت نفسه، وتفرض عليهم القيود في الوقت نفسه، وتضرب بعضهم بالبعض في الوقت نفسه! ومن ثم نشأ حال من الاستقطاب الزائف؛ إذ إن الدولة ذات رقابة صارمة، لا تسمح بالشيوعية (طبعا) ولا تسمح بالرأسمالية؛ لارتباطها بما ثارت عليه حركة الضباط الأحرار في مصر الملكية، ولا تسمح بالحركات الدينية طبعا بعد أن اتضح أن الإخوان كانوا يعدون العدة للاستيلاء على السلطة! وكانت «معسكرات» الكتاب تعكس، أي تجسد، هذا الاستقطاب الزائف، وهو زائف (والتعبير هو تعبير لويس عوض) لأن دعاة كل مذهب كانوا في الواقع يؤمنون بما يؤمن به الفريق الآخر في أعماقهم، ولكنهم يتحزبون ويتخذون اتجاهاتهم «المتغيرة» من باب رد الفعل الوقتي، باستثناء عدد من الشيوخ الذين لم يناقشوا هذه المذاهب أصلا، بل وجدوا أنفسهم في خضمها يصارعون الموج، وعدد من الشبان الذين آمنوا بها (ومعظمهم من اليسار) وأخلصوا لها حتى بلغت مبلغ العقيدة!
وكان لويس عوض من أوائل ضحايا هذا الموج العاتي؛ إذ بلغني أنه اعتقل، وكانت زوجته هي التي أجابتني تليفونيا حين سألت عنه، ولم تزد في ردها باللغة الفرنسية عن إبلاغ هذا الخبر الصاعق! وكان معنى ذلك أيضا غروب شمس حلمي الأول، وهو نشر ترجماتي الشعرية، باختفاء كراساتي مع لويس عوض! وبينما أنا حزين لا أدري ما أصنع إذ قابلت وحيد النقاش وكان من زملاء فريق التمثيل، طالبا مجدا في قسم اللغة الفرنسية، ضئيل الجسم جميل الوجه ذا عينين خضراوين وبشرة سمراء ونظرات حالمة وصوت خفيض، وكان يحب الجلوس في بوفيه كلية الآداب تحيط به الحسان، فدعاني لمشاركته المجلس، وقدم لي صديقا له في السنة الأولى بقسم اللغة الإنجليزية اسمه سمير سرحان! وطالت الجلسة، وتناقشنا في كل شيء، فعرفت منهما أسماء رواد قهوة عبد الله في الجيزة، وسمعت عن أنور المعداوي وعبد القادر القط وسعد الدين وهبة وغيرهم. وانتهى عام 1957-1958م بندوة أقامها رشاد رشدي للقصة القصيرة، ألقيت فيها أو قرأت قصة عنوانها «زوجات الآخرين»، وكان التصفيق شديدا والإعجاب مبالغا فيه، حين انبرى رشدي وبين أن القصة ذات بناء «آلي»، ولا تتميز بالبناء «العضوي»، وفوجئت بأن المأمون أبو شوشة قد تحمس للقصة وقام يدافع عنها للأسباب التي دعت رشدي إلى الهجوم! وقد أعدت قراءة هذه القصة بعد تلك السنوات الطويلة فوجدت أن منهج كل منهما فيه نظر، كما يقولون؛ ولذلك سوف ألخص «الموقف» الأساسي للقصة، وأترك الحكم على موقف الاثنين للقارئ.
القصة مكتوبة من وجهة نظر المتكلم، وهو رجل «مريض» بحب الامتلاك، وكان بسبب نشأته يذود عن حمى كل «حريم» ويتصور أنه لا بد أن يستحوذ على نساء الأرض كلهن! فإذا رأى فتاة «لا رجل لها» جهد جهده حتى يبعد عنها الرجال، فإذا كانت متزوجة «تصور» أن رجلا آخر قد اعتدى على حرمه، وتدريجيا بدأ يشغل باله إلى حد الوله الأخرق بزوجات الآخرين، وكان أن جعل حياة زوجته جحيما، وأحال حياته الخاصة إلى حلبة لخيالات وأوهام، وكان ينشد السلوى في حديث صديق له يتردد عليه وجعله موضع ثقته، لكنه لم يكن في أعماقه يطمئن إلى أحد كائنا من كان، حتى كان اليوم الذي وجد زوجته في أحضان هذا الصديق!
وكان رأي رشدي أن النهاية لا تنبع من الموقف، فالمؤلف لم يقدم العوامل التي أدت إلى الخيانة، و«حدث» الخيانة لا يمكن أن يعتبر نتيجة لحالة البطل، فنحن لم نعرف الصديق ولا الزوجة، وهكذا فإن النهاية تشبه العقاب الذي ينزله القدر بالبطل، مثل النهاية المفتعلة في نهاية المسرحية الكلاسيكية اليونانية حين يهبط «إله من آلة» [ديوس إكس ماكينا] ليحل عقدة الحدث! وكان رأي أبو شوشة هو أن هذه النهاية «خبطة» فنية تعيد للبطل صوابه وتعتبر درسا لمن يشغل نفسه بزوجات الآخرين! أما ما أظنه الآن فهو أن النهاية، بغض النظر عن «آليتها» أي طابعها الآلي، ليست العنصر الرئيسي في القصة، بل هي إضافة ربما كان من المستحسن أن تحذف! أما جوهر القصة فيكمن في تصوير حالة البطل، أي في بناء الشخصية الرئيسية التي تقوم بالحدث! فمنهج رشدي مستمد من قواعد النقد الأرسطي الذي يلزم كل قاص أن يبني القصة وفقا لقواعد المسرح القديم أو القائم على «التمثيل» أو المحاكاة، ولكن القصة القصيرة الحديثة قد تعددت أشكالها وصورها وفنونها، وأصبح بعض أنواعها يقترب من الشعر، و«زوجات الآخرين» تشبه «المونولوج الدرامي» الذي أشاعه الشاعر الفكتوري روبرت براوننج، بل إن كثيرا من القصاصين المحدثين منذ القرن التاسع عشر قد تخلوا عن ضرورة الارتباط «العضوي»، الذي يعتبر في نظر الكلاسيكيين من النقاد أساس «الحتمية الفنية»، وكنت مدينا بهذا التعبير للدكتور فخري قسطندي الأستاذ بالقسم، وأعني به الارتباط بين البداية والوسط والنهاية، ولكن النقد الكلاسيكي للقصة القصيرة الذي وصل إلى ذروته في كتاب ه. أ. بيتس عن القصة القصيرة كان مسيطرا آنذاك على تفكير رشاد رشدي.
وليس معنى هذا أنني أعتبر قصة «زوجات الآخرين» عملا فنيا كاملا، ولا أقول عظيما، ولكن معنى ما أقول هو أن التطرف في تطبيق النظريات «العضوية» قد يصل بالناقد إلى درجة «الآلية» في النقد؛ ولهذا أحسست آنذاك بخيبة أمل أحبطت محاولاتي التالية لكتابة القصة القصيرة. ولكن التجربة كانت مفيدة، وأبرز فوائدها مناقشة فن القصة القصيرة باللغة العربية في قسم اللغة الإنجليزية! كانت الندوات فرصة سانحة لمن يريد التجربة واكتساب الخبرة، والاحتكاك بالنظريات الأدبية الجديدة ودراسة مدى جدواها عند تطبيقها عمليا.
وبعد الندوة - التي كان رشدي قد انتصر فيها بوضوح على كل من خالفه وخرج سعيدا ضاحكا - ذهبت إليه أحاول «تبرير» ما فعلته في القصة، فنحى كلامي جانبا وقال لي مباشرة: «أنت بتجيب تقدير إيه؟» قلت له: «جيد جدا» .. فقال لي: «حافظ على التقدير في سنة رابعة وانا آخدك.» وخرجت من غرفته مسرعا حتى لا نخوض في التفاصيل، وحتى أحتفظ بالوعد صافيا دون شروط، وغدوت من فوري إلى المنزل فقابلت «علي أبو العيد» عند المدخل، وهو زميل في كلية الزراعة يقيم في المنزل نفسه بالطابق الأرضي، فوجدني مهتاجا فدعاني للدخول، وبمجرد أن أغلق الباب أفضيت إليه بالسر! أحسست أنني أكاد أرقص طربا وقد تراءت لي صور المستقبل؛ إذ ربما سافرت في بعثة إلى الخارج للتخصص في اللغة الإنجليزية، وربما كتب لي أن أكتب عما كتب عنه توفيق الحكيم وهيكل وطه حسين ثم لويس عوض! ولم يناقشني «علي» في التفاصيل، ولكننا استمعنا إلى أسطوانة جديدة تمكن من الحصول عليها، وكانت لأغنية قديمة لعبد الوهاب هي «كلنا نحب القمر!»
وعندما عدت إلى رشيد في صيف ذلك العام كان كل شيء يبدو مختلفا.
7
كانت الهوة بيني وبين أيام الطفولة تبدو شاسعة؛ فالمنزل القديم امتدت إليه يد الهدم، ولم أجد لدي الجرأة لزيارته، ولا للمرور في الشارع الذي يقع فيه، وكنا استأجرنا شقة في منزل حديث ضخم يملكه الحاج خميس يونس بالقرب من مدرستي القديمة في «بحري»، وكنت أحيانا أجد من زملاء الطفولة من أتنزه معه، وأحيانا (وهو الغالب) ما كنت أسير في الحقول وحدي أو على شاطئ النيل حتى آخر «العمار» - أي حتى يبدأ الطريق المقفر المؤدي إلى «البوغاز»؛ أي إلى الفنار القديم حيث مصب النيل. وأذكر أنني كنت ذات يوم وسط الحقول قبيل الغروب، أسير فوق «الراتب»، وهو قناة ضيقة لا يزيد عرضها عن نصف متر، مبنية من الطوب، وكل جانب مرتفع نحو ثلاثين سنتيمترا، ومكسوة بطبقة من الأسمنت تمنع تسرب الماء، وتحمل المياه من «الساقية» (الناعورة) إلى شتى حقول الذرة والسمسم، وهي أهم المحاصيل التي يجنيها الفلاحون في أوائل الخريف ، كنت أسير وحدي أفكر فيما عساي أن أفعل في العام الدراسي المقبل، حين ترددت في خاطري أبيات من قصيدة «المقدمة» للشاعر وردزورث، التي يقص فيها قصة حياته منذ الطفولة، وكانت الأبيات تذكر كيف قرر أن يصبح شاعرا، عندما شهد مطلع الشمس وهو بعد طالب في جامعة كيمبريدج - وتوقفت عند الأبيات التالية:
أفضيت للحقول في الخلاء بالنبوءة،
فجاءت القوافي طائعات دون دعوة،
وخلت أن روحي ترتدي مسوح راهب،
قد اختلى حتى يصلي في خشوع!
وعجبت كيف رفع هذا الشاعر منزلة الشعر إلى منزلة القداسة، فكان يشير إلى ذلك بتعبير «حياة القداسة في الموسيقى والشعر»، وكيف وجد في الطبيعة آيات الخلق وروح الكون الحي، واكتفى بذلك كله عن الغزل والتشبيب وسائر أغراض الشعر، فمطلع «المقدمة» يحدد «المقام الموسيقي» لها؛ إذ يقول في الديباجة:
مبارك يا أيها النسيم يا رقيق الحاشية،
يا أيها المسافر الذي يصافح وجنتي،
في شبه إدراك لما يأتي به،
من الهناء من حقولنا الخضراء،
ومن سمائنا الزرقاء!
ذلك هو الهناء الذي كنت أحسه، وما النبوءة التي يحكي الشاعر عنها في الديباجة إلا «النذر»، وكان يعني به أنه «نذر» نفسه لحياة الشعر، وكأنما كان يقطع على نفسه عهدا بأن يهب حياته كلها لذلك الفن الرفيع، ومن ثم قررت الاستزادة من قراءة شعر ذلك الشاعر، وألا أتوقف عند القصائد التي ترجمتها له، وأهمها قصيدة «خاطرات الخلود من ذكريات الطفولة الأولى» وكان مطلعها:
مر من عمري زمان كان فيه الجدول الرقراق يبدو،
والمراعي والخميل وكل مألوف المناظر،
قد كساها الله ثوبا من سناء،
فتراءت في بهاء مثل حلم ساحر عذب الرواء!
كان ذلك هو الحلم إذن! وألح على خاطري بيت آخر من «المقدمة» «كانوا الحلم وكنت الحالم!» وعندما تذكرت تلك اللحظات وأنا أقرأ شعر الشاعر كله فيما بعد، أدركت مدى صدق نظرته ومدى قدرته على التعبير عما يدف بين جوانح كل طامح في حياة الشعر والشعراء!
وعندما عدنا إلى القاهرة برزت هوة جديدة بيني وبين أقراني؛ إذ كنت لا أنظر باحترام كبير للعاطلين من الموهبة الذين يدرسون الأدب، وكنت أو بدأت أتصور أن تقتصر دراسة الأدب على أصحاب المواهب اللغوية أو الفنية مهما يكن حظهم ضئيلا من الموهبة، ولم أكن أدرك ذلك إدراكا كاملا حتى نبهني إليه صديقي رضا فرحات (السفير حاليا) حين أشرت إلى أحد الزملاء قائلا إنه «غلبان»، وكان ذلك الزميل قد أخطأ في حقنا وتقول علينا بغير الصدق، ومع ذلك وجدت نفسي أغفر له صادقا، وإن كان «رضا» يريد المواجهة والشجار والانتقام! ولما سمع مني كلمة «غلبان» قال لي ماذا تقصد؟ إنه شرير سيئ القصد فاسد الطوية، ولكن هيهات! لم يكن ما فعل أو ما يمكن أن يفعله جديرا بالتصدي له؛ لأنه كان بلا مواهب، ولم يكن في نظري بالجدير بالمواجهة! وقال «رضا»: «أنت عايز كل الناس يبقوا شعراء؟» وضحكت وأنكرت وأنهيت الموضوع وأنا أذكر قول شوقي:
نازعتني ثوبي العصي وقالت
أنتم الناس أيها الشعراء!
وفي أول درس من دروس الترجمة، وجدت اسم المدرس الدكتور «يوسف خليف»، وعلى الفور قررت أن أقدم له تحية قبل دخوله القاعة فكتبت على السبورة:
في الضفاف التي يهيم بها السحر وينهل في حماها الضياء،
وتضوع الأزهار في جوها الرحب وحيث الحياء والأحياء،
خطر النيل في مواكبه الخضر عليه من الجلال رداء.
وهي من مطلع القصيدة التي كتبها يوسف خليف قبل سنوات عديدة، وفازت بالمركز الأول في المسابقة التي نظمها صاحب مجلة «الكتاب» (عادل الغضبان) وكان من بين المحكمين عباس محمود العقاد! وسر يوسف خليف لوجود من يحفظ شعره العربي في قسم اللغة الإنجليزية، ولكنه صحح البيت الأول فقال «إنني لم أقل «يهيم» بل قلت «يموج»!» ولما أبديت إصرارا على الخطأ قال لي رحمه الله والبسمة لا تفارق شفتيه: وهذا أكبر دليل على خيانة الذاكرة! بل وأكبر دليل على ضرورة توخي الحذر في نقل روايات الرواة! فالشعر العربي في القرنين الأول والثاني للهجرة كان يعتمد على الرواة (موضوع رسالته للدكتوراه) والشعراء الصعاليك، الذين تخصص في شعرهم، لم يكونوا يكتبون ما يؤلفون، وكان العبء كبيرا على كاهل الرواة! وبدأ العام الدراسي بداية ساخنة!
وعندما بدأت دروس اللغة العربية، رأيت الدكتور عبد الحميد يونس لأول مرة، وكان كفيفا يسير مع سكرتيره، وبدأ بذكر الروايات المقررة لهيكل وطه حسين ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم - ثم أردف قائلا: ومن شئتم أن تقرءوا لهم! وكان ذلك بمثابة كسر للنمط الذي اعتاده الطلبة، فسأله أحدهم: «من خارج المقرر؟» فقال بثقة: «لا يوجد ما هو داخل المقرر وخارجه؛ الرواية الحديثة هي موضوع الدرس.» ومن ثم بدأ يتكلم عن السيرة الذاتية، وما زلت أذكر أولى عباراته: «شغل الإنسان بامتداده في الزمان والمكان ...» وكأنما كان يتكلم عن وردزورث لا عن طه حسين، ثم انطلق يتحدث عن الإحساس بالعالم لدى المكفوف، وعن استحالة الصمت المطلق، فجيشان الدم له صوت يأنسه الصامت في صمت الدنيا، مثلما يرى في مخيلته ما لا يتصوره المبصر! وسألته عن «الصوت الداخلي» فأجاب إن كنت تقصد صوتك الذي يحادثك فلا استغراب ولا دهشة، أما إذا كنت تقصد صوتا آخر يحادثك ولا تعرفه فذلك صوت المراهقة الذي يعلن الوجود والتفرد ويؤكده، وهو صوت يزول عندما يتكيف الإنسان آخر الأمر مع المجتمع ويقبل حياته المكبلة بالقيود، ويطوع نفسه (وكان رحمه الله مغرما بكلمة «تطويع») أي يغير من أفكاره وسلوكه ومشاعره حتى يتوافق مع من حوله! وسألته: «وعندها يتوقف الصوت؟» وضحك وأطرق ثم قال: «وهل أنت واثق أنه الصوت الآخر؟»
كان أسلوب تفكيره جديدا ينبئ عن حدة ذهن ثاقبة، ولن أنسى تحليله لرواية زينب لهيكل؛ إذ إنه لم يركز (مثلما فعل الآخرون) على السمات الفنية للقصة ومدى حفولها بمشاهد الوصف للريف والطبيعة، ولم ينتقد حبكتها من حيث إنها «رواية» بالمعنى الغربي الحديث، بل بدأ من حيث أراد هيكل للقارئ أن يبدأ - من تعريف الكاتب بأنه «مصري فلاح» (لا فلاح مصري) - وبأن الرواية هي «أخلاق ومناظر ريفية»! من الخطأ إذن، ولا أقول من الظلم، أن تعامل الرواية باعتبارها قصة طويلة تتوافر فيها أركان القصة التي وضعها الغرب، أو أن تقاس بمقاييس الكتاب الغربيين! وقال دون اكتراث: «أليس هذا ما يقوله ت. س. إليوت؟ وأعني به محاسبة الفنان على ما يقصد إليه لا على ما نتوقعه منه؟» ودهش الطلبة ودهشت لمدى إحاطته بالمذاهب النقدية المعاصرة، وعلمت فيما بعد أنه كتب كتابا بعنوان «الأسس الفنية للنقد الأدبي»، نال عنه فيما بعد جائزة الدولة التشجيعية (في عام 1961م) وكنت أتمنى أن يطبق بعض المذاهب الأدبية الحديثة في دراساته للسير الشعبية (التي تخصص فيها)، ولكن تلاميذه فعلوا ذلك وأبدعوا؛ ابتداء من الدكتور أحمد مرسي، وانتهاء بالدكتور خطري.
وكان منهج الشعر الإنجليزي ينقسم إلى قسمين؛ قسم يدرسه رشاد رشدي (المتخصص في الرواية أو في أدب الرحلات) وكان ينحصر في شعر ت. س. إليوت، والقسم الآخر يدرسه مرسي سعد الدين، وكان ينحصر أو يكاد في شعر وليم بطلر ييتس! أما رشدي فقد أحالنا إلى المراجع ننهل منها كيف شئنا، ولم يزد في محاضراته عما ذكرته «إليزابيث درو» في كتابها عن إليوت، واقتصر في محاضراته على قراءة قصيدة الأرض الخراب والتعليق عليها، مركزا على فنون الصنعة فيها من حيث بناؤها السيمفوني وتعدد أصواتها، وكان يقول دائما: مهمتي ليست تقديم المعلومات التي تستطيعون الحصول عليها في المكتبة، بل قراءة النص معكم وتدريبكم على القراءة! وأشهد أن إلقاءه الشعر كان جميلا، وكانت إيقاعاته ونبراته البريطانية ذات أصالة وعراقة، وكثيرا ما كنت أنسى المعنى في ثنايا الإيقاع وتضاعيف النظم! وفي اليوم التالي ذهبت إلى المكتبة واستعرت كتابا عن إليوت أظنه من تأليف «ماكسويل» يحلل فيه القصائد كلا على حدة، فبهرت بعبقرية قراءة النص التي ذكرتني بعبد القاهر الجرجاني، وبعد أن انتهيت منه في جلسة واحدة، طفقت أنسخ في كشكول خاص أهم ما جاء به من فقرات، ثم أعدته إلى المكتبة، واستعرت كتابا آخر، وعدت إلى المنزل لكنني لم أفتحه، بل ظللت أقرأ الشعر المرة بعد المرة، وكان المطلع يذكرني بآية كريمة:
ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت ! ما معنى الخشوع؟ أليس ذلك أبلغ من وصف الأرض بالموت؟ وذكرت الآية الأخرى:
وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت
هامدة؟ واستبد بي ذلك الخاطر: ألا يحتمل أن تكون الأرض الخراب هي أرض الموات؟ وذكرت الآية الأخرى
له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى ! وهل الثرى هو التراب؟ إذا كان كذلك [
ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا ،
أئذا متنا وكنا ترابا ... ] وهل الثرى حقا هو التراب الرطب؟ إذا صح المعنى الأخير فلا بد أن يكون ما تحت الثرى هو الجذور والدرنات والديدان التي يتحدث عنها إليوت! لا يدور الحديث عن «موت» بالمعنى المفهوم بل عن حالة حياة كامنة فيما يبدو ميتا! وذلك هو معنى إليوت البعيد، الذي يشير به إلى خلود الروح، وهو يقدم في القصيدة صورا للموات النفسي في مظاهر الحياة العصرية حتى يؤكد التناقض بين الحياة في الموت، وهو المعنى الديني العميق، وبين الموت في الحياة عند من لا يعرفون حياة الروح!
وحاولت أن أترجم المطلع نظما كعادتي في ترجمة الشعر، فكتبت:
أبريل ذا أقسى شهور العام!
إذ ينبت الأزهار من أرض الموات [الهامدة]؛
كي يخلط الذكرى بأشواق الحياة [الحافلة]،
فإذا بأمطار الربيع [الهاطلة]،
تحيي جذورا عاطلة،
بل تطعم الديدان من درنات نبت ذابلة!
ولكن من الذي يتحدث؟ هل هو الشاعر أم إحدى «الشخصيات»؟ اختلف المفسرون؛ فقال ماتيسون في كتابه «ما أنجزه ت. س. إليوت» إن «ماري» تبدأ حديثها في السطر الثامن، وقالت «هيلين جاردنر» في كتابها «فن ت. س. إليوت» إن ماري هي المتحدثة منذ البداية، فإذا صح قول الأول فإن الترجمة يتفق أسلوبها أو مستواها اللغوي مع لغة الشاعر، وإذا كانت ماري هي المتحدثة، كان لا بد من حذف الكلمات التي وضعتها بين أقواس مربعة، فحذفها لن يؤثر في الوزن، وهي «عضادات» للقافية فحسب! أما الأولى فقد أوحت بها الآية الكريمة، وأما الثانية فلا بد أنها وردت إلى ذهني من تذكر بيت إبراهيم كيرة «ثم هبت من ربا الموت حياة حافلة» وأما الثالثة فقد أوحى بها بيت تشوسر في مستهل «حكايات كنتربري»:
إن جاء أبريل بأمطار الربيع الهاطلة!
وهكذا وجدت أن المشاكل تحيط بالمطلع فأقلعت عن الترجمة، وعدت إلى القصيدة حتى خلت أنني هضمتها هضما! ومن ثم فرغت لكتابة شعري الخاص، وبدأت أواجه مشكلات لم أكن عملت لها حسابا! كنت أحب بحر الرجز (فهو حمار الشعر) ويسهل ركوبه، ولكنني كنت ما أزال أحن شوقا إلى بحور العربية المركبة، والحق أنها أيسر في ضبطها من الرجز الذي يفضي إلى الكامل ويختلط به، كما حدث لي في ترجمة الأبيات الأولى من إليوت، فإذا دخل الكامل استعصى علي استغلال زحافات الرجز وعلله الكثيرة! كما أنه أحيانا يفضي إلى «السريع»، وأحيانا أثناء الترجمة يسمح بتفعيلات من الهزج، وفي هذا ما فيه من عنت! وكان أقرب مثال على ذلك ما حدث عندما ترجمت «الملاح الهرم» (وقد ترجمها بعضهم باسم الملاح القديم)؛ إذ جاء فيها بيت يقول حرفيا إن أفضل المصلين هم أفضل المحبين؛ أي إن أصدق صور الصلاة هي الحب الصادق، وترجمتها هكذا «ومن يحب مخلصا فإنه يصلي مخلصا.» وأحسست بتفعيلة الهزج في الجزء الأخير من البيت، فاضطررت إلى تعديله إلى «فمن يصلي مخلصا فقد أحب مخلصا» مما غير المعنى الذي قصد إليه كولريدج! وعندها غيرت بحر القصيدة كلها إلى المتدارك (أو المحدث) قبل أن يشيع اسم الخبب! فخرجت لي مشكلة جديدة وهي ورود تفعيلة هذا البحر على صورة «فاعل» إلى جانب الصورتين المزاحفتين المعهودتين، إذا افترضنا أن أصل البحر هو فاعلن أربع مرات:
ذا
ك ه
و الملاح الهرم [ملاح هو هرم]
يو
قف ر
جلا من بين ثلاثة. «أقسمت بلحيتك البيضاء
وعين لك تبرق
لألاء،
لم
أوقفت
خطاي الآن؟»
والتفعيلات الخارجة هي ما جاء تحتها خط هنا. لم أكن أدري أن ذلك مباح أو ممكن (أو أنه من التجديدات التي شاعت)، ولكنني كنت كتبت قصيدة طويلة اسمها «عروس النيل» زاخرة بألوان هذا الخروج، حتى في المطلع:
طفقت أمواج الشطآن
ترقص من سحر الألحان
فالماء على الرمل استلقى
وانحسر طروب الأشجان
وكانت «فاعل» هي أول ألوان الخروج، ثم تلاها ما هو أدهى وأمر:
قالوا توحيدة قد خطبت،
وعريسك يا
توحة
أسمر!
يخطر
في ثوب فضفاض،
كابن السلطان ويتبختر!
في يده
اليمنى مسبحة،
من حب الياقوت الأحمر،
وبيسراه
الدبلة
صبت،
من حب من ذهب أصفر!
فإلى جانب «فاعل» توجد «فعلك» في السطر الرابع [كابن السلطان ويتبختر] وهذا ما جعلني أضيق ذرعا بهذا البحر الذي يخون راكبه ويضني طالبه! ومن ثم كتبت قصيدة فكاهية في «هجاء» هذا البحر تبدأ هكذا:
هذا بحر عذب اللحن،
تغلب موسيقاي عليه،
فيغني جذلانا مرحا،
فتكاد تصفق بيديه،
وتكاد تغني من فمه،
وتكاد ترى الشعر الراقص،
لا يحكي إلا أفراحا،
لا أحزانا لا أتراحا،
أنغام من كلم تسري،
وحروف راقصة تجري،
وتفاعيل متراقصة،
متأودة متكسرة،
فعلن فعلك فاعل فاعل!
وعندما قرأها الدكتور يوسف خليف، وكنت أطلعه قبل الجميع على ما أكتب ضحك، وقال «موش عارف ليه بتطلع معاي فاعل ساعات!» وكان يجلس قريبا أحد الخريجين، وكان اسمه النعمان القاضي (الدكتور) فيما بعد - رحمه الله - وكان يدرس لدرجة الماجستير في اللغة العربية، فلم يلبث أن قال «بس ده غلط! قطع البيت!» وقال له يوسف خليف «لكن الودن قابلاها!» وقلت في نفسي «الحمد لله أن القضية خلافية!» وعندما عدت إلى كتابة قصيدة من البحر نفسه تركت أذني تفعل ما تشاء، فكتبت:
أف نفثت نفسي هما،
فارتعش وميض السيجارة!
وتساقط ذر ورماد،
والتمع الوهج مع النسمة!
وكانت القصيدة طويلة بل أطول من «عروس النيل»، وأسميتها «عروس الليل» وفيها أصور حال شاب محبط في حياته العاطفية، يخرج إلى طريق الجامعة ليلا، فيرى ظلا يحيله في خياله إلى عروس يحلم معها بالصعود إلى شط الجنة:
وطريق الجامعة الخاوي،
يمتد إلى الأفق المسحور بلؤلؤه وبأنواره،
وعريبة قصب وحمار منهك،
والسيارات لها نغم خافت،
والبرد النفاذ اللاذع،
يهمس لعظامي «يا نخرة!»
فإذا بالجسد المتهالك يتهاوى ...
وتأتي اللحظة الحاسمة حين يرى الظل:
وتبدى في الأفق المطموس خيال أشتاق إليه،
من نسج ظلال الشجرات وما أضفى النور عليه،
تتهادى كالأمل النشوان خيالا من حور الجنة!
ومن ثم تبدأ الأحلام:
لم لا نصاعد مثل فراشات النور إلى شط الجنة؟
لم لا نقطف زهرات الحسن ونشهد إشراق الفتنة.
وتصل القصيدة إلى ذروتها حين يتلاشى الحلم، ويفيق الحالم إلى واقع حياته ، ويعود وحيدا مهموما، فكأنما كان يشبه «عريبة القصب» وهو ينشد:
سيجارتي قيثارتي! من مزق الأوتار يا صغيرتي؟
من بدد السلوان يا أنيستي؟
برد الشتا أم ظلمة الأيام أم ليلي البهيم؟
وعندما قرأ الدكتور شكري عياد هذه الأبيات ركز على التجديد في تغيير القافية والبحر، ولامني على ما شعر بأنه الميل إلى التعبير المباشر أحيانا، ولكنه شجعني وقال أنا أحيي جرأتك! ومن ثم اطمأن قلبي إلى أن التحويرات في بحر المتدارك لم تكن موقع تقريعه، وقمت بإلقاء القصيدة في إحدى ندوات الشعر، فحظيت بترحيب «الجمهور»، ولكن رشاد رشدي كان مقطب الوجه، فسألته ما الخبر؟ فقال: لا .. «الأولانية أحسن ..» فسألت في ذعر: «ودي؟» فقال: «دي غراميات رخيصة!» فأصبت بخيبة أمل كبيرة وحفظتها مع أخواتها في درج المكتب!
وفي اليوم التالي جاءني وحيد النقاش (رحمه الله) وقال لي أن أصحبه إلى البوفيه حيث يجلس مع أصدقائه، ولبيت على الفور إذ ذكرت عددا من زهور الكلية اللائي كن يجتمعن في ذلك المجلس، وعندما ذهبنا وجدنا سمير سرحان منهمكا في قراءة شيء ما، ومعه فتاة تلبس نظارة طبية، سمراء وجعداء الشعر، وأخرى ذات عينين خضراوين، وثالثة بيضاء فارعة ذات شعر ذهبي، وقدمني «وحيد»، وسرعان ما انهمكنا في أحاديث الأدب و«الجو الأدبي»، وذهلت لمدى إحاطة سمير سرحان بما يدور في هذا «الجو» الذي كانت العواصف تهب عليه من الشرق والغرب، كان يعرف كل ما يجري وكل ما يكتب وكل ما كتب، وإن كان ما يزال في السنة الثانية! وكانت الفتاة السمراء تنظر إليه بلون من التأليه والتقديس، فحسدته في أعماقي، لا لأنه يحظى بإعجابها بل لأنه يستطيع أن يجمع هذه الزهور حوله، على تنوعها وتفاوتها، وفي آخر الجلسة قال لي وحيد: لا بد أن نجتمع الليلة عندي لمناقشة القصيدة، وضرب الموعد وعندما ذهبنا إلى منزل آل النقاش كان في الغرفة أخوه الأكبر رجاء، والشاعر أحمد عبد المعطي حجازي. فانضم ثلاثتنا إليهم. فقرأت القصيدة، فأثارت الخلاف وإن كان المعترض، وهو الشاعر حجازي، لم يذكر أي عيوب عروضية؛ إما بسبب إلقائي الذي أخفى العيوب، أو لأنه حقا لم يجد فيها عيوبا عروضية!
وعندما امتد بنا الليل قرأت على الحاضرين أبياتا أخرى من شعري، ثم بعض ترجمات لوليم بليك ووردزورث، فأحسست بأن ثمة إجماعا على أن موهبتي ما زالت في حاجة إلى صقل وتنمية، وهذا ما كنت أحسه أنا أيضا، وإن كان وحيد النقاش لا يتحفظ في إعجابه، ويساندني دائما.
كان منزل آل النقاش يقع في وسط الحقول، وراء «نادي الصيد المصري» (الذي كان اسمه نادي الصيد الملكي قبل ذلك)، وقد مررنا عندما خرجنا بمزارع شاسعة تمتد حتى الهضبة الغربية، وسار سمير سرحان معي حتى أول «العمران» فودعني وعاد إلى الجيزة، وعدت أنا إلى المنزل وأنا أقلب الأمر على وجوهه، حائرا هل أركز على الدراسة وأهجر الشعر، أم أوازن بينهما حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا؟
8
قصصت ما حدث لعمرو برادة، صديقي الذي كان يشاركني «المذاكرة»، وكان والده الدكتور حسن برادة يعمل مديرا لمستشفى العجوزة (مستشفى الجمعية الخيرية الإسلامية بالعجوزة)، وكنا قد قسمنا مواد السنة الرابعة بيننا، فاختص هو بالدراما والرواية، وكان الشعر والنقد من نصيبي. وبعد مناقشة لموضوع الأدب وكتابتي الشعر، قررنا التفرغ للسنة الرابعة؛ فعليها يتوقف مستقبلنا. وعندما توفي والده، انتقلت الأسرة إلى شقة كبيرة فاخرة في الزمالك في شارع شجرة الدر، تواجه «برج الزمالك»، وهو عمارة شاهقة تطل على شارع 26 يوليو (شارع فؤاد سابقا). وكنت أعرف إخوته وأخواته، وأستمع لما يكتبه أخوه إسماعيل، الذي كان يدرس الطب، من شعر ونثر بالإنجليزية، وأشارك حسين أخاه الأكبر في نظام غذائي لتخفيض الوزن؛ فقد كان رحمه الله مفرط السمنة، وكنت أحيانا أقضي اليوم بطوله أستمع إلى شرحه للمادتين، أو أشرح له المادتين اللتين تكفلت بهما.
وذات يوم سمعت بمشكلة حازم بركات . كان حازم من أسرة بالغة الثراء، وكان يتيما تولت والدته تربيته، وكان لا يكاد يعرف العربية، وعندما كان يزورنا أثناء «المذاكرة» كان يبدو مشتت الذهن زائغ العينين، ثم لا يلبث أن يمضي مسرعا كأن لديه مهمة عاجلة يريد قضاءها. وقال لي عمرو إن حازما كانت لديه مشكلة فريدة، وهي حب والدته إلى درجة التقديس، مما جعله يفشل في إقامة أي علاقة عادية مع أي فتاة صغيرة، وكان قد عرض على عمرو فكرة التآخي في الدم؛ أي أن يقطع شريانا في ساعده وشريانا في ساعد عمرو، ثم يمزج دماهما حتى يرتبطا إلى الأبد، ولكن عمرو كان يرفض. أما مشكلته فهي ميوله الانتحارية؛ إذ حاول الانتحار عدة مرات، وكان عمرو يخشى أن يوفق في إحدى هذه المحاولات آخر الأمر. وبعد سنوات قليلة نجح فعلا، رحم الله حازما.
لا أدري إلى أي حد كان عمرو مصيبا في تشخيص مشكلة حازم، والأرجح أنه كان متأثرا برواية «أبناء وعشاق» للكاتب الإنجليزي د. ه. لورانس، وكنا نقضي ساعات طويلة في تحليل بعض فقراتها، بينما فعلنا ما لم يفعله غيرنا من الطلبة آنذاك وهو أن قرأنا رواية «صورة الفنان شابا» للكاتب جيمس جويس بصوت عال! كان عمرو يقرأ فصلا وأنا أتابع، ثم أقرأ أنا فصلا آخر وهو يتابع، ونعلق أثناء القراءة على النص، ولكن كلا منا قرأ رواية «لورد جيم» وحده، وانتهزت أنا فرصة مرض الإنفلونزا الذي ألزمني المنزل ثلاثة أيام للانتهاء من رواية «السفراء» للكاتب الأمريكي «هنري جيمس». وكنا نتواعد تليفونيا على اللقاء كلما قطعنا شوطا في الاستذكار.
وكان مذهبنا في دراسة شيكسبير يعتمد على قراءة النص بصوت عال وبلهجة تمثيلية، وكنا نحفظ منه فقرات مطولة هي «المونولوجات» التي يلقيها أحد الشخصيات كالملك لير مثلا، ولن أنسى ذلك اليوم الذي «سمعنا» فيه أهم المونولوجات ونحن جالسان في أتوبيس رقم 6 الذي يمر بالجامعة، وبالعجوزة وبالزمالك، ثم ينتهي إلى العتبة، في ميدان الخازندار.
وقد ترك لي عمرو مهمة إعداد مذكرات كاملة له في اللغة العربية يحفظها عن ظهر قلب، ففعلت ذلك، وكانت نتيجة امتحان الفصل الدراسي الأول أجمل مما أتوقع؛ إذ كنت أعلى الطلبة درجات في كل شيء، والأول بلا منازع. ولم يكن ذلك يعني إلا أن جهودنا آتت أكلها، وأن علينا مواصلة الجهد حتى نقهر الآخرين في الصراع على القمة. وعندما زرت أخي حسن في الإسكندرية، حيث كنت استدعيت للتجنيد، أخبرته بالنتيجة، وكان يقيم بالمدينة الجامعية في سموحة، ويدرس في كلية العلوم، وجعلنا نقارن بين ما أدرسه أنا وما يدرسه هو، وكنت مغرما بالعلوم، فتحدث وأفاض، وتعرفت عن طريقه على عدد من زملائه النوابغ الذين يتمتعون بجذور ريفية، ولم يستطيعوا التخلص من عاداتهم القروية في المدينة، فكان أحدهم يقضي حاجته في الخلاء (في الغائط)؛ لأنه لم يستطع التكيف مع النظم الأوروبية، وكان كثيرا ما يصطدم مع سلطات المدينة الجامعية لهذا السبب، ولكنه كان، فيما يبدو، لا يملك تغيير العادة التي اكتسبها طفلا ودرج عليها، وعندما قابلته في لندن بعد سنوات، وكان يدرس للدكتوراه في ليفربول، ذكرته بأحوال الإسكندرية فضحك وقال إنه يخادع الإنجليز ويفعل ما يحلو له بطريقة مبتكرة!
في بداية الفصل الدراسي الثاني، أي في أوائل عام 1959م، دعانا الدكتور رشاد رشدي لمشاهدة مسرحيته الثانية «لعبة الحب» في دار الأوبرا القديمة، التي احترقت بعد ذلك بعشر سنوات، وكان الحشد كبيرا والعرض شائقا، فالتقينا في الاستراحة (سمير سرحان ووحيد النقاش وأنا)، وتناقشنا في إبداع عبد الحفيظ التطاوي وزيزي مصطفى وليلى نصر (التي كانت تقوم بدور خادمة بلهاء) وميمي جمال وغيرهم، ولكنني أحسست أن عاصفة ما توشك أن تهب، فمع أن المسرحية كانت في صلبها «أخلاقية» تدعو إلى الإخلاص في العلاقات الزوجية، و«التفرد» في الحب، فقد كان تصوير العلاقات الجنسية على المسرح، وهو الذي عمد إليه الكاتب حتى يدينه، جذابا بطبيعته مثيرا للتفكير، مما كان ينذر بإساءة فهمه وتفسيره. وكانت فرقة «المسرح الحر» التي قدمت الرواية تريد ولا شك اجتذاب الجمهور، وكان المخرج «كمال يس» يقسم اهتمامه بالتساوي بين الإخلاص للنص والإخلاص للجمهور!
وهبت العاصفة المتوقعة، وكان رشدي غاضبا من إساءة فهم رمز «الذرة»؛ إذ كان يصور الفتاة في صورة دجاجة حبيسة في قفص، يحاول الرجل إغراءها بالخروج منه عن طريق التلويح بحبات الذرة، وكان النص يصف حبات الذرة بأنها طرية ولذيذة، ولكن المخرج وضع في يد الممثل «كوز ذرة» مما جعل الرمز يقبل تفسيرا مختلفا! وتوالت المقالات التي تسب المسرحية، مما زاد من إقبال الجمهور، ولاحت الفرصة لأصحاب الاستقطاب والتصنيف لأن يضعوا رشاد رشدي في «خانة» اليمين الذي يكتب الفن من أجل الفن، وتوجيه التهمة الصريحة إليه بأنه يعزل نفسه عن قضايا المجتمع، وخرجت إحدى المقالات تقول: لقد تجاهل أزمة المواصلات ومشاكل الكادحين، وجعل يتحدث بدلا من ذلك عن ضرورة الإخلاص والوفاء! وليته (يقول المقال) عالج الإخلاص للوطن، ولكنه عالج الإخلاص للمرأة! وهل المرأة (يقول المقال) من القضايا الملحة للمجتمع؟
وبانتهاء العام الدراسي، والاطمئنان إلى حد ما إلى ما ستكون النتيجة عليه، عدت إلى مكتبي. كان والدي قد أعطاني مكتبه الضخم الذي نقله من «رشيد»، وكانت أمتع أوقاتي هي التي أقضيها جالسا أقرأ في الكرسي الضخم، أو أكتب أو أترجم. كنت قد اكتشفت موردا لا ينضب للمال عن طريق الترجمة لدار الشعب؛ إذ كنت بدأت في الصيف ترجمة كتاب «فنون الجنس البشري» من تأليف هندريك ويليم فان لون (وهو هولندي)، وكنت كلما سلمت فصلا مترجما إلى الأستاذ إسماعيل شوقي، رئيس تحرير المطبوعات، نفحني خمسة جنيهات، فكان ذلك دخلا هائلا يتيح لي أن أذهب إلى السينما وأن أتناول الطعام في المطاعم الفاخرة، وعدم اللجوء إلى خالي عبد الحليم كلما احتجت إلى المال. ولكن الكتاب طويل، وكنت أعاني في ترجمته معاناة شديدة.
وذات يوم، وكانت الساعة قد قاربت العاشرة في صبيحة أحد أيام يونيو عام 1959م، وصل عمرو برادة يقود سيارة الأسرة (فورد 56)، وطلب مني الخروج معه على عجل. وارتبت في الأمر ولكنني خرجت معه حتى انتهت بنا السيارة إلى شارع الشريفين حيث مقر الإذاعة، وقال لي هذا هو مقر الامتحان .. ادخل! واتضح أن الإذاعة كانت أعلنت عن مسابقة في الترجمة والتحرير للمذيعين الجدد، ولم يكن أحد قد اهتم بها (بل لم نسمع عنها)؛ لأن الحصول على مؤهل جامعي شرط من شروط التقدم للامتحان. وعندما لمح عمرو ترددي قال لي بثقة إنه اتفق مع رمسيس عبد الباري (رحمه الله) أن يسمح لي بالدخول. وفعلا أديت الامتحان، مع أنني وصلت متأخرا، وعندما سلمت الورقة وهممت بالرحيل استوقفني رمسيس وقال: «عناني! استنى!» وخفت أن تكون الحيلة قد انكشفت فترددت، ولكن صوته كان حاسما، فعدت إليه فاصطحبني إلى الدور الثاني حيث مكتب الأخبار، وتهامس مع إسحق حنا رئيس المكتب، ثم أومأ إلي أن تعال. وتركني مع إسحاق وخرج. وقال لي إسحاق بلهجة ضاحكة: سوف نستعيرك من قسم الأخبار الأجنبية مؤقتا بسبب حاجتنا الشديدة إلى من يعرف العربية! اتفضل! وجلست إلى مكتب في زاوية القاعة، ووضع إسحاق أمامي بعض البرقيات التي حملتها وكالات الأنباء العالمية، فانتهيت من ترجمتها على الفور وأعدتها له، فقرأ الخبر الأول وألقاه جانبا بعد أن شطب عليه بخط مائل، ثم قرأ الثاني وصاح غاضبا «تقارير إيه؟ الأنباء يا أستاذ! والا حتعمل زي ميلاد؟» وأدركت أنه يصحح خطأ كاد أن يشيع في ترجمة (
reports ) بتقارير بدلا من أنباء، وكان محقا، فالفعل معناه «يبلغ» أو «يخبر»؛ ومن ثم فالاسم لا بد أن يكون «الأخبار» أو «الأنباء»، ولكن الإشارة إلى ميلاد حيرتني!
وسرعان ما تعرفت بالقدماء في غرفة الأخبار العربية، مثل سعيد عثمان الذي انتقل إلى صحيفة المساء فيما بعد، وميلاد بسادة، وسنية ماهر، وحسين الحوت، وحنا إلياس. أما «ميلاد» فكان أصلا من قسم الأخبار الأجنبية ولكن نقص الموظفين استدعى استعارته، وكانت له بعض «اللوازم» التي أصبحت علما عليه. وكان يقدم في البرنامج الأوروبي برنامجا من الأغاني الأجنبية اسمه «جامبوري» ويشكو لي أنه على شهرته لا يحس بآثار هذه الشهرة، فلا يعرف أحد شكله ولا يحظى بإعجاب الفتيات كما ينبغي! وقد هاجر من مصر فيما بعد وأصبح مخرجا سينمائيا عالميا. أما حسين الحوت فكان الكهل المخضرم، وكان مسئولا عن مراجعة جميع الترجمات ، وكان سعيد عثمان يتمتع بثقة كبيرة في نفسه، لطيف المعشر، وهمس لي أحدهم أنه زوج آمال مكاوي أخت سعد لبيب - وهو من هو! أما حنا إلياس فكان دائم التفاخر بأنه يترجم كتاب «المأساة الشيكسبيرية» من تأليف أ. س. برادلي ، وأن الذي يتولى المراجعة أعظم أستاذ متخصص - الدكتورة سهير القلماوي! ولم تكن سنية ماهر تتكلم كثيرا ولكنها كانت دائما تشير إلى الرقابة على المصنفات الفنية، وهمس لي الهامس بأنها زوجة مصطفى درويش رجل الرقابة المرموق، وإن كانت اعتدال ممتاز هي الرقيبة التي يظهر اسمها في السينما؛ لأنها - همس الهامس - زوجة «أحمد» رشدي صالح!
وفي الأيام التالية أعلنت نتيجة المسابقة، وكان من بين الناجحين سمير صبري، خريج الإسكندرية، وعبد الفتاح العدوي، خريج القاهرة، الذي كان يقيم في شارعنا ويتفاخر محقا بتمكنه من اللغة العربية. ولكن رئيس قسم الأخبار الأجنبية محمد إسماعيل محمد، المتخصص في اللغة الإيطالية والذي كان يعاني من حدب في ظهره أصر على استدعائي من القسم العربي، إلى جانب سمير صبري؛ فالقسم في حاجة ماسة «إليهما»! وانتقلت في أوائل يوليو إلى القسم الأجنبي، فتعرفت على أليك (أي إسكندر) مجلي صاحب برنامج ما يطلبه المستمعون من الأغاني الغربية، وسليم رزق الله، المترجم الخاص لرئاسة الجمهورية، وقريصاتي، المترجم إلى اللغة الفرنسية، وزميله ماريو الذي تخصص في النشرات الإيطالية، وأميمة عبد الفتاح (الفرنسية). وتوثقت صداقتي مع شخص يدعى نابليون طنوس جاء باختراع عجيب إلى دار الإذاعة، وهو راديو «محمول» يسمى ترانزستور! وكان نابليون يترجم العمود اليومي من الأهرام (وكان اسمه رأي للأهرام، ثم أصبح رأي الأهرام)؛ مما كان يقتضي منه أن يحضر في الفجر كي ينسخه على الآلة الكاتبة ويوزعه على أقسام اللغات الأجنبية الأخرى، وكان يتقاضى عن كل «عمود» جنيهين اثنين، لكنه كان قد مل العمل المبكر، وأصبح يعمل في وكالات الأنباء الأجنبية بأجر أكبر (أضعاف أضعاف هذا المبلغ)؛ ومن ثم دربني على ترجمة «العمود»، وزكاني لدى محمد إسماعيل محمد، فإذا به ينفجر قائلا: «انتو بتشتغلوا من ورايا؟ اسمع يا عناني! أنا موش ملتزم بأي شيء لك! وأنت كنت عايز تعمل العمود حتاخد تلت الأجر؛ لأنك موظف هنا! عايز تاخد الفية كلها استقيل!»
ويبدو أنه أدرك، رحمه الله، أنه أخطأ في حقي، أو ربما أراد التحقق وحسب من موقفي القانوني، فأرسل إلى قسم العقود بالشئون القانونية يستفتيهم، فإذا بهم يقولون إنهم لا يعرفون شيئا عني! ولذلك وجدته في اليوم التالي يسألني إن كنت قد استكملت مسوغات التعيين! فلما أنكرت صاح قائلا: «أمال بتشتغل بصفة إيه؟ روح كمل مسوغاتك وتعال!» لم تكن نتيجة الليسانس قد أعلنت، فعدت حزينا كاسف البال إلى الجامعة وأنا أعجب كيف ضاعت هذه الفرصة الثمينة، وطفقت أسأل عن موعد النتيجة، فأخبروني أنها على وشك الظهور، فذهبت إلى مبنى الكلية الرئيسي أتشمم الأخبار، فقابلت الدكتور شكري عياد على السلم، ودعاني إلى غرفة أساتذة قسم اللغة العربية وقال لي دون مقدمات: اتصل بالدكتور عبد الحميد يونس لأنه يريد من يساعده في ترجمة شيء ما، واتصل بسامي داود في صحيفة الجمهورية. فلك لديه عمل. ولاح الأمل من جديد!
اتصلت بالدكتور يونس فقال لي إنه مكلف من قبل جامعة الدول العربية، بترجمة مسرحية «طرويلوس وكريسيدا» لشيكسبير بعد أن رفضت لجنة المراجعة ترجمة أخرى كان طه حسين قد كلف بها عراقيا لا يلم الإلمام الكافي باللغة الإنجليزية. وقال إنه لن يعطيني راتبا بل 10 في المائة من «الأرباح»، ولما كانت «الأرباح» (أي أجر الترجمة) في حدود مائتي جنيه، رأيت أن النسبة معقولة، وبدأنا العمل. وعندما ذهبت إلى سامي داود سألني عن تخصصي فقلت له الأدب، فأحالني إلى رشدي صالح الذي كان يحرر بابا أسبوعيا عن أخبار الأدب. وكلفني رشدي صالح بجمع «الأخبار» الأدبية، ولكنني عندما جمعت الأخبار وجدت صحفية أخرى اسمها زينب حسين، ذات ملامح آسيوية، تسيطر تماما على ذلك الباب، وتأتي بكل ما يثير شهية القارئ؛ إذ أجرت تحقيقا صحفيا مع الشاعر السوري عمر أبو ريشة، هاجم فيه المدرسة الجديدة هجوما شديدا، وكان أحق بالنشر من أي أخبار!
لم أذهب إلى الإذاعة يومين متتاليين ، لا لأنني كنت غاضبا بل لأنني كنت حزينا، وفي مساء اليوم الثاني من انقطاعي وجدت رسالة تليفونية من نابليون طنوس يستنجد فيها بي، وترك رقم تليفونه فاتصلت به وقال لي إن إسحاق حنا ينتظرك غدا في العاشرة صباحا؛ لأن جمال عبد الناصر في سوريا وهو لا يتوقف عن إلقاء الخطب بمناسبة عيد ثورة يوليو، ولا يوجد العدد الكافي من المترجمين «إلى الإنجليزية» لديه. وذهبت إلى إسحاق في اليوم الثالث، ولاقاني بنكاته وقفشاته، بالإنجليزية والعربية مثل «يومين في السكة؟ انت جاي من «رشيد» مشي؟» دون أن يفتح موضوع «الزعل»! وكان معه زميله في رئاسة التحرير إبراهيم وهبى، فتولى الأخير مفاتحتي في أن أعمل معهم في القسم العربي حتى يتم التعيين، وقال إنه سوف يكون بتاريخ سابق، يحفظ لي أقدميتي. ولم أعقب. وقد لاحظت ذلك دائما في سلوكي عند الأزمات. إذ إن الصمت أبلغ من الحديث. وبدأت العمل فورا، وانتهيت في نحو الثالثة بعد الظهر من الخطاب الذي كان عبد الناصر قد ألقاه في الصباح، وكان ميلاد بسادة يراجع النص الإنجليزي صفحة صفحة، ويعطيه لعم محمد «الساعي»، الذي يحمل الصفحات ويختفي.
لم يقل أحد شيئا. وكنت أعمل «وردية» المساء في اليوم التالي، وكان البرنامج اليومي لعملي مع الدكتور يونس هو أن أقوم في الصباح «بتحضير» النص الذي سيترجمه هو بعد الظهر (معاني الكلمات «الصعبة» وشرح العبارات الشيكسبيرية الغامضة ومقارنة الطبعات المختلفة؛ لعقد المقارنات بين آراء النقاد وتفسيراتهم) ثم أذهب في الثالثة إلى فيلا يونس حيث نعمل حتى السادسة أو السابعة، ومنه إلى الإذاعة. وعندما وصلت إلى الإذاعة في مساء ذلك اليوم وجدت في انتظاري يحيى أبو بكر. كان يعمل مديرا لمكتب القائمقام عبد القادر حاتم الذي ترقى من مدير مصلحة الاستعلامات إلى مدير مكتب قائد الجناح علي صبري وزير شئون رئاسة الجمهورية. وقال لي يحيى أبو بكر إنه سمع كلاما طيبا عني، ويريدني أن أقرر إذا ما كنت سوف أستمر في الإذاعة أم أفكر في تغيير «المستقبل العملي» - أي الوظيفة! ودهشت. وتساءلت هل ساءه ما قرأ من ترجماتي فقال فورا: «بالعكس! لكنني أريدك معي!» ورد إسحاق حنا على الفور ضاحكا: «فوق!» وقال يحيى أبو بكر: «يعني في الدور الخامس!» وقلت له: إنني أريد العمل معيدا في قسم اللغة الإنجليزية إذا سنحت الفرصة، وإن كنت لن أتوقف عن الترجمة والكتابة؛ فأنا أحب الأدب حبا جما! وقال لي دون انفعال: «فكر وقل لإسحاق!»
وذات يوم وكنا في أوائل أغسطس قال لي إسحاق حنا إن الامتحان الشفوي للمذيعين (الناجحين في الامتحان التحريري) سوف يعقد يوم السبت، وهو من الشكليات التي لا بد منها، وأن الذي سيمتحن للمتقدمين لصوت العرب شخص اسمه أحمد طاهر، على ما أذكر، ولم يكتب لي أن أراه. وأما لجنة البرنامج العام ففيها وجوه مألوفة، ولم يفصح. وعقد الامتحان وكان على رأس المنضدة الدكتور مهدي علام، عميد آداب عين شمس، ومعه محمد محمد عبد القادر، رئيس الأخبار، وعبد الحميد الحديدي، نائب مدير الإذاعة، وإسحاق حنا وإبراهيم وهبى! وبمجرد جلوسي أعطيت نصا أقرؤه فقرأته دون تلعثم، محاكيا كبار المذيعين آنذاك (جلال معوض وصلاح زكي وفاروق خورشيد وأحمد فراج) فاستوقفني مهدي علام ليسألني عن معاني بعض الكلمات وتصريفها بالعربية، وعن بعض معاني الكلمات الإنجليزية، وكان طلق اللسان بالإنجليزية! فأجبته محاكيا نبرات الدكتور مجدي وهبة، ثم تلاه عبد القادر فسألني عن حائط برلين، فقلت له إن المشكلة هي أن برلين الغربية تقع داخل ألمانيا الشرقية، فأوقفني مكتفيا بنصف الإجابة، بينما كان إسحاق حنا - حتى في هذا الموقف الجاد - يميل إلى الضحك، فسألني كيف تترجم
reports ؟ وشككت في مدى جدية السؤال، فقلت له: في لغة الإعلام لها معنى وخارجها لها معنى آخر، فقال لي إبراهيم وهبى: خلاص! ونظرت إلى عبد الحميد الحديدي منتظرا سؤاله فلم يسأل، وانصرفت خارجا.
وعندما عدت إلى المنزل كلمني عمرو برادة في التليفون، وحكى لي أنه قابل رشاد رشدي في «وسط البلد» وتناول معه الشاي، ووعده بأنه يعينه في القسم، دون أن يذكر أحدا من الآخرين الحاصلين على جيد جدا، وكنا سبعة: سلمى محمد غانم (التي هاجرت إلى كندا)، وعفاف مصطفى المنوفي (الأستاذة حاليا في القسم)، وأحمد الطيب كردفاني (سوداني) (السفير حاليا بالخارجية السودانية)، وعبد المجيد بيومي حسن (رئيس قسم الترجمة بالأمم المتحدة)، وعمرو برادة (الذي هاجر إلى الولايات المتحدة)، وعايدة فراج طايع (التي هاجرت إلى الخارج)، وأنا. لم أكن الأخير طبعا، ولكن احتمالات التعيين كانت تضعني قطعا في آخر القائمة! وقال لي عمرو إنه ذكرني بالخير لرشاد رشدي، وأن الأستاذ لم يرد عليه ردا شافيا.
ولا أذكر ظروف امتحان مدرسي اللغة الإنجليزية بوزارة التربية، وكيف وجدت نفسي أمام اللجنة، وكيف أنني تلقيت خطابا بالتعيين في مدرسة الظاهر التجارية الثانوية للبنين، وكيف تلقى زميلي رضا فرحات خطابا بالتعيين في مدرسة ثانوية بالإسكندرية، في محرم بك بالقرب من مسكننا القديم، ولكنني أذكر تماما أنني ذهبت معه للتنازل عن مكاني في القاهرة؛ إذ كنت الوحيد الذي جاءه التعيين فيها، وفي أوائل سبتمبر كنت داخلا دار الإذاعة حين قابلتني «دورا حليم» المترجمة الفذة (رحمها الله)، زوجة الدكتور ناصح أمين، وصاحت في وجهي «مبروك! المدير مضى ورقك!»
وذهبت من فوري إلى إسحاق حنا لأستوثق فقال لي: مبروك عليك «سمعة» (يقصد محمد إسماعيل محمد) فدهشت! ما علاقة التعيين بقسم الأخبار الأجنبية؟ وقال إسحاق موضحا: ممكن تشتغل بروحين! (وضحك ضحكة مجلجلة) وعلمت فيما بعد أنه هو الذي أخذ «أوراقي» إلى محمد أمين حماد، رئيس الإذاعة، وحصل على توقيعه بنفسه. وأحسست بالامتنان لهذا الرجل الذي لم يتوقف يوما عن العمل الجاد، وكان المشهور عنه أنه يكتب أفضل التعليقات، وأن إذاعة إسرائيل ترد عليها دون سواها. وما إن دخلت رسميا غرفة الأخبار الأجنبية حتى وجدت اختلاف «الروح» واضحا! كان الجميع يرحبون بي، وعلى رأسهم «سمعة»! ومع نهاية أكتوبر بدأت أحس بأن عملي في الإذاعة لن يستمر، صحيح أنني استلمت شيكا بستة وتسعين جنيها (مائة بعد خصم الضرائب) نظير العمل خمسة شهور، حسب ما وعدني إسحاق حنا، وكنت أسعد خلق الله طرا، إلا أنني شعرت بأن الجامعة تناديني، خصوصا بعد أن انتهيت من العمل في المهمة الأولى مع الدكتور يونس، وحصلت على مقدم الأتعاب (عشرة جنيهات) وبعد أن تركت صحيفة الجمهورية!
وكان يقيم في حي العجوزة معنا بعض طلبة قسم اللغة الإنجليزية، وكان من الطبيعي أن نتحادث ونتشاور، وكان من أقربهم إلى قلبي شاب خجول اسمه ماهر حسن البطوطي، لم يكن يتحدث كثيرا، وكان أخوه الأكبر عصام قد تخرج في كلية البوليس وحصل على أعلى التقديرات في ليسانس الحقوق الذي يدرسه الطلبة في نفس الوقت، وكان المأمول أن يحصل ماهر أيضا على جيد جدا في السنة الرابعة (التالية)، وكنت أتردد عليه، وذات يوم شاهدت عبد اللطيف الجمال، الذي كان معيدا في القسم، في المنزل المقابل! وخرجت لمقابلته، وكنت أتردد عليه أيام مقامه في المدينة الجامعية، وكان قد انتهى تقريبا من رسالته للماجستير في النقد الأدبي بإشراف رشاد رشدي، وسألني عن الأخبار، فقلت له إن الأمر ميئوس منه؛ لأن رشدي قد انتدب عمرو برادة وسلمى غانم وعفاف المنوفي فقط للعمل، وإنني قد استقر بي الأمر في الإذاعة، وتحادثنا حول الاحتمالات، فقال لي: «اقطع الشك باليقين .. قابل رشدي واسأله!» مع أن الدراسة قد بدأت بالفعل! ثم أردف قائلا: «كلمه بالتليفون وخذ منه موعدا.» وأخذت منه الرقم، وحادثته بالتليفون فدعاني إلى الحضور إلى منزله في صباح اليوم التالي.
وعندما ذهبت إليه تحادثنا في كل شيء إلا في التعيين، وحاولت أن أذكره بوعده ولكن الفرصة لم تسنح، وسألني عن رأيي في أساتذة القسم، فقلت له «لست في موقع يسمح لي بالحكم .. ولكنني أحببت مرسي سعد الدين وأحبه الطلبة.» وكان مرسي منتدبا من الخارج للتدريس لدينا، ولم أكن أدري أن تلك الملاحظة كانت وراء إلغاء انتدابه، فكانت تلك السنة آخر سنة يقوم بالتدريس فيها لدينا! ثم قال كأنما لينهي المقابلة، وقال بنبرات عارضة وهو يسير معي إلى الباب: «تعال غدا إلى القسم حتى نرى ما يمكنك أن تدرسه.» وخرجت. ولم أنتظر المصعد. كنت أقفز درجات السلم قفزا، وذهبت إلى عبد اللطيف الجمال فأيقظته من النوم وصنعت له الشاي، فأخبرته فقال بنبرات حزينة: مستقبل مدلهم!
9
وقبل أن تبدأ الدروس، دخلت مدرج 13، وهو أكبر مدرج في مبنى القسم، وكان خاليا ونظيفا، ووقفت وحدي أتأمل المستقبل؛ فلربما كتب لي أن أقف فيه موقف الأستاذ بعد أن جلست فيه تلميذا ، ولكن كلمة المستقبل «المدلهم» التي نطقها عبد اللطيف الجمال كانت تسيطر على خيالي؛ فكم قضى من ليال يقرأ وينقل مذكرات عن آراء إليوت النقدية، وآراء أرنولد، ويربط أرنولد بحركة رومانسية غاربة، على ما في نقده من بذور الحداثة؛ ابتغاء إقامة تضاد بين المدرسة الفكتورية ومدرسة النقد الحديث! وكم من ليال أصابه اليأس فيها! وكم عانى من الوحشة وهو يرصد فكرة جديدة تزيل الحاجز الموهوم بين وظيفة اللغة التوصيلية؛ أي باعتبارها وسيلة لنقل المعاني، وبين الوظيفة الإبداعية؛ أي باعتبارها كيانا مستقلا (خصوصا في الشعر) له قوانينه وعالمه الخاص به! وتذكرت أنه كان يتقاضى خمسة عشر جنيها لا تكاد تكفي نفقات الحياة المفردة، فما بالك بالزواج! وتصورت أن الأمل الذي لاح خادع، فجعلت أذرع الغرفة من أقصاها إلى أقصاها وأنا أعجب لمشاعر الحزن التي لا مبرر لها، وذكرت قول وردزورث «قد تحمل الأفراح للشعراء أتراحا مقيمة!» وفي الوقت نفسه ذكرت عكس ذلك المعنى في قول حفني ناصف يمتدح حرارة الجو في «قنا» عندما نقل إليها:
سر الحياة حرارة
لولاه ما طير تغنى
كلا ولا زهر تب
سم لا ولا غصن تثنى!
ووجدت نفسي حائرا، لا أستطيع سوى ركوب البحر نفسه، فبدأت أنشد ما بدا لي وحي تلك اللحظة:
هيهات لا يسخو الزما
ن فكيف هذا اليوم جاد
هيهات أن يبدي الثنا
يا غير فتاك وعاد
لا تنخدع يا صاح بال
بسمات في وجه القتاد
لا تنخدع بالصحو إ
ن ذكاء تأوي للرقاد
فالزهر يخفي شوكه
والعطر قد يخفي الفساد
والأرقم الفتان يك
من في التلال وفي الوهاد
والضب ينذر بالردى
ويبثه في كل واد
والنار قد تشتد وق
دتها لتنذر بالرماد!
ولم أكتب من هذه الأبيات شيئا حتى عدت إلى المنزل فسجلتها، وحاولت الزيادة فلم أستطع؛ فكأنما مرت اللحظة بكل ما فيها، ولم أتنبه إلى أنني لم أضع قافية للشطر الأول إلا عندما قابلت صديقي صلاح عيد (الدكتور الآن) الذي كان في قسم اللغة العربية، فأشار إلى ضرورة إبدال الزهر بالورد، وحذف البيت الذي يتضمن خطر «الضب»، أو تغيير الضب إلى «الناب» (أي ناب الثعبان) وقال إن اللام الملحقة بآخر فعل في القصيدة لا معنى لها (لتنذر)، وربما كانت الفاء أقوى تعبيرا! ولكنني كنت قد قررت أن ألقي بالأبيات في غياهب النسيان؛ إذ كنت كلما نظرت فيها وجدت تناقضات في الصور تمنع من إبراز صورة موحدة؛ فالبيت الأول يوحي بالغيث، ولا شك أن صورة «جادك الغيث إذا الغيث همى» تكمن وراءه، وبعد ذلك تصبح صورة الزمان صورة وحش كاسر، ومن خلفها ما أبدعه المتنبي: «إذا رأيت نيوب الليل بارزة»، وإن كانت «الثنايا» مستوحاة من أحمد شوقي: «واستخبروا الراح هل مست ثناياها»، ثم يتحول الجو إلى صحو! والصور التالية تزيد الطين بلة! ومن ثم قررت أن تكون تلك الأبيات هي آخر عهدي بالشعر العمودي! باستثناء «الإخوانيات»، وما جرى مجراها من هذا النظم، ودفعني الغرور أو رفض التسليم بالعجز إلى تصور أن الشكل نفسه هو سبب التمزق، لا أي ضعف في إحكام الصنعة، وقرأت مقدمة ديوان «نداء القمم» للدكتور يوسف خليف فعرفت أن بيني وبين إحكام الصنعة المنشود أميالا طويلة، وسألت الدكتور حسين نصار عن مشكلة القافية الموحدة، فقال لي إنني لا يجب أن أقلق لأن هذه مشكلة يواجهها الجميع، والشاعر المتميز هو من تزيد ذخيرته اللفظية عن حاجات القافية، فيستطيع «الاختيار» دون أن تفرض القافية الواحدة عليه كلمات بعينها، وذلك ما لم أكن أستطيع أن أزعمه لنفسي أبدا!
وعندما قرأت كتاب «لانجبوم» واسمه «شعر التجربة»، بعد ذلك بعدة سنوات في إنجلترا، أدركت حقيقة عدم رضائي عن الأبيات! إنها جميعا مستقاة من مصادر أدبية قديمة، ومن لغة القدماء، وصورها لا علاقة لها بالتجربة الخاصة التي كنت أواجهها، على عكس «عروس الليل» أو المقطوعات القصيرة التي كنت أكتبها من حين لآخر، ولا يجمع بينها مشهد تجربة واحد، فوحدة المشهد تملي وحدة الصور، وليس معنى الوحدة هو أن تكون الصور متماثلة، بل أن تكون متسقة ومتجانسة! وناقشت موضوع التجانس مع هدى حبيشة (الدكتورة فيما بعد)، فدلتني على كتاب عن الأنماط الفطرية، (أو النماذج القديمة، النماذج العليا) في الشعر، من تأليف أستاذة اسمها «مود بودكين»، فقرأته (بعد ذلك بنحو عام أثناء دراستي للماجستير)، واكتشفت أن نظرية عالم النفس الأشهر «كارل جوستاف يونج» من وراء هذا الكتاب، وموجزها أن الإنسان يولد بوعي إنساني مشترك بأشياء معينة وبمعاني تلك الأشياء، ومنها النار والماء والهواء والدم وصور الثعبان والصحراء والبحر والدائرة والمثلث وما إلى ذلك؛ فهي فطرية، وهي قديمة، وهي نماذج أو صور أو رموز، يتفق عليها البشر مهما اختلفت لغاتهم وثقافاتهم. وقد طبقت الدراسة هذه النظرية على الشعر؛ تأكيدا لما زعمه يونج من وجود «وعي جماعي» بشري، ومستوى باطني لا يعيه الإنسان كل الوعي، يتضمن هذه النماذج الفطرية، يمكن وصفه «باللاوعي الجماعي»، وتخرج الباحثة من تطبيقاتها على الشعر بأن الشاعر الناجح هو الذي يستطيع إجراء المقابلات الناجحة بين هذه النماذج الفطرية وبين أحداث حياة الإنسان بدلالاتها «العارضة» المتغيرة غير ذات المعاني الفطرية!
ولذلك فما إن عدت إلى القصيدة حتى أدركت سببا آخر لفشلها! إن بها الكثير من هذه النماذج الفطرية، ولكنها لا تقابل أبدا أي عناصر واقعية ملموسة من عالم الخبرة أو التجربة «العارضة»؛ ولذلك فهي تنتمي إلى المستوى الجمعي فقط، ولا تتوافر لها العناصر الفردية التي تبلور خصوصية التجربة ودلالاتها الخاصة! ونظرت إلى الصور المقابلة في شعر الفحول، فتأكد لي ضعف آلتي! هذا المتنبي يتحدث عن الزمان فيطور الفكرة من الداخل في أبياته المشهورة «صحب الناس قبلنا ذا الزمانا»، فعينه دائما على الفكرة الأساسية التي تتحول لديه إلى إحساس؛ ومن ثم تتفق صورة الزمان باعتباره رحلة (نموذج فطري)، وصورة مرارة العيش التي يحسها هو (الصور العارضة) والمقابلة بين صور الرحلة باعتبارها القوة المحركة تتضمن صورة الراحل باعتبارها مشاركا في صنع هذه القوة، ولا عجب في أن تنتهي القصيدة ببيت يقابل بين لحظتين في الزمان؛ «ما لم يكن» و«إذا هو كان».
كل ما لم يكن من الصعب في الأن
فس سهل فيها إذا هو كانا
فاللحظة الأولى هي لحظة الترقب (الصعب) واللحظة الثانية هي لحظة التحقق (السهل)! ولا يتحول الصعب إلى سهل إلا عندما تتحول الرحلة (القوة المحركة) إلى نموذج فطري للحركة، يبتلع «عوارض» الزمن - والزمان!
كنت وما زلت أحفظ تلك «القطعة» (عشرة أبيات) من بحر الخفيف، وأتأملها في دراستي لشعر الأجانب، فيتأكد لي ضعف حيلتي وقصور موهبتي، ويتأكد لي أيضا ما في تراثنا ولغتنا من در وجوهر! إن «وحدة البيت» لم تمنع المتنبي من إخراج وحدة تامة للقطعة، وما قاله مدرس اللغة العربية (محمود الميقاتي رحمه الله) من أن معنى البيت الأخير مأخوذ (أي مسروق) من قول البحتري:
لعمرك ما المكروه إلا ارتقابه
وأبرح مما حل ما يتوقع
لا يصمد للتحليل وفق المناهج الحديثة؛ فالمتنبي ينتهي إلى الخاتمة في إطار صورة الزمان نفسها بعد أن يقابل بين النموذج الفطري والصور العارضة، وهذا ما لم يفعله البحتري الذي يقدم المعنى في عبارتين تقريريتين مترادفتين؛ كالحكم العامة غير المطورة من الداخل!
ولم يكن هجري للشعر العمودي قرارا سهلا، أو حتى قرارا إراديا؛ فما كنت قادرا على محاكاة الفحول، وما كنت قادرا على التجديد، ومن ثم قررت التفرغ للتخصص ودراسة الماجستير في الأدب الإنجليزي.
وكانت السنة التمهيدية للماجستير، السابقة للتسجيل للدرجة، تقتضي دراسة ثلاث مواد؛ هي: الشعر، والنقد، ومناهج البحث، وكان يدرسها أمين روفائيل، ورشاد رشدي، ومجدي وهبة على الترتيب. فأما الشعر فكان «الشعر الرومانسي» وكان علينا أن نجيب أولا على السؤال التالي: لماذا كتب وردزورث وكولريدج ديوان «المواويل الغنائية» أو «البالادات» الغنائية، و«البالاد» هو الموال الغربي - وقد فصلت القول فيه في كتاب أصدرته بعد ربع قرن؛ أي عام 1984م بعنوان «الأدب وفنونه» (الثقافة الجماهيرية، مكتبة الشاب)، ولماذا هي «بالادات»؟ ولماذا هي غنائية؟ ولما كانت الطبعة الأولى من هذا الديوان (1789م) غير متوافرة، فقد اعتمدت على الطبعتين الثانية (1800م) والثالثة (1802م) وما بهما من زيادات ومقدمات، وأعددت دراسة رضي عنها الدكتور روفائيل ثم كلفني ببحث رئيسي في وردزورث. وقد قدر لي أن أنشر هذه الطبعة النادرة (1789م) في القاهرة عام 1986م مع مقدمة ضافية بالإنجليزية .
وأما النقد فكان علينا أن ندرس «النقد الجديد» والنقاد «الجدد» في أمريكا وبريطانيا، ثم نكتب بحثا مطولا عن منهج أحدهم. ولما كنت بطبعي لا أحب التعميم والتجريد، فقد اخترت ناقدا يطبق هذه النظريات «الجديدة» (وما هي بجديدة في الواقع) على الشعر والدراما والرواية، وهو «كلينث بروكس»، في خمسة كتب، هي: «الإناء المحكم الصنع» و«الشعر الحديث والتقاليد»، و«تفهم الشعر» (الطبعة الثالثة)، و«تفهم الدراما»، و«تفهم الرواية». وكان أهم ما أتى به «بروكس» مما يمكن أن يعتبر جديدا هو أن لغة الشعر تعتمد على «المفارقة»، وتتوسل «بالتورية الساخرة» (وهي ما ترجمها بعضهم بالسخرية)، وأن ذلك عام وشائع في شتى المذاهب الأدبية، وإن كانت صورته في الشعر الرومانسي تختلف عن صوره في الشعر الكلاسيكي؛ لأن الإحساس ب «الدهشة» الشعرية هو أساس مفارقات الشعور في الأول، والإحساس ب «المفارقة الذهنية» هو أساس توريات السخرية في الثاني. وكان «بروكس» يعمد في تطبيقاته النقدية إلى إعلاء قيمة ظلال المعاني في إيجاد أو توليد هذه المفارقات، مستندا إلى ما ذكره «وليم إمبسون» عن «الغموض» الذي يعتبر سمة مميزة للغة الشعر عن لغة النثر، وإلى ممارسات الفرنسيين في إطار منهج «شرح النصوص».
وعندما طلبت أحد كتب «بروكس» من المكتبة، قيل لي إن معيدة اسمها «نلي عزيز» قد استعارته، فذهبت إليها فوعدتني خيرا وعرضت علي أن أقرأ البحث الذي كتبته هي في الموضوع نفسه. كانت نلي فتاة رائعة الجمال، فارعة الطول، يتدلى شعرها الأصفر حتى وسطها تقريبا، خضراء العينين، وذات أنف روماني رأيت فيه مخايل السلطة القاهرة! وكانت خفيضة الصوت، مهذبة القول، فقرأت البحث على عجل واختلقت بعض نقاط الخلاف حتى أسألها فيها، وأطيل المكوث معها، أنظرها وأستمع إليها (كم جئت ليلى بأسباب ملفقة). وكانت أختها «فيوليت» تعمل أمينة للمكتبة الخاصة بقسم اللغة الإنجليزية، وكان الدكتور مجدي وهبة هو الذي أنشأ تلك المكتبة على حسابه الخاص، وكان هو الذي يدفع مرتب أمينة المكتبة. وقد وقعت مأساة أتصور أن أقصها هنا بإيجاز، استباقا لموقعها الزمني؛ إذ حدث في عام 1961م أن أعلنت نتيجة البعثات الدراسية، وكان من نصيب نلي بعثة منها، ويبدو أن الخلاف قد دب بينها وبين ضابط يدعى «عادل» كان متيما بحبها ويريد الاقتران بها قبل رحيلها فرفضت، وعندما احتد الخلاف في منزلها، استل مسدسه «الميري» مهددا إياها به، ولكنها سخرت منه فاشتدت ثورته، وازدادت سخريتها، ففقد التحكم في أعصابه وأعد السلاح للإطلاق فذعرت فيوليت وتدخلت بينهما فأصابتها رصاصة أودت بحياتها، ثم أطلق عادل طلقة أخرى أصابت نلي فوقعت، ورأى عادل المشهد فأطلق الرصاص على نفسه فمات في الحال. ومن ثم نقلت نلي إلى المستشفى حيث عولجت وبرئت من إصابتها، وسافرت إلى إنجلترا لاستكمال دراستها، حيث كانت تنتابها نوبات اكتئاب دفعتها إلى محاولة الانتحار عدة مرات، كان آخرها عام 1975م حيث ألقت بنفسها من سلم المستشفى، فقضت نحبها، رحم الله نلي.
وكان الدكتور مجدي يركز في دروس مناهج البحث على أصول البحث وطرق العثور على المراجع، وكان يساعدنا بكل ما أوتي من صبر وحكمة، لا يضيق صدره بسؤال، ويبدو دائما على استعداد للتعلم، وهو أعلم العالمين، فكان الجميع يحبه ويقدره ويسعى للاستماع إليه، وأذكر أنني عرضت عليه الصورة الأولى من بحث الشعر فقضى من وقته الثمين شطرا في التوجيه والإرشاد، حتى أصبحت لا أتصور حياة الجامعة دون وجود أستاذ من هذا اللون، وكنت في أعماقي أجعله مثلا أعلى يحتذى في كل شيء، وما زال (رحمه الله) حيا في قلبي وعقلي، أتوجه بالخطاب إليه، وأسعى للظفر برضائه.
كانت الإذاعة لا تشغل أي جانب من تفكيري، فكنت أترجم ما يطلب مني بصورة آلية، وأقضي باقي «الوردية» في القراءة حين أنتهي من الترجمة، حتى رأيت إعلانا عن تعيين مدرسي لغة إنجليزية بالقسم، في صحف يوم 31 ديسمبر 1959م فقدمت استقالتي إلى مدير الإذاعة رغم احتجاجات إسحاق حنا، وغضب إبراهيم وهبى، وذكرت للأستاذ شفيق رئيس التحرير العربي في قسم الأخبار الأجنبية أنني سوف أرسل له بديلا أفضل مني؛ هو الأستاذ عبد الفتاح العدوي، فاطمأن قلبه.
وعندما تم توقيع الاستقالة أصبحت غير موظف، ولم أقلق على التعيين في الجامعة؛ إذ كنت قد بدأت احتراف الترجمة، ومزاولة عمل آخر أحببته حبا جما وهو كتابة التمثيليات الإذاعية. كنت أسير ساعات طويلة أفكر في «الموقف» ثم أعود إلى المنزل لأكتب النص في ليلة، وأذهب للتسجيل وأتقاضى ثمانية جنيهات كاملة.
10
في بداية عام 1960م كلفني الدكتور عبد الحميد يونس بترجمة فصول من كتاب «رحلة في عالم النور»، وكان قد ترجم الفصول الأولى مترجم اسمه «أحمد خيري» لم يكتب له أن يعيش حتى يستكمل الترجمة، وكنت قد اكتسبت خبرة لا بأس بها من العمل في كتاب «فنون الجنس البشري»؛ فأصبحت قادرا على الترجمة دون أن أكتب؛ أي على «إملاء» النص المترجم على كاتب يكتبه (أي
at sight translation ) فأعارني الدكتور يونس سكرتيره الخاص (أحمد) الذي كان يعمل سائقا أيضا لديه، يقود سيارته «التاونوس»، وكثر ترددي على فيلا الدكتور يونس، فتعرفت على ابنته هالة وابنه أحمد (الدكتور الآن)، وذات يوم لا أستطيع تحديد زمنه، وإن كنت أستطيع استدعاء صورة المشهد كاملة، زاره شخص مكفوف البصر، وشكا إليه عجزه عن اقتناء آلة تسجيل للصوت، وعدم قدرته على استخدام لغة أو نظام كتابة «برايل»، وحيرته في العثور على أسلوب للقراءة والاطلاع، على طموحه وعلو همته، وكنت أجلس في ركن قصي بالغرفة ريثما ينصرف الزائر، وبعد ثوان مرت كأنها دهر طويل قال الدكتور يونس للشاب: انتفع بعيني إنسان لا يعرف كيف ينتفع بهما.
قال ذلك بالحرف الواحد، وشعرت بأن تلك الكلمات قد انطبعت في ذهني إلى الأبد! وعندما أصابني الله بالمرض اللعين عام 1992م وأجريت لي عملية، بل سلسلة من العمليات الجراحية، حرمت فيها الكلام شهرا كاملا، وكنت أتفاهم مع من حولي في المستشفى كتابة (بالفرنسية) ثم عدت إلى الكلام غير الواضح تدريجيا، كنت دائما أردد قول الله تعالى: {
ألم نجعل له عينين * ولسانا وشفتين }، وأقول في نفسي: حقا لقد جعل الله لي عينين! وإن يكن لساني قد أصابه ما أصابه، وفي هذا بلاء أي بلاء! فما زالت لدي العينان، وما زلت أعرف كيف أنتفع بهما!
وبعد «رحلة في عالم النور» كلفني الدكتور يونس بمساعدته في ترجمة «الأفكار الحية لتوماس جيفرسون» من تحرير الفيلسوف الشهير جون ديوي، وكان هذا العمل بمثابة الدرس الذي أفادني في فنون الترجمة؛ فترجمة النص الكامل، والاستماع إلى تصويبات الأستاذ، والاستفادة من خبرته المتخصصة في اللغة العربية، كانت جميعا مما لا يتاح للكثيرين من المحترفين، ولم أكن أتردد في السؤال، وكنت من الوجوه المألوفة في قسم اللغة العربية، حتى سمعت أحدهم يصفني ضاحكا ذات يوم بأنني من «المؤلفة قلوبهم»! وذات يوم خطر لي أن ألتحق بقسم اللغة العربية ولكن لوائح الجامعة لم تسمح؛ إذ لا يجوز التحاق طالب بقسم على مستوى «الليسانس» (الدرجة الجامعية الأولى) وبقسم آخر على مستوى الماجستير (الدراسات العليا)؛ ولذلك عملت بنصيحة الدكتور شوقي ضيف، وسجلت للماجستير (في مارس 1961م)، في موضوع «تطور الصور الفنية عند وردزورث»، بإشراف الدكتور رشاد رشدي. وأذكر أنني عندما بدأت العمل، أخذت أجمع كل ما أستطيع العثور عليه من لغة المجاز؛ أي من تشبيهات واستعارات وكنايات وإشارات رمزية وأسطورية؛ استنادا إلى تعريف «الصورة الشعرية» لدى سيسيل داي لويس (في الكتاب الذي يحمل ذلك العنوان)، وتعريف باحث آخر اسمه ريتشارد هارتل فوجل في كتاب عنوانه «الصور الشعرية عند كيتس وشلي: دراسة مقارنة». وملأت نحو تسعمائة بطاقة بالصور وتواريخ كتابتها ومصادرها، ولكن الديوان كان كبيرا (ثلاثة مجلدات) والطريق شاقا.
كانت أحلى ساعات العمل هي التي أقضيها في المكتبة أثناء النهار؛ أرصد فيها الصور في الديوان وأنقلها على البطاقات. ونشأت أزمة تمثلت في قرب نفاد البطاقات، وكنت قد دبرت الحصول عليها «عمولة»؛ بحيث أعددت ثلاثة آلاف بطاقة بعشرة جنيهات. ولم أجد لدي عشرة جنيهات أخرى لإعداد العدد اللازم، فذهبت إلى شارع الفجالة أحاول البحث عن مخرج، فقابلت محمود جعفر، وهو زميل في الإذاعة لم يكن قد علم باستقالتي، فوقف يحادثني عن مشاكله مع «شفيق»، وأهمها أنه منعه من النوم في غرفة الأخبار! كان جعفر يقيم في بنها التي تبعد نحو 40 كيلومترا عن القاهرة، وكان مكلفا بوردية الصباح التي يسمونها وردية الفجر؛ إذ تبدأ في الرابعة صباحا وتنتهي في العاشرة، وإن كان المعمول به أن ينصرف بمجرد إعداده نشرات الصباح العربية للإذاعات الموجهة، حتى لو كان ذلك في السابعة مثلا، مما كان يتيح له أن يعود إلى بنها للعمل في المدرسة؛ إذ كان معلما للغة العربية. وكان جعفر مشغولا بوضع شرح مبسط للنحو العربي عنوانه «ألفية ابن مالك تحت المجهر، شرح وتحقيق محمود جعفر»، فكان يأتي في المساء ويعمل في الكتاب حتى يخلو المكان، فيطفئ الأنوار وينام حتى الرابعة ثم يتولى إعداد النشرات ويرحل.
ولا أدري كيف «ضبطه» شفيق متلبسا بالنوم، ولكنه استصدر أمرا من محمد إسماعيل محمد بمنعه من النوم في المكتب، وكان معنى ذلك أن يقضي الليل في أحد الفنادق، ولا يوجد فندق محترم بأقل من خمسين قرشا، وهو بالتأكيد لا يحب (هكذا قال) أن يذهب إلى شارع كلوت بك، حيث الفنادق الرخيصة (من عشرة قروش إلى 25 قرشا) حتى لا يتعرض للغواية؛ فنساء المنطقة «لا يتركن أحدا في حاله!» وعندما سألته عن «الحل» قال إنه يرشو الفراش الساهر حتى يوقظه إذا شعر باقتراب «جواسيس» شفيق. وعندما اقترحت عليه أن ينام في المنزل أجابني أغرب إجابة سمعتها وهي «لا يوجد نوم أحلى من نوم المكتب!» وعندما ضحكت ضحكة مكتومة قال لي: «وأحد مزاياها أنك تحتفظ بوضوء العشاء لصلاة الصبح .. وتصليه حاضرا أيضا!» وعندما علم بمشكلتي اصطحبني إلى مكتبة يملكها أحد معارفه، وتستطيع توفير البطاقات الألف بجنيه واحد! ثم همس لي: «لماذا لا تحفظ الشعر عن ظهر قلب فتوفر الورق؟» وعندما ذكرت له ضرورة البطاقات للمساعدة في التصنيف والتبويب، قال لي: «وفر نقودك واحفظ المادة في رأسك وصنفها في رأسك .» ووعدته بأن أحاول وافترقنا. ولم أره أو أسمع عنه شيئا بعد ذلك.
ولنعد إلى عام 1960م؛ ففي يناير 1960م عقدت الكلية الامتحان المعلن عنه لمدرسي اللغة الإنجليزية، وهي درجة تماثل درجة معيد وإن كانت لا تقتضي الحصول على درجات علمية؛ لأن المعينين عليها يعتبرون من خارج هيئة التدريس. وكان الامتحان يتكون من جزأين ؛ قطعة للترجمة إلى الإنجليزية، وموضوع إنشاء. وسرعان ما استدعي الناجحون لأداء الامتحان الشفوي. وكان الممتحنون هم د. رشاد رشدي ود. مجدي وهبة ود. محمد يس العيوطي. وكان الطالب يقرأ قطعة من نص كتبه الدكتور صمويل جونسون، وكانت الفقرة التي قرأتها عن حياة جوناثان سويف، الشاعر ومؤلف رحلات جاليفر، وكان ذلك الكتاب من بين الكتب التي فزت بها في مسابقة الترجمة قبل عامين، وقرأته؛ ولذلك مر الشفوي بسلام! وصدر القرار بتعيين اثنين فقط؛ هما: عمرو برادة وأنا، رغم أن المطلوب هو سبعة! وأعيد نشر الإعلان، وكان عدد مدرسي اللغة يزداد؛ فقد عين من الدفعة السابقة لي كرم محسن وفريد صالح، ومن الدفعة السابقة عليهما ليلى مرسي، ابنة مدير جامعة القاهرة - عالم الرياضيات محمد مرسي أحمد.
وظهرت مشكلة لم أكن عملت حسابها في التعيين؛ فأوراقي في الإذاعة كانت تتضمن ورقة من منطقة تجنيد الإسكندرية تقول إنني لم أبلغ بعد سن التجنيد، ويمكنني أن أستعملها في التعيين في الحكومة. أما الآن فقد بلغت الحادية والعشرين، ولا بد من التجنيد. وذهبت إلى الإسكندرية، وقضيت أول ليلة في المعسكر؛ معسكر مصطفى باشا المواجه لمحطة سيدي جابر على البحر، لن أنساها مدى العمر. كان معي من رشيد أحد مواليد نفس العام، وهو منير أبو الفضل (الدكتور الآن - أعتقد أنه أستاذ للتاريخ في جامعة طنطا)، وقد نصحني قبل الذهاب إلى الكشف الطبي بشراء نظارة بقرشين، توحي بأنها نظارة طبية وإن كانت غير ذلك، فرفضت. وقلت له إن الأطباء يفحصون قاع العين. وكان دخولنا يوم الخميس. ووقفنا صفا واحدا، فخرج علينا طبيب وقال: كل من يلبس نظارة يأتي إلى المكتب كي أعطيه شهادة عدم اللياقة الطبية! وكان عدد هؤلاء أربعة، حصلوا على الشهادة وخرجوا، بينما أمرنا بقضاء الليلتين التاليتين في المعسكر حتى يعقد الكشف الطبي يوم السبت.
كنا في رمضان، والجميع صائمون، فأمر الضابط بأن يتقاضى كل منا مبلغ سبعة قروش للإفطار والسحور من مقصف المعسكر. وذهبنا بعد الإفطار إلى القشلاق للمبيت، فوزعوا علينا بطانيات، وبينما أنا أستعد للنوم أحسست كأن لوحا من الخشب قد صكني في ظهري، فصرخت ألما وانتبهت، فإذا بغلام من بلدنا قد ضربني بيده على ظهري ترحيبا! موش فاكرني يا ابن عناني؟ أنا ألبير بتاع الفسيخ! ولم أضحك ولم أرحب؛ فقد كان ألم الضرب مبرحا، ثم عدت للنوم حتى استيقظنا في السحور، وقضيت يوم الجمعة وحدي وأنا أفكر فيما عساي أن أفعل، وبعد ساعات شغلتني الحديقة ونسائم البحر الدافئة في ذلك الربيع الصافي، وجلست وحدي على شاطئ البحر حيث أتى الشعر دون دعوة! كنت أعتمد على ذاكرتي وحدها؛ فلم تكن هناك أقلام أو كراسات، وفي صبيحة السبت، وبعد الكشف الطبي، حصل كل منا على شهادة تأجيل حتى أكتوبر، ومن ثم عدت إلى القاهرة - بقصيدتين!
ولم يشعر أهل القاهرة بغيابي، وكانت لدينا في السنة الثانية فتاة ضئيلة الحجم، ذات ألوان متعددة في عينيها وشعرها، وكانت تسير كأنها تطير، وكنت أرقبها، كما كان يرقبها غيري، ولكنني كنت وحدي الآن بعد أن تخرج الأصدقاء وانطلقوا، ولم يكن لدي من الأصدقاء غير ماهر البطوطي من أبناء القسم، وأحمد السودة من خارج القسم! فكتبت القصيدة الأولى وعرضتها عليهما، فكان رد فعل الأول هو «هل عرضتها عليها؟ وماذا سيكون رد فعلها؟» أما الثاني فكان يرى أنها شعر فحسب، فلم يعلق!
وهذه هي القصيدة:
طائر أنت يا منى،
لونت ريشه السماء،
كيف يمشي على الثرى،
من له خفة الهواء؟! •••
كيف ينساب في الطريق،
ناعم الخطو كالنسيم،
نافثا عطره الرقيق،
باعثا نوره الرحيم؟! •••
كيف في الأرض يا منى،
بعد أن صاغك الأثير!
هل نجوم السماء أغفت،
حين أودعتها العبير!
فتسللت عند فجر،
نائم حالم أسير،
وتهاديت حول قلبي؛
ذلك العاشق الصغير،
فتأسى ولم يغالب
حبه الصامت الكسير!
ارحمي الأرض يا منى،
من لظى رقة الأثير!
وكنت كتبت القصيدة في القطار وأنا عائد إلى القاهرة، هي والقصيدة الأخرى المصاحبة لها، التي تعتبر أقرب إلى روح الفكاهة من روح الشعر الجاد، وهي التي لم أخجل من إطلاع الآخرين عليها، وكان من عواقبها اتهامي بأنني بارد المشاعر؛ لأنني أحس بعقلي لا بقلبي، وهو اتهام كنت أضحك منه، وربما كان وراء ذلك ضيقي بالخروج مع الفتيات؛ إذ كان حديثي في اللغة والأدب لا يروق لهن، ولم يكن لدي من الأحاديث ما يكفي لقطع الساعات الطويلة تحت ظلال الأشجار أو على شط النيل، وقد أكدت ذلك حادثة فريدة؛ إذ لاحظت إحدى زميلاتي في فريق التمثيل واسمها فاطمة عمارة أنني لا صاحبة لي، على عكس جميع من يشاركونني جلسات بوفيه كلية الآداب (سمير سرحان + نبيلة عقل، ووحيد النقاش + ليليان حنا ... إلخ)، فطلبت مني الخروج مع فتاة من كلية التجارة رأت أنها تحقق مطالبي في «الفتاة المثالية» من طول وشقرة وخضرة عيون! وبعد أن تعارفنا وخرجنا معا مرة أو مرتين، بدأت الجميلة تتحدث عن المستقبل! أما أنا فكنت مشغولا بكتاب أتولى ترجمته بنفسي هو «الرجل الأبيض في مفترق الطرق»، وأريد من أملي عليه الترجمة، وعرضت الجميلة أن أملي عليها ما أريد، ففعلت وفرحت، وفي آخر أول جلسة قالت: «تستطيع أن تعتمد علي في عملك.» وانطلقت ترسم صورة وردية للعش الذي سوف تساعدني فيه! وكان ذكر «العش» كفيلا بوضع حد للعلاقة، وعدت للكتابة بنفسي، وأمري إلى الله.
أما الأبيات الأخرى فهي:
عيناك يا أختي منى،
أسطورة أزلية!
لم يبتكرها هومر،
أو تحكها جنية!
عيناك ليل لا يخاف الفجر فهو يعيش فيه،
ويذوب فيه،
ويكاد ينسى أنه يفنيه حين يذوب فيه!
ولا أدري من الذي أشاع هذه الأبيات بين الأصدقاء، ثم بين الطلبة، فإذا بالآنسة الصغيرة تأتي إلي ذات يوم لتسأل عن القصيدة وما وراءها، واعتذرت لها عن استخدام الاسم مؤكدا لها أن الاسم يمكن أن يكون اسما لأي أحد، وكان صوتها فيه بحة معينة، وهو قطعا من طبقة موسيقية منخفضة، ولا شك أنه كان ممتعا لمن ينشد الاختلاف، لكنني قلت لها محقا إن القصيدة لا تعني أكثر من كونها كلاما؛ فالقول هو القول، وينبغي ألا يقرأ فيه أحد معاني غير مقصودة، لكنها لم تقتنع وضحكت ومضت.
وذهبت أستفتي الدكتور رشاد رشدي، فضحك ضحكا شديدا وقال: هذا هو ما أعنيه بأن الفنان يتمتع بحرية القول غير الملزم بالعمل! وطفق يحدثني عن النساء اللائي عرفهن، وعن رمز المرأة التي صورها في مسرحية الفراشة والتي يمكن أن تطفئ وقدة الفن لدى الفنان باهتماماتها العملية والاقتصادية، وأثناء الحديث دخل الدكتور شفيق مجلي الذي كان قد عاد لتوه من إنجلترا بعد حصوله على الدكتوراه، فانضم إلينا وأضاف باقتضاب: «لا تذكر اسم أحد .. فليس وراءهن سوى المشاكل!» وتكاثر الناس في الغرفة، فخرجت وقررت أن أعي الدرس جيدا، وعقدت العزم على ذلك، وفي المساء خرجت وحدي، وكان المساء رائعا، فانطلقت أسير بحذاء النيل حتى وصلت إلى كوبري الجامعة الجديد، وقد انتظمت في رأسي قصيدة أخرى:
قلبي يفيض على الوجود كأنما الكون أنا،
وكأن إحساس الحياة الدافئ الدفاق ينبع من هنا -
من جنح نفسي - ثم يسري في الدنا،
ويطوف بالآفاق يلهب كل روح،
أو يبث الحب أو يشدو ويأتي باللحون إليك،
يا أختي منى!
ماذا صنعت وكيف للدنيا هبطت؟ •••
أنا من مزيج الطين والنيران قبل الكون كنت!
وشربت من نهر الخلود وفي لهيب النار عشت!
وسقيت مثل الجان جرعات الحياة فطرت في حلمي ودرت!
لا زلت أذكر صاحب الجنات يودع في فن الخلق،
يشرح لي وحينئذ فهمت!
لكنني يوما هبطت فكيف للدنيا هبطت؟ •••
هل ذقت تفاح الخطيئة مثل حواء وحين هفت هممت؟
أم هل سمعت نداءك الأرضي يدعوني فلم أحفل وجئت؟
أم أن طيني أبصر الدنيا فتاق إلى التراب،
ولم يطق سكنى السحاب!
لا تسأليني إنني حقا هبطت فلا عتاب! •••
وأنا أطوف الأرض أحيا في صدور الناس أسترق المشاعر،
وأحادث الأشجار والأزهار يعرفني هنالك كل طائر،
وأعب من دنيا الكفاح كئوس إجهاد تغص بها المصانع والمتاجر،
وأعيش في أنغام أصحاب المزامر والمزاهر!
فإذا رجعت إليك مهموما سمعت صدى غريبا غير جاهر،
لا لا تقولي صوت شاعر!
لكنه دعواك لي أقبل هنا،
فهبطت يا أختي منى! •••
فنان يا أختي منى،
هذا أنا!
أحيا بأوهام الخلود وبعض أحلام تطوف،
وأخاف من برد الفناء ووقع أقدام الحتوف،
لما هبطت مع الألوف،
وبدت لعيني الطيوف!
لكنني حتما سأرجع،
إن كان فنان إلى الجنات في يوم سيرجع!
ولم أكن أعرف كيف أضع لها عنوانا. هل أسميها «عبثا تسائلني منى ماذا أنا؟» ولكنني أدركت أن ذكر الاسم سوف يتسبب في المزيد من المشاكل فكتبتها في دفتر خاص، وألقيت بها في الدرج، وقررت ألا أطلع عليها إلا أقرب الأصدقاء، وكان أخشى ما أخشاه أن يصدق ما حذرني منه الدكتور شكري عياد وهو الصراع بين النقد وبين الإبداع، وكان دائما يقول لي: «انظر كيف يضيع يوسف الشاروني موهبته في كتابة النقد! حذار من التردد بين هذا وذاك! انته أولا من الدراسة ثم اكتب الشعر!» ولكنني كنت أدرس الشعر! وكلما تعمقت في التحليل النصي ازداد إيماني بضرورة الاستزادة من القراءة؛ تحقيقا للهدف الأسمى، وهو الإبداع! وكنت أذكر حوارا دار بيني وبين الدكتور عبد الرءوف مخلوف قبل عدة أعوام عندما قلت له: لماذا يضيع الأستاذ جرجس الرشيدي وقته في دراسة برنارد شو للدكتوراه؟ لماذا لا يصبح هو برنارد شو؟ وكان رده هو: هذا طريق وذاك طريق آخر! وإن كانا يسيران متوازيين، وربما جنح السائر في أحدهما إلى أن يسلك الآخر - فاسلك ما شئت وانظر أنى يمضي بك!
كنا نقف ذلك اليوم في شارع نوال، الذي جرت العادة على نطقه دون شدة على الواو، وكان ذلك الحديث قد مضى عليه ما يزيد على خمسة أعوام، ولكنه كان لا ينسى! وتطورت المذاهب النقدية في السبعينيات في أوروبا وأمريكا، وكان من أهم ما انتهت إليه إزالة الحاجز بين النقد والإبداع، فالإبداع جهد نفسي وذهني معا، بغض النظر عن مجاله؛ أي إنه ليس مقصورا على اللغة والأدب، فالمخترع مبدع، والمفكر مبدع، وقد تجد مبدعين في كل لون من ألوان النشاط الإنساني؛ ولذلك فالناقد العظيم مبدع ولا شك، وإن كان لا يكتب أي صورة من صور «الأدب الخيالي» (أي أي نوع أدبي مثل الشعر أو القصة أو المسرح)، ويتجلى إبداعه في التجاوب الصادق مع النص، وفهمه الخاص له وتفسيره وتحليله إياه، ويكفي أن تقرأ شرح ديوان المتنبي لأبي العلاء المعري؛ لتعرف كيف يكون الناقد مبدعا، أو أي كتاب «تحليلي» كتبه دافيد ديتشيز للرواية الإنجليزية حتى تقنع بصدق هذه المقولة! وإذا كنا نميل، ابتغاء التبسيط، إلى وصف «الإبداع» بالابتكار التشكيلي والتركيبي، ووصف «النقد» بالابتكار التحليلي، فما ذلك إلا تيسيرا على الطالب ومعاونة له في فهم الفرق بين هذين اللونين من ألوان النشاط الإنساني، ولكن كلا منهما إبداع لا شك فيه!
لم أكن حينذاك أعرف تلك الخبايا، بل ولم تتضح صورتها إلا بعد أكثر من ربع قرن عندما شاركت في مؤتمر كيمبريدج للأدب الحديث، وطرحت القضية وأثارت من الأفكار ما أثارت (عام 1987م)، أما في عام 1960م فكان كل همي هو أن أفر من الشعر فرارا؛ إبقاء على جهدي في الدرس والاطلاع. وذات يوم ذكرت المشكلة للدكتور مجدي وهبة فضحك وقال: «لا تقاوم الشعر حين يأتي! ومن يدري فربما استطعت الجمع بين الشعر والنقد، فأفضل الشعراء هم أفضل النقاد!» وعندما أبديت دهشتي قال لي: «بالمناسبة .. لدي مشروع لترجمة أهم نصوص النقد الإنجليزي .. هل تود المشاركة فيه؟» ورحبت طبعا بالفرصة السانحة وقلت له: أي نص تريد أن نبدأ به؟ فقال: «درايدن!» (مقال في الشعر المسرحي!) ثم أردف على الفور قائلا: «وسوف أدفع لك السعر الرسمي للترجمة .. احسب الأجر وقل لي!» وأحصيت الكلمات بالتقريب، وحسبت التكلفة على أساس مليمين للكلمة (السعر في الدولة حاليا ستة مليمات بناء على القرار الجمهوري عام 1978م، وستة قروش في المجلس الأعلى للثقافة، و38 قرشا بالأمم المتحدة!) وكان الأجر الكلي 42 جنيها، دفع لي الدكتور مجدي عشرة جنيها منها بصفة مقدم، على أن أبدأ الترجمة على الفور.
11
كان ربيع عام 1960م ربيعا فذا؛ فلأول مرة كنت ممتحنا وممتحنا معا، وكانت أبحاثي قد اكتملت وسمعت ما اطمأن قلبي له من الدكتور روفائيل والدكتور رشدي - ومجدي، بطبيعة الحال. وقررت البقاء في القاهرة ذلك الصيف وعدم الذهاب إلى رشيد؛ فلدي ما أفعله، فعكفت على الانتهاء من ترجمة «الرجل الأبيض»، وذهبت إلى المراجع الأستاذ عثمان نوية (وتنطق بتشديد الياء - تصغير نواة) في مبنى مجلس قيادة الثورة بالجزيرة، وسلمته المخطوط، وخرجت سعيدا على وعد بلقاء آخر، وفي يونيو - أثناء امتحانات الفصل الدراسي الثاني - اكتشفت مقهى جميلا على شاطئ النيل اسمه كازينور (أي كازينو نور، زال من الوجود الآن) بجوار كازينو الحمام، ولم يكن يغالي في الأسعار؛ فالشاي بقرش صاغ واحد، والقهوة بقرش ونصف، ولا يطالب الرواد بأكثر من طلب واحد! كان يطل على النيل مباشرة، وعندما يأتي موسم الفيضان تأتي المياه الحمراء وتعلو حتى تصل إلى مسافة قريبة من الجالسين، ويبدو النيل منبسطا شاسعا، وعلى الضفة الأخرى مباني وأشجار حي الروضة، وعلى صفحة الماء تنساب السفن المتجهة شمالا لتمر تحت كوبري عباس، بينما تحلق الطيور التي تنقض كالسهم المارق لتلتقط الأسماك، فكان المشهد يذكرني برشيد وموسم صيد السردين في سبتمبر وأكتوبر من كل عام.
كانت العادة أيام الخريف في رشيد أن تخرج سفن الصيد مبحرة مع التيار إلى مصب النيل حيث تتجمع ملايين أسماك السردين بنوعيها - المفطرة والمبرومة - أما الأولى فهي في الحقيقة صغار سمك الماكريل والبيلشارد، وأما الثانية فهي السردين الحقيقي الذي وصل إلى النضج، وأصبح لحمه سمينا بل وتمتلئ بطنه بالدهن الذي عرفت فيما بعد أنه مضاد للكولسترول. وكانت السفن (التي تسمى بلنصات - جمع بالانص) تعود في المساء إلى شاطئ رشيد لتفرغ حمولتها في بتيات (جمع بتية - وهي كلمة فصحى، صحتها بتية بفتح الباء وكسر التاء وتشديد الياء، وتعني البرميل الضخم من الخشب، ويقول السيد آدي شير في «الألفاظ الفارسية المعربة» إنها تعريب كلمة «بتو» الفارسية بمعنى القربة والقمع)؛ ومن ثم يوضع بعضه في ثلاجات ويرسل إلى الإسكندرية والقاهرة فورا، والبعض الآخر يوضع عليه الملح ويحفظ للأكل فيما بعد. ولكن مقدارا كبيرا من المصيد كان يستهلك محليا، فيشوى ويأكله الناس مع الأرز أو مع الخبز، وكان سعر الطورة (أي الأربعة، وهي وحدة القياس التجاري) يتراوح بين قرش صاغ وقرشين؛ تبعا للنوع.
أما سر صيده في ذلك الموسم بالذات فهو أن مياه الفيضان تأتي معها بملايين الكائنات الحية الدقيقة (البلانكتونات) التي يتغذى عليها السردين، فيتجمع من أنحاء البحر المتوسط للتغذي عليها، فيفيض النيل العظيم ويفيض البحر بالخير على أهل البلد. وكان من الطبيعي أن تزدهر صناعة بناء السفن بأنواعها على طول شاطئ رشيد، وما تتطلبه من حرف مساعدة مثل صناعة الحبال، والشباك، والنسيج (للقلوع) والبكرات الخشبية، والبراميل، والثلج، والملح، وما يتطلبه ذلك كله من آلات حديدية وخشبية، فكان يوجد في حي «قبلي» سوق النجارين وسوق الحدادين وسوق النحاسين والألفطية (الألفاط أو القلفاط هو الذي يسد الشقوق الخشبية في السفن بالليف المستخرج من النخيل) وحرف الدهانين والنقاشين وما إلى ذلك. وكان يمتد على الشاطئ نفسه صف طويل من محلات الوزانين والكيالين، وكان الوزان يسمى القباني لأنه يستخدم الميزان الذي يحمل ذلك الاسم، والكيال يسمى الكيلاني، وكان من مهامهم وزن ما تأتي به الفلاحات عبر النيل من السمن واللبن والجبن بأنواعها؛ بغية تحديد أسعاره. وكانت القوارب تنقلهن من «البر الثاني» وهو الجزيرة الخضراء، أو من الشط البعيد الذي كان يتبع محافظة الغربية (كفر الشيخ الآن). وكان أهل الجزيرة الخضراء يعرفون بأنهم ينطقون القاف قافا لا همزة، ومن ثم يسخر منهم أهل رشيد بتكوين جمل تتضمن قافات متعددة (عبد القوي وقع في القنا قام قرموط قلع عينه!) وكانت الفلاحات يتحدثن لغة جميلة تذكرك بلغة «العرب»، والمقصود بهم بعض القبائل البدوية التي تسكن الصحراء جنوب رشيد، وتعيش حياة بدوية خالصة، تعتمد على الرعي ومنتجات النخيل، وكانوا أحيانا يسمون «الغجر»، وإن كان المشهور عنهم هو الترحال والتنقل وعدم الثبات في مخيم واحد.
كان منظر النيل في الفيضان أو بعده ساحرا، وكان هو الرابطة التي تشدني دائما إلى بلدي، وإذا كان الناس قد اختلفوا واختلفت أنماط الحياة في القاهرة عنها في رشيد، فالماء ما يزال يتدفق، وكنت أراه منطلقا نحو البحر فأعجب له وأكاد أسأله كيف يحملني معه! وسرعان ما أصبح كازينور مكاني الذي أعمل فيه قارئا ومترجما، ومن ثم أصبحت حقيبتي الجلدية الصغيرة لا تفارقني في حلي وترحالي، واكتشف بعض الأصدقاء ذلك المكان فغدوا يزورونني فيه دون أن يقاطعوني في القراءة أو الترجمة، وأذكر ليلة من ليالي الصيف، كنت عرضت فيها بعض أشعاري على ماهر البطوطي، وجلسنا نناقشها حين دخل علينا سمير سرحان ووحيد النقاش! واستمع الجميع إلى الشعر، ثم ذكر وحيد شاعرين جديدين يفعلان ما أفعل؛ هما صلاح عبد الصبور وحجازي! وقلت له إنني أعرف الأخير، فأضاف إن الأول أعظم وأعمق، وأسمعنا بعضا من شعره فقلت في نفسي: هذا والله هو الشعر، وذلك هو الذي يبرر الخروج عن الشعر العمودي! كان شعر صلاح يقول لي: ما أصغر حظك من الموهبة! أنت صغير وأنا كبير! وقلت لسمير سرحان إنني أحس أنني صغير! فقال وحيد: وهما كانا صغارا! فقلت: لا .. الشاعر يولد كبيرا! وقررت أن أبقى على ما أكتبه، فلا أمزقه، ولا أنشره، ولا أعلنه!
وفي طريق العودة، قال لي سمير سرحان: اسمع! أنا عايز أجيب جيد جدا .. إيه رأيك؟ ورحبت طبعا بهذه الروح وكنت أظنه غير آبه بالحياة الجامعية بسبب انشغاله بالنشاط الأدبي؛ إذ كان قد أصدر كتابا مترجما، وبدأ يمارس الكتابة الصحفية وكتابة المسرح، من خلال الإذاعة. وتناقشنا في وسائل تحقيق هذا الحلم، خصوصا إزاء ضرورة التسلح بالمادة العلمية المستقاة من المراجع، وظللنا نتهادى في سيرنا حتى وصلنا إلى كوبري الجلاء، فافترقنا؛ أنا وماهر إلى العجوزة، ووحيد إلى الدقي، وسمير إلى الجيزة.
وتركت ماهر أمام منزله وواصلت المسير في شارع المراغي، ثم في شارع نوال حتى شارع النيل، ثم سرت في الضوء الخافت تحت أشجار الكافور الباسقة على شاطئ النيل حتى وصلت إلى كوبري الزمالك الصغير، فتجاوزته، وواصلت المسير شمالا إلى إمبابة، ولا بد أن الساعة كانت تقترب من الثالثة صباحا؛ فالبدر قد مال إلى الغروب على يساري فوق حدائق ما كان يسمى بأرض الترسانة المقابلة لنادي الزمالك، ونسائم السحر الباردة تهب على وجهي من الأمام، وأنا أسير بنشاط لا أدري له دافعا، وأحسست أنني أنهب الأرض نهبا، غير عابئ بالسيارات التي كانت تبطئ من سرعتها عندما تصل إلى حيث أسير؛ كأنما ليتحقق راكبوها من شخصية السائر، وتخطيت منطقة «الكيت كات» وتوغلت في إمبابة، وكانت آنذاك حدائق على النيل وعوامات راسية فيه (تسمى ذهبيات)، وتقيم فيها بعض الأسرات، وكلها ساكنة ساكتة، حتى وصلت إلى كوبري إمبابة ثم استدرت راجعا بنفس النشاط وعند كوبري الزمالك سمعت أول أغنية لطيور الصباح، وكان صوت الكروان الذي أعرفه جيدا في رشيد، فأدركت أن الفجر وشيك، وسرعان ما ترددت شقشقة العصافير، ونداءات أبو قردان، وصوت غريب عرفت فيما بعد أنه صوت مالك الحزين، وكان قد بنى عشا على شجرة ضخمة من الصفصاف تتدلى غصونها في النيل، فوقفت أستمع إليه، فصمت فعاودت المسير، وأمام مستشفى العجوزة لمحت تباشير الصباح في الأفق الشرقي - فوق الزمالك.
وتذكرت أنشودة كنت كتبتها في العام السابق صبيحة العيد الصغير، عيد الفطر، حين انتهيت من الصلاة وسرت في حي الحسين أرقب يقظة القاهرة، وكان مطلعها يقول:
يا خد الشمس يقبله الفجر المقرور،
ونسيم الصبح يعانقه الطير المبهور،
وسحابة نور تحتضن الأفق المسحور،
وجفوني بسمت للنور تحس الدفء المخمور!
فإذا بي أعيد صياغتها لتصبح:
يا خد الشمس تقبله خيبة آمال،
ونسيم الصبح يعانقه يأس قتال،
وسحابة نور تحتضن من المرض عضال،
وجفوني أزعجها الصبح وخالطها .. أوهام محال!
ما لي؟ بائع أوهام؟ دنياي ظلام وظلال!
كانت الأبيات تتدافع إلى ذهني في عجلة، ولم أتريث كي أضبط نسجها، ولكنني ألقيت بها كأنما ألقي بنفثات غاضبة بلا سبب أو معنى، وتساءلت في نفسي إن كان يأسي من الشعر هو السبب، أو يقيني أن أحلام الشعر مقضي عليها بالانقشاع والزوال، ألم يكن وردزورث يدري أن هناك من هم «أشعر» منه حين قرر أن يكون شاعرا؟ ألم يفت ذلك في عضده؟ وعندما وصلت إلى المنزل كانت أضواء الصبح تغمر الطريق، فتسللت إلى غرفتي ونمت.
كانت الأسرة قد رحلت إلى رشيد، وكنت أستطيع أن أقضي ما أريد من وقت في عزف العود دون اعتراض، وفي عصر اليوم التالي حدث شيء ساعدني على نسيان اهتمامي بالشعر ؛ إذ زارتنا إحدى نساء رشيد ممن نطلق عليهم «ألاضيش» الأسرة (والألدوش تعريب التركية يولداش، أي الرفيق في الطريق؛ ومن ثم فهي تعني الزميل والصاحب)، ولما كنت وحدي فقد قصت علي قصة عودتها إلى زوجها بعد «غضبها» منه ولجوئها إلينا في رشيد بعض الوقت، وكانت القصة الرسمية «المعلنة» في الأسرة هي خلافهما حول كعك العيد. أما القصة الحقيقية فهي أن زوجها كان يكبرها بأعوام كثيرة، وكان قد تزوجها بعد وفاة زوجته الأولى وبعد أن كبر أولاده منها، ويبدو أنه قد اكتسب في تلك السن المتقدمة لونا من الشذوذ يدفع به دفعا إلى الصغار، وإن لم يكونوا صغارا بالمعنى المفهوم، فبعضهم قد بلغ الحلم وبعضهم قد تخطى سن الرشد، وقد اختلفت معه عدة مرات بسبب هذا الشذوذ، ولكنه كان يعد ويتعهد، ثم ينكث، وكثيرا ما بكى بين أيديها تائبا، وكثيرا ما كان يقول لها إن الله يقبل التوبة من عباده، ويقول لها إن الله يقول في شأن أمثاله:
فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما . ثم انتهت إلى أن قالت إنها ترجوني أن أحادثه وأنذره بأنه لو عاد هذه المرة فلن تعود هي إليه!
كان الموقف مألوفا. وكنت أسمع عن أمثال هؤلاء، وأراهم، وكان صديقي أحمد قادوم يقص علي طرفا من قصصهم، ولكنني كنت دائما بمنأى عنهم، أي إنني كنت أحس أنهم ينتمون إلى عالم آخر لن يكتب لي أن أشهده عن كثب ولكن السيدة كانت تطلب مني التدخل هذه المرة! وبعد لحظات من التردد اتفقنا على انتظار عودته؛ إذ كان قد أتى معها وخرج في بعض شأنه، ومفاتحته في الموضوع . وفعلا، عاد ورأى في وجهي بعض التغير والتجهم، فأدرك أنها اشتكته، وانخرط في بكاء مرير!
وبعد العتاب والتصافي دعاني إلى أن «أراقب» بنفسي توبته، وألا أبخل عليهم بالزيارة؛ فهم يسكنون في حي «بين السرايات» المتاخم للجامعة، وأضاف في رقة: «أنا عجوز .. ولا أفعل ذلك عامدا .. والله سبحانه يقول:
إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما .. صدق الله العظيم». وكانت كلماته تنضح بروح الصدق، وتنم عن ندم عميق، ودفعني حب الاستطلاع إلى معرفة المزيد فزرت الأسرة، وتكررت زياراتي حتى اطمأن قلبي. ولكن شهر أكتوبر أتى بما لم أكن أتوقع.
كان موعد دخولي الجيش قد حان، فذهبت إلى منطقة تجنيد الإسكندرية، واصطف مواليد عام 1939م صفا، وخرج علينا ضابط يقول: «كل من لا يحمل مؤهلا غير مطلوب للتجنيد، أما حملة المؤهلات (التوجيهية على الأقل) فسوف يحصلون على تأجيل آخر». واندفع الجميع إلى غرفة الحصول على الإعفاء، أما أنا فكنت رابع أربعة من حملة المؤهلات، لم يعرفوا كيف يحصلون على شهادة التأجيل. وظللنا في موقفنا إلى أن جاء قائد المنطقة الشمالية، البمباشي أو البكباشي (المقدم) محمد علي رشيد، وصاح بلهجة عسكرية: من أنتم؟ وذكر كل واحد منا اسمه. وعندما سمع اسمي أمرني بالتوجه إلى المكتب، فتوجهت مذعورا مع أحد الجنود، حيث انتظرت واقفا إلى أن عاد، ثم أمرني بالدخول إلى غرفته وسألني: هل أنت قريب لمحمد إبراهيم عناني؟ فقلت له: إنه ابن عمي! وعلى الفور، انفرجت أساريره وقال: «إذن نحن أقرباء!» كان اسمه الأصلي محمد علي تيرانا، وكان من أسرة ذات أصول ألبانية (كما هو واضح من اسمه)، وكانت للأسرة فيلا تجاور فيلا عجمية (زوج خالتي) على الطريق الزراعي، ولكنه مثل كثيرين من أبناء رشيد الذين تركوا البلد، قد غير اسمه إلى رشيد، وبعضهم غير اسمه إلى الرشيدي - مثل أفراد أسرة «الخياط» و«الفساسي» وهم من كبار التجار. ولكننا لم نكن أقرباء، بل كانت زوجته من أسرة «عجوة» ذات الثراء العريض، أختا لزوجة ابن عمي الذي كان قد عين بعد تخرجه من كلية العلوم في شركة الحرير الصناعي بكفر الدوار.
أدى هذا الاكتشاف، على أي حال، إلى سرعة حصولي على شهادة التأجيل، وكان تأجيلا مفتوحا، وينص على أنني أستطيع استخدامه في التوظف؛ مما يسر لي استخدامه في التعيين بالجامعة، ولكنني لم أذهب إلى القاهرة مباشرة بل عرجت على رشيد ، وكان القصد أن أتزود بالفاكهة التي تتميز بها رشيد في ذلك الوقت من العام، وكان أخي الأصغر في الإسكندرية، وأصغر أخوتي مصطفى مع الأسرة في القاهرة، ومن ثم رأيتها فرصة سانحة لتأمل المستقبل. وفي اليوم التالي لوصولي بدأ توافد الزوار، ومنهم علمت أن السيدة صاحبة المشكلة المذكورة قد «غضبت» من زوجها مرة أخرى بسبب «كعك العيد»! وقررت أن أسافر في اليوم التالي هربا من مشكلة لم يعد لها في نظري حل! ولكن السيدة كانت أول الطارقين في صباح اليوم التالي، وكان «كعك العيد» هذه المرة هو أن زوجها يأتي بضيوف من رؤسائه في العمل، ويتركهم في المنزل مع زوجته التي لم تعتد ذلك (وتخاف على نفسها)، بل إنه ذات يوم ترك «ناظر المحطة» السويسي (وكان هو يعمل في وظيفة عطشجي بالقطارات)؛ ليبيت الليلة في المنزل، بحجة عدم وجود فنادق رخيصة! وبعد المناقشات المطولة التي أدركت منها أن ذلك الرجل ميئوس منه، وعدتها أن أذهب إليه وأحذره للمرة الأخيرة! ولكنني علمت بعد يومين من وصولي أنه توفي فجأة، وكان قد تجاوز الحادية والسبعين، ومن ثم كان لزاما علي حضور العزاء.
كان المتحدث الرئيسي في العزاء هو «أحمد» زوج ابنته، الذي قص على الحاضرين قصة تبين أن الآجال بيد الله، وأن أحدا لا يستطيع أبدا معرفة سبب الموت، وكان ما يزال ملازما أول، على سنه الكبيرة؛ إذ كان ترقى في الجيش «من تحت السلاح» أي دون تخرج في الكلية الحربية، ومن ثم قال بصوت رزين ونبرات هادئة إنه سوف يحكي لنا ما حدث لرئيسه في الوحدة. قال إن رئيسه أصيب بورم خبيث في مخه، وبعد الفحوصات المضنية في المستشفى، قرر الأطباء أن حالته ميئوس منها، وأن عليه ألا يغادر سريره حتى يأتي أمر الله. وقال «أحمد»: «أمرني أن أحضر مسدسه الميري فرفضت، ولكنه قال إن ذلك أمر ولا بد لي أن أطيعه، ومن ثم أعطيته المسدس باكيا، وقبلته قبلة الوداع وخرجت. ولكنني لم أنم تلك الليلة حزنا على فراق رئيسي، وفي الصباح اتصلت بأفراد الأسرة أطلب منهم التواجد في المستشفى لأمر هام. وعندما فتحت عليه الباب في الساعة الثامنة، وجدته جالسا في السرير يتناول طعام الإفطار - من الفول والبيض! وقد ربطت ضمادات كثيرة حول رأسه حتى أخفت نصفها! وقلنا في صوت واحد: الله أكبر! وشعرت بنا الممرضة فنادت الطبيب الذي شرح لنا أن الضابط قد تهور، وكان معه مسدسه الميري، في مخالفة صريحة للتعليمات، فأطلق رصاصة على رأسه بقصد الانتحار!» وتوقف أحمد ثم قال في نبرات لا أستطيع أن أقصيها عن ذاكرتي: «يشاء السميع العليم أن تأخذ الرصاصة الورم وتخرج به من الناحية الأخرى!» ثم أردف قائلا: «وعندما دخل به الأطباء غرفة العمليات وجدوا أن الدماغ سليمة فخيطوا الجرح وكتبت له الحياة!»
وبذلت جهدا مضنيا لأكتم ضحكي، والجميع من حولي يهللون ويكبرون! كان الموقف يتطلب ضبط النفس، وأسرعت بعدها بالخروج من المأتم، وقد رأيت أن الحياة قد أبعدتني عن الشعر لتدنيني من الدراما! هذا هو المسرح الحي حقا، وهذا هو ما سوف أتجه إليه!
المسرح الحي
1
لم أكن كتبت المسرح بالمعنى المفهوم حتى تلك اللحظة. كانت محاولات المدرسة الثانوية لا تزيد عن كونها «محاولات» مبتدئ، ولم تكن، على ترحيب الجميع، ذات قيمة تذكر؛ فالمسرحية التي نشرتها في مجلة المدرسة بالإنجليزية تندرج تحت باب «الاسكتش» أو الصورة الفكهة، وكانت مسرحية «الشبح» التي أخرجها عبد المنعم مدبولي في المدرسة «تدريبا» في فن كتابة الحوار بالفصحى، وأما تمثيليات الإذاعة التي كنت أكتبها بعد التخرج فكانت «حكايات» محكمة الصنع، مادتها مستقاة من تمثيليات الإذاعة التي كنا نسمعها ونتابعها في شغف صغارا، ولا تتضمن أي «تجربة» فنية أو موضوعية بالمعنى المفهوم. وكانت صلتي بالفنانين مقصورة على أعضاء المسرح الحر التي كانت قد قدمت مسرحيات نعمان عاشور ورشاد رشدي، ومسرحية زقاق المدق التي أعدتها أمينة الصاوي عن رواية نجيب محفوظ، وكان أهم هؤلاء الفنانين: مدبولي وفؤاد المهندس الذي كان يشرف على فريق الجامعة من خلال فريق كلية التجارة، وكان يحبه زملاء المدرسة الذين التحقوا بكلية التجارة وعلى رأسهم نبيل مجدي. وكنت مقتنعا كل الاقتناع بنصيحة مدبولي لي ألا أعتلي خشبة ممثلا، بل أن أركز على الكتابة. فأقرأ «شيكسبير والكلام ده» ثم أكتب بعد التخرج.
كان اللون الوحيد من العروض المسرحية التي شاهدتها في طفولتي يندرج في باب «التسالي» أو ما يسمى بالمنوعات حاليا، وكان الأقدمون يسمونها فنون «الفرجة» بمعنى التفريج عن النفس، ثم أصبحت الكلمة تصف كل عرض مسرحي أو غنائي أو راقص، بل أصبح الفعل «يتفرج» بالعامية يعني «يشاهد»! كانت إحدى فرق الغوازي تأتي من رشيد في المواسم والأعياد لتقديم العروض التي يطلق عليها «التمثيل» فقط. وكنت وإخوتي نحب «الفرجة» عليها، وكانت أسعار التذاكر زهيدة، وكان إقبال الريفيين كبيرا، وقد قصصت ما حدث ذات يوم في مقدمتي للترجمة الإنجليزية لمسرحيات «السجين والسجان»، و«البحيرة»، و«الصديقان»، وهما ثلاث مسرحيات في مجلد واحد - صدر بالعربية مع مسرحية رابعة هي «الصديقتان» عام 1980م وبالإنجليزية دونها عام 1987م - ولذلك سوف أتغاضى عن التفاصيل هنا، وأركز على بائع «شربة الحاج محمود» الذي يقف في السوق المركزية برشيد بعد صلاة الجمعة، ويتجمع حوله العشرات بل والمئات؛ فمنهم من يشتري، ومنهم من «يتفرج».
كان هذا البائع يقدم عرضا مسرحيا كاملا؛ مما يمكن أن نطلق عليه حاليا المونودراما، فإذا أخذنا في اعتبارنا مشاركة الحاضرين في الحوار والأداء، كان «العرض» يندرج في باب المسرح المرتجل، وهو من الصورة الأصلية لبعض البدع الحديثة في أوروبا وأمريكا مثل «مسرح الحدث المرتجل» (
The happening-The event ) أو حتى الصورة المتطورة له، وهي صورة المسرح الحي (
The Living Theatre ) وإن كانت للحاج محمود نصوص أساسية لا يكاد يخرج عنها، وكان يغير «النص» في كل مرة، وأنا أذكر له ثلاثة نصوص على الأقل يدخل فيها من التعديلات والتبديلات ما يقتضيه الموقف؛ فأولها قصته مع «أم أحمد» (أي زوجته) وكيف انقلبت عليه عندما خط الشيب رأسه، وتهدل الشعر الأبيض على جانبي رأسه، بعد أن كان كثيفا صلبا، وكنت أرقب الرجال وهم يضحكون ضحكات خافتة، كلما وصف «الشيب»، ولم أدرك إلا بعد أن تركت رشيد ما يعنيه «الشيب»، وعلى أي حال ، كان البائع ينشئ حوارا ساخنا بينه وبين «أم أحمد» ينتهي ب «لحظة تنوير» عند اكتشاف الخلطة السرية. وعندما تتهلل أسارير الرجال يقول في أسف، ولكنها غالية الثمن، وصانعها طاعن في السن لا يدفعه إلى صناعتها إلا ابتغاء مرضاة الله، «صلوا ع النبي» (فيغمغم الحاضرون بالصلاة على النبي) ولا يدفعه على بيعها إلا رغبته في أن يتمتع كل رجل ب «الستر» مع أهله، وبين الضحكات والهمهمات يخرج زجاجة صغيرة ويقول: معي أربع عينات فقط، وأنا لا أتقاضى عنها ثمنا، بل أهبها مجانا وفقا لوصية الشيخ الصالح، لكل من يشتري هذا الدواء الذي يشفي جميع الأمراض!
كانت أجمل لحظات المونودراما هي فترات الحوار مع المصلين، فكان يعرف الكثيرين منهم، ويخاطبهم بأسمائهم وبطرق بالغة الذكاء: «لا يا إبراهيم! لن أعطيك شيئا! لا تضع يدك في جيبك! أين أنت من الشيب الذي نعاني منه؟!» أو يصرخ فجأة قائلا: «زجاجة واحدة فقط! والباقي على الله! قولوا لا إله إلا الله!» فيغمغم الواقفون مهللين، ولا يلبث حتى يبيع ما لديه وينصرف!
ويبدأ ثاني هذه النصوص بإنكار أي قوة سحرية فيما يبيع من أدوية، مؤكدا أن الشافي هو الله، وينطلق بعد ذلك في رواية قصة حدثت له أو لأحد أصدقائه مع أطباء المستشفى، مؤكدا أن الطبيب لا يمكنه معرفة «ما يجري» داخل البطن، وأن «السماعة» أكذوبة، «قولوا لي بالله عليكم .. ماذا يسمع؟ إنه يتظاهر بسماع ما لا نسمعه! وما عساه يكون؟ إنه يرجم بالغيب! ورسولنا يقول كذب المنجمون ولو صدقوا! لكنه يتقاضى منك خمسين قرشا! وماذا يصف لك بعد ذلك؟ إنه لا يزيد عن الحمية - فالمعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء! ولكنني أعطيك هنا القوة التي تتغلب بها على المرض! وهي رخيصة لأنه لا يوجد وراءها تاجر جملة ولا تاجر قطاعي .. فهي من الحكيم إلى ابن الحلال!» وهكذا يوزع الزجاجات الصغيرة بعد أن ينصح شاريها بأن يأخذ منها قطرة واحدة في كوب من الماء بعد الحمام، وأن يستريح بعدها ولا يأكل ولا يتكلم حتى يشفيه الله!
والغريب أن معظم من جربوا أدوية هذا الممثل (المؤلف) يشهدون لها بالامتياز وبالقدرة على صنع المعجزات، وكان أغلى سعر يتقاضاه هو عشرة قروش، وبعد أن ينفد ما لديه يخرج «الروائح» (التي كان يسميها الأسانس، وكنت أتصور أنها تعني الجوهر، ولكن اتضح أنها تعني الزيت؛ من الفرنسية)، وكان سعر الزجاجة الصغيرة يتراوح بين قرش ونصف قرش.
أما «السيناريو» الثالث فكان أمتع هذه السيناريوهات؛ لأنه كان يتضمن حكاية شعبية، تختلف في كل مرة، ولكنها كانت تبدأ دائما بمرض بنت السلطان وحيرة الأطباء في شفائها، وكيف استطاع الشاطر حسن أو «مطاوع أمه» أو غيره من الأبطال الشعبيين أن يجد الدواء الذي يشفيها الله به؛ فالله هو الشافي، وأذكر جيدا قصة الدأراوي (الدقراوي؟) البطل الرشيدي الذي كان طوله لا يزيد على متر ونصف متر، ولكنه كان «كله عصب»؛ لأن الله كان يلهمه أسرار الدواء الصحيح! وقصته مع بطل الصعيد لا يزال يذكرها المعمرون من أبناء رشيد؛ إذ كان اللقاء بين عملاق الصعيد الأسمر وبين الدأراوي على التلال المواجهة لغيط «البيه» (أي علي بك بدر الدين) وكان حكام مباراة المصارعة قد حذروا بطل الصعيد من ارتكاب خطأ معين أثناء المباراة يمكن أن يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه، وهو رفع الدأراوي عن الأرض! وكان الدأراوي قد تناول شراب القوة الجبارة، وكاد يهزم بطل الصعيد، مما اضطر الأخير إلى رفعه في الهواء، وهنا فعل الشراب فعله، فهاج الدأراوي «ونفر عرق الغضب في قفاه»، وأمسك بساق بطل الصعيد فكسرها بين يديه، مثلما يكسر الصبي عصا صغيرة! وانتهت المباراة طبعا بإعلان تفوق الوجه البحري على الصعيد! ويختتم البائع كلامه قائلا: «ولكن ليس معي اليوم من هذا الشراب إلا زجاجة واحدة .. من المسعود؟»
كانت هذه المونودرامات عروضا مجانية، وكنت أواظب على مشاهدتها، وإذا شككت فيما يقول البائع قيل لي: اذهب إلى قهوة بلبع عند مسجد سيدي العرابي، فسوف تجد منضدة لها سطح رخامي فيه آثار أصابع الدأراوي! إذ كان من عادته أن يضرب أصابعه في الرخام صائحا «قهوة يا بلبع » .. أو «شاي يا بلبع»، فينغرس إصبعه في الرخام. وكثيرا ما قص علي القصاص مغامرات الدأراوي مع الخديوي عباس حلمي الثاني (أفندينا) وكيف رآه الخديوي وهو يرفع أعمدة المسجد بيد واحدة، وعرض عليه العمل معه في القاهرة فرفض الدأراوي. كانت هذه القصص تحدد زمانا معينا لحياة الدأراوي، وكنت أطمع في التحقق من شخصيته رغم الصعوبات؛ فالواقع أن تاريخ المسجد الذي قيل إنه شارك في بنائه معروف؛ لأنه مسجل في بيت من النظم التأريخي (أي الذي تخرج منه بالعام الهجري إذا جمعت الحروف):
شاد الخديوي مسجدا لأبي النظر
يا بخت من بمقامه لاذا
سعدوا بمقدمه فقلت مؤرخا «عباس شيد مسجدي هذا»
وهذا ما يسمى بحساب الجمل، فإذا أضفت القيم الرقمية لحروف الشطر الأخير بعضها إلى بعض خرجت بالتاريخ 1269 هجرية! أي إن بناءه كان منذ 149 سنة هجرية، أو نحو 145 سنة ميلادية؛ أي بعد وفاة محمد علي وإبراهيم باشا بقليل .. مما يوحي بأن «عباس» الذي شيد المسجد كان عباس الأول لا عباس حلمي الثاني! ولكن عباس باشا الأول لم يكن قد حصل على لقب الخديوي، وأول من حصل عليه هو الخديوي إسماعيل!
كانت الأساطير الرشيدية كثيرة، وكان معظمها يتخذ صورة الحوار، وبناء المشهد، تماما مثلما يحدث في روايات السلف بالفصحى (أو بالعامية) وقد أدى بعدي المكاني والزماني عن رشيد إلى استرجاع بعض هذه الأساطير وإعادة بنائها في خيالي؛ مثل أسطورة الحرب بين قبلي وبحري؛ أي الصراع على زعامة البلد بين رجال «الحي الجنوبي» ورجال «الحي الشمالي»، ولا شك عندي في أن هذه الحرب لم تقع، وأن ما حدث فعلا لم يتجاوز الصراعات المعتادة بين أهل الصناعة في الجنوب وأهل الزراعة في الشمال، وكان يرمز لتصالحهم بموكب «الأشاير» الذي يطوف البلد في يوم رؤية هلال رمضان؛ إذ يخرج من حي قبلي موكب يضم رموزا للحرف والصناعات، إما على عربات مخصوصة أو على ظهور الإبل والبغال والخيل، ثم ينضم إليهم في شارع السوق رجال يمثلون الزراعة والمنتجات الزراعية، ثم يقفون عند مبنى المحكمة حيث ينزل شخص يمثل «الخليفة» يتقدمه المنشدون، وكان الخليفة دائما ملثما، مما كان يخيفني طفلا، ووراءه بعض المحنكين (أي الذين يخفون أفواههم بمناديل كبيرة)، ثم عدد من المرابطين، وقد فسرت ذلك كله فيما بعد بأنه من تراث الفاطميين في مصر، فتلك عادات من شمال أفريقيا في الغرب، وكان الكثيرون من أهل رشيد يحملون لقب المغربي (إلى جانب الشامي والحجازي والعكاوي والتونسي ... إلخ) إلى جانب لقب مهم؛ هو لقب القاضي الذي قيل لي إنه يرجع إلى كل أسرة تولى ربها مهمة القضاء.
وسواء كانت «الأشاير» تعني الإشارة إلى بدء شهر الصوم، أو كانت تحريفا لكلمة «البشاير» (البشائر)، أو كانت كلمة دخيلة؛ فإن الموكب كان ينتهي في الشمال (في حي بحري) عند مسجد «سيدي النور» حيث يعقد مشهد تمثيلي يسأل فيه الخليفة القاضي هل رأيت الهلال؟ فيجيب بالإيجاب، وهل يسود السلام والوئام؟ وهل يؤذن منذ هذه اللحظة بحبس الشياطين؟ ومن ثم توقد المشاعل، ويصلي الناس المغرب، و«يسهرون» في انتظار صلاة العشاء، ثم ينامون ليستيقظوا في السحر لتناول السحور وانتظار الفجر! ألم يكن ذلك كله يتضمن عناصر مسرحية من لون ما؟
ومن السمات التي اختفت من رشيد الآن، بسبب التوسع العمراني، واختلاف نمط أو أنماط الحياة القديمة، الإحساس بكل غريب عن البلد. فكل قادم من خارج رشيد ينظر إليه كأنما هو «أجنبي» ولكن دون ريبة أو حذر. وكان من طقوس تدشين «الأجانب» زيارتهم لنادي الموظفين على شاطئ النيل، ثم جلوسهم على المقاهي مع أهل البلد، ولا تكتمل «مراسيم» التدشين إلا بارتداء الجلباب الرسمي «الجلابية المصرية» والصلاة في جامع المحلي (إذا كان «الأجنبي» مسلما طبعا ) مع سائر أبناء البلد! وكنت في تلك الأيام أسترجع صورا لبعض «الأجانب» الذين استوطنوا البلد ورفضوا الرحيل، على عكس ما كان الجميع من الناشئة يفعلون أو يتمنون لو فعلوا.
وكنت في عام 1960م كثير التردد على عبد اللطيف الجمال الذي كان قد انتهى تقريبا من رسالة الماجستير، وبدأ ينشد الرزق في الترجمة، فصحبني ذات يوم إلى مبنى قيادة الثورة، حيث كان الدكتور رشاد رشدي يعمل رئيسا لتحرير مجلة عربية اسمها بناء الوطن، ومجلة إنجليزية اسمها «ذا أراب ريفيو»، وكنا آنذاك لا نتحدث إلا عن القومية العربية وعن أمجاد الوحدة، ولا نكاد نعرف ما يدور في سوريا، بل كنا نلتقي مع أبناء الشام في كل مكان، وكنا نعشق اللهجة السورية (وما نزال)، وأذكر يوما كنت في زيارة الجمال وكان ريفيا من إحدى قرى المنوفية، بينما كانت سمية أحمد مختار الجمال من دمياط، فقابلت تاجرا سوريا يقيم في الشقة المجاورة، وكان يبحث عن طبيب لوالدته المريضة، فاصطحبته إلى أحد الأطباء، وأنا أشعر كأن أقاصيص كتاب «الأغاني» قد بعثت من جديد!
كانت غربته في القاهرة مثل غربة أي قاهري أو سكندري في رشيد، وسرعان ما توطدت بيننا الصداقة فكان يأتي إلى زيارة عبد اللطيف الجمال، وكان يحكي لنا عن الحياة في دير الزور (حيث تقيم أسرته الكبيرة) فأحس بالتناقض الشديد بين الحياة الريفية البدوية فيها وحياة العاصمة، وسرعان ما اكتسب بيننا لقب الديري (لا الشامي)، وكانت قصصه ممتعة، وإن كانت تتميز بخشونة الطبع والجد الشديد، وربما كان ذلك سبب إعجابه بميلي أنا والجمال إلى الضحك وإطلاق النكات، ووجدت نفسي ذات يوم أكتب تمثيلية للإذاعة عن «الزيارة» (هكذا كان عنوانها)، وفرح بها مصطفى أبو حطب (الذي كان تخرج في قسم اللغة الإنجليزية وحصل أيضا على دبلوم معهد التمثيل)، وكانت المشكلة عند إخراج المسرحية هي محاكاة لهجته «الديرية»، فصحبته إلى دار الإذاعة، حيث تحدث طويلا مع المخرج، وانصرفنا بعد أمسية ممتعة!
وبدأت أترجم إلى الإنجليزية في مجلد رشاد رشدي، وكان سخيا، يدفع عشرين جنيها في القصة المترجمة، أو في الموضوع المترجم، ووجدت أن العمل بالترجمة أجدى علي من قرض الشعر، فذهبت إلى الدكتور شكري عياد في منزله القديم في العجوزة، وأعطيته مجموعة كبيرة من شعري، ووعدني بقراءتها وحدد لي موعدا بعد أيام. وعندما زرته في الموعد المحدد كان يرتدي جلباب المنزل ويقرأ قصصا رومانية مترجمة إلى الفرنسية، فوضعها جانبا وقال لي: «أنا لا أنصحك بترك الشعر، ولماذا تخاف من صلاح عبد الصبور أو من حجازي؟ لكل شاعر مذهبه وقراؤه! وأنا لم أتوقف عن كتابة القصة القصيرة، دون اعتبار للمكسب المادي، وبالأمس أرسل لي رشاد رشدي شيكا بعشرة جنيهات؛ ثمنا لقصة ترجمت إلى الإنجليزية ونشرت لديه في المجلة!» وتذكرت أسئلة عبد اللطيف الجمال لي في بعض الكلمات العربية في قصة شكري عياد وعنوانها «الكوالنجي» - أذكر منها «ملامح حادة» إذ كان يريد ترجمتها بعبارة
angular
وكنت أفضل
sharp (صفة ل
features ) وما زلت حائرا أيهما أدق وأيهما أقرب إلى مقصد الكاتب، وكان شكري عياد قد وضع علامة «ع» أمام كل خروج عن البحر؛ إذ كان لا يرضى لي أن أمزج البحور في تلك المرحلة المبكرة من كتابة الشعر، ونبهني إلى ضرورة الوعي بالقارئ؛ فمعظم قرائي ممن يعرفون أصول النظم، ولا داعي لاستعدائهم بأي خروج عن الأصول في هذه القصائد الأولى.
كان نجاحي في الكتابة الإذاعية، وإحساسي «بالمواقف»؛ أي بحالات التشابك فيما بين الناس من حولي يدفعني دفعا إلى المسرح؛ فهو الفن المركب الذي يتيح تعدد الأصوات حقا، وكنت أزداد وعيا يوما بعد يوم بأن الأحداث التي تحدث من حولي مشاهد ذات قدرة جبارة على التعبير الفني، وهي أقدر من الشعر الغنائي قطعا على تحقيق غاياتي الفنية! وذات يوم كنت مع عز الدين فهمي في معهد الموسيقى حين دخل رجل يبدو عليه الثراء، وبصحبته بسيوني عازف القانون في فرقتنا القديمة، فطلبنا له الشاي في البوفيه، وحكى لنا عن ليال موسيقية في المنصورة قرر إحياءها بفرقة من القاهرة، وأن المبلغ الذي رصده كبير وكفيل بإغراء الكبار، ولكنه يريد تشجيع الصغار، فقرر الاستعانة بالفرقة على أن يتقاضى كل منا خمسين قرشا في الليلة الواحدة إلى جانب تذاكر السفر والمبيت والطعام! وكان بسيوني سعيدا بذلك، وقال إن الليالي قد تمتد أسبوعا على الأقل، وقد تمتد في حالة النجاح الجماهيري أسابيع متوالية!
لا أدري لماذا قبلت أن أتولى عزف العود في تلك الفرقة، خلفا لكمال العواد العبقري (لا أعرف أين هو الآن) ولكننا أمضينا الاتفاق، وفهمت من الحوار أن لدى «المتعهد» مطربات وراقصات من المنصورة نفسها، وأن كل ما يحتاج إليه هو «الآلاتية». ورحلنا مساء الخميس التالي في القطار، كل منا يحمل آلته، وكان منظرنا غريبا؛ إذ كان المسافرون يتطلعون إلينا في دهشة، ولما كنت آنذاك «خالي شغل» رسميا، لم أكترث لنظراتهم، وشغلت نفسي بالتطلع من نافذة القطار حتى وصلنا.
كان المساء قد حل، ووجدنا «المتعهد» في استقبالنا، ثم اصطحبنا جميعا سيرا على الأقدام في شوارع البلد، وكان بسيوني يتقدمنا حاملا «القانون» ومن ورائه الطبال (حمدي) باعتباره رئيس الفرقة وروحها النابضة، ثم باقي الأعضاء. وانحرفنا فجأة في شارع يطل على النيل العظيم، فإذا بنزل فخم تغمره الأضواء الباهرة، وقال لنا في ثقة اتفضلوا يا أساتذة! وسمعت بعض الأطفال يصيحون: «العوالم! العوالم وصلوا!» وسألت عز الدين في خوف عما يعني الأطفال فقال في أسى: «خازوق!» ودون أن ندري، كأنما كنا مخدرين، وجدنا أنفسنا نجلس في بهو رحيب، حيث «المعازيم» وأهل الفرح! كان الواضح أن «المتعهد» قد أتى بفرقة موسيقية للعزف في حفل زفاف؛ إذ أتى بعد ذلك والد العروس فرحب بنا، ووعدنا بأفخر الأطعمة هامسا: «فيه صواني بطاطس باللحم!» ولم يكن أمامنا مجال للتراجع، خصوصا بعد أن دخلت أولى الراقصات ومعها طبال خاص بها، فاعترض حمدي وبدأ جدال حسمه بسيوني بأن قال إنه سوف يقود الفرقة ويمنع الدخيل من إفساد الإيقاع! ثم دخل أحد الدخلاء يحمل أكورديون، فهاج بسيوني وماج وقال: كيف نضمه إلينا دون بروفات؟ ولكن جو الفرح كان غامرا، ووجدتني أتأمل الحاضرات من الجميلات، كانت العيون زرقاوات والجباه بيضاء والشعر سيالا كموج البحر! كان الجو كله يوحي بالحلم الغريب! وقالت الراقصة في ثقة: عزيزة! (تقصد قطعة موسيقية لعبد الوهاب) ودون انتظار حتى لضبط الأوتار بدأت تتمايل على إيقاع الطبال! وسألت عز الدين هامسا: من «ري» برضه؟ فقال طبعا! وأعطى بسيوني الإشارة فإذا بالنشاز لا حد له! واتضح أن الأكورديون يعزف القطعة من «مي» لا من «ري»! وعندما توقفت محرجا أشار علينا بسيوني بأن نعزفها من «مي » وأمرنا إلى الله!
كانت الراقصة سمينة وقبيحة، وحمدنا الله على أن الرقصة انتهت، ولكنها أشارت إلى الطبال قائلة: «ما قال لي وقلت له!» وهنا هاج بسيوني وقام يساعده حمدي باصطحاب عازف الأكورديون إلى الخارج، وأثناء ذلك كانت الراقصة قد بدأت الغناء! ولكنها كانت غير متمكنة من اللحن، وكانت تضيف جملا موسيقية من باب التنويع تحير العازفين، والأدهى من ذلك أنها تغير من طبقات صوتها أثناء الأغنية نفسها! وعندما خرجت تنفسنا الصعداء، ودخلت مغنية أخرى في مقتبل العمر، ويبدو أنها كانت تطمح في احتراف الغناء فكانت تطيع ما يقوله لها بسيوني، وبدأت تحاكي أم كلثوم، فانقضى الوقت سريعا، وبدأت الفرقة تحس بالإجهاد، وتتساءل عن الطعام، خصوصا بعد أن وصلت إلى الخياشيم روائح المطبخ!
ولم يأت الطعام مطلقا، فأشار علينا بسيوني بالنهوض، ويبدو أنه كان يتفاوض مع «المتعهد» على الأجر؛ إذ كان يكثر الخروج والدخول، ثم انطلقنا إلى محطة القطار، وركبناه في الواحدة، وفي طنطا نزلنا وانتظرنا القطار القادم من الإسكندرية، ونحن في حال من الإعياء يصعب وصفه، بينما كانت أم كلثوم الحقيقية تصدح في راديو المحطة! وبعد ساعتين، وكان معظمنا قد أغفى وانتبه عدة مرات، وصل القطار، وعدنا إلى محطة مصر (باب الحديد) مع أذان الفجر! وعندما عدت إلى المنزل لم أشعر أحدا بعودتي، وقررت أنا وعز ألا نخبر أحدا بتفاصيل تلك الخدعة، ولكن الزملاء ملأوا الدنيا صخبا وضجيجا، وكان من المعتاد آنذاك أن يعاتب بعضنا بعضا بالإشارة إلى تلك الرحلة، وما يزال بعض أصدقائي يقول لي عندما يراني بعد غيبة: إنت رجعت من المنصورة إمتى؟
2
وقطعت على نفسي عهدا بألا أظهر بالعود في أي مكان عام بعد ذلك، وأن أقصي تلك «المغامرة» إلى عالم المسرح الذي يلتحم الخيال فيه بالواقع، وإن كانت أحداث السنوات التالية قد تضمنت عناصر مسرحية «طبيعية»؛ أي من الحياة نفسها، فكانت صورة عجيبة للمسرح الحي!
وتفرغت عام 1960-1961م للدراسة والترجمة، وكان من مصادر الرزق المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، الذي تولاه ضابط من السنبلاوين (التابعة للمنصورة) اسمه محمد توفيق عويضة، وكان كريما هو الآخر في دفع أجور المترجمين. وكان يعمل لديه زميل لي في الدفعة نفسها اسمه جلال الفار، فكنا نترجم مقالات مجلة منبر الإسلام - المقابل بعشرين جنيها. وحدث في شتاء ذلك العام قبيل رمضان أن اجتمع أصدقاء شارع الدري (الفردوس الآن)؛ وهم علي أبو العيد (الذي كان يقيم في أول شقة في العمارة) وعلي سليم (الذي كان يقيم في الشقة المجاورة) وفتحي رضوان (أخو عباس رضوان الذي أصبح وزيرا وكان من شلة عبد الحكيم عامر) وعبد الحميد (لا أذكر اسمه الآخر، ولكنه كان ابن خالة طالب في كلية الفنون التطبيقية اسمه فيصل، وكنا نتعاون في الرسم معا). اجتمعت الشلة مع طالب يصغرنا بعامين، ويمت بصلة قرابة حميمية لأحد الوزراء، وقرر الجميع استئجار عوامة في النيل (منزل نهري
houseboat ) بثمانية جنيهات في الشهر، يدفع كل منا جانبا من إيجارها، وقال فتحي: يستطيع عناني أن يترجم فيها على شاطئ النيل! ولم أفهم النكتة إلا بعد فترة؛ إذ كان الهدف منها هو اللهو، وكنت أنا أعتبر نغما ناشزا عن ذلك اللهو!
وكانت العوامة صغيرة، ولكن شرفتها العلوية كانت رحيبة، وأذكر أنني قضيت أول ليلة أترجم حتى الصباح، وعندما أشرقت الشمس كتبت أبياتا رغم أنفي وهي:
غادة من الذهب
تستحم في اللهب
أشرقت بين الغصون
يستخفها الطرب
حولها على الضفاف
مهرجان من صخب
من طيور سابحات
شاكرات من وهب
ويبدو أنني تركت الأبيات سهوا على المنضدة التي كنت أعمل عندها؛ لأنني عندما قابلت الشلة في اليوم التالي، قال لي فتحي: غادة من الذهب؟ لأ .. إحنا عايزين غادة بحق وحقيق ! وعلق أبو العيد قائلا: عبد الحميد مش عايز! عنده خالته! وكان عبد الحميد يتظاهر بالنوم في سرير خالته فتشفق عليه ولا توقظه، وتنام إلى جواره، مما دفع الشلة إلى قول ذلك، وكان هو لا يخجل من رواية ما يحدث، وكانت لديهم خادمة جميلة، يزورونه من أجلها، أما فيصل فكان دائم البكاء على زوجته اليوغوسلافية التي تركها في ألمانيا؛ إذ كان قد عمل بعض الوقت أثناء العطلة الصيفية في مصنع للخزف في إحدى المدن الألمانية، وتعرف على تلك الفاتنة (كان يحمل صورتها دائما) وتزوجها، وكانت تريد الذهاب إلى مصر، ولكنه رفض خوفا عليها، وكنا نلح عليه في إحضارها ونعطيه الأمان فيرفض قائلا: أنتم لا أمان لكم! وأما علي سليم فلم يكن متفوقا في الدراسة، وكان أخوه «عنتر» في «جروبي»، ويأتي إلينا أحيانا بالمارون جلاسيه (أي بالقسطل المكسو بالسكر)، وكان علي أبو العيد طيب القلب، يحسد أخاه الكبير محمد الذي كان يعمل مفتشا للضرائب في الملاهي، ويحسد أخاه الدكتور عبدالفتاح الأستاذ في كلية الهندسة صاحب السيارة الأوبل، ويتمنى أن يدخل كلية الطب (وكان في كلية الزراعة)، وقد لاحت له الفرصة، إذ أعلن عن إمكانية التحويل بشرط إعادة الثانوية العامة (التي حلت محل التوجيهية) والحصول على المجموع المؤهل للطب، وقد فعل ذلك والتحق بالسنة الإعدادية، ولكن أخاه الأكبر اشترط عليه النجاح في السنة الإعدادية وإلا أعاده إلى الزراعة، ولكنه لم ينجح، وعاد إلى الزراعة. وكان أخوه الثالث هو أحمد أبو العيد عازف الفيولنسيل (الشلو) والمستشار الموسيقي بالإذاعة. وكان علي طيب القلب رقيق الحاشية، ذكيا مجتهدا، ولكن الله ابتلاه أولا بنزيف في المعدة شفي منه بجراحة في آخر لحظة، ثم بالتهاب العصب السابع في الوجه الذي يجمد حركة النصف الأيسر، ثم شفي منه وعاد له. ولكنه كان آنذاك ما يزال يكافح في دروس الزراعة.
وذات يوم ذهبت إلى العوامة فوجدت جوا من الغموض، نصحني فتحي على أثره بالعودة إلى المنزل، وتصورت أنهم يريدون التدخين «الممنوع» ولا يريدون إطلاعي عليه، وتكرر المشهد في اليوم التالي ، واشتكيت لعلي أبو العيد من منعي من استخدام مكاني في العوامة بعد أن شاركت بنصيبي في الإيجار، بل دفعت أكثر من الآخرين! وقال لي «علي»: انتظر! يبدو أن معهم «واحدة»! وذهبت في الليلة التالية فوجدت عجبا: رجل ريفي يتكلم بلهجة أهل الصعيد، ومعه امرأة حدست أنها زوجته تتكلم باللهجة نفسها، ومعها علي سليم وفتحي رضوان وقريب الوزير المشهور! وعندما ألقيت تحية المساء، قال لي فتحي: لأ .. روح انت يا عناني .. دي مشكلة بسيطة! وشاهدت في الركن فتاة صغيرة تجلس دون حراك، ولم أتبين ملامحها جيدا.
واتضح في اليوم التالي أن قريب الوزير كان قد عثر على تلك الفتاة في شارع كلوت بك، وهو الشارع الذي كانت له شهرته أيام البغاء الرسمي، وبعد إلغاء البغاء اختفت الصورة طبعا، وإن كانت الفنادق الرخيصة ما تزال قائمة، وكان بعض الذين كانوا يعملون في ذلك المجال البغيض، من رجال ونساء، ما يزالون في قيد الحياة، ولم يكن الإلغاء قد مر عليه أكثر من 12 سنة، ومن المحال في تلك السنوات أن يتغير وجه الحياة تغيرا جذريا. وهكذا صاحبها الفتى، أو اصطحبها، بعد أن أخبرته أنها هاربة من أهلها في الصعيد، وتبحث عن مأوى في القاهرة، وجاء بها إلى العوامة حيث أعلن للجميع أنه يحبها ولن يسمح لأحد بالاقتراب منها، ويبدو أنها كانت كاذبة لأنها خرجت واتصلت تليفونيا بأهلها (إما في القاهرة أو في الصعيد)، وعندما حضر الوالدان قالت لهما إن علي سليم هو الذي «تزوجها» وهو حبيبها، ولم أعرف لماذا اختارته دون سواه، ومن ثم كان النقاش الذي شهدته ذلك المساء يدور حول اختيار أحد الحلين المتاحين: إما القتل (بسكين حامية أحضرها الوالد خصيصا)، وإما الزواج رسميا. وكان الاختيار الثاني أهون الشرين، وهو حل على مرارته لعلي سليم أقل إيلاما من حد السكين. ومن ثم تمت مراسم الزواج، في الليلة نفسها، وبات علي معرسا بعروسه الصغيرة. وكنا على أبواب رمضان، وعندما دخل شهر الصوم، التزم الجميع بالصمت، وكان من المشاهد المألوفة رؤية العريس يحمل طبقا من الفول وبعض حزم الجرجير والطورشي (كلمة فارسية محضة) عائدا في ساعة الإفطار إلى العوامة.
ولم أتابع أخبار الزواج بعد ذلك، وتوقفت عن دفع اشتراكي في إيجار العوامة، وانهمكت في الانتهاء من ترجماتي بعد أن قنعت بالعودة إلى كازينور على شاطئ النيل في الجيزة، بل كنت أتحاشى المرور أمام العوامة؛ خوفا وخجلا، ولم يلبث علي سليم أن اختفى وانقطعت أخباره.
ولكن الدافع على الاستقلال بمكان أعمل فيه وحيدا كان ما يزال ملحا، فكنت أتطلع إلى الشقق الخالية وبي حسرة؛ فأقل إيجار ستة جنيهات، وتجهيز الشقة يتكلف الكثير، ومع انقضاء الشتاء وحلول الربيع، برزت بوادر تغيير كتب لها أن تظل معي إلى الأبد.
ظهر في أبريل 1961م كتاب «الرجل الأبيض في مفترق الطرق» وهو أول كتاب يحمل اسمي باعتباري المترجم وإلى جانبه اسم عثمان نوية (رحمه الله) باعتباره المراجع، وكان يعمل في مكتب أمين شاكر، وهو ضابط قيل إنه مدير مكتب جمال عبد الناصر، أو أحد مديري مكاتبه، وكان يشرف على إصدار المجلات التي يحررها رشاد رشدي، وكان قد كون جمعية وهمية اسمها جمعية الوعي القومي لا تضم أحدا من أعضائها، ولكنها تحصل على مخصصات سخية لنشر الكتب (من رئاسة الجمهورية طبعا). أما عثمان نوية فكان مترجما فحلا، جزل العبارة ناصع البيان، وكان مكتبه ملتقى لكثير من أساتذة العربية الذين ارتادوا دراسة علم اللغة الحديث، مثل الدكتور تمام حسان، وكثير من المترجمين المبتدئين الذين قضوا فترة التجنيد في ذلك المكتب، واستطاع أحدهم وهو من خريجي قسم اللغة الإنجليزية (واسمه عبد العزيز عليوة) أن يلتحق فيما بعد بالسلك الدبلوماسي.
وغداة ظهور الكتاب ذهبت إلى مكتب عثمان نوية لأحصل على بعض النسخ وعلى الأجر أيضا، وقابلني بالبشر والترحاب وقال لي لقد أعددت الاستمارة الخاصة بالدفع، وسوف تحصل على النقود من الخزينة في الطابق الأرضي. ودخل بالاستمارة التي كانت تقدر الأجر بأربعين جنيها (160 صفحة) وهو تقدير مجحف، فإذا كانت الكلمة بمليمين، كان ينبغي أن أتقاضى 66 قرشا لا 25 قرشا، وعندما هممت بالاعتراض همس قائلا: «احمد ربنا!» ولكنه عندما عاد بالاستمارة بعد توقيعها وجدت أن أمين شاكر قد خفض المبلغ الكلي إلى 25 جنيها! ومعنى هذا أن الكلمة قد حسبت بنصف مليم تقريبا، ولم أعترض هذه المرة وهبطت إلى الطابق الأرضي وحصلت على المال وانصرفت.
وفي غمار فرحتي بالنقود نسيت الظلم، وانطلقت في طول القاهرة وعرضها أنفق ذات اليمين وذات الشمال، وانتهى اليوم والأيام التالية وأنا أحلم بتكوين ثروة، وساعدني على ذلك إعجاب الأساتذة ممن قرءوا الكتاب بأسلوبه السلس، وسرعان ما جاءتني العروض بترجمة المزيد من الكتب، فعرض علي الدكتور عز الدين فريد، وكان مستشارا ثقافيا لمؤسسة فرانكلين ودار الجمهورية للطبع والنشر، ترجمة رواية «حد الموسى» لسومرست موم، وقرأتها فوجدتها بالغة الطول حافلة بالمغامرات الجنسية؛ مما يجعل ترجمتها عسيرة بل وشبه مستحيلة، ورأيت أن الجهد المبذول في تلافي العبارات الصريحة لا يقابله أجر مادي واضح، ثم عرض علي رياض أباظة مسئول الترجمة في مؤسسة فرانكلين، بناء على توصية من عثمان نوية، ترجمة أشياء أخرى، وكنت ما أزال أعمل في ترجمة «درايدن» التي كلفني بها مجدي وهبة، فكان عملي بالترجمة لا يكاد يتوقف.
وكان من بين من تخرجوا آنذاك عبد العزيز حمودة في عام 1960م (الدكتور) وعايدة الشعراوي 1961م (الدكتورة) اللذان عملا مدرسين للغة الإنجليزية بالقسم، مع الذين سبق ذكرهم من خريجي عامي 1957م و1958م. وكان عبد العزيز مجدا ومجتهدا، وكان أمين الشريف الأستاذ الذي انتدب لتدريس الترجمة في العام التالي لتخريجي معجبا به وبغيره من النبهاء مثل أحمد عبد الوهاب الغمراوي (الدكتور) رحمه الله، وجانيت وهبة سوريال عطية (الدكتورة) التي أصبحت من خيرة المترجمين إلى الإنجليزية هذه الأيام، وهي تعمل أستاذا في قسم اللغة الإنجليزية بجامعة عين شمس. كما تخرج شاب نابه عام 1960م اسمه أحمد كمال الدين عبد الحميد، عمل في الإذاعة هو الآخر ثم عين مدرسا للغة الإنجليزية بالقسم. وباختصار كان عام 1961م يشهد تغيرا هائلا في عدة مجالات؛ فعلى مستوى العمل الأكاديمي كان القسم يزخر بالشباب، وعلى مستوى الدولة كانت بعض الصعاب قد بدأت تلوح في الأفق؛ إذ برزت خلافات بين القيادة المصرية للجمهورية الموحدة التي تضم مصر وسوريا، وكان اسمها الجمهورية العربية المتحدة، وبين القيادات المحلية السورية، وبدأت بعض الأحلام في اكتساب ثوب واقعي، مثل بناء الجيش القوي وبناء القاعدة الصناعية، وبدا أن اهتمامات الناس بدأت تختلف؛ فكان نبض «الشارع المصري»، كما يقولون، ساخنا دفاقا ووضعت القيادة السياسية كتابا اسمه ميثاق العمل الوطني، ودعت إلى تشكيل مؤتمر شعبي يكون بديلا في دولة «الكفاية والعدل» عن أشكال التمثيل البرلماني الغربية؛ أي صورة الديمقراطية الغربية، وكانت الفكرة أن يكون مبنيا على أساس تمثيل «القاعدة الشعبية» أي مشاركة الجميع في الحزب الوحيد آنذاك، وهو الاتحاد الاشتراكي لقوى الشعب العاملة، كما كان يسمى، وقال جمال عبد الناصر في إحدى خطبه في صيف 1961م «دقت ساعة العمل الثوري»، فتحولت إلى نشيد جميل ينشده عبد الوهاب، وأصبحت الإذاعة منبرا لأعذب الأحاديث عن الكفاية والعدل والتصور الجديد للمجتمع، وهو تصور بديع مثالي، لخصته أغاني العبقري الراحل صلاح جاهين، مثل «صورة» و«بالأحضان»، وأغاني أم كلثوم مثل «ثوار»، وغير ذلك من إبداعات كبار الموسيقيين، وعلى رأسهم عبد الوهاب والسنباطي.
لم يكن من الممكن الانعزال عن الإحساس بأن مصر تشهد تحولا تاريخيا، وإن كنا نسمع في الدهاليز شائعات كثيرة، كان الشعب يتناقلها دون أن تصل إلى أجهزة الإعلام أبدا، وبحلول يوليو 1961م وقع حدث بالغ الأهمية، وهو صدور قوانين يوليو الاشتراكية، التي حددت مسار العمل الوطني في طريق جديد يعطي للدولة حق امتلاك «أدوات الإنتاج» مما استدعى الاستيلاء على مصانع ومتاجر الرأسماليين جميعا، ووضع أموال جميع من يملكون أسهما أو سندات أو نقودا سائلة في البنوك «تحت الحراسة»؛ أي إيكال إدارتها للدولة ومنح أصحابها مرتبات تكفي لبقائهم في قيد الحياة، ونشرت صحيفة الأهرام صفحات كاملة بأسماء من يملكون مثل هذه «الأصول الاقتصادية»، وكان رد الفعل بين الفقراء مضمونا، وهو الحسد والغيظ و«الحقد»، بينما كان رد الفعل بين الآخرين غير معروف، خصوصا أساتذة الاقتصاد ورجال الفكر السياسي، فكان الشك ينتاب هؤلاء إزاء سلامة استيلاء «الحكومة» على أموال الشعب بحجة إعادتها للشعب.
ولما كنت أنتمي إلى أسرة من التجار والصناع، فقد أضير بعض أفراد أسرتي ممن «سلبت» أصولهم الاقتصادية مثل مضارب الأرز والمطاحن والمخابز (مطحن زوج عمتي، ومضرب زوج خالتي)، أو مثل المتجر الذي كان يملكه خالي عبد الحليم بدر الدين، وفي الجامعة كانت الصدمة الحقيقية هي تلك التي تلقاها الدكتور مجدي وهبة؛ إذ أصبح لا يملك التصرف في أمواله، وبطبيعة الحال لم أعد آمل أن أحصل على باقي أتعابي من ترجمة درايدن، ولكنني واصلت العمل في الترجمة حتى اكتملت، وتخرج في ذلك الصيف سمير سرحان (الدكتور)، وفاز بالمركز الأول على دفعته، وسرعان ما قبل العمل مدرسا في مدرسة زراعية في بنها، كانت تقتضي منه أن يستيقظ في السادسة صباحا لإدراك القطار، ثم العودة في الظهيرة إلينا - أي إلى الشلة القديمة - لكي نخطط آمالنا وأحلامنا.
كان سمير سرحان «دينامو» بمعنى الكلمة، طاقة جبارة مبدعة، يلتقط الأفكار بسرعة ويحيلها إلى مشروعات بسرعة أكبر، وكان إلى جانب موهبته الفنية شعلة من الذكاء، ولكنه لم يكن يتردد في مخاطبة من هم أكبر منه سنا بأسمائهم المجردة، ومخاطبة (الدكتور) دون ذكر اللقب، مما كنت أدهش له ولا أقدر عليه! وتحولت لقاءاتنا بسرعة إلى خطط عملية للكتابة في الإذاعة، وكان خريف 1961م هو خريف ازدهار إبداعنا الإذاعي - الذي كان يضم التمثيليات والأحاديث وملخصات الكتب - وكان يطمح في بداية ذلك الخريف في التعيين في القسم، ولا غرو؛ فهو أول الدفعة، ولكن ذلك كان يقتضي إقناع رشاد رشدي، فذهبت إلى رشاد رشدي ذات مساء وطرحت عليه القضية العامة، فأدرك مرماي وقال لي «من تعني؟» فذكرت له سمير، فقال: أخشى أن يكون شيوعيا، فأكدت له أنه ترجم كتاب «سبعة أفواه» (وهو مجموعة قصص لمكسيم جوركي وآخرين) من باب كسب الرزق فحسب، دون إيمان بذلك المذهب السياسي، فبدأ سمير العمل معنا في قسم اللغة الإنجليزية، وتوثقت صداقتنا فكنا لا نفترق، إلا في الصباح أثناء وجوده في بنها؛ إذ لم تكن إجراءات تعيينه قد تمت بعد. أما في المساء فقد كانت لنا جلساتنا العلمية والأدبية، فكان يدرس السنة التمهيدية للماجستير، وكنت أنا أقرأ شعر وردزورث بنهم، وبعد الانتهاء ربما خرجنا للسير مسافات طويلة نناقش فيها المستقبل.
وفي أواخر سبتمبر 1961م كنت على موعد مع الروائي العظيم بهاء طاهر في الإذاعة، إذ كان يعمل في البرنامج الثاني (البرنامج الثقافي حاليا) وكان الموعد في الثامنة والنصف صباحا لتسجيل حديث لي عن مذهب تحليل النصوص الذي أشاعه النقد الجديد في أمريكا، وكنا نقف في الشارع الموصل بين شارع الشريفين حيث مقر عملي القديم في الأخبار وشارع علوي حيث استوديو التسجيل، أمام المبنى الذي يضم مكاتب البرنامج الثاني، وكان يتصفح الحديث الذي كتبته حين شاهدنا سيارة كاديلاك سوداء تقف فجأة وأمامها سيارة أخرى، أمام المبنى الرئيسي، وعجبنا من الزائر المهم، وقال بهاء طاهر: لن يكون جمال عبد الناصر! وضحك. ولكن السيارة فتح بابها، وخرج منها جمال عبد الناصر!
ووسط ذهول الواقفين دخل الزعيم بقامته الفارعة ووجهه الأسمر إلى المبنى ومعه رجل أو رجلان، وحدسنا أن في الأمر شيئا، وسرعان ما سمعنا في التاسعة كلمته التي لا أنسى بدايتها أبدا: «أيها المواطنون. في الفجر، قامت قوات من معسكر قطنة بالقرب من دمشق، بمحاصرة مقر القيادة واحتجاز المشير عبد الحكيم عامر نائب رئيس الجمهورية والقائد العام للقوات المسلحة ...» وكان ذلك هو البيان الذي أعلن فيه للشعب نبأ انفصال سوريا عن مصر.
وفي مساء أحد الأيام التالية وقفنا أنا وسمير في ميدان الجيزة، نرقب في جهاز للتليفزيون بأحد المقاهي، الرئيس عبد الناصر وهو يتحدث عن الانفصال، ثم عن ضرورة التكاتف لمواجهة الأزمة، والاهتمام بأحوال البلد الداخلية. كان المقهى يقع أسفل عمارة سكنية تضم بعض المكاتب، ويقيم فيها صديق سوري لنا اسمه نعيم اليافي، يقوم بالتحضير لدرجة الدكتوراه في قسم اللغة العربية، كان الانفصال ذا وقع أليم على الجميع، ولكنه كان شرارة انطلقت فألهبت إبداعا من نوع جديد، فالجميع يفكر ويتساءل، والجميع يتكلم ويناقش، ولم يلبث التليفزيون الوليد، الذي لم يكن عمره قد تجاوز عاما وبعض عام، أن أصبح الجهاز الإعلامي الذي يعمل له ألف حساب، ورأى عبد القادر حاتم الذي أصبح وزيرا للثقافة والإعلام إعداد المادة الدرامية اللازمة للشاشة الصغيرة، فأمر بتشكيل لجنة عليا من أساتذة الدراما وكبار الفنانين، برئاسة السيد بدير، وعضوية رشاد رشدي والمرحوم الدكتور محمد صفر خفاجة (باعتباره متخصصا في المسرح اليوناني) الذي كان قد أصبح عميدا لكلية الآداب، وإحسان عبد القدوس ومحمد عبد الحليم عبد الله (من القصاصين) وغيرهم؛ لإنشاء مسرح خاص للتليفزيون، تقدم فيه المسرحيات أسبوعا أو أسبوعين، ثم تصور وتذاع في سهرات تليفزيونية.
وكنت آنذاك معروفا، أنا وسمير سرحان، بالكتابة الإذاعية، ومعناها على الأقل الإلمام بصنعة البناء الدرامي ووضع الحوار، كما كنت معروفا بمهارتي في الترجمة، فاقترح رشاد رشدي في إحدى جلسات اللجنة إعداد ترجمات عن المسرحيات العالمية، وتحويل بعض الروايات إلى مسرحيات، مما لاقى قبولا من أعضاء اللجنة، واقترح أن أشارك أنا وسمير في هذا العمل. وأبلغني سعد أردش (المخرج العظيم) الذي كان قد عاد لتوه من بعثته الدراسية في إيطاليا بأن رشاد رشدي يرشحني لترجمة مسرحية «الخال فانيا» لتشيكوف؛ حتى يقدمها مسرح الجيب الذي كان قد أنشئ حديثا واتخذ مقرا له في نادي السيارات بشارع قصر النيل، وفرحت وذهبت أسأل رشدي إن كان ذلك صحيحا فقال لي «استنى شوية!» وبعد أيام استدعانا أنا وسمير وكلفنا بترجمتها معا، كما كلفنا بإعداد مسرحية عن رواية لمحمد عبد الحليم عبد الله عنوانها «من أجل ولدي». ولم تكن فرحتي أقل بهذه الأنباء؛ فأنا أحب العمل مع سمير وأعمل معه في الواقع، ودون تكليف من أحد، ولكنني عجبت من أمر الترجمة! وأوضح رشاد رشدي الأمر قائلا: إنني أخشى لغتك العربية الجزلة؛ فالمسرح لا يحتمل الفصحى المتقعرة! ولم أرد على هذه الملاحظة.
وبدأنا نعمل أنا وسمير في كازينور - المقهى المطل على النيل - وكنا نلتقي في الظهيرة، بعد أن أنتهي أنا من التدريس (وكنت قد عينت أخيرا مدرسا للغة الإنجليزية في كلية الآداب) وبعد أن ينتهي هو من أشغاله الأخرى، ونستمر في العمل حتى المساء أو عندما تخفت أضواء المقهى فلا تسمح بمواصلة العمل، ثم نخرج معا لمواصلة حوارنا حول ما نكتب وما نعد. وسرعان ما انتهينا من الترجمة ثم من الإعداد، وسلمنا النص للمؤلف فرحب به ترحيبا شديدا، وتولى المرحوم نور الدمرداش إخراج المسرحية وأسند بطولتها إلى حسين الشربيني زميلي القديم في فرقة التمثيل، وعلوية جميل، وممثلة ناشئة هي مديحة حمدي، وعبد المحسن سليم وعدد من أعضاء الفرقة التي عينها السيد بدير .
وكانت هذه هي ثاني مسرحية يقدمها مسرح التليفزيون، وكانت الفرقة التي قدمتها تسمى فرقة المسرح الحديث، وكانت ليلة الافتتاح مشهودة. كنا أنا وسمير قد ضغطنا زمن الرواية الذي يمتد من طفولة البطل حتى أواخير شبابه، إلى نحو أسبوع أو أقل؛ عملا بمبدأ «وحدة الزمن» التي نص عليها أرسطو، وكنا قد ضغطنا أماكن الحدث كذلك، والحدث نفسه! أي إننا كنا نقدم مسرحية كلاسيكية يرضى عنها النقاد، وكان معهد التمثيل ما يزال خاضعا للفكر الكلاسيكي قبل أن يتطور ويصبح معهد الفنون المسرحية الحالي؛ ولذلك فقد كان كل شيء محسوبا في النص، وكان الحوار «مقطرا»؛ أي لا يتضمن أية شوائب أو أي شيء ينم على وجودي أو وجود سمير؛ فكله من روح المؤلف وفكره، وأكاد أقول - لغته! وحضر الجميع الافتتاح، ولقينا التشجيع من الجميع، فكنت ما أزال في الثالثة والعشرين بينما لم يكن سمير قد تخطى العشرين إلا بشهور قلائل! وقالت لنا الدكتورة لطيفة الزيات وهي تلمح آثار القلق على وجهينا: «حملتوا الهم بدري يا ولاد!» ولم أنس عبارتها أبدا.
أما ترجمة «الخال فانيا» فقد راجعها سعد أردش على النص الإيطالي، وأبدى بعض الملاحظات هنا وهناك، وكانت تلعب دور البطولة فنانة موهوبة لم تستمر في المهنة هي نهاد سالم، وكل ما أذكره أنها كانت تؤدي الدور بأسلوب غربي منضبط؛ فقد سبقت لها مشاهدة المسرحية بالفرنسية التي تجيدها، وبالإنجليزية التي تتقنها وتترجم إليها شعرا! ولكن سعد أردش كان يصر على أن تؤدي الحوار بأسلوبه هو، فكان يستعيدها مرات ومرات، ويطالبها بأسلوب في الأداء يصعب فهمه؛ كأن يقول: «أنا عايز الجملة تخبط في الحيطة وترد!» وتوقفت التجارب المسرحية، ووضع النص على الرف، وتوجه مسرح الجيب إلى تقديم الأعمال التجريبية، وكان ذلك هو الهدف الحقيقي من إنشائه.
في ربيع 1962م، وأذكر اليوم جيدا لأنه كان جوا خماسينيا حارا، قال لي الدكتور مجدي وهبة إن «دار المعرفة» - وهي دار نشر كان يشترك في ملكيتها محمود عبد المنعم مراد والدكتور عبد الحميد يونس - على استعداد لطبع ترجمتي لدرايدن، وأنني يمكن أن أتقاضى بقية أجري من الأستاذ مراد «من حصيلة بيع الكتاب». وتواعدنا على اللقاء (مجدي وأنا) في مقهى ريش بشارع سليمان باشا حيث قرأت عليه الأجزاء الأخيرة من الترجمة ووافق عليها، ثم التقيت معه ثانيا في اليوم التالي في مقر دار المعرفة بشارع صبري أبو علم، وسلمت النص للأستاذ مراد، ثم سمعت حوارا لم أشارك فيه عن انتواء الدار نشر مجموعة أشعار صلاح جاهين بعنوان «عن القمر والطين»، ولا أذكر إن كان الذي سيكتب المقدمة هو رجاء النقاش أم بدر الديب (زوج الدكتورة صفية ربيع المدرس لدينا في القسم)، ولكنني أذكر اعتراض الموجودين على عبارة وردت في آخر القصيدة الأولى في الديوان وهي «شوفي قد إيه» - إذ يختمها صلاح جاهين هكذا:
دخل النبي بردان خديجة غطته،
حطت عليه غطيان لحد ما دفته،
دخل النبي بردان وقال هاتوا الغطا،
شفتها غطت شفته.
وكان سبب الاعتراض هو أنه لا يليق ذكر العلاقة الزوجية للرسول في قصيدة حديثة، وبالعامية المصرية، وفي سياق الوحي الشعري الذي يجعل صلاح جاهين يضع نفسه في موقف رمزي «يوحي» بوحي النبوءة! ولم أجد شخصيا ما يمنع من ذلك آنذاك، ولا أعتقد أن «الرقيب» الرسمي كان يمكن أن يعترض، ولكن الإحساس بالخوف دفع الجميع إلى طلب السلامة؛ ومن ثم تغير البيت الأخير إلى «البسمة غطت شفته.»
وفي الصباح عندما دخلت حجرة الأساتذة في القسم وجدت الدكتور محمد أنيس أستاذ التاريخ الحديث يجلس إلى المكتب الذي اعتدت الجلوس إليه، وفرحت فرحا شديدا وأهرعت إليه أرحب به، وأشكو إليه نظام البطاقات الذي أعمل به في الماجستير؛ فقد زاد عددها على الآلاف ولم أعد أرى الطريق واضحا في تلك الغابة المدلهمة، وسألني عن موضوع البحث فذكرت له أنني أبحث في تطور الصورة الشعرية عند وردزورث، وأنني حائر في تقسيم الصورة وفقا للشكل أو للمضمون، وقال على الفور: إنك لن تستطيع تقسيم أي شيء إلى شكل ومضمون، ولكنك تستطيع متابعة خيط فكرة معينة أثناء تلونه بلون الشكل الفني، واستزدته فأفاض، ولأول مرة أحسست أنني بدأت أرى الطريق واضحا؛ فخيط الذكرى مثلا يتلون من صورة الاستدعاء المباشر للمشاهد والمسامع التي تقيم في وجدان الشاعر إلى صور معقدة تصبح فيها هذه الرؤى والأصوات رموزا للزمن، ومعنى ذلك أن تطور الإحساس قد أتى معه بتطور في الشكل الفني، أو أن الشكل الفني قد نبع من تطور خيط الفكرة! وفجأة قال الدكتور أنيس: هل قرأت قصة نجيب محفوظ بعنوان «الخوف»؟ وأجبت بالنفي، فشرع يلخصها، على نحو ما نشرت في «الأهرام»، بينما تجمع حول المكتب عبد المحسن طه بدر (الذي كان على وشك الانتهاء من رسالة الدكتوراه في قسم اللغة العربية عن تطور الرواية الحديثة) وسيد حنفي الذي كان يعد الدكتوراه في ديوان حسان بن ثابت، وغيرهم.
القصة بإيجاز هي أن أحد ضباط الشرطة الصغار عين في قسم بأحد الأحياء الشعبية في القاهرة، حيث يسيطر الفتوات فيه على أحوال الأسواق بل وعلى مصائر الجميع. ولم يجد الضابط وسيلة لإعادة النظام واستتباب الأمن سوى اللجوء إلى القوة العسكرية. فكان يأمر بإلقاء القبض على كل من يخالف القوانين ويرميه في الحبس. وذات يوم جاءه أحد الفتوات وقال له إنك تحكمنا بقوة «خارجية» غريبة عنا، ولن تستطيع أبدا بسط نفوذ القانون إلا إذا استخدمت سلاحنا نفسه؛ فهو السلاح الوحيد الذي نفهمه، أي سلاح الفتونة (أي قوة الفتوة). واستجاب الضابط على الفور، فخلع زيه الرسمي وارتدى زي أولاد البلد، وصارع الفتوات الواحد بعد الآخر حتى هزمهم جميعا، وأذلهم في الحي. وسرعان ما دان له الجميع بالطاعة ، فأقلع الجميع عن خرق القانون، وتوقفت الجرائم أو كادت، وشغل الناس بأمور دنياهم، ولم يعد ضباط القسم يجدون ما يفعلونه سوى رصد المخالفات الصغيرة، أما الضابط فقد وجد أن زي ابن البلد يلائمه، فلم يعد إلى ارتداء الزي الرسمي، وصار يقضي صباح أيام الشتاء جالسا في الشمس على باب أو على سلم القسم. لقد عاد النظام واستتب الأمن، ولكن إحساسا جديدا ساد الحي - وهو الإحساس بالخوف.
وقال الدكتور أنيس: هذا رمز واضح للثورة المصرية التي خلعت الزي العسكري، وهزمت الأحزاب السياسية (الفتوات) وأعادت الانضباط بثمن واضح هو الخوف! وقال له عبد المحسن بدر إن القصة رمز للتحول بصفة عامة، ولا تعني بالضرورة جمال عبد الناصر أو سواه، وذكرت أنا في هذا الصدد «قصة المسخ» (أو مسخ الكائنات) لفرانز كافكا، وكنت قرأتها بالإنجليزية، والتي تحكي عن تحول جريجور إلى حشرة، ومعناها في كافكا استعاري محض؛ فحياة البطل كانت في الواقع أقرب إلى حياة الحشرة، وكان الكاتب يرمز بالتحول إلى تجسيد الواقع النفسي في صورة مادية، كما ذكرت مسرحية «الخرتيت» ليوجين يونسكو؛ حيث يتحول الناس إلى خراتيت «استجابة لنداء الطبيعة» فيما عدا البطل «بيرانجيه» الذي يتمسك بآدميته حتى النهاية، ولم أجد في هذا ولا في ذاك دعما لتفسير قصة نجيب محفوظ، حسبما رواها محمد أنيس، ولكنني وجدت في الرقابة على شعر صلاح جاهين دليلا على الخوف!
الغريب أننا لم نكن نحس الخوف أبدا، بل على العكس، كنا نشعر بالقوة المتمثلة في روح التحدي التي يبثها الزعيم فينا، وكنا نرى في جمال عبد الناصر رمزا لعودة الروح التي تحدث عنها توفيق الحكيم. ولم تكن الأحداث السياسية توحي بوجود الخوف مطلقا؛ فأجهزة الإعلام تركز على امتلاك الشعب ناصية أمره، وأحيانا كانت الدبابات والمدافع تمر من ميدان الجيزة قاصدة أحد معسكرات منطقة الهرم، أو قادمة منها، فتشعرنا بالقوة؛ فهي أسلحة مصرية، وكانت كتب التاريخ تؤكد لنا عظمة الجندي المصري وقوته، وكان الدكتور لويس عوض الذي كان قد خرج من المعتقل يؤكد لنا على عبقرية إبراهيم باشا، ابن محمد علي باشا الكبير، باعتباره عقلا عسكريا نادرا، وكان يظهر حماسا للثورة لا يبدو منه أي غضب أو حزن بسبب اعتقاله تلك المدة. كان كل ما يعترض عليه هو «فرض» الاشتراكية باعتبارها بديلا للدين؛ إذ كان يفضل أن تنمو الأفكار الاشتراكية على أيدي المثقفين في إطار الديمقراطية، لا أن تفرض باعتبارها أمرا عسكريا. وكان كثيرا ما يقول إنه يختلف مع الدكتور محمد مندور بسبب تفضيل الأخير للديمقراطية على الاشتراكية، أو كما كان لويس عوض يقول: إن مندور ديمقراطي اشتراكي، أما أنا فاشتراكي ديمقراطي!
قلت إننا لم نحس الخوف أبدا، وكنت أنا بصفة خاصة أشعر بالبعد عن هذه الأفكار المجردة؛ فتطبيق الإصلاح الزراعي في بلدنا (رشيد) كان يجري في إطار مجتمع لم تتغير فيه الأنماط التي كانت سائدة قبل الثورة، مثل احترام المكانة التي تتمتع بها الأسر الكبيرة، وتقديم الرشوة علنا لمندوب الحكومة، وممارسة الخداع والكذب إزاء السلطة باعتبارها العدو التقليدي للشعب، وكانت أراضي الإصلاح الزراعي الجديدة، وهي الأراضي التي قام مصطفى النحاس باشا بتجفيفها من بحيرة إدكو أثناء حكومة الوفد قبل الأخيرة، أكبر دليل على سيادة هذه الأنماط. وكان مقر الإصلاح الزراعي في بلدة أو قرية «البصيلي» شاهدا يوميا على ذلك؛ فعندما يصل «المندوب» من الإسكندرية (أو من القاهرة) وهو مندوب هيئة الإصلاح الزراعي الذي يتولى التفتيش على سير العمل بأراضي الإصلاح تكون أقفاص الدواجن في انتظاره (الهدايا الريفية التقليدية)، إلى جانب ما تسمح به الأحوال من «شقاقي» (أي صفائح) السمن والزبد، وباقي الخيرات المعتادة، وبعد أن يتناول غداءه الذي كان لا بد أن يتضمن الحمام المحشي، يرحل بهداياه سالما غانما، وبعد توقيع الكشوف التي أعدها المديرون المحليون. وكان صديقي وزميلي السيد بلال (الذي تخرج الآن من كلية الزراعة وبدأ عمله في رشيد) يقص علي القصص بانتظام عما يحدث هنا وهناك - وكان الجميع يعرف ذلك، ولا يزيد عن الابتسام له.
3
وفي ربيع 1962م أيضا التقيت مصادفة بالأستاذ أمين الشريف الذي كان ما يزال يدرس الترجمة لدينا، منتدبا من وزارة الثقافة، وأريته أول كتاب ترجمته وهو «الرجل الأبيض في مفترق الطرق» فدهش وقال إنه لم يكن يعلم أن لدينا في جامعة القاهرة مترجمين محترفين، وعلى الفور طلب مني أن أحضر إلى مقر وزارة الثقافة (أحد مقارها في وسط البلد)؛ للعمل معه في ترجمة دائرة المعارف البريطانية! فقلت له إن لي صديقا ممتازا في الترجمة اسمه سمير سرحان، فقال لي: أحضره معك. وفعلا ذهبنا إلى المكان فوجدنا له رئيسا اسمه أبو الحجاج، ومعه مترجم سوداني لا يتحدث إلا الإنجليزية، وشخص آخر اسمه سليمان، وفهمنا المطلوب وكان كالتالي: كان علينا تفريغ أسماء جميع البابوات (بابوات روما) على بطاقات، وكانت قيمة المكافأة على كل بطاقة ثلاثة قروش!
والذي حدث هو أن الدكتور ثروت عكاشة، عندما كان وزيرا للثقافة، كان قد رصد مبلغ مليون جنيه مصري لترجمة دائرة المعارف المذكورة، ووضعها بالكامل تحت تصرف الدكتور لويس عوض الذي عين آنذاك وكيلا للوزارة، وكان له وحده الحق في الإنفاق منها، وكان منهج لويس يتلخص في تمشيط الموسوعة ورصد الأسماء أولا، وتحديد ما يحتاج منها إلى الترجمة؛ أي إلى إفراد أبواب له، ثم تحديد الموضوعات إلى علمية وتاريخية وأدبية وما إلى ذلك، وكانت للبداية بالأسماء أهميتها؛ فربما احتاج صاحب الموسوعة إلى إضافة أسماء أخرى، أو الاستغناء عن البعض، وهكذا كان العمل يجري على قدم وساق في عامي 1960 و1961م في رصد الأسماء، وكان جميع من في المكتب الذي زرناه يكسبون أموالا لا بأس بها من هذا العمل، ولم نكن نعرف منهم غير عبد العزيز حمودة وعايدة شعراوي، وكان يسمح للبعض أن يصطحب أحد مجلدات الموسوعة إلى المنزل لرصد الأسماء منها، وكان سليمان (لا أذكر اسمه الآخر) يفتخر بأنه يوظف الأسرة كلها في هذا العمل، زوجته وأبناءه جميعا؛ فهو مورد رزق للجميع، ورغم تعيين عبد القادر حاتم وزيرا للثقافة مكان ثروت عكاشة فقد كان المشروع لا يزال قائما!
وسعدنا أنا وسمير سرحان بهذا العمل الذي سرعان ما انطوت صفحته، وإن كنا قد كسبنا منه بعض النقود، ومررنا فيه بتجربة لا بد من ذكرها؛ لأنها أصبحت فكاهة نتندر بها أنا وسمير حتى الآن! كان يعمل في مكتب الموظف السوداني الذي يدخن الغليون فتاتان تكتبان الآلة الإنجليزية، الأولى اسمها محاسن وهي سوداء من السنغال، والثانية اسمها سميراميس، وهي سمراء من الحبشة. ولم نضع الوقت أنا وسمير، فخرجنا معهما إلى السينما، وكانت تلك أول وآخر مرة أصادق حبشية، وكانت ميزتها الوحيدة هي الحديث بالإنجليزية، وقد ظللنا على صداقتنا حتى وضع الدكتور حاتم حدا للمشروع، وانطوى حلم الموسوعة ، وتوقف مورد الدخل المنتظم!
وعندما حلت بشائر الصيف رأيت إعدادا لمسرحية اسمها «استشارة محام» قام بها أنور عبد الله عن ترجمة لمسرحية إنجليزية بنفس العنوان وهو
Counsel’s Opinion ، وكانت المترجمة ما تزال طالبة لدينا في القسم، واسمها ساني عبد الحميد، وشاءت الظروف أن تتحول فيما بعد إلى «أنا وهو وهي» على يدي سمير خفاجى الذي أضاف إليها «البهارات المصرية» اللاذعة، وقدمها إلى عبد المنعم مدبولي الذي أخرجها للمسرح الكوميدي بعد مسرحيتي «السكرتير الفني» المقتبسة عن فيلم «توباز» الذي قام ببطولته بيتر سيلرز ومسرحية «جلفدان هانم» من تأليف علي أحمد باكثير. كنت قد شغفت بأداء فؤاد المهندس ومديحة حمدي ومدبولي في «السكرتير الفني» وكتبت مسرحية على غرار هذه وتلك، اسمها «الدرجة السادسة»، وهي لم تنشر حتى الآن ولا أجرؤ على نشرها بسبب طولها الشديد وعيوبها الفنية الواضحة - وأهم تلك العيوب «تصوري» فؤاد المهندس نفسه في دول البطل، وشويكار التي لمعت في «أنا وهو وهي» في دور البطلة، بحيث أصبح أداؤها بالصورة المطلوبة رهنا بوجود أمثال هذين العبقريين!
ولكنني كنت اكتسبت جرأة من تقديم «من أجل ولدي» وأصبحت معروفا في «الوسط الفني» فاتجهت إلى أستاذي القديم مدبولي في صيف 1962م في المسرح العائم حيث كان يعمل، وأعطيته نسخة من المسرحية ووعدني بقراءتها والرد علي في اليوم التالي. وفي اليوم التالي ذهبت في الموعد فقابلني بمفاجأة! إذ إنه انقض علي معانقا مقبلا وقال لي: «مبروك .. بقيت مؤلف يا عناني!» وذهلت من إعجابه بهذه المسرحية وسألته عن «الخطوات» الرسمية الواجب اتباعها في هذه الحالة فقال لي أن أذهب إلى سمير خفاجى حيث يقيم في عمارة التأمين بميدان رمسيس (باب الحديد) وهو الذي سيتولى كل شيء.
وذهبت في مساء اليوم التالي إلى سمير خفاجى فوجدته مشغولا بترجمة مسرحية عن الفرنسية هو وأحد الضيوف، فطلب مني النظر فيها معهما، وسرعان ما بدأت أنا الترجمة وانشغل الاثنان بكتابة ترجمتي وإضافة «البهارات» حتى حل منتصف الليل، فقال لي: «إنت اتأخرت .. نكمل بكره!» وانتهينا من النص بعد أيام، ثم سألته عن «الدرجة السادسة» فقال: «طويلة جدا .. عايزة قصقصة.» ولم أفهم وخرجت كسيفا حزينا مهموما. وأهرعت إلى سمير سرحان أقص عليه ما حدث. فقال لي: ولا يهمك .. خلينا احنا في عندما نحب!
كانت «عندما نحب» قصة قصيرة كتبها محمد التابعي، الصحفي المشهور، وعندما ذهبنا إليه في منزله بالزمالك اندهشنا للجو الأسطوري الذي يعيش فيه، ولقدرته الخارقة على تبسيط الأمور! وكان قد قرأ «الإعداد» (أي النص المسرحي الذي كتبناه)، واعترض على كلمة «ألعب» لأن البطل عداء، وينبغي أن تكون الكلمة «أجري»! وتحدث طويلا عن فن كتابة القصة وقال إنه يكتب القصة مثلما «يلعب عشرة طاولة»؛ أي إنه يكتبها حيثما اتفق وحيثما يقول له النرد! ونصحنا بمقابلة صلاح منصور المخرج؛ للاتفاق على بعض التعديلات. ولكننا عندما قابلتنا صلاح منصور في «جروبي» (فرع شارع سليمان باشا من ذلك المقهى) وجدناه يتكلم لغة غير متوقعة؛ فهو يؤكد ضرورة إحساس المتفرج بالكيان المادي للبطل؛ أي بجسمه، وضرورة إلغاء النبرة «القدرية» التي أضفيناها على النص استحياء للمسرح اليوناني الذي كان هو «الموضة» تلك الأيام، وقال لنا: «عندما أخرجت «بين القصرين» .. خليت البطل يدخل المسرح بملابسه الداخلية وقد ظهرت (...) حتى يشعر المتفرج بحقيقة عالم سي السيد!» ولم نعرف المطلوب تماما، فافترقنا على خلاف.
وبعد أسبوعين عرضت المسرحية المقتبسة عن الفرنسية (
le Roi 23 ) في المسرح العائم، وكانت تحمل اسم المؤلف هكذا: تأليف سمير خفاجى وعبد المنعم مدبولي! ولم أعلق على ذلك رغم دهشتي. وبعد العرض قابلت سمير خفاجى فقال لي: «اسمع! انت أجرك في التليفزيون 200 جنيه .. صح؟ (وأومأت بالموافقة) وأجري أنا 400، فإذا كتبنا تأليف سمير خفاجى ومحمد عناني تقاضينا الأجر الأعلى، وهكذا تحصل أنت على ال 200 وأحصل أنا على 200.»
ولم أنطق. لم أعرف ماذا أقول. هذه مسرحية من تأليفي. تحتاج إلى تعديل. هل يعتبر التعديل مشاركة في التأليف؟ كان نظامي في الكتابة مع سمير سرحان هو وضع التخطيط المشترك ثم كتابة المشاهد، كل مشهد على حدة، حسب الاتفاق، ثم مراجعة ما كتبناه بعد ذلك .. وربما كان ذلك أيضا من قبيل المراجعة؟ وانصرفت مشتت الخاطر .. ولم أخبر أحدا بما دار بيننا من حوار.
وفي أغسطس ذهبت الأسرة إلى رشيد، وقررت الذهاب في ذلك العام، وكنا قد تركنا منزلنا القديم الذي امتدت إليه يد الهدم، واستأجرنا شقة (حسبما سبق لي أن ذكرت) وانهمكت في تلك الأيام في تأمل المستقبل الأدبي، خصوصا بعد أن لاحت فرصة الكتابة للسينما، وكان أجر السيناريو الواحد 500 جنيه! وسرعان ما أعددت قصة تصلح للسيناريو اسمها «جوازة صيف»، وما زلت أحتفظ بها وأعتز بالجو الذي أصوره فيها، وذات يوم قرأت في «الأهرام» خبرا يقول: رفع درجة 3 كتاب «إذاعيين» إلى كتاب من الدرجة الثانية وهم سمير سرحان ومحمد عناني وعبد الجواد الضاني! وكان معنى ذلك رفع أجر التمثيلية التي طولها نصف ساعة من 8 إلى 10 جنيهات، والمسرحية من 200 إلى 300! ومع بدايات سبتمبر وانتهاء فصل الصيف عدنا إلى القاهرة وبدأ فصل جديد في الدراسة والكتابة!
كانت مجلة «المجلة» التي يرأس تحريرها يحيى حقي قد خصصت بابين في آخرها لعرض الكتب المحلية والأجنبية، وكانت الدكتورة فاطمة موسى، الأستاذة في القسم لدينا، تشرف على باب الكتب الأجنبية؛ ومن ثم طلبت من جميع الأساتذة والمعيدين المساهمة في هذا الباب، وكان أجر «عرض الكتاب» الواحد ثلاثة جنيهات فانقضضنا جميعا على المكتبة نقرأ ونلخص، كل في تخصصه، وقد شاء القدر أن أجمع هذه العروض فيما بعد في كتاب أصدرته عام 1995م هو «من قضايا الأدب الحديث»! وكان رشاد رشدي قد بدأ هو الآخر «حملة» لإشاعة الأفكار النقدية الجديدة من خلال سلسلة من الكتب يصدرها أعضاء القسم عن «أعلام النقاد الغربيين»، فأعددت في الخريف كتابا صغيرا اسمه «النقد التحليلي» قدر له أن يطبع عدة طبعات كان آخرها في التسعينيات! وفي غضون كتابة هذا الكتاب توثقت علاقتي بزملائي في قسم اللغة العربية وعلى رأسهم عزت عبد الموجود (الدكتور) الذي كان يعد رسالة ماجستير عن «الظواهر اللغوية في شعر المتنبي» وكانت مناقشاتنا لا تنتهي؛ إذ جمعنا حب العربية وحب الشعر بصفة خاصة، كما كان نعيم اليافي (الدكتور) الذي يعد رسالة عن القصة القصيرة في قسم اللغة العربية من أصدقائنا الثابتين؛ أولا بسبب الموقع الاستراتيجي للشقة التي كان يقيم بها وحده في ميدان الجيزة؛ فهي مكان مغلق يختلف عن المقاهي على شاطئ النيل أو على غير شاطئ النيل (مثل صان صوصي)، وثانيا بسبب اهتمامه بحكم التخصص باللغة العربية!
وبلغني في ديسمبر، أثناء انشغالي بتصحيح تجارب كتابي «النقد التحليلي»، أن بروفات المسرحية قد بدأت! إذن سوف تجد «الدرجة السادسة» طريقها إلى المسرح! وعندما استفسرت عن «الوضع المالي» لم أجد إجابة شافية. وعندها كان لا بد من الإفصاح لسمير سرحان عن موقف سمير خفاجى. وكان رده قاطعا: لا! ودهشت أول الأمر وأبديت له تشككي وترددي ولكنه كان حاسما وقادرا على الإقناع؛ إذ كانت حجته تقول ببساطة ما يلي: «إذا بدأت حياتك المسرحية بالارتباط «كمؤلف» بسمير خفاجى فسوف ينتهي بك الأمر إلى أن تصبح تابعا له!» وذهبنا ذات مساء إلى المقهى الملحق بفندق سميراميس القديم، وكان يفتح أبوابه للجمهور 24 ساعة (ولذلك كان اسمه «نايت آند داي» أي الليل والنهار) واستمرت المناقشة حتى الساعات الأولى من صباح اليوم التالي، وبعد ساعات نوم قلقة ذهبت إلى المسرح لأحضر البروفات التي كانت تبدأ في الحادية عشرة صباحا. وانتظرت عبد المنعم مدبولي كي أبلغه بقرار رفضي وضع اسم سمير خفاجى مع اسمي، ولكنه لم يحضر.
وحضرت «البروفة» دون تركيز - كان حسن يوسف، وكان إذ ذاك ممثلا ناشئا، هو الذي يلعب دور البطولة، وأمامه مديحة حمدي، وميمي جمال، والسيد راضي، ومنى سراج، وعدد آخر من فرقة المسرح الكوميدي. وبعد انتهاء البروفة ذهبت إلى الجامعة حيث كانت في انتظاري مفاجأة. كانت لدينا طالبة اسمها آمال عبد الحكيم عامر، وكانت لها بعض الصديقات المعجبات بسمير سرحان، ولم أكن قد علمت أن سمير قد أبلغ آمال أو صديقاتها بموضوع مسرحيتي، وعلى أي حال، فإن مواعيد الامتحان كانت قد اقتربت وكان همنا الأول الانتهاء من ذلك الفصل الدراسي «على خير»! ولكن المفاجأة كانت كما يلي: جاءتني آمال وقالت لي: «أنا قلت لبابا على موضوع المسرحية وطلب مني قال لي أسألك إن كنت تحب يعمل تحقيق، والا تخاف على علاقتك بالوسط الفني؟» «بابا؟» كان بابا هو المشير عبد الحكيم عامر النائب الأول لرئيس الجمهورية والقائد العام للقوات المسلحة! وبعد ثوان من الذهول قلت لها: «مافيش داعي! ربنا يسهل وتتحل المشكلة لوحدها!» وقالت في مرح «بابا تصور كده برضه .. لكن تحت أمرك!» وانصرفت هي وصاحباتها ضاحكات! وظلت كلمة «تحت أمرك» ترن في أذني! هل يمكنه حقا أن يساعدني في موضوع كهذا؟ وماذا يقول عني الزملاء والفنانون والكتاب؟ لا .. فلنترك المسرحية حتى ترى النور ثم نبحث موضوع التعاقد واسم المؤلف في مرحلة لاحقة؛ فنحن على مشارف عام 1963م؛ أي إن الزمن يجري بسرعة دون أن أنتهي من الماجستير، ودون أن أفوز بإحدى البعثات، ودون حدوث شيء ينبئ بالتقدم في الجامعة! كان الذين فازوا بالبعثات الدراسية قد سافروا فعلا إلى إنجلترا وأمريكا، وكان أولهم عمرو برادة الذي تمكن من الحصول على منحة دراسية شخصية، وسافر فعلا، ثم تلاه عبد اللطيف الجمال (بعد حصوله على الماجستير)، وعفاف المنوفي، وسلمى غانم (وكلاهما من زملاء دفعتي)، وهدى حبيشة (التي تخرجت قبلي بأربع سنوات)، وأمين العيوطي (بعد حصوله على الماجستير).
كان الشيء الوحيد الذي يحدث هو تصحيح بروفات كتاب «النقد التحليلي» (مكتبة الأنجلو)، وبروفات «درايدن والشعر المسرحي» (دار المعرفة)، وكتابة عروض الكتب في مجلة المجلة، وهي التي وثقت الصلة بين ثلاثتنا - سمير سرحان وعبد العزيز حمودة وأنا - من ناحية وبين أسرة الدكتورة فاطمة موسى - وزوجها الدكتور مصطفى سويف وأبنائها أهداف (الدكتورة حاليا) والتي أصبحت روائية تنشر إبداعاتها من القصة القصيرة والطويلة بالإنجليزية في بريطانيا، وليلى (الدكتورة) وعلاء (المهندس) من ناحية أخرى. كنا نتردد بانتظام على منزل الدكتورة فاطمة، وكان يحضر جلساتنا عبد المحسن طه بدر (الذي كان لا يتحدث إلا عن رسالة الدكتوراه التي كان منهمكا في كتابتها) والدكتور أبو شادي الروبي (أستاذ الطب الباطني) والدكتورة ليلى موسى (أخت الدكتورة فاطمة) المتخصصة في علاج الأورام بالأشعة (النظائر المشعة). وكانت اللقاءات أدبية في المقام الأول، فكنت أحيانا أقرأ بعضا من شعري (الذي كنت أكتبه لنفسي ولا أنشره أبدا) وكنا كثيرا ما نستمع إلى أحاديث الدكتور سويف التي كانت تشبه المحاضرات العلمية في دقتها وعمقها، وكانت الدكتورة فاطمة كريمة غاية الكرم، فكانت لا تبخل علينا بشيء أبدا، لا بالنصح والإرشاد، ولا بالطعام أو الشراب.
وعندما جاءت عطلة نصف العام (في مطلع 1963م) نظمت الكلية رحلة إلى الأقصر وأسوان، برئاسة الدكتور عبد المنعم أبو بكر، أستاذ الآثار المصرية وعميد الكلية، وبمشاركتنا جميعا، إلى جانب بعض أساتذة الكلية الأخرين. كان معنا رشاد رشدي وزوجته لطيفة الزيات، والدكتور أنور عمر (أستاذ علم المكتبات) وجيهان رشتى (الدكتورة) من قسم الصحافة، وغيرهم. وكانت الرحلة بالقطار، ولن أنسى لحظة وصولنا إلى الأقصر، إذ التفت إلي رشاد رشدي وقال: «قل لنا بم تشعر يا عناني.» وانبرى بسرعة أحد أفراد الشلة للإجابة، ولكن رشدي تجاهله وأصر على سماع رأيي، فقلت له: «أحس أنني رحلت رحلة إلى الماضي كأن رحلة القطار في المكان كانت رحلة في الزمان!» وقال إن هذه هي الإجابة التي كان يريد أن يسمعها. كانت الأقصر بلدا فرعونيا حقا. وربما كان الأرق الذي لازمني طول الليل سببا في ذلك الإحساس الغريب بالانفصال عن الواقع من حولي، فتركت الجميع بعد أن وضعنا الأمتعة في الفندق، وظللت أضرب على غير هدى في شوارع الأقصر، ولم تكن الشمس قد علت في السماء، وكان جو الشتاء يشجع على المسير، وكنت - في ذلك الصباح المشرق - لا أتوقف أبدا ولا أنظر حولي بل أسير وحسب.
كانت الرؤى تنثال فياضة في ذهني، وربما اختلط ما كنت أراه بما قرأته عن وردزورث، فكان الوجود نفسه يبدو قلقا؛ أي إن كيانه المادي لم يكن ثابتا في عيني، ولم أكن على استعداد للتيقن من وجوده الثابت؛ فقد غمرني الإحساس «بالوهم» أي بزوال الحاجز بين ما يوجد في الذهن وما يوجد خارجه، لم أكن أفكر في الكتب التي في المطبعة ولا في المسرحية وتجاربها، ولا فيما عدا ذلك من شئون الحياة، بل كان ذهني مرآة تنعكس فيها رؤى مخلخلة، يصفها الناس بحالة «انعدام الوزن»، أما أصدق وصف يمكن إطلاقه عليها فهو التأرجح بين الحقيقة المادية والحقيقة الروحية. وعندما عدت إلى الفندق كان الجميع قد خلدوا للراحة أو للنوم، فجلست وحدي في قاعة الاستقبال وأغفيت ساعة أو بعض ساعة، ثم أفقت على أصوات القادمين وطلبات القهوة.
عندما أفقت عادت الحياة إلى طبيعتها في نظري، ولكن البهو كان يبدو مثل الديكور المسرحي أو ديكور الأفلام السينمائية. وذكرت مناقشة كنت قرأتها بين الدكتور صمويل جونسون، الناقد الإنجليزي الأشهر في القرن الثامن عشر، وبين أحد دعاة الفلسفة «المثالية»؛ أي الفلسفة التي تثير الشكوك في الحقيقة المادية للواقع المرئي والمحسوس؛ ومن ثم في طبيعة الوجود، إذ توجه إليه هذا الداعية بسؤال ظنه سوف يحسم القضية إذ قال له: كيف تثبت أنك موجود أو أن هناك وجودا؟ فما كان من جونسون إلا أن نهض فجأة وضرب حجرا بقدمه ضربة أحدثت دويا هائلا وهو يقول: «أثبته هكذا!» عقلانية القرن الثامن عشر أنقذت الموقف! ولكن كيف أثبت أن الرؤى التي حفل بها ذهني ذلك الصباح غير حقيقية؟ وكيف أثبت أنها أقل «وجودا» من الوجود المادي؟ لقد درسنا آراء الفلاسفة الإنجليز الذين ناقشوا عمل الحواس ومدى خداع ذهن الإنسان في إدراك الواقع، وكنت شخصيا مولعا بهم بسبب ميولهم التجريبية والمنطقية (أو الإمبيريقية أي التي تستند إلى تجارب الحواس)، ولكن منظر البهو في الفندق لم يكن يؤكد أبدا أن ما أراه «حقيقي»، وانتابني نازع يشبه نازع جونسون ولكنني أحجمت، فنهضت وعدت إلى الغرفة واغتسلت وعندما هبطت من جديد كان الجميع قد استيقظوا.
كانت زياراتنا لمواقع الآثار المصرية القديمة في الأقصر زيارات علمية حيث تولى الدكتور عبد المنعم أبو بكر شرح كل شيء بلغة عربية فصحى ناصعة، ولكنها كانت في باطنها جهدا متواصلا، وعلى أساس نفسي وطيد، للبحث عن الجذور، وللتساؤل الدائب عن أصول الأفكار التي تعيش في وجداننا منذ الطفولة ونسلم بصحتها دون مناقشة، وكانت كل زيارة تتحول في ذهني إلى «مغامرة شعورية» في تلك البقعة غير الثابتة بين الواقع والحلم، أو بين العالم المادي والوهم. هؤلاء أجدادي - بشر مثلي سبقونا جميعا إلى التفكير في الوجود وفي معنى الحياة وفي حقيقة الروح والخلود، وعز على بعضهم التسليم بفكرة الفناء المادي؛ لأن «وجودا داخليا» من لون ما يؤكد لهم أن الجسم عرض لا جوهر! وما هذه الرموز من حولنا إلا الدلائل القاطعة على صدق رؤاهم! لقد نجح الفن المصري القديم في «إمساك» هذه الرؤى غير المادية وتثبيتها وتجسيدها بنقشها على الحجر، ونحتها في الصخر، بحيث تحولت الأفكار المجردة والمشاعر التي من المحال تحديد شكل لها إلى رموز مرئية ومحسوسة، وبحيث اتخذت أشكالا محددة ذات قوة على الإحالة إلى العالم غير المرئي! لقد أصبحت دنيا «الشهادة»؛ أي دنيا المشهود والحاضر مدخلا إلى دنيا «الغيب» عن طريق الفن! لقد نجح الحجر في ذلك؛ فهل تنجح اللغة؟
وعندما عبرنا نهر النيل إلى البر الغربي لزيارة وادي الملوك ووادي الملكات التفت إلي الدكتور أبو بكر وقال فجأة: «إنت سارح في إيه يا عناني؟ بتفكر في مسرحية جديدة؟» ولم يعلق أحد، ولم تكن لدي إجابة على السؤال. كنت أسير مع الجميع شارد اللب، ولم أكن أتوقف أبدا حتى حين يقف الركب، بل كنت أدور في حلقات حتى أعود إليهم، وطيلة زيارة البر الغربي كان الإحساس يغمرني بموضوع الرحلة وموضوع العبور، فالمراكبي (الفلايكي أو قائد القارب) رجل طاعن في السن، ملامحه تشبه إخناتون، تماما مثل طالب لدينا اسمه عزت عدلي دميان، (الذي حصل فيما بعد على الدكتوراه) ولا يبدو أن السنين التي عاشها تنتمي إلى سنواتنا الأرضية. إنه يشبه «النوتي» (المراكبي في بلدي رشيد) الذي لا ينفصل عن المركب الشراعي الذي يسيره، ويبدو في صمته وشروده جزءا من عالم نهر النيل، أو قل جزءا من الزمن نفسه.
وكانت أفكار الوهم والواقع، وفكرة العبور والزمن، والشروق والغروب الذي يؤكد «لا زمنية» الزمن، هي التي سيطرت على فكري دون مقابلات لغوية محددة، ولا شك أنها كانت الدافع غير المباشر إلى كتابة مسرحية «البر الغربي» عندما عدنا إلى القاهرة. والذي حدث هو أنني قرأت ذات يوم بعض الأنباء الخاصة بالمسرح في صحيفة الجمهورية، ونقدا كتبه الدكتور محمد مندور لمسرحية «السبنسة» التي كان المسرح القومي يعرضها آنذاك، من تأليف سعد الدين وهبة، فأصابني القلق، ترى ماذا يحدث في مسرح القاهرة؟ هل يريد أحدهم سوءا بمسرحيتي الأولى؟ وقررت العودة خوفا على مصير الدرجة السادسة. وكان الدكتور سويف قلقا كذلك على بعض أعماله في القاهرة، فقرر العودة أيضا، وهكذا انفصلنا عن الركب وعدنا إلى القاهرة دون الذهاب إلى أسوان.
وعندما حادثت مدبولي في التليفون قال لي إن بروفات المسرحية قد توقفت؛ لأن الفرقة تقدم عملا آخر هو «أنا وهو وهي»، ولكنه كان مهذبا فلم يتعرض لما قلته عن اسم المؤلف أو وضع اسم سمير خفاجى مع اسمي. وبعد أسبوع عاد الزملاء من أسوان، فاصطحبني سمير سرحان إلى المسرح حيث تأكدنا من خبر توقف البروفات، ومن ثم اتجهنا - وكانت الساعة قد قاربت الثانية عشرة ظهرا - إلى منزل الدكتور رشاد حيث وجدناه في انتظارنا، وعندما قصصنا عليه القصة قال لي في حزم: «انس الدرجة السادسة! اكتب مسرحية جديدة!» وأطلعنا أثناء الحديث على أن الوزير قد وافق على إنشاء فرقة مسرحية باسم فرقة توفيق الحكيم، يكون مقرها مسرح محمد فريد، وتحويل اسم ذلك المسرح إلى مسرح الحكيم ونشر مجلة شهرية ابتداء من العام التالي (1964م) اسمها مجلة المسرح، وأنه أي الوزير (عبد القادر حاتم) قد أوكل إليه الإشراف على هذا المشروع !
4
في فبراير 1963م ظهر أول كتاب من تأليفي (لا من ترجمتي) وهو «النقد التحليلي»، وكنت به سعيدا، على صغره وتواضعه، بل على مبالغته وشطحاته ونبرته العالية؛ فقد كنت آنذاك مؤمنا بالفن إيمانا يصل إلى حد التقديس، وكنت أرى أن مهمة الناقد الأولى، ودون جدال، هي «نقد» فن الفنان؛ بمعنى تحليل عناصره ودراسة مبناه والغوص في دلالاته، لا استنباط «هدف» أخلاقي أو اجتماعي أو سياسي منه، وربما كان حبي للموسيقى والرسم وممارستهما من وراء ذلك، ولم أكن على استعداد مطلقا أن أقبل «مسخ» عمل فني، مهما تكن «رسالته» الظاهرة أو الباطنة بأن أساويه في الكم أو في الكيف مع هذه الرسالة! وكنت أصغي لما يقوله زملائي من النقاد الذين استجابوا لموضة «الاشتراكية» التي أصبحت السياسة الرسمية للدولة، وطفقوا يصنفون الكتاب طبقا لدلالات كتاباتهم على الميل إلى الرأسمالية (إذا عالجوا مشكلات الإنسان الفرد)، أو إلى الاشتراكية إذا عالجوا المشكلات «الجماعية» (مثل مشكلة الموصلات)، وكنت أقرأ ما يكتبون في دهشة، خصوصا عندما ابتدعوا مقابلة مضحكة بين ما أسموه «الفن للفن» و«الفن للمجتمع». وكان موقفي الذي أساء البعض فهمه في هذا الكتاب هو أن حرف اللام هو سر المشكلة. فما معنى «الفن للفن»؟ بل وما معنى الترجمة الأخرى للعبارة الأجنبية الأصلية وهي باللاتينية
ars gratia artis
وبالإنجليزية
art for art’s sake ؟ أي إنك إذا استبدلت «من أجل» باللام لم يزد المعنى وضوحا. فما هو المعنى؟ الواضح أن المقصود هو استبعاد الأغراض غير الفنية عند النظر إلى الفن. ولكن ما هي هذه الأغراض؟ تهذيب الأخلاق مثلا؟ الدعوة إلى فكر سياسي ناضج مثلا؟ وكيف يكون ذلك؟ هل يكون من قبل الفنان أم من قبل الناقد؟ هل يبدأ الفنان - المؤلف الموسيقي مثلا - بفكرة أو برسالة ثم «يحولها» إلى موسيقى؟ أم هل يكون على الناقد أن يستنبط هذه الفكرة أو الرسالة من الموسيقى؟
هذه الحجة تقوم على «فرض خادع» هو سبب الخلط في المقابلة، وهو مفهوم الفن؛ أي ما يعتبر فنا. فالموسيقيون فنانون؛ لأن الوسيط الذي يستخدمونه وهو تناغم الأصوات والألحان والإيقاعات «متفق عليه » منذ قديم الأزل، وكلمة الموسيقى نفسها نسبة إلى ربة الفن (
muse ) وكذلك الرسامون المبدعون. فالوسيط الذي يستخدمونه متفق على أنه فن، ولو تفاوتت مكانة ودرجة إبداع كل منهم. ولكن الخداع يبدأ عندما يتحول الأمر إلى الأدب؛ فاعتبار الأدب فنا يقتضي توافر عناصر فنية معينة غير متفق عليها حتى الآن، وربما لا يتفق عليها النقاد أبدا! فتعريفات الشعر كانت تتراوح بين مقارنته طورا بالموسيقى، وطورا بالرسم، وعناصره الفنية ستظل مثار خلاف إلى يوم يبعثون! فكيف نطبق عليه إذن مقولة الفن للفن؟ هل نفهم من هذه العبارة أن «الخصائص الفنية» التي تجعل الكلام فنا (أي تجعله أدبا) مقصودة لذاتها لا لتحقيق غاية أخرى؟ وكيف نتصور أن الشاعر حين ينظم كلامه يهدف من «النظم»؛ أي من إيقاع الألفاظ (بدلا من النثر غير المنظوم) إلى تحقيق غاية سياسية أو أخلاقية؟ أو كيف نتصور أنه حين يبدع التصوير (بدلا من التقرير) يرمي إلى تحقيق مثل هذه الغايات؟
الواضح أن كلمة «الفن» عند تطبيقها في هذا السياق كانت تعني الكتابة الفنية أو الأدب، وكانت المقولة عند أصحابها تعني ألا تكون الكتابة بلا هدف جليل، أو بلا هدف له دلالته الإنسانية «التي يعتد بها» (وهي العبارة التي قالها لي خالي وأنا طفل)، والمنطقي إذن هو أن الكتابة حين تتوافر لها العناصر الفنية والدلالة الإنسانية معا تصبح أدبا، وهي إذا أصبحت أدبا وغدت بهذا المعنى فنا حقيقيا لم يكن هناك مجال للتساؤل عن الغاية منها. إلا في حدود التساؤل عن الغاية من الموسيقى والرسم والرقص والتمثيل وما إلى ذلك! فالأدب الذي يصور الفرد تصويرا فنيا لا يقل في «قيمته» عن الأدب الذي يصور المجتمع تصويرا فنيا! وأنا أضع خطا تحت كملة «قيمة» لأن ذلك هو مربط الفرس كما يقولون! فالغاية القصوى مما كان محمد مندور يعنيه «بالنقد الأيديولوجي» هو تحديد «قيمة» العمل الفني في ضوء الأيديولوجيا التي يوحي بها؛ أي في ضوء «الاتجاه الفكري» الذي قد يبدو أنه يدعو إليه. وهذا هو ما كنت أرفضه في ذلك الكتاب.
هذا هو ما كان النقاد يدعون إليه، وهذا هو ما كنت لا أستطيع قبوله لأن معناه أن يكون الناقد سلطة سياسية أو فكرية أو خلقية تتولى تحديد «قيمة» ما يكتب ثم تفرض على الآخرين، الطامحين في تحقيق قيمة ما، محاكاة ذاك الذي كتب أو النسج على منواله! وسبب رفضي هو أن القيم السياسية تتغير من عصر إلى عصر، وما قد تكون له قيمة سياسية في عصر ما قد يفقدها في عصر لاحق دون أن ينتقص ذلك من قيمته الفنية، بل إن القيم الفنية نفسها قد تتغير من عصر إلى عصر، والمعايير التي تستند إلى «القيم» إذن لا بد أن تكون معايير نسبية لا مطلقة، وهذا هو ما خصصت له بابا مستقلا في أوائل الكتاب بعنوان «النقد والتاريخ والنسبية النقدية».
كان لويس عوض يقول لي إن هذه «الخناقة» بين مندور ورشدي «خناقة» لا أساس لها، والمصطلحات المستخدمة فيها لا يفهمها أصحابها، وكان يقول لي إن علي أن أتابع دراستي في إنجلترا، متجاهلا هذه «الفقاقيع» النقدية التي لن تصمد للتحليل العلمي، وأهداني (في مارس 1963م) نسخة من كتاب «بروميثيوس طليقا» وهو ترجمة لمسرحية شلي التي تحمل ذلك الاسم مع مقدمة ضافية عن مفهوم الرومانسية الإنجليزية في مطلع القرن التاسع عشر، وتحليل اجتماعي وسياسي لدلالاتها لإنجلترا في ذلك الوقت. وأذكر أنني قابلته مصادفة في ميدان سليمان باشا (طلعت حرب حاليا) بعد ذلك بأسبوع، فاصطحبني إلى مقهى جروبي لمناقشة هذا الموضوع، ولا أعرف كيف تطرق الحديث إلى مناقشة كتاب «اللغة الشاعرة» لعباس العقاد، وكنت أعترض على الكثير مما جاء فيه، فإذا بلويس عوض ينبري للدفاع عنه بشدة، ويبدو أنه نسي الموعد الذي كان مرتبطا به، فلم نغادر جروبي إلا حين أغلق المقهى أبوابه!
كان تأييد لويس عوض لما جاء في كتابي باعثا على الاطمئنان؛ فقد أدرك ما أرمي إليه من الكتاب، ولكنه كان يكره رشاد رشدي لأسباب شخصية منها، حسبما فهمت، أنه دس له لدى السلطات؛ أي «كتب تقريرا» يتهمه فيه بالشيوعية مما أدى إلى فصله من الجامعة. ولم أعرف مطلقا مدى صحة ذلك، بل ولا أعتقد أن الزمن سوف يكشف لنا عن حقيقة مثل هذه الاتهامات؛ إذ كنا وما نزال نؤمن بالشائعات، ونحب القيل والقال، والخيال المصري خصب، وقد حاولت تجسيد «ولادة» الشائعة في مشهد مسرحي ولكنني لم أفلح، وتوليد الشائعات وانتشارها مبحث لا مجال هنا لمناقشته.
ما أبعد ما كان النقاد آنذاك يرمون إليه من تحديد «القيمة الأيديولوجية» للعمل الفني عن مقولتي «الفن للفن» و«الفن للمجتمع»! كانت الصورة تزداد وضوحا كل يوم؛ فالنقاد الأيديولوجيون يريدون إلغاء الأدب الذي يركز على الفرد، وإحلال أدب يناقش القضايا الاجتماعية بحيث يعلي من شأن المجموع! ولم أكن أتصور وأنا في تلك السن المبكرة كيف أبيح لنفسي أن أكون قاضيا أحكم بفساد عمل فني لأنه فردي، أو كيف أبتدع منهجا نقديا يعلي من قيمته الاجتماعية (إذ أعجبني) حتى أفسح له مكانا بين الأعمال الفنية العالمية. كان نجيب محفوظ يتمتع بسمعة طيبة لدى هؤلاء وهؤلاء، أي لدى اليمين واليسار؛ لأنه يتولى المعالجة الفنية للفرد في إطار المجتمع، وكذلك بعض من يكتبون القصص القصيرة أو المسرحيات، أما الشعراء فكانوا في حال لا يحسدون عليها! وقد اتضح لي ذلك يوما ما حين قابلت أنور المعداوي، الناقد الاجتماعي ذا الصوت الجهير، الذي كان يناصب جبهتنا العداء، وكان يناصب لويس عوض عداء أشد باعتباره «ناقدا اشتراكيا يخون القضية من باب الولاء لأبناء المهنة»؛ أي الولاء لأساتذة الآداب الأجنبية! ولذلك قصة.
كنت في مطعم كبابجي الدقي أنتظر الانتهاء من الشواء، حين دخل أنور المعداوي وجلس إلى المائدة نفسها. وكان رحمه الله ضخما، ذا شهية هائلة للطعام، وكان من بلدة صغيرة بجوار رشيد فكان يتكلم بلهجة أبناء بلدنا، وكان - حتى صدور كتابي النقد التحليلي - يحب ما أكتب إذ كان من محرري مجلة «المجلة»، وكان من الأصدقاء القدامى للدكتور لويس عوض، ولمعظم الاشتراكيين في تلك الآونة، وكان قد طلب طبقا سريع التحضير وهو «أرز بالموزة» (والموزة هي قطعة من اللحم الملاصق للعظم وهي رأس العضلة ؛ ولذلك تشبه الموز)، وسرعان ما انتهى من غدائه وطلب «الحلو» وأنا أناقشه في موضوع الكتاب وإذا به يزيح الأطباق من أمامه ويقول لي بلهجة أبناء البحيرة الجميلة: «انتو عمالين تقولوا الفن الفن .. طب وبعدين؟ انتم في ضلال! والأخطر أن يمتد الضلال إلى الجيل الجديد! طيب لويس عوض يعرف ما يقول .. وهو قادر على تبرير كل شيء بخبرته الواسعة .. لكن أنا قلبي على الصغار!»
وعندما أوضحت له أن مسألة الصغار والكبار مسألة نسبية، وأن الصغير الذي يقرأ سوف يكبر يوما ما، وأنني أدرس الفن الأدبي لا المجتمع، وجدته - على غير عادته - يتكلم بتؤدة واطمئنان كأنما هو الوالد ينصح ابنه: «شوف يا عناني .. الأدب ده باعترافكم ابن للمجتمع .. يبقى ازاي تناقشوه بمعزل عن المجتمع؟ انتم كده بتقطعوا الجذور الطبيعية للأدب .. بتلغوا مصادر إلهام الفنان .. شوف «فاروق منيب» أهو ده قصاص بارع، وسر براعته هو التصاقه بالمجتمع .. شوف «أبو النجا» .. شوف أي قصاص ناجح ...» وهنا أتى الطعام فانتهزت الفرصة وقلت: اسمع حضرتك شوقي:
يا نائح الطلح أشباه عوادينا
نأسى لواديك أم نشجى لوادينا
ماذا تقص علينا غير أن يدا
قصت جناحك جالت في حواشينا
فضحك وقال: «أنت تستشهد بالأدلة التي تؤكد صحة قضيتي! هذا شاعر الفردية، شاعر الملوك الذي ضلل جيلا كاملا أيام الكفاح من أجل الاستقلال! إنه «نصاب» فلقد كان يستمتع بكل لحظة يقضيها في إسبانيا، والناس يظنون أنه يعاني في المنفى .. إنه رمز للشعر الذي ينبغي أن نحاربه!»
ووجدت أن الأمر يقتضي التروي، فقلت له: وكذلك المتنبي وأبو العلاء المعري؟ فقال في ألم: خلاص .. لم يعد هناك أمل فيك! هذا كلام طه حسين ولويس عوض! ثم نهض. وقمت لأحييه قبل الرحيل، فهمس لي: «لقد بدأ لويس عوض بداية طيبة في إنجلترا، وديوانه «بلوتولاند» يشهد على ذلك، ولكن طه حسين ما يزال في أعماقه .. طه حسين الفرنسي لا طه حسين العربي.» وقلت له: «للحديث بقية»، فقال: «لا! بل ليست له بقية. لقد دافع لويس عوض عن «يا طالع الشجرة» .. دافع عن العبث .. وكان الواجب أن يهاجم توفيق الحكيم عندما انحرف .. ولكنها الجامعة التي ستظل تشد لويس عوض إليها رغم كل شيء! هل تعرف لماذا يحجم لويس عوض عن مهاجمة رشاد رشدي رغم كل ما فعله به؟ إنه الانتماء إلى أدب الفرد .. الإيمان بأدب شلي وغيره من شعراء الإنجليز .. ولا تنس أن لوكاتش - الناقد المجري العظيم - قد أثبت أن ذلك كله من تراث العصور المظلمة.» وانصرف أنور المعداوي. ولم أره بعدها حتى توفي، رحمه الله.
كان كتاب النقد التحليلي بمثابة إعلان للحرب على أصحاب النقد الأيديولوجي، ومن ثم وجدت نفسي بين عشية وضحاها «مصنفا» بين دعاة «الفن للفن»! ومن يومها وأنا أحس قوة الشعارات! العبارات التي توجه للجماهير فترددها دون أن تفهم معناها، وانصرف ذهني إلى الناس وما عساهم يقولون، هل يمكن أن يجد الفنان في الناس - الأشخاص العاديين - سندا له ضد هجوم النقاد؟ لقد أيد جمهور القراء وردزورث وكان نجاحه الجماهيري سنده في مواجهة «جيفورد» و«جيفري» وهما الناقدان اللذان هاجماه بكل ضراوة في بداية حياته الفنية وبعد نضجه، ولكن من ذا الذي يمكن أن يناقش قضية شائكة مثل الفن للفن والفن للمجتمع في إطارها الصحيح؟ لقد أصبحت الكلمات ذات رنين سحري، ومن العبث التصدي لما تعجب به العامة، بل من العبث إيضاح أي شيء للعامة. إن الشعب الذي يعاني من الأمية لم يتحول في يوم وليلة بعد قيام الثورة إلى شعب متعلم. ويكفي أن يقول له أحد الساسة كلاما، خصوصا لو كان في شكل شعار جذاب، حتى ينخدع ويصدق. بل إن الشعب نفسه يريد أن يؤمن بشيء ما، بقضية ما، تهب حياته معنى .. خصوصا في تلك الأيام التي أصبح دعاة الدين فيها من دعاة «أفيون الشعوب» (حسبما تقول الشيوعية) وأصبح الإيمان بالغيب سبة ودليلا على الغباء والتخلف. وقلت في نفسي: إن ذلك مما لا يمكن المهادنة فيه .. ولن أنبذ حبي للمتنبي باعتباره من أدب «العصور المظلمة» (وفقا لما يقول جورج لوكاتش) ولن أنبذ الملاحم والسير الشعبية لهذا السبب أو لغيره، ولن يتأثر إيماني بالدين بما يقوله دعاة «التنوير» (وهي الكلمة التي أصبحت موضة هذه الأيام) ودعاة القضايا الاجتماعية! وربما كان من المناسب أن أشير إلى القصيدة الوحيدة التي نشرت لي في مجلة الأدب، وهي التي كان يحررها الشيخ أمين الخولي، والذي حدث أن طالبا نابها في قسم اللغة الإنجليزية آنذاك هو ماهر شفيق فريد (الدكتور) أعجبته القصيدة وعنوانها «الصمت». [وقد نشرتها في ديوان «أصداء الصمت» (1997م)] فنشرها في المجلة رغم أنفي! كان ماهر ذات عبقرية مبكرة، وكان يعمل في المجلة محررا بعد أن اقتنع أمين الخولي (وهو من هو) بمقدرته وموهبته. وكنت ما أزال أحبه حبا جما، وأطلقت عليه ذات يوم صفة «راهب الفكر الصموت» في مقال بالأهرام. وسرعان ما أغفلت القصيدة وإن لم تبرح ذاكرتي، وكان أن أعدت نشرها.
وكان سمير سرحان يشاركني آرائي، وكان هدفنا الآن بعد أن كتب هو كتابه «النقد الموضوعي» في السلسلة نفسها، أن نكتب مسرحا قادرا على الصمود في وجه التيارات المتلاطمة من الآراء النقدية التي تهب مثل رياح الشتاء عاصفة مزمجرة، فبدأت كتابة «البر الغربي» وبدأ هو كتابة «الكدب».
5
كانت جلساتنا أنا وسمير سرحان على شاطئ النيل في كازينور جلسات عمل شاق. كنا نناقش في نزهاتنا على الأقدام جميع التفاصيل الخاصة بالمسرحية، ثم نجلس للتخطيط والكتابة، وكان منهجنا واحدا؛ وهو وضع الخطوط العريضة للمسرحية ككل ثم تقسيمها إلى مشاهد، ثم كتابة الحوار، ولكن الواقع هو أن النتيجة النهائية كانت كثيرا ما تختلف عما خططنا له في البداية! وقد تعلم كلانا من التجربة أن الشخصيات عندما تكتسب حياتها الخاصة، وتصبح كائنات مستقلة، وتكاد تصبح من لحم ودم، تملي أقوالها وأفعالها وأحيانا لا يستطيع المؤلف التحكم فيها! ولم يكن منهجي يختلف عن منهج سمير سرحان إلا في خلفيتي الريفية، فذهني عامر بالشخصيات الريفية التي تعيش في وجداني بأقوالها وأفعالها وملامحها، وكنت دائما أستعين بما أذكره عن رشيد في تصوير الشخصيات، فأجد أن بعض الأشخاص يبرزون بكل ما تتسم به معالمهم البشرية من ضعف وقوة، بينما كان سمير يحب التحديد والإيضاح الحاسم، فهو كما علمنا رشاد رشدي لازم للمتفرج في المسرح، فنحن لا نقدم الحياة كما هي، أو كما نتصورها، بل نقدم منها ما نريد للجمهور أن يتصوره ويحسه!
وكثيرا ما كان أصدقاؤنا يدهشون من حواراتنا وأسئلتنا. وأذكر مرة أننا كنا منهمكين في التخطيط والتشكيل حين هبط علينا نفر من أصدقائنا، من بينهم عبد المنعم حجاب وفاروق فريد وسيد الناصري ونعيم اليافي وماهر البطوطي! وجلس الجميع يتأملون صفحة النهر ويناقشون إمكانيات العمل في الجامعة وخارجها، حين سألني سمير فجأة: «لكن ما الذي يدفع كمال إلى مصارحة نجية؟» وقلت له بثقة: «مرت به لحظة يأس! لم يعد يرى أملا سوى في اليأس!» وقال ماهر البطوطي: قصدك على كمال زغلول (وهو أحد أصدقائنا من خريجي قسم اللغة الإنجليزية ويقيم الآن في اليابان)؟ وضحك الجميع. ثم قال عبد المنعم حجاب: نجية دي اللي بيرمز لها نعيم بحرف نون؟ وعادوا للضحك! وقام سمير وناداني للانفراد به في مكان آخر وقال لي: إحنا لازم ننتهي من مشكلة مصارحة كمال النهارده؛ قل لي إزاي يفاتحها وإيه رد فعلها؟ ويبدو أنني أجبت بصوت مرتفع اجتذب بعض أفراد الشلة فتعالت ضحكاتهم من جديد، ولم نقل لهم آنذاك إن هذه كانت شخصيات في مسرحية «الكدب» التي يكتبها سمير، وكان يعتبرني مسئولا عن أي خلل قد يراه النقاد، مثلما كنت أعتبره مسئولا عن أي خلل في مسرحية «البر الغربي»! وانصرف الأصدقاء بعد فترة، ثم عدنا أنا وسمير للكتابة.
كان عبد المنعم حجاب وفاروق فريد وسيد الناصري من خريجي قسم الدراسات اليونانية واللاتينية، وكانوا جميعا منتدبين للتدريس في الكلية، وقد وعدهم الدكتور خفاجة بالتعيين فيها، حينما تتاح وظائف مدرسي اللغة، وكان قد مضت عدة سنوات دون توافر هذه الوظائف، فأصبحنا نطلق على أقدم المنتدبين وهو عبد المنعم حجاب لقب «رئيس قسم الانتداب»، وكان فاروق فريد قد مل الانتظار، فحصل على وظيفة بالمكتبة المركزية لجامعة القاهرة، أما سيد الناصري فكان حديث التخرج وكان مرشحا لبعثة دراسية في إنجلترا.
كان حجاب وفريد يقيمان في شقة بالعجوزة قريبة من منزلنا، وقد اشتهر عن الأول إحساسه بالعظمة في ملبسه وسلوكه، وطيبة قلبه ولين معشره، ومعاناته الدائمة من ضيق ذات اليد. وعلى كثرة ما يكسبه من نقود من الدروس الخصوصية، كان دائما بحاجة إلى المال، وكان يقترض من الجميع، وكنا لا نبخل عليه بأي شيء، ولكنه كان متلافا يؤمن بمبدأ «اصرف ما في الجيب»، وقد انتهى به الأمر إلى أن حصل على إجازة دراسية، وفي الطائرة، حسبما تقول الشائعات، تعرف على سيدة أمريكية أقرضته عشرة دولارات، ثم صادقها أو تزوجها، ولكن أخباره انقطعت عنا ردحا طويلا حتى علمنا بعد سنوات طويلة أنه اعتنق الكاثوليكية ودخل ديرا في حلب ليصبح من الآباء الكاثوليكيين في سوريا. وأما فاروق فريد فقد حصل على بعثة دراسية وحصل على الدكتوراه لكنه - رحمه الله - لم يكتب له أن يعيش حتى يعود إلى عمله بالكلية، وقد فوجئت هذا العام (1996م) بأن له ابنة تعمل معيدة لدينا في قسم اللغة الإنجليزية.
وأنا أذكر هؤلاء الزملاء ذكرا عابرا بسبب الارتباط الشديد الذي كنا نحس به وما نزال في قسم اللغة الإنجليزية مع قسم الدراسات اليونانية واللاتينية، فكنت أهوى الترجمة عن اللاتينية وأخطئ، فيتولى هؤلاء تصحيح أخطائي، وكنت أحب كتابة عبارات قصيرة بتلك اللغة، أو تبادل عبارات حوارية مع أصدقائي منهم بها، وكانت إحدى هذه العبارات قد التصقت بعبد المنعم حجاب وهي (
) أي هل معك نقود؟ وسمعنا الدكتور محمد صقر خفاجة ذات يوم نتحدث اللاتينية فقال معلقا: «دا لاتيني جيزاوي!» وكنت أحب أن أفيض في ذكر الخناقات حول اللغة اللاتينية معهم، والواقع أنها استمرت فترة حتى عثرت على زميل جديد في قسم اليوناني واللاتيني، يتسم بالتمكن التام من مادته ويعشق متابعة أصول الكلمات وتطورها مثلي، واسمه حمدي إبراهيم (الدكتور)، فكان هو ملاذي عند الخلاف، وقد دارت الأيام فالتقينا من جديد ونحن أساتذة، وهو حاليا عميد كلية الآداب بجامعتنا العريقة.
كان هؤلاء الأصدقاء جزءا لا يتجزأ من طليعة متعطشة للعلم، في مجتمع يمر بتحولات كبيرة، وكان يمكن أن أسترسل في قص ما سمعه عما صار إليه عبد المنعم حجاب مثلا وما فعله في أمريكا ثم في أوروبا، ولكن اختفاءه من الساحة حتى الآن يفرض علي الصمت - مثلما فعلت مع فريد صالح الذي اختفى من قسم الإنجليزي إلى الأبد. وقال قائل إنه عاد إلى اسكتلندا، ليقيم مع أسرة والدته، وإنه عمل محصل تذاكر في الأتوبيس الاسكتلندي، ثم ذهب إلى السعودية لتعليم الطلبة باعتباره من أبناء اللغة، دون نجاح، وقد رأيته ذات يوم في أواخر السبعينيات (أو خلت أنني رأيته) يسير بنشاط في دهاليز قسمنا. أين فريد صالح؟
وأما سيد الناصري فقد تخصص في التاريخ في جامعة لندن، وتقلد شتى المناصب الجامعية حتى أصبح رئيسا لقسم التاريخ بكلية الآداب لدينا، وكذلك أصبح نعيم اليافي رئيسا لقسم اللغة العربية بجامعة دمشق، وكان وما يزال يحمل أصدق الحب لمصر وللقاهرة، وقد قابله سمير سرحان أثناء مؤتمر في تونس، إبان أحلك أزمة سياسية بين القاهرة ودمشق (بسبب معاهدة الصلح مع إسرائيل)، وسمعه وهو يعارض من يشتم مصر، ويهب مدافعا عن القاهرة، وكان في ذلك ما فيه من مخاطر ومن مساءلات. وأما ماهر البطوطي فبعد أن عمل فترة ما في وزارة التعليم العالي، توفر على تعلم اللغة الإسبانية، فأصبح يجيدها إجادته للإنجليزية والفرنسية، ومن ثم عمل في المكتب التعليمي بمدريد فترة ما، ثم عاد إلى القاهرة، ثم اجتاز امتحان الترجمة بالأمم المتحدة، وبدأ العمل في نيويورك عام 1978م، وشغل عدة مناصب حتى أصبح رئيسا لتحرير المطبوعات العربية كلها في تلك المنظمة الدولية، وعكف في السنوات الأخيرة على الترجمة والتأليف فكتب كتبا عن لوركا ونيرودا وسيرة ذاتية مختصرة هي «عزلة النسر».
وربما كان من المناسب هنا أن أروي قصة زميل لنا سأشير إليه بحروف اسمه الأولى وهي «معم» فقط، زميل ماهر البطوطي وسمير سرحان في القسم، كان «معم» طموحا، وكان يشاركنا جلساتنا في «صان صوصي» بميدان الجيزة، وعندما تخرج حصل على عمل بالكويت، وعاد في صيف العام التالي «مدججا بالأموال» (وهو التعبير الذي أضحك أفراد الشلة جميعا). كان ذلك في صيف عام 1962م. والذي حدث أننا كنا نتراسل، وكان يحتفظ بخطاباتنا لما فيها من تعزية عن عزلته، وقرأ ذات يوم بعض قصائد في صحيفة من صحف الكويت، فقرر كتابة نقد عنها، وبعد أيام من نشر النقد، زار المدرسة التي يعمل بها وكيل وزارة المعارف (التربية) وسأل عن كاتب المقالات، وشحب لون «معم» وأحس بأن مصيره في الميزان، ولكنه عندما قابل وكيل الوزارة وجد منه عكس ما يخشى؛ إذ اتضح أنه هو صاحب تلك القصائد، وأن النقد الذي كتبه لاقى في نفسه هوى، ومن ثم كلفه الوكيل بالإشراف على النشاط الأدبي في المدرسة مقابل مبلغ نقدي كبير. أما الطريف في القصة فهو أن ذلك النقد كان لا يزيد عن مقتطفات من الرسائل التي كان يتلقاها منا! أما العبقرية التي أدهشتني فكانت تتجلى في تحويل فقرات كاملة من رسائلنا إلى نقد أدبي يمكن للجميع أن يقبلوه!
وعندما وصل «معم» بالمال، صارحني بأنه يخشى عليه ممن يعيش معهم؛ لأن أهله يريدون الاستيلاء على المال لتزويجه من عانس تكبره بأعوام كثيرة، ولا تتمتع بأي قسط من التعليم، وإن كانت «غضة بضة»، أو على حد تعبيره «أنثى فائرة»، ويبدو أنهم كانوا يدبرون زواجه منها بطريقة فيلم «الماضي المجهول»، حيث يدخل أخوها عليهما فيجدهما في خلوة فيصيح والسكين في يده «لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى»، وبحيث يكون المخرج الأوحد هو عقد القران فورا، والاستيلاء على النقود. وهكذا جاء إلي بالمال ووضعه بنفسه في الدرج (درج مكتبي الكبير) واطمأن إليه ومضى. وكان يأتي كل يوم إلى المنزل (لا للاطمئنان إلى المال طبعا) فنجتمع أنا وهو وماهر البطوطي لتدبير «رسائل» نقدية أخرى، أي رسائل في نقد الشاعر وكيل الوزارة للحصول على المزيد من المال!
وذات يوم قال لي «معم» إن من حقنا الاحتفال بهذا النجاح بأن نذهب إلى كباريه مثل الذي نراه في السينما؛ لأنه لا يصح لشباب تخرجوا في الجامعة وتحقق لهم الثراء أن يحرموا متعة النساء ! وبالفعل قررنا الذهاب إلى الكباريه (ملهى فتحية أحمد بشارع الألفي) وكان التمويل كما يلي: خمسة جنيهات من ماهر، وعشرة جنيهات مني ومثلها من «معم»، وهنا قال «معم» إنه ما يزال مدينا لي بنحو ذلك المبلغ، وكنت أقرضته بعض المال أثناء استعداده للسفر، وكان قد اشترى لي قلما ذهبيا هو باركر 61 (ما يزال لدي حتى الآن) وتصورت أن في ذلك سدادا للدين، ولكنه أصر على أن يتولى هو الإنفاق على ليلة الكباريه ففتحت الدرج وسحبت منه عشرين جنيها ووضعتها في جيبي، وانطلقنا في المساء.
كان العرض رائعا، إذ بدأ في العاشرة ببعض الرقصات والأغاني، ثم جاء نجم السهرة وهو محمد عبد المطلب، فغنى بعض أغانيه التي أشاعت البهجة في القلوب، ثم عادت الرقصات، ثم جاءت فتحية أحمد نفسها (أو امرأة تشبهها) ولم أكن أعرفها إلا من الصور التي تنشرها الصحف أو من اللوحات المعلقة على جدران الملهى. كانت ضخمة سميكة، وكانت تلبس ملابس فاضحة، ووقفت فغنت أغنية كنت سمعتها في طفولتي للمطربة ملك، ولا أذكر منها غير الكوبليه الذي تقول فيه:
سلمت له قلبي
ونزلت في بحوره
لما الغرام قال لي
اكتب وانا أملي
قلت الهوان مكتوب!
ولا أذكر إن كان اللحن من مقام «العجم» (لأنني أعزفه من سلم دو الكبير) أم أن به «مي» نصف بيمول، وربما يكون من مقام البيات، وكانت المطربة الكبيرة تتمايل وتتشخلع وهي تؤدي الأغنية، وكان أداؤها يبعث على الضحك، وكنت آنذاك أذكر قول جدتي «الشايب لما يدلع، زي الباب لما يتخلع!» ولجدتي أقوال أخرى في هذا الباب فكانت تقول عن أم كلثوم وغيرها من المطربات: «أخذت الصحيح وأعطتهم الريح» أي إنها نالت النقود ولم تعط السامعين شيئا! وعلى أي حال فقد استمتعت بفكرة الكباريه نفسها، خصوصا جو الأضواء الخافتة في الصالة، ومنظر البلطجية الواقفين على الأبواب! وبعد انتهاء العرض، أنزلت الستار، ورحل البعض، بينما اقترح «معم» أن نشرب «شمبانيا»، وإلا فما معنى الكباريه. وأين النساء؟
وذهب ثلاثتنا إلى «لوج» جانبي، وهو ركن من أركان كثيرة على جوانب الصالة، ولمحت بطرف عيني وأنا أدلف إليه ضابط شرطة كبيرا أعرفه خير المعرفة، وكان يجلس بجثته الضخمة وكرشه الهائل في مقعد وثير ذي مساند، وحوله ثلاث فتيات. كان متزوجا من خالة أحد أصدقائي، وكان له سبعة أبناء، أحدهم طبيب حديث التخرج كنت لا أتردد في استشارته عندما أصاب بالتهاب في الحلق أو في القولون! وعلى الفور جاءت ثلاث فتيات فجلسن معنا، وتبينت من ملامح إحداهن أنها كانت الراقصة التي صاحبت المطربة المشهورة، وبمجرد جلوسهن جاء النادل فقالت الراقصة هات لنا شمبانيا! وسمعت الصوت الداخلي يصيح في أعماقي: هذا هو الكباريه إذن! وهذه هي الشمبانيا! نحن في مشهد سينمائي ولكن أين فريد شوقي؟ وسألتها في حذر (فأنا أمين الصندوق) كم سعر الكأس؟ وأجابت: خمسين قرش! ولم أعلق. وعندما جاءت المشروبات وذقتها كنت متأكدا أنها مشروبات غازية عادية، ولكنني دفعت ثلاثة جنيهات للنادل، أخذها وانصرف.
وسرعان ما أدركت إحداهن أن «رئيس» الشلة هو «معم»، فهو الذي يأمر بالإنفاق، فجلست إلى جواره على الأريكة، وأتاحت له أن يرى بعض ما كان يرجوه، بل وأن يلمس بعض ما كان ينشده، وعلى الفور أمرني بطلب المزيد من «الشمبانيا»، وتنبه ماهر إلى «اللعبة» فحذره وحذرني، ولكن «معم» كان قاطعا حاسما، بل ومنفعلا، فطلبنا المزيد والمزيد، وبدأت أحس بالخداع، ولم يعد يروقني ما يحدث فبدأت الحوار مع الفتاة التي كانت تجالسني فصارحتني بأن شكوكي صحيحة، وأن أثمان التذاكر لا تكفي لتغطية نفقات المحل، ولا بد من حيلة «الشمبانيا» لكسب المال. وسألتها عن الضابط الكبير فضحكت وقالت إنه شخص مهم ومفيد، دون أن تقول لي أي شيء عنه، ولم أشأ أن أفشي أنا السر، وأدركت منها أنه يسهر هنا مجانا؛ لأنه ينفع العاملين في الملهى في الحالات الحرجة، وأخيرا طلبت منها أن تحدثني بصراحة عما يشاع عن حياة اللهو والعربدة وصورة الكباريه في السينما، فقالت لي باقتضاب: إنها أم لثلاثة أطفال وإنها ترجو أن «أقرضها» خمسين قرشا من ميزانية السهرة وألا أفصح عنها لزميلتيها؛ فإن أصحاب الملهى لا يدفعون لها ما يكفي من المال، وأنها تخفي عن أطفالها حقيقة عملها الذي يجلب لها العار، وأنها تزعم في الحي الذي تقيم فيه أنها ممرضة، وأن لها اسما آخر يختلف تماما عن اسم الشهرة التي تظهر به في الملهى، وباختصار أظهرت نفسها في صورة الضحية البريئة للمجتمع القاسي، ولم أعرف هل أصدق ما أسمع أم أكذبه، ولكنني دفعت لها ما طلبته سرا، فأخفت الورقة في طيات ملابسها، وحينما رأيت أن «معم» قد اندمج مع زميلته إلى حد لا تسمح به الميزانية طلبت من ماهر أن يحمله على الانصراف. ونهض ثلاثتنا وانصرفنا.
وبعد يومين زارني «معم» وأخذ نقوده وانصرف، ولم أسمع عنه بعد ذلك؛ أي بعد رحيله إلى الكويت، وعندما عدت من إنجلترا عام 1975م كنت أسير في شارع جانبي متفرع من أحد الشوارع المطلة على ميدان الجيزة، فلمحته يسير وحده وناديته لكنه لم يسمع ندائي، وعندما انعطفت في حارة تابعته لكنه اختفى ولا أعرف أين ذهب حتى الآن.
ولم يكن «معم» إلا واحدا من زملاء الكلية الذين اختفوا من حياة القاهرة، وقدر لي أن أرى بعضهم في مناسبات غريبة، مثل شخص يدعى «الزغبي» (ولا أذكر اسمه الأول) قابلته بعد عودتي من إنجلترا وعاملته بحرارة، مستجيبا للحرارة التي استقبلني بها في أحد المؤتمرات الاقتصادية التي عملت فيها بالترجمة، وفوجئت بعد قليل بأنه يعامل باعتباره رجلا من كبار رجال الأعمال الأمريكيين، وسألته ضاحكا: إنت بقيت مليونير؟ فرد ضاحكا: أنا بدأت مليونير! دلوقتي عندي بيزنيس بمئات الملايين، وإن شاء الله نستثمر في مصر! ولم أره بعد ذلك.
أما المليونير الآخر الذي ما فتئ يظهر ويختفي فهو منسي يوسف. وقصة منسي قصة لا تنسى. ففي يوم من أيام أكتوبر 1963م جاءنا فراش القسم بالكلية (عم علي رحمه الله) ليقول إن الدكتور منسي في انتظار طلبة الدراسات العليا. ولم أعرف أن أحدا في الكلية اسمه الدكتور منسي، فدفعني حب الاستطلاع إلى النهوض وذهبت إلى المكتبة فرأيت رجلا ربعة أسمر، يميل إلى الصلع، ويشبه رشاد رشدي إلى حد بعيد، وكان يجلس صامتا وألقيت عليه التحية فرد بالإنجليزية «هالو». وكان أول انطباع لي أنه أمريكي زنجي، مثل الأستاذ «بوس» (Boas)
الذي كان يدرس الأدب الأمريكي مع «بوب هاتش» (Bob Hatch)
للسنة الرابعة، ولكنني عرفت فيما بعد أنه مصري.
كان اسمه بالكامل ميخائيل منسي يوسف بسطاوروس، وكان صعيديا قحا، وقصته باختصار هي أنه جاء إلى رشاد رشدي وقال له إنه حصل على الدكتوراه في الدراما من جامعة لندن، وإنه يريد ترجمة مسرحياته إلى الإنجليزية ونشرها في لندن، وأضاف أنه يقوم بتدريس الدراما حاليا في الجامعة الأمريكية، ويود أن يدرس للطلبة هذه المسرحيات، ولكنها - وللأسف - بالعربية! وبانتهاء الجلسة كان الدكتور منسي يوسف يتولى تدريس الدراما لطلبة الدراسات العليا، وحصل على خطاب من القسم، مختوم من الكلية، بأنه أستاذ الدراما.
وبعد أسابيع فوجئ الجميع بمقال نقدي في الدراما منشور في صحيفة الأخبار باسم الدكتور منسي يوسف، واتضح أنه ذهب إلى مكتب وزير الإعلام وقدم نفسه على أنه المتخصص الأوحد في الدراما ومستنكرا استبعاده من الصحافة، وعلى الفور اتصل الدكتور عبد القادر حاتم برئيس تحرير الأخبار واتفق معه على تعيينه كاتب عمود في الصحيفة!
وبدأ نجم منسي يوسف في الصعود حين أفصح القدر عن مفاجأة لم تكن متوقعة؛ إذ رآه الدكتور شفيق مجلي الذي كان قد حصل على الدكتوراه في الأدب الإنجليزي من كلية بدفورد بجامعة لندن، كما رآه الدكتور عبد المحسن طه بدر الذي عاد من كلية الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن بعد أن قضى فترة دراسية طويلة، وأنكر كل منهما معرفته بمنسي (وكان منسي يصر على أنه حصل على الدكتوراه من الكلية الأولى، فلما حوصر أنكر وعاد يقول إنه حصل عليها من الثانية). وتردد في الوسط الفني أنه غير حاصل على الدكتوراه، فطالبته جامعة القاهرة بتقديم ما يثبت حصوله على تلك الشهادة، فتلكأ واعترض وماطل، ثم أقلع عن المجيء إلى الجامعة، ثم طالبته الجامعة الأمريكية كذلك بأوراق رسمية، وكانت النتيجة مماثلة، ثم طالبته الصحف بشهادة أو ما يوازيها من أوراق ، ولم يكن حظه أفضل، وذات يوم وصل أحد أصدقائنا من خريجي جامعة الإسكندرية، وضربت له موعدا في فندق سميراميس، وكان يعمل في الإذاعة البريطانية في قسم الاستماع خارج لندن، وكان معنا في الجلسة (التي ضمتني أنا وسمير ورشاد رشدي ونعمان عاشور) منسي يوسف. وبمجرد أن وصل ممدوح عياد (صديقي الإسكندراني) حتى أخذ منسي بالأحضان، وهو يصيح: مايكل! مايكل! يخرب بيتك! بتعمل إيه هنا؟
وقص علينا ممدوح قصة مايكل (ميخائيل) الذي كان يعمل في الإذاعة البريطانية مترجما، ويقوم في نفس الوقت بالتمثيل في البرامج الهندية، مما كان يعتبر مخالفا للوائح، وبعد تحذيره عدة مرات، فصلته الإذاعة فجاء إلى مصر بقصة الدكتوراه! وكان اسمه أثناء وجوده في لندن مايكل بسطاوروس، واسمه في مصر منسي يوسف، وكان يزعم للهنود أنه هندي، وللإنجليزي أنه من أصل أفريقي متخصص في لهجات أفريقيا السوداء، ولغيرهم أنه مصري (وهذا هو الصحيح)، وأخيرا سافر منسي فجأة ليعود بزوجته الإنجليزية وأولاده الأربعة - ولكنه لم يعد يظهر في الوسط المسرحي. وعندما ذهبت إلى إنجلترا عام 1965م كنت أجلس في مطعم كلية بدفورد بجامعة لندن حين وجدته مقبلا علي مع فتاة مصرية ذات وجه مصري مليح، قدمها لي على أنها إحدى قريباته، وقال لي: لقد نجحت في إخراجها من مصر بأن أتيت بواسطة ضابط كبير في قسم تأشيرات الخروج. وعندما سألته عن الضابط قال لي: أنا! اكتشفت أن ارتداء الزي العسكري دون أوراق رسمية لا يعتبر تزويرا، فدخلت المجمع (مجمع التحرير) وأنهيت أوراقها ثم تخلصت من البدلة الرسمية! ولم أكن أريد أن أصدقه، ولكن الذي حدث بعد ذلك جعلني أميل إلى تصديقه!
أعلنت هيئة الإذاعة البريطانية عن رحلة إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1966م بسعر مخفض هو 65 جنيها (ذهابا وإيابا) للعاملين بها، واستطاع هو بطريقة ما الحصول على تذكرة وسافر ولم يعد، وفي منتصف السبعينيات كان سعد الدين وهبة، الكاتب المشهور، في زيارة لأمريكا حين التقى بصاحبنا الذي عرض عليه شراء إحدى محطات الإذاعة الأهلية التي يملكها، ولما سألني سعد وهبة قصصت عليه قصته، ولم أسمع عنه شيئا على مدى السنوات العشرين الماضية!
وكان نمط القدوم والرحيل - وهو ما أحسسناه في مسرح تشيخوف - قد وجد طريقه إلى قسم اللغة الإنجليزية أيضا! وكان من آفات هذا القسم وجود عدد من «غير المنتمين»؛ أي الذين لا يرون أنهم من المصريين حقا وصدقا، وقد يكون أحدهم «نصف مصري»؛ أي أن تكون له أم أجنبية، يتعلم منها اللغة الإنجليزية فيتفوق في الدراسة في القسم ثم ما يلبث أن يهجر مصر إلى الأبد، وقد يكون مصريا خالصا لكنه يشعر بأن جذوره مبتوتة بالمجتمع المصري بسبب ضعفه في اللغة العربية، وكان من بين زملائي - من النوع الأول - سلمى غانم التي عادت آنذاك بالدكتوراه؛ إذ حصلت عليها في زمن قياسي، وكان أبوها هو محمد محمد غانم مفتش أول اللغة الإنجليزية وأمها اسكتلندية، ولم تلبث سلمى، كما ذكرت، أن هاجرت إلى كندا، واصطحبت معها زوجها الطبيب، ثم انقطعت أخبارها عنا إلى الأبد! وكان من زملائي - من النوع الثاني - عايدة فراج طايع وعمرو حسن برادة اللذان هاجرا إلى كندا والولايات المتحدة، على الترتيب، واختفت الأولى، ولم نعد نسمع عنها، بينما ظل عمرو وفيا لأسرته في مصر، يزورهم من حين لآخر، وعندما رأيته آخر مرة، كانت معه امرأة أمريكية في منتصف العمر - وكان ذلك في أوائل التسعينيات - قدمني إليها ثم قدمه إلي قائلا: «جلوريا .. خطيبتي!» ووقفنا نتحدث عدة دقائق، وأنا أحاول إحياء بعض بذور الصداقة القديمة التي ذبلت، فوقفت أحادثه وأستطلع أخباره، فأخبرني أنه اتجه إلى دراسة علم النفس، وأنه تخصص في تعليم اللغة الإنجليزية للأجانب من ضعاف العقول أو من المعوقين (ونحن في مصر نسميه «المتخلفين عقليا»)، خصوصا من أبناء البلدان العربية الغنية جدا، وقال لي إن معظم هؤلاء يدرسون في أمريكا فيما يسمى بالتعليم العلاجي، وأعدادهم كبيرة جدا، وأموالهم طائلة. وقال لي إنه، باعتباره عربيا، يستعين في تعليمهم الإنجليزية بشذرات اللغة العربية التي يعرفها، وإن دراسة علم النفس أتاحت له عملا مربحا.
وكانت هجرة «أنصاف المصريين» الذين يفوزون بالبعثات الدراسية ويتعلمون في الخارج على حساب الشعب تؤلمني كثيرا؛ فما أزال أرى أن مهمة دارس اللغات الأجنبية هي أن يكون وسيطا بين علوم الغرب وفكره وبين التراث العربي الحي، لا أن يختفي من حياتنا بعد أن علمناه وأنفقنا عليه الآلاف (بل عشرات الآلاف) وأعطيناه مزايا كان غيره أولى وأحق بها. ولذلك كنت وما أزال أهتم بالأدب العربي وباللغة العربية اهتماما يوازي، إن لم يكن يفوق اهتمامي باللغة الإنجليزية والأدب الإنجليزي.
6
كانت سلسلة النقد الأدبي - وهي الكتيبات التي شاركت فيها بالنقد التحليلي، وشارك فيها سمير سرحان ب «النقد الموضوعي»، والدكتور فايز إسكندر ب «النقد النفسي»، وعبد العزيز حمودة ب «علم الجمال» - بمثابة الثمرة الثانية لحركة النقد الأدبي العربي المعاصر، فقبل ذلك كانت كتب النقد ذات طابع عام أو خلافي، فكتاب الدكتور محمد مندور «النقد المنهجي عند العرب» (وهو فيما علمت رسالته التي تقدم بها للدكتوراه) يرصد النقد العربي بصفة عامة مركزا على المنهج الشكلي أو اللغوي في التراث، وكتابه العظيم الآخر «في الميزان الجديد» يقدم كما سبق لي أن ذكرت منهج شرح النصوص وهو المنهج الفرنسي الذي أدى في النهاية إلى مولد المدارس الفرنسية الحديثة التي يطلق عليها اسم المدارس النظرية أو «النظرية» فحسب، وكانت المحاولات الأخرى من جانب كبار الأساتذة مثل ترجمة الدكتور محمد مصطفى بدوي لجورج سانتيانا، وكتاب الغنيمي هلال عن الرومانسية، تمثل جهودا تستلهم المبدأ الذي وضعه طه حسين منذ مطلع العشرينيات وهو اعتبار الأدب فنا لغويا في المقام الأول، أو كما كان يقول دائما «باعتباره فنا جميلا يتوسل باللغة». وكنت قرأت مقدمته (التي نشرها على صورة تذييل أو ذيل) لكتاب «فجر الإسلام» لأحمد أمين عام 1923م، فشهدت له بالريادة، ورأيت أن تلاميذه الكبار (من أمثال لويس عوض وسهير القلماوي) كانوا يمهدون الطريق لحركة نقدية بناءة، وكانت السلسلة التي يشرف عليها رشاد رشدي ونشارك فيها بمثابة الثمرة «الثانية» كما قلت، بمعنى أنها تؤكد وجود الشجرة، وتعد بالمزيد من الثمار!
ولكنها كانت كتبا محدودة النطاق إلى درجة كبيرة؛ فكل منها يقدم ناقدا أجنبيا بعينه؛ إذ قدمت أنا «كلينت بروكس»، وقدم سمير سرحان «ماثيو أرنولد»، وقدم فايز إسكندر «أ. أ. ريتشاردز»، وقدم حمودة «كروتشي». وكانت إلى ذلك تركز على فنية الفن أو أدبية الأدب، مما أوحى للبعض بأن حركة النقد الجديد التي كنا نرصدها في أمريكا وأوروبا حركة تنكر صلة العمل الأدبي بالمجتمع أو بالحياة المادية الواقعية خارج نفس الفنان أو خارج العمل الأدبي، وكان ذلك بعيدا كل البعد عن الواقع. فالهدف الأساسي من السلسلة كان إلقاء الضوء على جانب من جوانب الأدب لم يترسخ بعد الرسوخ اللازم، ولم يكن معنى التركيز على جانب تجاهل الجوانب الأخرى، ولكن أنصار «النقد الأيديولوجي» - على اختلافهم - رأوا فيها فرصة سانحة للهجوم على رشاد رشدي الذي كان نجمه قد سطع، وكان يتمتع بالقدرة على مجالدة الخصوم مهما كثروا والانتصار عليهم!
وكانت جماعة «النقد الجديد» التي كونها رشاد رشدي في العام السابق تضم نقادا وكتابا لا يمكن أن ينتموا جميعا إلى النقد الجديد، وأذكر أننا اجتمعنا ذات مرة حول منضدة كبيرة في المسرح القومي، وكان من بين الجالسين سعد الدين وهبة، ونعمان عاشور وعبد المنعم سليم، وأننا اجتمعنا مرة أخرى في مجلة «بناء الوطن» في مجلس قيادة الثورة القديم بالجزيرة، وكان من بين الحضور الدكتور محمد صقر خفاجة والدكتورة سهير القلماوي! وأننا عقدنا ندوة لمناقشة التطور الموسيقي لمحمد عبد الوهاب، حضرها الموسيقار الكبير بصحبة صديقه الدكتور مصطفى محمود، وكان المحاضر هو سليمان جميل، والمعلق هو سعيد عزت! ومع ذلك، ورغم اختلاف النزعات والاتجاهات، أحس كبار نقاد العربية، خصوصا من أبناء دار العلوم، بخطورة «الحركة»، وسرعان ما كونوا جماعة «النقد القديم» وكانت تضم الدكتور الغنيمي هلال، ومحمد مندور، وعبد القادر القط ... وآخرين! وكتب الدكتور هلال «مانيفستو الجماعة» الذي ركز فيه على الرسالة القومية للأدب، وكان في ذلك يناشد السلطة أن تناصر الجماعة «المحافظة» وأن تحمي المجتمع من دعاة «الفن للفن»، ولا شك أن رشدي كان يتوجه من طرف خفي أيضا إلى السلطة؛ طلبا للحماية من «التيارات الشيوعية»!
كان اللون السياسي مقحما على المعركة، مما جعل الكثيرين يحسون بأنها لم تكن معركة أدبية «خالصة»، ولكن النتيجة كانت لونا من الاستقطاب؛ فالاشتراكية التي تدعو إليها الدولة رسميا تتضمن جوهرا من المبادئ السامية التي لا يمكن لعاقل أن ينكرها، وكان بعض أفراد «جماعتنا» من أعضاء اليسار المشهود لهم بالامتياز؛ مثل لطفي الخولي ولطيفة الزيات! ولذلك كان من التبسيط المخل تقسيم التيارات الأدبية حينذاك إلى يمين ويسار، أو إلى مناصري الفن ومناصري الأيديولوجيا؛ فكل من الجانبين يسلم بأن الآخر على حق في بعض المبادئ الأساسية، بل وفي المبدأ الجوهري الأول وهو أن يكون الفن فنا، وإن كان فريق النقد الجديد يفضل إقصاء الاعتبارات غير الفنية عند «الحكم على قيمة» العمل الأدبي، بينما يصر فريق النقد القديم على أن تكون لهذه الاعتبارات أهمية أولى، إلى جانب تفضيل فريق النقد الجديد إرجاء الحكم على القيمة إلى ما بعد التحليل الفني، وتفضيل فريق النقد الجديد إلى أن يكون الحكم هو الأساس، وأن يكون المعيار هو الفكر أو الأيديولوجيا جنبا إلى جنب مع الفن!
ولم أكن آنذاك مولعا بالنظريات، بل كان همي هو الكتابة الإبداعية، ونجحت خلال عام 1963م في حجز مكان لدراسة الأنثروبولوجيا بجامعة أكسفورد، كما استطعت حجز مكان لدراسة علم اللغة الحديث بمعهد الدراسات الشرقية بجامعة لندن. ولكن عام 1963م شهد بزوغ نجم علي صبري، ووصوله إلى رئاسة الوزارة، وكنت أعرف من صديقي فتحي رضوان أخبار الصراع في دوائر السلطة العليا بين فريق عبد الحكيم عامر وفريق عبد الناصر؛ فالصداقة بين الرجلين لم تمنع أن يكون لكل منهما رجاله، فكان الأول عدوا لعبد القادر حاتم، فيما علمت، وكان ذلك وراء عرضه بالتحقيق في موضوع مسرحيتي؛ لأنه كان يترصد الأخطاء له في مسرح التلفزيون، وكنت أتابع ما يدور من بعيد فأنا لا أحب السلطة بطبيعتي وأنفر منها. ولكن قرار علي صبري آنذاك بمنع المواطنين من السفر إلا بموافقة شخصية منه جعلنا جميعا نحس بالسلطة ونعمل لها ألف حساب.
صدر في صيف 1963م كتاب «درايدن والشعر المسرحي» (دار المعرفة)، وبعده بقليل صدرت ترجمتي لكتاب «حول مائدة المعرفة» (دار فرانكلين) وكان على غلاف الأول اسمي واسم مجدي وهبة، وعلى غلاف الثاني اسمي واسم المراجع عثمان نوية، واسم كاتب المقدمات - عباس محمود العقاد! ولكن انشغالي الأول في الصيف كان بمسرحية البر الغربي! كانت المسرحية تصور كيف تصنع قرية على شاطئ النيل الشرقي صورة البطل الذي يتخذ صورة الخط أو السفاح أو المجرم العاتي، فهو ما يسمى في النقد بالبطل الضد، ولكن القرية تحس بأنها في حاجة إليه باعتباره الخطر القائم في الشاطئ الغربي، والذي تفصلها عنه مياه النيل! إنه «قوة» غامضة، وقد يكون شخصا لا وجود له، ولكنه يعتبر «الخطر» الذي يوحد جهود أبناء القرية، ويجعل لها «قضية»، وإذا كان صحيحا أن القرية قد تعايشت مع هذا الخطر باعتباره قدرا لا فكاك منه، فإنها لا تنفك تحلم بزواله، وتبدأ الأحداث الحقيقية في المسرحية حين «يشاع» أن ذلك المجرم قد قتل، ويتهم بقتله مدرس بسيط، وهو بطبيعة الحال بريء، وعندما يطلق سراحه ويعود إلى القرية، يجد من جانب الجميع تمجيدا وإكبارا وإجلالا «يوهمه» أنه حقا بطل! وسرعان ما يتحول البطل المنقذ إلى خطر داهم، وهو خطر يعيش بين ظهرانيهم هذه المرة، ولا تفصلهم عنه مياه النيل! ويتمثل جوهر المسرحية في التحول الذي ينتاب «البطل» المزعوم؛ إذ يتحول إلى «بطل ضد»، ويصبح خطره محسوسا؛ فهو يفرض الإتاوات ويتحكم في الحياة الاقتصادية بل وفي الحياة اليومية للقرية، حتى نصل إلى ذروة تحس فيها القرية بحاجة ملحة إلى التخلص منه! وعندما يقتل «البطل الجديد» تنسب القرية شرف الخلاص إلى شخص أبعد ما يكون عن البطولة، وهو عبيط القرية! ومثلما حدث للمدرس البسيط، يطلق سراح العبيط ويعود إلى القرية لتكلل هامته بأكاليل الغار، ومن ثم يصبح «البطل الضد» الجديد!
وهكذا تنتهي المسرحية. والبطولة فيها ولا شك ليست للأفراد بل للمجموع، وهو مجموع يعيش في ظل تراث رهيب من الظلم والقهر، جعله يعتمد على وجود «خطر ما»، سواء كان هذا الخطر حقيقيا أو متوهما، وأما الخطر كل الخطر فهو أن يتحول «الخطر البعيد» إلى «خطر قريب» يعيش بين ظهراني أهالي القرية، والشخصيات التي تصورها المسرحية ليست فقط شخصيات «واقعية»، بل أكاد أقولها إنها حقيقية بمعنى أنني لم أكن «أختلقها» بل أكاد أنقلها من الواقع نقلا! كانت فكرة استبدال خطر داخلي بخطر خارجي مستوحاة، بطبيعة الحال، من الواقع السياسي، وربما كانت قصة «الخوف» التي كتبها نجيب محفوظ ورواها الدكتور محمد أنيس تكمن في مكان ما من ذهني، ولكنني كنت أحس بوجود مغزى معين على المستوى النفسي، أي على المستوى الفردي، لأحداث المسرحية، فالوهم عامل نفسي فردي، وقد يسيطر على الجماعة، ولكنه يظل فرديا في النهاية!
وبعد كتابة المسرحية قرأتها، بحضور سمير سرحان، على الدكتور رشاد رشدي فاقترح بعض التعديلات التي أجريتها فورا؛ إذ كانت طفيفة، واقترح حذف المشهد الثاني من الفصل الثاني لأنه ممل ويوقف سير الحدث! وأظهرت أو تظاهرت بالموافقة ولكنني أبقيت عليه. وبدأنا بعد ذلك إجراءات التقدم بها رسميا إلى مسرح الحكيم الذي كان المخرج العظيم جلال الشرقاوي قد تولى إدارته، وعملية إسنادها إلى أحد المخرجين. واقترح جلال الشرقاوي مخرجا عاد لتوه من البعثة الدراسية إلى المجر اسمه كمال عيد (الدكتور). وبعد أن قرأها كمال قال لي إن بها شبها من مسرحية أيرلندية هي
The Playboy of the Western World
للمؤلف سينج! (فتى الغرب المدلل) ولم أكن قد قرأت تلك المسرحية ولكنني لم أعترض. واصطحبني كمال إلى منزله بحدائق القبة، وعرفني بأسرته، وكان قد تزوج من فتاة مجرية رائعة الجمال، وعندما أبديت إعجابي بهذا الإنجاز قال لي بفخر: «أبوها جنرال شيوعي كبير!» وكان الواضح أن انبهاري بجمالها قد زاد عن الحد فهمس لي: «عارف أنا ازاي نجحت؟ رحت لهم البيت على طول!» وبعد دراسة للنص استمرت حتى الهزيع الثاني من الليل، اقترح أن أبيت معهم، وفعلت، وفي الصباح اتجهنا إلى المسرح حيث قدم كمال قائمة بالممثلين الذي يريدهم إلى جلال الشرقاوي. وكان جلال حاسما في رفضه للقائمة إذ أصر على أن يقوم بجميع الأدوار أبطال «فرقة مسرح الحكيم» مع الاقتصار على نجم أو نجمين فقط من خارج الفرقة. ورفض كمال، وانسحب، ووضعت المسرحية في الدرج.
كان المقرر أن تعرض فرقة الحكيم مسرحية واحدة في الشهر، يتم تصويرها تلفزيونيا ثم يعرض غيرها، وكانت مسرحية الافتتاح هي «بيجماليون» من تأليف توفيق الحكيم طبعا، وكان المخرج هو نبيل الألفي. وكان المقرر أن يعرض المسرح بعدها مسرحية «الأرانب» من تأليف لطفي الخولي وإخراج جلال الشرقاوي، وبعدها البر الغربي. وكانت بروفات مسرحية «بيجماليون» تسير على قدم وساق، حين اقترح أحدهم إسناد «البر الغربي» إلى محمود مرسي، وكان يشاع أنه قد عاد من أمريكا وأنه قادر على صنع المعجزات . وبعد أن قرأ محمود النص، اتصل بي تليفونيا وضرب لي موعدا في سميراميس (في مقهى الفندق الذي أصبح مكان اللقاء المعتاد). وعندما قابلته في المساء قال لي: «إنت ناوي تسافر بعثة وتشتغل في الحكومة؟ يعني خايف على مستقبلك الأكاديمي والعملي؟» ولما أبديت دهشتي لهذه الأسئلة قال لي: «أنصحك تنسى «البر الغربي»!» وبدأ في تحليل النص تحليلا غريبا وغير متوقع، انتهى منه إلى أن المسرحية «ضد النظام» وأنها تسخر في الواقع من الحكام، وعلى رأسهم طبعا .. جمال عبد الناصر! وذهبت اعتراضاتي أدراج الرياح؛ إذ انتهى بالاعتذار عن إخراجها لأنه يخشى على مستقبله، قائلا بضحكة مكتومة: «العمر موش بعزقة!»
في عام 1962م كان من بين الخريجين عدد كبير من الموهوبين في الترجمة، وكنت أعلمهم الترجمة بعد تخرجي، أهمهم شاب نابه قدر له أن ينضم إلى الشلة هو فاروق عبد الوهاب، وكان من بين أفراد تلك المجموعة عدد قدر له أن يشغل مناصب كبيرة في الهيئات الدولية مثل شوقي مدبولي مصطفى الذي أصبح الآن رئيسا للقسم العربي بهيئة الطيران المدني الدولية في مونتريال بكندا، وعبد العليم الأبيض الذي يعمل مستشارا إعلاميا لمصر في الولايات المتحدة، وأيمن الأمير الذي يعمل رئيسا لدائرة الإعلام بالأمم المتحدة في نيويورك، ومحمد العليمي الذي عمل مترجما ومراجعا بالأمم المتحدة فترة طويلة. وقد استفاد الجميع فائدة كبيرة من إعادة إنشاء وكالة أنباء الشرق الأوسط، خصوصا القسم الإنجليزي الذي كان يشرف عليه زين العابدين نجاتي (أخو الدكتور عثمان نجاتي أستاذ علم النفس بالكلية)، إذ تعلموا في الوكالة فنون الترجمة الإنجليزية والفنون الصحفية الأخرى، وكانوا جميعا من أصدقائي المقربين، بينما كنت أنا ما زلت في بحث دائب عن مكان مستقل أبتعد فيه عن الناس وأخلو لنفسي وعملي الذي لا ينقطع.
كان صديقي الحميم أحمد السودة قد عين وكيلا للنيابة الإدارية، وهي الهيئة التي كانت قد أنشئت من فترة قصيرة، ولكنه كان يتردد - ريثما يتم تعيينه - على مكتب أحد المحامين الأذكياء واسمه محمد عبد المطلب، وكان مكتبه يقع في عمارة أنور وجدي بباب اللوق، وكنت أتردد مع صديقي على هذا المحامي، وهناك تعرفت على بعض المحامين كان أهمهم كمال خالد الذي قدر له أن يشتهر فيما بعد بالدفاع عن القضايا السياسية. وفي عام 1962م ترك محمد عبد المطلب المكتب، وترك لي مفتاحه حتى أستخدمه في الكتابة حينما أريد، ومن ثم نقلت إليه بعض الأدوات المكتبية والأشياء التي تلزمني ومن بينها العود القديم الذي كنت اشتريته من محمود علي.
وفي الوقت نفسه شاركت أحد الأصدقاء في استئجار شقة في شارع الإخشيد بالروضة، وكنت أختبئ فيها عن الدنيا والناس حين أريد التركيز في عمل أدبي أو في ترجمة شيء ما، وكان إيجار الشقة ثمانية جنيهات في الشهر، أدفع منها أربعة، وأتولى الإنفاق على كل مستلزماتها أثناء سفره؛ إذ كان يعمل في الخارج ولا يعود إلا في الصيف. وفي خريف عام 1963م كان شغلي الشاغل هو أن ترى «البر الغربي» النور، فكنت أقضي ساعات طويلة في تنقيحها أو في ترجمة مسرحية شكسبير «حلم ليلة صيف» دون أن أحلم بنشرها، فمن أكون إلى جانب أساطين الترجمة الأدبية في بلادنا؟ ولكنني كنت أكتب الشعر الذي أحتفظ به لنفسي بعد أن قررت هجرة هذا الفن «على المستوى العام»!
كانت مزية شقة الروضة هي أنها تطل عبر النيل على كازينور! فكنت أعبر كوبري عباس للانتقال من المقهى إلى الشقة أو العكس، وقد أبقيت هذه الشقة سرا كاملا حتى لا يعرفها الأصدقاء فتراودهم نفوسهم باستغلالها لأغراض لا أرضاها، وكثيرا ما كنت أقضي الليل كله جالسا إلى المنضدة التي اتخذتها مكتبا حتى يبزغ الفجر، ثم أسير مع النسمات الأولى للصباح حتى ميدان الجيزة ثم أستقل الأتوبيس إلى منزلنا فأنام حتى الظهيرة!
وفي خريف عام 1963م بدا لنا جميعا أن أحلام السفر قد تحطمت على صخرة علي صبري، وأن المستقبل الأكاديمي كئيب مظلم، وكان أصدقاؤنا يشفقون علينا من المأزق الذي نعيش فيه، فلا نحن انتهينا من رسائل الماجستير، ولا نحن سافرنا، ولا نحن حققنا أمجادا أدبية مما كنا نطمح فيه. وناقشت الأمر ذات يوم مع الدكتور مجدي وهبة فقال لي: عليك بالصبر؛ فأنت ما زلت صغيرا، والحياة الجامعية «حبالها طويلة»، ودعاني إلى فنجان قهوة في المساء في «لاباس» (بشارع قصر النيل) مع بعض الأصدقاء، ودهشت عندما ذهبت؛ لأن هؤلاء الأصدقاء كانوا يعرفونني جيدا، وبعد محاورات قال أحدهم: لقد كلمت لطفي الخولي في الموضوع، وهو على استعداد لمساعدتك في موضوع السفر وموضوع المسرحية! وفعلا عندما قابلت لطفي الخولي قال لي: «المسرحية حلوة وجريئة وضد الدكتاتورية .. وإحنا بلد ضد الدكتاتورية .. ولازم ألاقي لك مخرج تقدمي يعملها!» أما البعثة فقال إنه يعرف وزيرا مفوضا اسمه سميح أنور يستطيع مخاطبة علي صبري في الموضوع.
وكان المخرج التقدمي هو عبد القادر التلمساني الذي قرأ النص في ديسمبر، ولم يتمسك بأي ممثلين من النجوم، ولكنه اقترح بعض التعديلات؛ من بينها حذف مشهد الأراجوز الأخير، وهو فعلا أسوأ مشهد في المسرحية. الغريب أن كل مخرج كان يقول لي ما قاله رشاد رشدي من ضرورة حذف المشهد الثاني من الفصل الثاني! وقد حذفه المخرج هذه المرة دون استشارتي!
وفي ديسمبر كان هناك حدثان مهمان يلوحان في الأفق؛ أولهما اقتراب موعد غناء أم كلثوم من تلحين عبد الوهاب، والثاني صدور مجلة المسرح التي يرأسها رشاد رشدي ويعمل في سكرتارية تحريرها سمير سرحان وأنا. وفي مستهل عام 1964م افتتح مسرح الحكيم بمسرحية «بيجماليون» - وكان البطل هو حسين الشربيني، والبطلة بثينة حسن (التي كانت آنذاك زوجة للممثل حسن مصطفى). وكان العرض محزنا كئيبا؛ فالأبطال يتكلمون العربية الفصحى، ويحاولون إقناعنا أنهم يعيشون في بلاد اليونان القديمة، وراقصات الباليه يفتقرن إلى الحد الأدنى من اللياقة البدنية، ويتحركن بصعوبة شديدة على المسرح، وكانت الأضواء خافتة على المسرح توحي بالانقباض والهم المقيم، وكان من الطبيعي أن تفشل المسرحية جماهيريا فكان الإيراد اليومي يتراوح بين جنيه واحد وجنيهين.
ورغم التهليل الإعلامي لتوفيق الحكيم، أغلق العرض المسرحي بسرعة، وأثناء العرض الكئيب كنا نعمل بجد ونشاط في إخراج مجلة المسرح، فكلفني رشاد رشدي بكتابة مقال عن مسرحية آرثر ميلر وعنوانها «مشهد من الجسر» التي كانت تعرض في القومي، وجمعت المقالات وتمت في وقت قياسي طباعة ألفي نسخة، ثمن النسخة خمسة قروش، وكان تاريخ الصدور العاشر من كل شهر، وكان تاريخ صدور العدد الأول هو 10 فبراير 1964م (وكان يوم جمعة). وقابلت ماهر البطوطي في صباح ذلك اليوم وذهبنا إلى ميدان الجيزة لشراء عدة نسخ من المجلة، فلم نجد سوى نسخة واحدة، كانت الأخيرة؛ إذ نفدت الأعداد عن آخرها!
كان الناس يتحدثون أيضا عن «إنت عمري» أغنية أم كلثوم التي لحنها عبد الوهاب، وكان الجو قد سرت فيه الحياة والحيوية فجأة رغم برد الشتاء! واجتمعنا في إدارة المجلة في اليوم التالي، حيث اقترحت على رشاد رشدي ضم فاروق عبد الوهاب إلى سكرتارية التحرير فوافق، واقترح أحد الحاضرين مضاعفة عدد النسخ المطبوعة، فقال رشاد رشدي: في الشهر القادم نطبع ستة آلاف! والواقع أن الستة آلاف بيعت في نفس اليوم، وزاد العدد في الشهر التالي إلى ثمانية فنفدت النسخ، ولكن عندما طبعنا عشرة آلاف، كان هناك «مرتجع» فعلمنا أن حجم السوق لا يزيد عن عشرة آلاف! وفي فبراير أيضا سافر عبد العزيز حمودة إلى أمريكا، ويبدو أنه كان قد حصل على منحة ساعدته في التغلب على قيود علي صبري، ولكننا لم نحزن لعدم السفر، فكان في المجلة ما يشغلنا أنا وسمير!
7
في مارس 1964م عكفت على الانتهاء من ترجمة «حلم ليلة صيف»، تحفة شيكسبير الشعرية، دون أن أستطيع مجاراته نظما! ولكنني عندما وصلت إلى المشهد الأخير تمكنت من إخراج بعض ما فيه نظما، وكانت فرحتي به تعادل فرحة من كتب شعرا أصيلا غير مترجم! وكان مقر المجلة في الطابق الأول بمسرح محمد فريد خلية نشاط، يلتقي به جميع المهتمين بالمسرح من كتاب ونقاد وفنانين في شتى التخصصات، وكان رشاد رشدي أستاذا في فن العلاقات العامة، مثلما كان أستاذا في الأدب الإنجليزي وفي الكتابة المسرحية. فكان قادرا على «تطويع» أي موقف واستغلاله لصالحه، خصوصا من خلال ما كان سمير سرحان يسميه «الاستثمار البشري» أي اعتبار المعارف والأصدقاء رأس مال لا بد من استثماره بالصورة الصحيحة، وكان قد تمكن من عقد صداقة مع الوزير عبد القادر حاتم، فكان يخرج علينا بين الفينة والفينة بقرار وزاري جديد يدعم النشاط الثقافي ويشيع الأمل في أوساط الشباب؛ إذ تلا إصدار مجلة المسرح إصدار عدد من المجلات الثقافية، مثل مجلة «القصة» التي كان محمود تيمور يرأس تحريرها، ومجلة «الفكر المعاصر» التي تولاها زكي نجيب محمود، ومجلة «الشعر» التي كان يرأس تحريرها د. عبد القادر القط، ومع أن هذه المجلات لم تكن تتمتع بشعبية «المسرح» فقد التف حولها الكثيرون، ولكن وجود المسرح جعل الكثيرين يتجهون للكتابة إليه، حتى من بين من لم يحاولوا ذلك من قبل، مثل أنيس منصور (الذي كتب مسرحية فكاهية اسمها «حلمك يا شيخ علام» وترجم بعض المسرحيات العالمية) ويوسف إدريس، الذي كان معروفا بانحيازه للقصة القصيرة، وكان مسرح التلفزيون (أي فرق المسرح الخمسة التي تقدم المسرحيات بغرض تصويرها تلفزيونيا) نشاطا دائبا لا يتوقف، وازدهر معهد التمثيل لأن الخريجين أصبحوا يعملون بسهولة، بل ويستطيعون أن يحلموا بالمجد والثراء من المسرح الجاد. كانت الفرق هي: مسرح الحكيم، والمسرح الحديث، والمسرح العالمي، والمسرح الكوميدي - ومسرح الطليعة الذي كان ما يزال يسمى مسرح الجيب. أما المسرح القومي فكان المسرح العتيد الذي يضم أعظم الفنانين وأرسخهم قدما، وكان رشاد رشدي قد قدم إليه مسرحية «رحلة خارج السور» ليعرضها في إبريل من إخراج سعد أردش.
كانت الغيرة من رشاد رشدي وتلاميذه قد بلغت أوجها في تلك الأيام، وكانت لجنة القراءة بالمسرح القومي قد حاولت إعاقة رشدي عن تقديم المسرحية في أكتوبر 1963م بأن قررت رفضها، فلما اعترض رشدي قائلا إن اللجنة لم تقرأها - وكان هذا هو الواقع - أصدر الدكتور علي الراعي قرارا بإحضار المؤلف لقراءتها على اللجنة. وكان علي الراعي قد فرض اسمه على الساحة الأدبية عن طريق نشر ملخصات للمسرحيات العالمية في المجلات - مثل مجلة الإذاعة - مثلما فعل لويس عوض من قبله في صحيفة «الشعب» التي توقفت، وكانت اللجنة تضم بعض الفنانين إلى جانب محمد مندور ومحمد القصاص، وقد عقدت أولى جلسات القراءة في أول نوفمبر، وكان أحمد حمروش (مدير المسرح) يبتدع حيلا لتشتيت انتباه اللجنة أثناء القراءة؛ إذ كان الكاتب يعتبر ممثلا لليمين وجميع من عداه ممثلا لليسار، وكان بعض الأعضاء ينهضون للخروج ثم يعودون أثناء القراءة، مما أدى إلى فشل الجلسة واعتراض رشاد رشدي وانسحابه.
ولم يكن أمام رشاد رشدي سوى التظلم إلى الوزير الذي شكل لجنة أخرى تضم ممثلين لتيارات أخرى من بينها اليسار «المتعاطف» مع رشدي، فأجازت اللجنة النص، وكلف المسرح سعد أردش بإخراجها. ولا أدري مدى تواطؤ إدارة المسرح مع القيادة اليسارية لإفشال العرض، ولكن البروفات كانت كثيرا ما تتوقف، أو كان الممثلون ينسحبون دون إنذار، ولكن البروفات اكتملت على أي حال وعرضت المسرحية في إبريل 1964م، في الوقت الذي عرضت فيه «البر الغربي» في مسرح الحكيم. وكانت التعليمات لدى كتاب صحيفة «الجمهورية» - وهي صحيفة الثورة الرسمية - تقضي بمهاجمة رشاد رشدي، وفعلا بدأت المقالات تنشر لمهاجمة العرض، رغم روحه «التقدمية» المتفائلة، بسبب التقعر في فن الكتابة المسرحية، ولكن الهجوم الأكبر كان على مسرحية «البر الغربي» التي شاع في الوسط الفني أنها ضد الحكومة، بل ضد رأس النظام؛ فهي متشائمة، وهي تصور الناس تصويرا أبعد ما يكون عن الواقع لأن الشعب في عرف الاشتراكية لا بد أن يكون عبقريا متفتح الذهن؛ ومن ثم فإن الزعيم الذي يختاره الشعب لا بد أن يكون كذلك! وتزعم حملة الهجوم على محمد عناني (وقيل لي إن الهجوم كان موجها في الواقع ضد رشاد رشدي) كاتب صغير اسمه جلال السيد (رحمه الله) ورهط من زملائه، وكان أهم ما يقال هو كيف نصور الشعب الذي يضحي بأرواحه في حرب اليمن في هذه الصورة المؤسفة؛ صورة الغارق في الأوهام والخرافات، صورة من يخلق البطل الضد حتى يجني على نفسه؟
وكتب محمود أمين العالم مقالا طويلا استغرق صفحة كاملة في الجمهورية يقارن بين المسرحية ذات الرؤية المشرقة والبناء المتقعر «رحلة خارج السور» والمسرحية ذات الرؤية القاتمة والبناء المحكم «البر الغربي». ولكن ذلك كله لم يمنع الجمهور من التدفق لمشاهدة العرضين، وكان المعجبون بالبر الغربي ينتحون بي جانبا ليهمسوا لي: كيف نفذت من الرقابة! وهمس لي جلال العشري (رحمه الله): لقد دخلت التاريخ من باب المسرح! وقابلني جلال كشك عند سلم دار روز اليوسف وقال لي: لقد أحسنت اختيار الأسمار المستعارة، فجمعة هو جمال عبد الناصر، وقورة هو عبد الحكيم عامر، وعبيط القرية هو من سيخلف عبد الناصر في رئاسة الجمهورية! وأصابني الرعب والهلع، خصوصا عندما كتب يوسف الحطاب، المخرج الإذاعي تقريرا (أو بلاغا) إلى مدير الإذاعة، وبلاغا إلى رئاسة الجمهورية، يتهم المؤلف فيه بمعارضة النظام. ولم يكن عقاب معارضة النظام إلا العزل السياسي والاضطهاد؛ أي «خراب البيت»، وكان لي فيما حدث للويس عوض، وللدكتور عبد العزيز كامل (الذي كان وزيرا للأوقاف ذات يوم - رحمه الله) وللطفي الخولي؛ خير درس وعبرة! كان جهاز المخابرات - كلما حدث شيء في البلد - يستدعي عبد العزيز كامل (اليمين) ولطفي الخولي (اليسار) ويودعان في الحجز التحفظي فترة حتى تهدأ الأمور! كانت هناك قوائم بمن يعارضون النظام ولو في تفاصيل صغيرة، وكانت القوائم جاهزة، وويل لمن يوضع اسمه في القائمة! ولا أتحدث فقط عن منع المعارضين من السفر، أو عن منعهم من شغل مناصب في الدولة، وبدأ جو «الخوف» الذي صوره نجيب محفوظ يسيطر على الجميع.
وأمر مدير الإذاعة بتشكيل لجنة من الرقيب الأعلى مصطفى درويش ومن زوجته سنية ماهر وبعض أعوانهما لمشاهدة المسرحية، كما طلب النص ليقرأه بنفسه، وسهرنا ذات ليلة في منزل رشاد رشدي - سمير سرحان وأنا فقط - نبحث أسلوب الرد على تهمة المعارضة، ومن ثم كتبت مقالا طويلا ذهبت به إلى «الجمهورية» حيث وجدت رجاء النقاش (صديقي القديم) في انتظاري، فاصطحبني إلى مكتب سعد الدين وهبة، حيث جلست فقال لي سعد مباشرة: «إيه يا عناني؟ انت موش حاسس بالجو؟ المسرحية «ممتازة جدا» (وهذا ما قاله بالحرف الواحد - لأنني عجبت كيف يترجم التعبير إلى الإنجليزية) لكن ماحدش يعمل كده في الجو ده!» وقرأ رجاء النقاش الرد، ودفع به إلى المطبعة ، وفي المساء علمنا أن أمين حماد مدير الإذاعة «أفرج» عن النص، ولكن لجنة الرقابة كانت في انتظاري عند بداية العرض.
كانت سنية ماهر هي صديقتي القديمة في قسم الأخبار بالإذاعة، ومن ثم رحبت بها باعتبارها «معرفة» قديمة، وطلبت المرطبات، وكانت هي وزوجها مشغولين بمناقشة المستقبل الفني لأحد الطلبة (ابنها أو ابن أختها) فتعمدت إثارة موضوع «المستقبل الفني» أثناء العرض بحيث كان انتباه الرقابة غير مركز، أو بحيث يتشتت كلما تركز، وكان الرقباء الصغار يسجلون أي كلمة تقول «البلد الزفت دي» أو توحي بالغضب من أحوال «البلد»! وفي النهاية قالت سنية: هذه مسرحية عن الخط! وقال مصطفى درويش، تأييدا لها: إنها تدعو لمحاربة الجريمة في الريف! وقال الرقيب الصغير: إنها مليئة بكلمات لا بد من شطبها! فقلت للجميع: لقد وافق مدير الإذاعة على النص، بشرط شطب هذه الكلمات. وكانت النتيجة هي البراءة! وودعت اللجنة وداعا حارا، وقالت لي سنية: لا بد أن يصورها التلفزيون ويذيعها حتى يشجع أهل الريف على محاربة البلطجية!
ورأى رشاد رشدي أن الندوات التي كانت تعقد في مسرح الحكيم لمناقشة المسرحيات، وكانت المجلة (المسرح) تنشر ملخصات لها، لا بد أن تناقش هذه المسرحية تأكيدا لحكم البراءة، وفعلا، أتى النقاد وناقشوها، فسمعت عجبا! لقد فسر البعض كلمة البر الغربي بأنه «الغرب» الرأسمالي؛ لأنني أقول على لسان أحد الشخصيات «البر الغربي فيه متعلمين»! ومن ثم انقض على المسرحية بسبب هجومها المزعوم على البر الشرقي باعتباره دولة الكتلة الشرقية! وسجلنا ما دار في الندوة ونشرناه حتى لا تتبقى في أذهان أحد أي شكوك، ولكن محمود جمعة، المدير الإداري للمسرح، ذكر لي بعد يومين، أنه استقبل زائرا من رئاسة الجمهورية يسأل عن مسرحية «البر الغربي» التي قيل إنها تعارض النظام! وقال لي جمعة إنه أنكر أي معارضة وشرح للزائر أنها تدور في الريف عن جرائم الخط، بل وأطلع الزائر على النص، فاقتنع وطلب نسخة، وانصرف، وأغلق ملف القضية.
كانت الندوات التي تعقد في المسرح تجري بانتظام في إطار نشاط ناد جديد أنشأه رشاد رشدي، وأسماه نادي المسرح، وكلف الدكتور لويس مرقص، رئيس قسم اللغة الإنجليزية بآداب عين شمس، بالإشراف عليه. وقرر الدكتور مرقص إعداد حفل مسرحي كبير يتضمن فقرات من مسرحيات شيكسبير بالإنجليزية، وفقرات منها بالعربية؛ ليعرض يوم 23 أبريل يوم ميلاد شيكسبير، بمناسبة مرور 400 سنة على مولده. وشارك في العرض طلبة قسم اللغة الإنجليزية في آداب القاهرة بصفة خاصة، وأصبحوا يترددون على المسرح بانتظام، وكانوا جميعا بطبيعة الحال، من الهواة، وإن كان بعضهم قد احترف التمثيل فيما بعد مثل نادية النقراشي وتهاني راشد. وتولى إعداد الحفل فنيا فنان تشكيلي موهوب هو الدكتور رمزي مصطفى، كان يقول إنه يدين لمسرحية «الفراشة» (رشاد رشدي) بإنقاذه من زيجة مدمرة؛ أي من قوة جمال المرأة التي تطفئ شعلة الفن في الفنان. وقد عرفت القصة الحقيقية فيما بعد، ولا شك أن رشاد رشدي كان يعرفها؛ لأنه سجلها في قصة قصيرة بعنوان «عذاب الجسم وعذاب الروح» (في مجموعة «عربة الحريم»). ولكنني لا أرى ما يدعو إلى سردها هنا.
أما المخرج الذي تولى إعداد المشاهد الشيكسبيرية التي قدمت بالإنجليزية فكان فنانا مسرحيا من طراز خاص هو الدكتور عزيز سليمان! كان رجلا فذا بمعنى الكلمة؛ فهو مؤمن بالمسرح إيمانا لا يتأتى إلا للذين ولدوا وترعرعوا في بلاد المسرح، في حين أن مصر لم تكن قد تنبهت إلى فن المسرح إلا بعد وقت طويل! وكان في الخمسينيات يقوم بتدريس اللغة الإنجليزية لطلبة كلية التجارة، فإذا به يلهب خيالهم بفن المسرح، ويشكل من بينهم فريقا للتمثيل «حصد» به جميع جوائز المسابقات المسرحية الجامعية، وأصبح رمزا للفن الخلاق الذي ارتبط وما يزال بقسم اللغة الإنجليزية. وكان أحد زملائي من مدرسة الأورمان، وهو نبيل مجدي الذي التحق بكلية التجارة وصار يقوم بأهم الأدوار في مسرحيات عزيز سليمان، يصفه بأنه عبقري مجنون! ومصدر التسمية هو شطحات الخيال التي لم يكن الطلبة اعتادوها في المسرحيات المدرسية المقررة (مثل مسرحية «كفاح الشعب» من تأليف أنور فتح الله)، وأي خروج عن المألوف في بلادنا جنون!
وقام الدكتور عزيز سليمان باختيار مشاهد عسيرة الأداء، وتولى إعدادها وإخراجها بنفسه، معتمدا على طلبة القسم، بينما استعان رمزي مصطفى ببعض طلبة وخريجي معهد الفنون المسرحية، ومن أهمهم هناء عبد الفتاح (الدكتور) وماجدة علي وسعيد طرابيك، وهكذا عمل الجميع في تناسق ما يزال قائما بين قسم اللغة الإنجليزية وأكاديمية الفنون حتى الآن.
استعان رمزي مصطفى في تقديم مقتطفاته بالعربية من «حلم ليلة صيف» بالترجمة التي نشرتها مجلة المسرح، وهي باكورة ترجماتي الشيكسبيرية وإزاء إعجاب الجميع بسلاسة الترجمة وسيولة النص، اقتنع رشاد رشدي بأن جزالة أسلوبي بالعربية لا تمثل عائقا، فسمح لي بترجمة «روميو وجوليت» حتى تنشر في العام التالي. كما شارك في التمثيل بعض الطلبة الذين أصبح لهم شأن مرموق في الحياة العامة فيما بعد؛ مثل محمد سلماوي في دور عطيل، ونهاد صليحة التي مثلت بالإنجليزية دور ديزديمونا في مسرحية «عطيل» وبالعربية دور هيرميا في مسرحية «حلم ليلة صيف».
وذات يوم وأنا أستعد لحضور عرض المسرحية وجدت سيارة الإذاعة تقف أمام المسرح ويخرج منها جمال السنهوري، ومعه بعض الأشخاص، وكان يتحدث في ميكروفون يمسكه في يده موصل بسلك طويل إلى السيارة، ثم توقف وأغلق الميكروفون، وحياني وقال لي: «عناني! مبروك! حنذيع البر الغربي في صوت العرب!» ولم أصدق. لقد نجت المسرحية بصعوبة من مقص الرقيب، فكيف يسمح أمين حماد بإذاعتها؟ وفهمت فيما بعد أنه كان يحمي نفسه في الواقع، فها هو يبلغ المسئولين ما تقوله المسرحية علنا، ولا يمكن لمن يسمع فصلا واحدا (وهو الذي يذيعه في برنامج تاكسي السهرة في صوت العرب) أن يتبين أي اتهام مما وجه إليها! وجلس جمال السنهوري إلى جواري في أحد الألواج الأمامية، وبدأ يذيع الوصف التفصيلي لما يحدث على المسرح حتى بدأ الحوار، ومن ثم ترك لي الميكروفون واختفى!
وبدأت أنا أذيع ما يحدث، منتقيا ألفاظي بعناية، حريصا على تأكيد ما انتهت إليه الرقابة، وبانتهاء الفصل الأول عاد جمال السنهوري وأخذ الميكروفون وخرج! وخرجت من العرض في شبه ذهول! كان يجب أن أسجل هذا الحديث حتى أضمن أنه يخلو من أي شيء يتضمن «المعارضة»، ولكنني لم أكن أذكر كلمة واحدة! وصعدت إلى الطابق الأول لمقابلة رشاد رشدي فقابلني ببشاشة وقال لي: «برافو!» وأفهمني أنهم سمعوا ما قلته في الراديو وأن المسرحية بهذا قد أجيزت بصفة نهائية، ومن ثم جاءت سيارة التلفزيون وصورتها في اليوم التالي.
وقابلني مجدي وهبة في الكلية وهنأني على نجاح «البر الغربي»، وعندما ذكرت له ما حدث من الرقابة ضحك وقال «قدر ولطف!» وفهمت ما يعنيه، وامتد بنا الحوار إلى الماجستير واحتمالات السفر، ولكنه كان متشائما وقال لي: «الواحد موش عارف هم عايزين إيه؟» كان مايو 1964م شهر المسرح، ولم يكن شهر التفكير في الرسالة ولا في السفر، فكنت أستغرق تماما في قراءة النصوص المسرحية، وأختلي بنفسي ليلا في شقة الروضة لترجمة «روميو وجوليت»، وكانت لدي ست طبعات تتضمن شروحا وتعليقات مختلفة، أضعها متجاورة على المنضدة، وكنت أحيانا أقضي الليل كله في قراءة شروح صفحة واحدة وترجمتها، وكعادتي أعود إلى المنزل في الفجر لأنام حتى الحادية عشرة مثلا، ثم أستأنف عملي في الجامعة والمجلة طول النهار. وذات يوم تلقينا أنا وسمير موافقة الجامعات الأجنبية على تسجيل رسائلنا، وموافقة جامعة القاهرة على سفرنا في إجازة دراسية. لم يكن أمامنا سوى موافقة رئيس الوزراء، وكان دون ذلك خرط القتاد ؛ لأن الخروج من مصر مطلب عسير، وقال لي سمير سرحان ذات يوم، وكنا قد انتهينا تقريبا من امتحانات يونيو، إنه مصر على السفر والعودة وتحقيق أحلامه، وإنه لا يوافقني أبدا على فكرة الركون إلى الدعة والحصول على الشهادة من مصر والكتابة المسرحية! وفهمت ما يرمي إليه إذ كنت قد هيأت لنفسي نمط حياة شبه مستقر، وعملا بمبدأ الدكتور سويف وهو «تغيير الخطة» حين تتغير الظروف، غيرت خطتي فقررت احتراف الكتابة والاستقرار! وكان سمير مقنعا: لا بد لمن يريد التبحر في الأدب الإنجليزي واللغة الإنجليزية من الحياة مع الإنجليز ومعايشتهم وعدم الاكتفاء بقراءة ما يكتبون، وإذا كنا نريد أن نكون حقا أساتذة فلا مناص من السفر!
وأثناء عملنا في كونترول الامتحانات قال لي الدكتور صفي الدين أبو العز، الأستاذ في قسم الجغرافيا: إنه معجب بطموحي أنا وسمير، وهو يرجو لنا أن نشق طريقنا خارج الجامعة في الحياة العامة، وأنه من غير المعقول أن يحبس الإنسان نفسه طول العمر بين الكتاب والطالب إذا كان لديه القدرة، ولاحت له الفرصة، لكسر ذلك الحاجز والانطلاق! ولم أكن أعرف تماما ما يعنيه بالانطلاق، إذ كنا قد بدأنا الانطلاق إلى حد ما، ولكن الدكتور صفي الدين كان أبعد نظرا من ذلك - إذ همس لي، ونحن نعود من شرفة غرفة العميد إلى منضدة الرصد «إحنا قادة الفكر .. ولازم نكون قادة المجتمع.» ولم أنس ما قاله أبدا.
8
كان العمل في الحياة العامة هو السبيل الأوحد لتحقيق الهدف الذي ألمح إليه الدكتور صفي الدين أبو العز، وكان اتجاه رجال الثورة بصفة عامة، مهما قيل عن «اغتراب المثقفين» وعزلتهم أو عزلهم، هو التوسع في التعليم والاستعانة بالمتعلمين في إدارة الحكومة، وكانت الاتجاهات الاشتراكية التي لم تتبلور بعد تماما تتطلب الاستعانة بالفنيين، ربما إلى درجة الاعتماد عليهم في الإدارة، مع أن الإدارة منهج علمي لا علاقة له بالتخصصات الدقيقة في الجامعة، فالباحث في الكيمياء قد لا يكون مديرا ناجحا، وكانت الثورة تستعين ببعض المتقاعدين من الضباط في إدارة شركات «القطاع العام » وهي الأصول الاقتصادية التي أصبحت الدولة تمتلكها، وكان مبدأ التأميم قد اتخذ صورة جديدة هي تحويل ملكية المنشآت الخاصة إلى الدولة، وتعيين ضابط عظيم (أي من الرتب القيادية ابتداء من عميد) على رأسها. وكان أخي الصغير حسن قد تخرج في كلية العلوم وحصل على وظيفة كيميائي في مصنع أسمنت بورتلاند في حلوان، وبدأ يعرف دقائق العمل في الشركة، مثلما فعل محمد (ابن عمي) في شركة الحرير الصناعي بكفر الدوار. وكانت شركة الأجهزة العلمية وأدوات المعامل التي كان يملكها خالي عبد الحليم قد آلت ملكيتها إلى الدولة، وعين على رأسها ضابط عظيم، وعينت الحكومة فيها عددا من خريجي الجامعة ممن لا علاقة لهم بالعمل في هذا التخصص ، وتحول المكتب إلى ما يشبه المصلحة الحكومية بكل أنظمتها البيروقراطية، في حين أصبح خالي يتقاضى مرتبا شهريا باعتباره خبيرا. وتكرر نفس الشيء في مطحن الحبوب في رشيد الذي كان يملكه زوج عمتي، ومضرب الأرز الذي كان يملكه زوج خالتي الذي عينته الحكومة موظفا؛ باعتباره مستشارا أو «خبيرا» في شركة مضارب الزقازيق.
وكان ابنا خالتي (محمد الخطيب وصلاح الخطيب) يعملان مهندسين في الجيش، وكنت أناقش معهما الحكمة في تعيين الضباط على رأس الشركات الإنتاجية، دون أن تكون لهم خبرة بشئون الصناعة أو التجارة أو بفنون الإدارة (إدارة الأعمال). وكان الرد هو أن الضابط قائد والموهبة القيادية هي التي تساعد على إنجاز العمل، والحسم والحزم مطلوب في أمثال المرحلة الثورية التي تمر بها مصر.
وكان التزام الثورة بالتعليم وتعميم التعليم مجانا من الحسنات الكبرى التي تحمد للحكومة، ولكن ذلك ارتبط، للأسف، بالتزام آخر؛ هو تعيين جميع خريجي الجامعة في الحكومة، فالحكومة كانت بالتدريج قد أصبحت موازية للدولة وللقطاع العام (صاحب العمل الأول). ولا شك أن ذلك خلق روح اطمئنان كبير للمستقبل؛ فكل دارس أصبح «يضمن» وظيفة تدر عليه دخلا ثابتا، وتضمن له أن يتزوج دون مشقة وأن يجد مكان السكنى الملائم. وهكذا بدأ نمو جيش الموظفين الذين قد يعينون في أماكن تخصصهم أو في غيرها، إذ عين صلاح المعداوي (ابن خالة سمير سرحان) بعد تخرجه من قسم الصحافة في كلية الآداب مفتشا للتموين في قنا، وعين السيد بلال خريج الزراعة مدرسا للغة الإنجليزية (التي لا يعرفها تقريبا؛ لأنه درس مواده كلها بالعربية)، وعين علي أبو العيد (خريج الزراعة، قسم المحاصيل) مشرفا على مطعم المدينة الجامعية ... وهلم جرا.
كانت مكاسب التعليم هائلة، وروح إنصاف الفقراء والمعدمين تشيع في النفس الرضا والسعادة، ولكن عظمة الإنجازات كانت تخفي عيوبا لم يتح لها أن تظهر في الأجل القصير؛ فثروة البلاد قادرة على استيعاب الخريجين وترسيخ الإحساس بالاطمئنان، ولكن بوادر اهتزاز هذه الصورة بدأت تظهر بسبب حرب اليمن.
كان قد مضى على حرب اليمن عام ونصف فقط (إذ اندلعت في أواخر سبتمبر 1962م)، ولكن عملية تحويل اليمن من بلد يعيش في القرون الوسطى إلى بلد ينتمي حقا إلى القرن العشرين كانت شاقة، وكان أهم مجال تجلى فيه ذلك هو إصلاح الطرق! كان الجيش المصري يحتاج إلى طرق ممهدة في بلد تتميز أرضه بالتلال والهضاب والجبال، وكان لا بد من إرسال «وابورات الزلط» لإعداد الطرق هناك، وكانت تشحن بانتظام من مصر، وكان الضباط والجنود يتلقون مرتبات ومكافآت كبيرة، والحرب بعد هي الحرب، ولم تكن ميزانية البلد الذي يبني نفسه ويكافح لبناء السد العالي تسمح بالدخول في حرب لا عهد للجيش المصري بها على بعد مئات الأميال في الجزيرة العربية، وفقا لاعتراف الخبراء آنذاك وفيما بعد، وإن كنا جميعا نؤيد الدوافع النبيلة التي أدت إلى دخولها، كما أن أهل اليمن (والحق يقال) يقدرون لنا تضحياتنا كل التقدير حتى اليوم.
كانت المشكلة على المستوى الشخصي المحض تتمثل في الخروج من مصر، فلم يكن مسموحا لأحد كما ذكرت (باستثناء الضباط) بالسفر إلى الخارج، وكان استخراج جواز سفر حلما بعيد المنال، وأذكر أنني كنت عائدا ذات مرة من الإسكندرية بعد تجديد تأجيل التجنيد وظفري بشهادة التأجيل، حين التقيت بشاب عراقي كان قد تخرج في جامعة القاهرة وسافر وتنقل بعد ذلك في ربوع الدنيا، فجعل يحدثني عما رأى وسمع، وعندما علم بأن الخروج من مصر يتطلب موافقة شخصية من رئيس الوزراء قال لي إن ذلك لو حدث في العراق لأحدث ثورة، ولكنني تذرعت بالجبن (سيد الأخلاق في تلك الأيام) وقلت له إن الظروف التي نمر بها عسيرة، وتقتضي الحذر!
كان لي عدد من الأصدقاء في الجامعة الذين حصلوا على إجازة دراسية أو بعثات رسمية، وكانوا يحاولون محاولات مستميتة الحصول على توقيع علي صبري. وكانت الوساطات تتراوح بين «المعارف» وبين أصحاب النفوذ في الجيش، وذكر لنا أحدهم أن أنور السادات رئيس مجلس الأمة تربطه صلة صداقة عميقة بالأستاذ محمد عبد السلام الزيات، وهو الأخ الأكبر للدكتورة لطيفة الزيات زوجة الدكتور رشاد رشدي، وإذن فلا بأس من الوصول إليه عن هذا الطريق وإقناعه بمخاطبة علي صبري. وقرر سمير سرحان ألا يترك الفرصة السانحة، فذهبنا بخطاب توصية من الزيات إلى مجلس الأمة، حيث قابلني أحد خريجي قسم اللغة الإنجليزية وهو الأستاذ الشوربجي الذي كان يعمل سكرتيرا لأنور السادات، وفوجئنا بالترحيب الذي لقيناه! وبعد تبادل الأحاديث الطريفة عن دمياط (بلد الزيات) وعن رشيد (بلدي) وعن كفر كلا الباب (بلد سمير سرحان، بالقرب من طنطا)، سألنا أنور السادات عن غايتنا، فأوضحنا له أن وزير التعليم قد وافق على سفرنا إلى الخارج، وأننا في انتظار تأشيرة الخروج، وسأل باقتضاب: «ورقكم عند مين؟» ومرت ثوان شابها التوتر ثم قال سمير ببسمة رقيقة: «في مكتب رئيس الوزراء.» وفجأة اربد وجه السادات وقال أو أصدر صوتا غامضا هو: «آه». ومرت ثوان أخرى لم نتبادل فيها الحديث، ثم ابتسم السادات ثانيا وقال: «إن شاء الله خير .. يفعل الله ما يشاء .. مع السلامة.» ونهضنا.
وقال لي سمير ونحن ننحرف في شارع القصر العيني «الواسطة
failure !» وضحكت ضحكة مكتومة. لم أعرف تفسيرا للتغير الذي أصاب ملامح أنور السادات عندما سمع ذكر علي صبري. ولكنني سمعت فيما بعد أنهما لم يكونا على وفاق. وكان الحديث - مجرد الحديث - في هذه الأمور يعرض الإنسان للخطر، فكنا نتجنبه قدر الطاقة، وعلى أي حال، كانت هناك «واسطة» أخرى عن طريق لطفي الخولي هي كمال الدين رفعت، وكان يشاع عنه أنه «منظر» الثورة؛ أي صاحب «النظرية الاشتراكية المفقودة» والتي كان الوسط الأدبي يقول إن محمد عودة ما يزال يبحث عنها! وقررنا الذهاب إليه في مقر عمله بالوزارة المركزية، في مصر الجديدة بالقرب من جروبي روكسي. وفعلا حصلنا على موعد وذهبنا، وكان ذلك في مايو 1964م، ولم يكن الجو حارا لأنني ما زلت أذكر النسائم الباردة التي استمتعنا بها فيما بعد ونحن نحتسي الشاي في جروبي.
لم يتوقف كمال الدين رفعت عن الحديث ساعة أو بعض ساعة، وكان الواضح أنه يستعرض معلوماته أمامنا إما لإبهارنا، باعتبارنا في الجامعة، أو لتأكيد الصورة التي شاعت عنه وهو أنه قارئ ممتاز. والحق أنني شخصيا بهرت بسعة اطلاعه، وإحاطته بشتى نظريات الفكر السياسي المعاصر، أما سمير فكان يحاول أن يقرأ ما بين السطور، وكان من آن لآخر يبدي تعليقا مقتضبا يتضمن الرضا عما يقوله المتحدث، ثم ما لبث أن حول دفة الحوار بسلاسة إلى أهمية العلم، وقال كأنما يبدي ملاحظة عابرة - أو كأنما لم يكن يعرض صلب القضية التي جئنا من أجلها: «احنا عندنا بعثة ومنتظرين السفر للدكتوراه» وهلل كمال رفعت قائلا: «برافو! حتسافروا إمتى؟» وقال سمير: «لما الورق يتمضي» فقال كمال: «مضاه الوزير؟» وأومأنا. فعاد الصمت. ثم قال سمير في صوت حذر: «ناقص رئيس الوزراء». وتظاهر كمال رفعت بالبحث عن التليفون، وترتيب بعض الأوراق، ثم قال: «آه .. يعني على الإمضا؟ لا .. بسيطة .. بكرة يتمضي!» ثم نهض فنهضنا. وانتهت المقابلة.
وعندما دخلنا جروبي لم نتبادل أي حديث. جلسنا نشرب الشاي في صمت. وكان الجو جميلا والزهور رائعة الألوان، وشغلني منظر الطريق الذي تظلله الأشجار، وعربات المترو التي تقف أمام المقهى ثم تستأنف المسير، وجمال الفتيات اللائي يدخلن ويخرجن من جروبي محملات بالحلوى والفطائر، وعندما دفعنا الحساب (عشرة قروش) وخرجنا كانت الساعة قد قاربت الواحدة ظهرا. وقال لي سمير إنه لا بد أن يسجل حديثا في الإذاعة في ذلك اليوم عند عبد المنعم الحفني (في برنامج ركن السودان - ولم أكن قد سمعته في حياتي)، واقترح علي أن نذهب معا؛ فربما كان هناك مجال لتسجيل حديث لي أنا أيضا.
كان أسلوب سمير سرحان في التصدي للمشاكل يبهرني ويحيرني. كيف استطاع أن ينسى كل ما قاله كمال رفعت هكذا، وأن يلقي بالمشكلة خلف ظهره، وأن يفكر في الإذاعة وعبد المنعم الحفني؟ وكنت أجد في ذلك راحة كبرى، وأحاول أن أوطن النفس على تقبله؛ ولذلك ذهبت معه إلى عبد المنعم، وعرض عليه سمير فكرة تقديمي لحديث في نفس البرنامج، فوافق على الفور، ودخلنا الاستوديو، وقرأ سمير الحديث، ثم دخلت بعده وسجلت الحديث دون نص مكتوب، وهمس لي عبد المنعم أنني لا بد أن أقدم نصا في المرة القادمة؛ حتى لا يتعرض هو للمساءلة، واصطحبنا إلى الدور الأرضي حيث وقعنا العقود ومضينا إلى الخزينة وتقاضى كل منا خمسة جنيهات ونصفا، وخرجنا لنبحث عن أفخر مطاعم العاصمة لتناول الغداء!
وعندما التقينا ثانيا في المساء سألنا رشاد رشدي عن نتيجة مقابلة كمال الدين رفعت، وقال له سمير إنه وعدنا خيرا، فلم يعقب؛ فقد كان ما يزال مهموما بموضوع مسرحيته والهجوم عليها، ولكن فاروق عبد الوهاب قال له ملاحظة أبهجته، وهي أن مشهد «مجلس المهندسين» يمكن أن يتحول إلى مسرحية قصيرة من نوع مسرح العبث. وهنا قص علينا قصة هذا المشهد، وكيف أنه استقاه من جلسة حقيقية لمجلس كلية الآداب. ولذلك قصة.
كنت في عطلة الصيف عام 1958م أقرأ باستفاضة عن وليم بليك؛ لأن أحمد مختار الجمال كان مكلفا بكتابة برنامج إذاعي للبرنامج الثاني عن ذلك الشاعر، فأتى إلي ببعض المراجع وقال لي: «أنت طالب مجتهد ومترجم الشعر! حضر المادة العلمية وسوف أحولها أنا إلى برنامج إذاعي جذاب.» وعكفت على أهم مرجع في رأيي وهو كتاب جاكوب برونوفسكي عن بليك، فانتهيت منه وترجمت بعض قصائده نظما (ونشرت بعضها فيما بعد في كتاب فن الترجمة 1992م) ثم قرأت ما يقوله ف. ل. لوكاس عن «سقوط وانهيار المثل الأعلى الرومانسي»، وأعددت المادة اللازمة، ثم وجدت وسط «المراجع» كتيبا بالإنجليزية من تأليف الدكتور شوقي السكري بعنوان «وليم بليك»، فقلت فلأر ما يقوله مصري معاصر، من باب الفائدة.
وعندما فتحت الكتيب وجدت الفقرة الأولى منقولة بالكامل من الفصل الخامس من كتاب برونوفسكي، فاغتظت. وكلما مضيت في القراءة وجدت المزيد من الفقرات المنقولة، ولكنني قلت إنه كتيب لمساعدة الطلبة وليس بحثا علميا، ولكنني عندما قرأت الأبيات التي يستشهد بها وجدتها من تأليف وردزورث، وكنت أحفظها عن ظهر قلب، وسبق لي أن ترجمتها! وأصبت بخيبة أمل في هذا الأستاذ الذي كان ما فتئ يتفاخر بعلمه ويشكو من ظلمه في القسم!
وعندما ترجمت «حلم ليلة صيف» بعد التخرج، استعنت ببعض المراجع عن التقاليد الشعبية الخاصة بالجن والعفاريت في إنجلترا أيام شيكسبير، وكان من ضمنها كتيب كتبه شوقي السكري بالإنجليزية عن هذا الموضوع، أو هكذا كان يقول العنوان، ولكنه كان منقولا بالحرف من كتاب يوجد في مكتبتنا هو «شيكسبير والتقاليد الشعبية» من تأليف أستاذ اسمه بيثيل، وكان حافلا بالأمثلة والحكايات، وكان حقا ممتعا. وكان منهج شوقي في النقل هو أن يبدأ بفقرة من فصل متأخر، ثم يردفها بفقرات من فصول أخرى سابقة، وينهي الكتاب بخلاصة الموضوع التي عادة ما يضعها المؤلف في المقدمة، مما يجعل من الصعب على القارئ متابعة الأفكار. وكان الكتيبان من مطبوعات مكتبة الأنجلو المصرية (عند عم صبحي جريس متعه الله بالصحة ومد في عمره).
وكنت قد ذكرت ذلك عرضا لسمير سرحان، فذكره عرضا لرشاد رشدي، وعندما حان موعد ترقية شوقي السكري إلى أستاذ مساعد، طلبني رشدي (عام 1962م) وطلب مني نسخا من هذا الكتيب، فقلت له إنها موجودة في المكتبة وعند صبحي جريس، فطلبها، ومن ثم كتب تقريرا يقول فيه إن «الباحث» لا يستحق الترقية بسبب عدم الأمانة (وأنا أعرف أن الكلمة الإنجليزية التي أوحت له بهذا التعبير وهي
dishonesty
تعني السرقة في الواقع). وأرفق بتقريره صورا من «أبحاث» شوقي والأصول المستمدة منها. وكان رشاد رشدي بطبيعة الحال لا يحب شوقي السكري، وقد استغل شوقي هذا «النفور» في تأليب أعضاء مجلس الكلية عليه، بحيث أظهر القضية في صورة المسألة الشخصية. ولذلك كان أعضاء المجلس منحازين إلى شوقي، ولا يبدون أي تعاطف مع ما ورد في التقرير، وكان أعضاء اللجنة العلمية وعلى رأسهم لويس مرقص، ومهدي علام، وهما من كبار أساتذة عين شمس، يريدون ألا يقتصر الأمر على عدم الترقية، بل أن يصدر مجلس الكلية قرارا بمعاقبة الأستاذ «غير الأمين» حتى يرتدع من تسول له نفسه سرقة كتب الغير، ولكن رشاد رشدي أقنع أعضاء اللجنة بأن يقتصر التقرير على «الحقائق»، وأن يترك للمجلس اتخاذ ما يراه من إجراءات.
كان أعضاء اللجنة الموقعون على التقرير من كبار أساتذة الإنجليزية في مصر، بل كتب لبعضهم فيما بعد أن يحتل مناصب مرموقة خارج مصر، مثل محمود المنزلاوي ومحمد مصطفى بدوي (من جامعة الإسكندرية)، ولكن مجلس الكلية لم ينظر في التقرير إلا لكي يتساءل عن سر الخصومة بين رشدي وشوقي! وكانت الجلسة مؤلمة لرشدي ومضحكة إلى حد العبث أو اللامعقول - إذ تساءل أحد أعضاء المجلس: ألست ترى أن الدكتور شوقي قد بذل مجهودا؟ وتساءل آخر: لماذا لا تفتح الباب أمامه بدلا من إغلاق الدنيا في وجهه؟ وهكذا. وكان القرار هو ترقية شوقي السكري إلى درجة أستاذ مساعد رغم أنف الجميع. وكان أن كتب رشدي مشهد مجلس المهندسين ليحاكي ما حدث في مجلس الكلية، وكان بكل المقاييس مشهدا رائعا - حتى حين قدم على المسرح دون تدخل كبير من سعد أردش!
وكان رد الفعل لدى شوقي السكري هو إثبات نشاطه الأدبي عن طريق الندوات العامة، فابتدع «ندوة ناجي» التي برزت فكرتها باعتبارها احتفالا بمكانة الشاعر إبراهيم ناجي، ثم أصبحت ندوة أسبوعية ناجحة، ولا شك أن الجو الأدبي حينذاك كان يقبل بل يطلب مثل هذه الندوات، وكنت أواظب على حضورها، وفيها ومنها تعلمت الكثير، بل شاركت في بعضها، وكان سمير سرحان دائما معي، وكان العمل والتفكير والإنتاج يلهينا عن خيبة الأمل في السفر!
وذات يوم في يونيو جاءتني طالبة تنجح بتفوق (جيد جدا) في القسم، وانتهت من السنة الثانية، وشاركت في مهرجان شيكسبير الذي قدمه نادي المسرح، وسألتني عن بعض معاني آية أو آيتين في القرآن. كان اسمها نهاد صليحة، وكانت من طالباتي المجتهدات، لماحة، ذات اهتمامات متعددة، خضراء العينين، فجلست أشرح لها في غرفة معاون الكلية حتى تأخر الوقت، فوعدتها باستكمال الشرح في اليوم التالي. وفي اليوم التالي طال بنا الحديث فخرجنا إلى كوبري الجامعة ثم أوصلتها إلى ميدان التحرير حيث عادت إلى منزلها، وبعد ذلك قابلتها في المسرح وقد اشترت تذكرة من مصروفها ودخلت تشاهد العرض، فقلت لها إن هذا مسرحنا، ولدينا دعوات لأبناء قسم اللغة الإنجليزية والموهوبين من عشاق المسرح، ولكنها قالت إنها تفضل دفع الثمن مقدما حتى لا تؤثر الدعوة في انطباعها عن المسرحية!
وطلبت منها الحضور إلى المجلة فجاءت، وأصبحت آنس إليها وأسعد بها، ووجدتني أطلبها وأبحث عنها، وصرت أعرض عليها كل ما أكتب، ومن ثم اقترحت عليها أن تنضم إلى الشلة؛ لأنني بصراحة لا أستطيع الاستغناء عن سمير سرحان، حتى ولو استطعت الاستغناء عن فاروق عبد الوهاب! ولم تمانع؛ فهم جميعا مدرسون في القسم، ورئيس المجلة هو رئيس القسم، والمسرح هو عشقها الجديد! وكنا نلتقي بعد الظهر في مقهى لاباس، فهو مكيف الهواء، وكثيرا ما نذهب إلى السينما هربا من الحر، وأطلعتني ذات يوم على قصة قصيرة كتبتها فأعجبني تمكنها من الأسلوب العربي الذي كان كثيرا ما يعصيني، وكان الصيف ذلك العام أرق نسيما وأجمل شذى بفضل هذه الفتاة الرائعة (زوجتي الحالية).
كانت مشكلة الأسلوب السردي مشكلة حقيقية. الشعر تحكمه أصول النظم وتحده القافية فتيسر على الكاتب بعض الصعاب. أما النثر فهو منطلق دون ضابط ولا رابط. وذات يوم كنت مع صلاح عبد الصبور في مقهى سميراميس، حيث سألني عن رأيي في قصيدة «الخروج»، وكان آنذاك في الثالثة والثلاثين ولكنه كان يتمتع بقلب طفل كبير، ومشاعر فياضة لم أشهد مثلها في حياتي عند أحد، وعندما قمت بتحليل قصيدة «الخروج»، ملقيا الضوء على براعة استخدام الأسطورة الدينية ، و«المفاتيح» التي وضعها للربط بين الرحلة في المكان والرحلة في الزمان، وإذابة قصة الخروج من مصر في قصة الهجرة من مكة إلى المدينة، وجدت الدموع تترقرق في عينيه، وأحسست بكيانه يهتز، وقال لي بصوت متهدج: «هذا هو نجاحي الحقيقي في الشعر!» وأحسست ساعتها أنني نجحت أنا أيضا في النقد والشعر جميعا!
وسرعان ما توثقت صداقتي مع صلاح فقص علي في المساء التالي قصة أبو التسهيل الدلبشاني التي حاولت كتابتها ففشلت مرة بعد مرة، مما أكد لي أن موهبتي لا علاقة لها بالقصة القصيرة! كان أبو التسهيل يعمل مدرسا للغة العربية في المدرسة التي عمل بها صلاح فور تخرجه. وكان في التاسعة والخمسين أو على مشارفها حين جاء إلى المدرسة من أبلغها بأن كبير مفتشي اللغة العربية سوف يصل في غضون أيام، وكان رجلا ذاع عنه حب العدل والإنصاف، والالتزام التام بالموضوعية؛ فهو لا يجامل أحدا ولا يحابي أحدا، كان يقال إن هذه الصفات هي التي أوصلته إلى هذا المنصب وقربته إلى قلوب كبار رجال الوزارة. وقال لي صلاح إنه لم يكن يرى أنه سيقضي حياته كلها مدرسا وكان قد بدأ ينشر الشعر والمقالات، آملا أن يحصل على عمل في الصحافة؛ ولذلك فقد كان ينظر إلى الزيارة نظرة متفرج إلى مسرحية من مسرحيات الحياة، مثلما كنت أنظر أنا وسمير إلى بعض الأحداث من حولنا.
وأثناء مناقشة الزيارة في غرفة الأساتذة اتضح أن المفتش كان يوما ما زميلا لأبو التسهيل في مراحل الدراسة الابتدائية والثانوية، وأن الأمل معقود عليه هذه المرة في أن يمنح أبو التسهيل تقدير أداء جيدا حتى يمكن ترشيحه لوظيفة مدرس أول للغة العربية، وهو على مشارف «التقاعد»، مما ييسر له أن يكتب على شقته «مدرس أول اللغة العربية سابقا»، وعندما دخل أبو التسهيل غرفة الأساتذة بشره الزملاء، وبثوا الطمأنينة في قلبه، ولكنه كان ساهما واجما، فسألوه عن السبب فقال: «كان قاعد جنبي في الفصل .. كنا بنقسم السندويتش ونقسم البرتقالة .. وكنا بنمشي للبيت كل يوم.» وهلل الحاضرون قائلين : «يبقى فرجت يا عم! لازم بقى يعرف قدرتك في النحو!» ورد أبو التسهيل: «كنا بنقرا ابن عقيل (شرح ألفية مالك في النحو) مرة كل سنة في الصيف، وكانت مشكلته الشواهد!» وقال الأساتذة «إنت ملك الشواهد!»: «دانت لو استعصى الشاهد تؤلف شاهد!» وكان يرمي من ذلك إلى أن أبو التسهيل كان شاعرا، وكان يمكنه تأليف بيت أو بيتين من الشعر ارتجالا ونسبتهما إلى أحد القدماء تأكيدا لوجهة نظره في أي مسألة من مسائل النحو، خصوصا أنه كان يحب الفراء والكسائي والمدرسة الكوفية التي تجيز ما لا يجيزه البصريون بصفة عامة!
وقال صلاح إن أبو التسهيل كان «راجل بتاع ربنا»، فكان يحب الناس ويقبل عليهم، وكان يولم لهم الولائم في منزله بالمعادي، وكانت تنتابه نوبات استغراق في «الملكوت» فيغيب عن الدنيا؛ شأن المتصوفة القدامى، وقد تكون النوبة نوبة «إشراق» روحاني (
epiphany ) يخرج منها مرهقا يتصبب جبينه عرقا، وقد تكون لحظة شفافية يبدو فيها كأنما يرى كائنات علوية تملؤه بالسعادة والهناء! ولما كان يعتبر بحق مرجع الأساتذة في النحو اقترح بعضهم عليه أن يجعل درس «التفتيش» في النحو لا في النصوص أو في أي موضوع آخر قد لا يكون متمكنا منه. وقبل الانصراف ذلك اليوم همس أبو التسهيل لصلاح عبد الصبور «مراتي بتسألني اشمعنى إنت اللي اتأخرت عن زملائك؟ وموش عارف أقول لها إيه» وأكد له صلاح أن النتيجة سوف تكون إيجابية هذه المرة.
وحالما وصل المفتش، اجتمع به الناظر (الذي كان يتعاطف مع أبو التسهيل) ثم اجتمع به كبار الأساتذة، فوعدهم خيرا، واتجه إلى قاعة الدرس حيث كان أبو التسهيل قد اختار موضوعا خلافيا هو الاستثناء، والمستثنى قد يكون بحرف «إلا» أو بعدا أو خلا أو حاشا، وبعضها، وفقا لابن عقيل، من حروف الجر، ولكنه كان واثقا من علمه وإحكامه للمادة. وابتدأ الدرس بداية طيبة، وبدا أن الطلبة متجاوبون، ثم سأله أحد الخبثاء: ماذا تقول في أغنية نجاة الصغيرة «إلا إنت»؟ ولم يكن أبو التسهيل قد سمعها، ولو كان سمعها لاستطاع «التقدير»، وعندما ضحك الطلبة، رد أحدهم: بس ده بالعامي! ثم ساد الصمت، إذ اعترت أبو التسهيل نوبة إشراق، وبدأ العرق يتصبب من جبينه، وسرح بصره من النافذة في السحب التي كانت تتجمع في السماء، وانقضت فترة لا يعرف أحد كم طالت، وعندما أفاق سمع جرس الحصة، ولم يجد المفتش.
وعندما هبط إلى غرفة الأساتذة كان الصمت سائدا، وأقبل عليه الجميع يطلبون له الشاي والليمون، واصطحبه صلاح إلى مقعد بجوار النافذة، وطفق يحادثه في كل شيء وهو شبه غائب عن الوعي، ولا شك أنه شعر بما حدث لأنه - على الأقل - لم يسمع كلمة «مبروك» - وعندما جاء الشاي ولحظ بداية انصراف الأساتذة إلى «حصصهم» نظر في عيني صلاح ثم انخرط في بكاء صامت.
هذه هي القصة التي وقعت أحداثها فعلا كما رواها لي صلاح. لم يكن المفتش قادرا على المجاملة، ولم يستطع أن يخالف ضميره فيقول إن المدرس جدير بتقدير جيد، وخرج أبو التسهيل إلى التقاعد مدرسا عاديا، وكان عليه أن يواجه تساؤلات زوجته، وأن يلغي فكرة كتابة اللافتة التي كان يحلم بها، وقد رأيت في مأساته مادة لقصة قصيرة وفقا لمعايير القصة الأوروبية والعربية الحديثة، ولكنني وقفت حائرا عند ما نسميه اليوم «بالنغمة». هل يكون موقفي هو التعاطف مع أبو التسهيل وإدانة المفتش الذي رفض الاستجابة للحالة الإنسانية، بحجة الموضوعية، أم تأييد المفتش ومن ثم السخرية من أبو التسهيل؟ كنت أحس أنني باعتباري مصريا وعربيا أضع الاعتبارات الإنسانية قبل الاعتبارات الموضوعية، أتعاطف مع المدرس الذي وصل إلى خط النهاية دون أن يفوز في أي سباق، وأن القراء سوف يشاركونني هذا التعاطف. فإذا كان هذا هو الحال، فلا بد أن أكتب القصة من وجهة نظر أبو التسهيل، وإن لم أستعمل ضمير المتكلم، ويجب أن أتصور كل شيء من وجهة نظره؛ وفقا للقواعد الفنية الحديثة، ولكنني لم أعرف آنذاك كيف أصور كبير المفتشين، وكيف أرسم صورته للقراء.
وحاولت الدخول من هذا المدخل فاستعصى علي؛ فقد وجدت أن الواجب أن أرسم مكان الحدث وزمانه بلغة فصحى راقية، تنم على جو اللغة العربية الذي يسود القصة، وكان أسلوبي يرتفع وينخفض ثم يسقط! وحاولت أن أقصها على الأصدقاء بالعامية المصرية، ونجحت إذ استجابوا لأبو التسهيل ولاموا المفتش على تزمته. لم يكن حديث يتضمن وصفا ولا تحليلا، بل لم يكن يتضمن من الحوار إلا ما اعتدناه في كتب التراث من «أقوال مباشرة»، وتأملت «المطلوب»: هل من اللازم وصف أبو التسهيل حتى يتصوره القارئ؟ الواقع أن صلاح لم يصفه لي، وما دمت لن أمنحه اسمه الحقيقي في القصة فربما يكون من المستحسن أن أصفه وصفا يلائم «المستثنى»، كأن أجعله نحيفا هزيلا غائر العينين، لا شارب له ولا لحية، وربما يكون من المستحسن أن يكون قصيرا، يرتدي حللا واسعة، قد تكون قديمة أو ذات «موضة» عفا عليها الزمن، أما إذا جعلته يضع في صديريته ساعة جيب بسلسلة (كاتينة) أو يمسك منشة، فقد يكون ذلك مدعاة للسخرية.
ووجدت أن الصعاب تتزايد حين شرعت في وصف المدرس ووصف المدرسين ووصف المفتش. وهمس لي الصوت الداخلي: ألا تنبع هذه الصعاب من استمساكك بالقصة الحقيقية التي رواها لك صلاح عبد الصبور؟ لماذا لا تتحرر منها وتكتب ما تشاء! أنت كاتب خيالي ولك مطلق الحرية في أن تسمي البطل أي اسم تراه ثم تصفه أي وصف تراه! ولكنني كنت مأخوذا بالقصة الحقيقية لا أستطيع منها فكاكا، تماما مثلما حدث لي قبل عامين وأنا أنتظر سميراميس (الحبشية) عند أول كوبري أبو العلا من ناحية الزمالك.
كان موعدي في الثالثة ظهرا، وكان المفروض أن أقابلها هناك عند انتهائها من العمل، ثم أصطحبها إلى مقهى حتى يحين موعد العمل في وزارة الثقافة في الرابعة، وكنت قد سهرت الليلة السابقة حتى الصباح أقرأ كتاب محمد مندور «النقد المنهجي عند العرب»، وأستقي منه المعلومات اللازمة لاقتباس ما يلزمني من كتب التراث، وكان أمامي كتابان هما المختار من «الصناعتين» لأبي هلال العسكري، و«العمدة» لابن رشيق (الذي حببه إلي عبد الرءوف مخلوف)، ونمت من الفجر حتى الظهيرة ثم ذهبت إلى الجامعة، ومنها إلى موعد اللقاء. وكنت تعلمت من التجربة أنني إذا وصلت فلم أجد الفتاة في انتظاري فالأرجح ألا تأتي مطلقا، والأفضل أن أنصرف. ولذلك عندما وصلت ولم أجدها، تجولت في المكان نحو دقيقتين، وكنت على وشك عبور الطريق لركوب الأتوبيس العائد إلى العجوزة، ولكن بصري وقع على رجل هرم لا بد أنه تخطى السبعين، ومعه طفل لم يتجاوز عامين أو ثلاثة على الأكثر، يحاول ركوب أتوبيس رقم 13 التابع لشركة مقار. كنت أعرف مسارات معظم خطوط النقل، وكنت أعرف أن هذا الخط ينتهي في روض الفرج، في منتصف شبرا. وكان الأتوبيس مزدحما فركب الرجل ولكنه فشل في حمل «حفيده؟» معه فنزل، وسرعان ما أتى أتوبيس آخر، وكان الرجل هذه المرة يحمل الصغير في يديه فأعطاه لأحد الركاب وقبل أن يتمكن من الركوب تحرك الأتوبيس فجرى خلفه حتى استعاد الطفل، وشغلت بموضوع الرجل والطفل بعض الوقت وهو يحاول الركوب عبثا، ثم قررت مساعدته فحملت له الطفل، وصرخت في الركاب، ولكن المحاولات لم تنجح، فوضعت الطفل على الأرض، وإذ بيد تمسني برفق ووجه سميراميس يطالعني ضاحكا فدهشت إذ كنت نسيت الموعد تقريبا! واصطحبتها ومضينا سيرا على الأقدام، وبدلا من التوجه إلى وسط البلد سرنا على الكورنيش في اتجاه روض الفرج، ورغم جمال جو الشتاء، ودفء الشمس، قررنا شراء بعض المرطبات بعد إلغاء فكرة المقهى، ووقفنا عند بائع المياه الغازية، وإذا بي ألمح العجوز وهو قادم نحونا يسير الهوينى على الكورنيش مع الصغير.
كان فشل العجوز في ركوب الأتوبيس أمرا عاديا في الواقع، ولكنني حملته بمعان رمزية ربما لم يكن يتضمنها، وكان التناقض بين حالي الذي كنت أعتبره حال خالي الذهن اللاهي، وحال ذلك الرجل الغامض الذي قرر المسير بعد أن أعيته محاولات الركوب، باعثا على تأملات ربما لا تكون لها علاقة مباشرة بالحدث نفسه، وقررت تصوير الموقف في قصة قصيرة من لون ما، ولكنني فشلت وكانت جميع الدلائل تشير إلى استحالة كتابة القصة.
وتذكرت تلك الحادثة بعد عامين وأنا أحاول تسجيل قصة أبو التسهيل ، وعزوت الفشل في الحالين إلى تصوري الخاطئ أن الفنان يستمد مادته من الحياة، أي إنه يستلهم الحياة بصورة مباشرة، وعندما درست المدارس النقدية الحديثة وتعمقت فيها إلى حد معقول، علمت أن الكاتب يكتب في إطار التقاليد الأدبية التي قد تقوم بدور أكبر من دور «المادة الخام» في تشكيل العمل الفني، وأن الخطأ الأساسي الذي وقعت فيه كان سماحي للصور البصرية أن تسيطر على ذهني بحيث تعرقل حريتي في الكتابة «في إطار تقاليد القصة القصيرة»! ولكنني كنت وما أزال أعزو عجزي إلى عدم طواعية الأسلوب النثري، وهو الذي لم يسلس قياده لي بالعربية حتى احترفت الترجمة، فالدرس الذي خرجت به من هذه الحرفة هو أن المترجم كاتب يرغم إرغاما على صياغة قول قاله غيره (وبلغة غير لغته) صياغة ناصعة واضحة! إنه مرغم على قول ما قد لا يقوله إلا مضطرا، وسوف أضرب مثلا لهذا الدرس الذي تعلمته وشقيت في تعلمه شقاء كبيرا!
كنا نجلس - سمير سرحان وأنا - ذات يوم في مقهى «صان صوصي» بالجيزة، وكان قد انتهى من المخطوط الأول للمسرحية الأولى التي يؤلفها منفردا، وكان يقرأ لي بعض التعديلات التي أدخلها بناء على اقتراحات رشاد رشدي، حين دخل فجأة شاب سوداني كان يدرس لدينا في قسم اللغة الإنجليزية، واسمه سيد أحمد الحردلو، وهو سمي شاعر سوداني شعبي كبير، وكان كغيره يعرف أننا كنا نختفي عن الأنظار في هذا المكان، فجلس وطلب الطعام ريثما ننتهي من القراءة، وبعد ذلك أتاني ليعاتبني، إذ كان قد بلغه أن هدى حبيشة (الدكتورة) كانت وصفت ديوانه الأول بأنه «لا يساوي تلاتة تعريفة»، وكان يتوقع من أعضاء القسم بعض التشجيع، وتولى سمير سرحان «تطييب» خاطره؛ فهو يتمتع بعبقرية خاصة في هذا الصدد، وقال له إنها كانت تقصد الطباعة ونوع التجليد، ولكن سيد أحمد كان مستاء فقال له سمير مداعبا: «إذا كنت شاعرا حقا فاكتب لنا قصيدة في مدح سجاير البلمونت التي أدخنها أنا وأنت، ولا تنس أن تهجو ما يدخنه محمد عناني.» وكنت أدخن نوعا اختفى الآن اسمه «معدن ممتاز» كانت تنتجه شركة كوتاريللي!
وفي لمح البرق بدأ سيد أحمد الحردلو يقول:
أحلى السجائر قاطبة
لما تجيء مرطبة
سيجارة البلمونت يا
ذات العطور الصاخبة
إن هاجت الأفكار في
رأسي وماجت غاضبة
فصاح سمير قائلا: «أو إن سمعت الرعد في ودانك!» وضحك سيد أحمد لأنه لم يكن يعرف دلالة المصطلح المصري، ولكنه أدرك أن سمير معترض على ما يقول، فسأله ما الخبر؟ وقال سمير: «إيه هو اللي لما تجيء مرطبة؟» فقال الشاعر: «يعني الدخان طري!» فقلت له إنها الضرورة الشعرية! فقال سمير: «ضرورة إيه؟ ده كلام عامي خالص!» ثم تحول إلي وقال لي: اكتب أنت! وعلى الفور كتبت:
همست فتاتي لي ولم تعبأ بشيء: «إني أريد سجارة!»
وأجبت ها هي في فمي،
ظمأى وتجرع من دمي،
هيا اقطفيها إنها حمراء يانعة السعير،
ودخانها المحموم يرقص حول رأسي كالسكير،
لا تحسبينها «بلمنا» ذاك الحقير!
لا يا فتاتي! «معدني الممتاز» أنساني حياتي!
وصاح الحردلو: «وهذا يثبت الضرورة الشعرية فكلمة بلمن هي بلمونت! ثم إن عناني عنده سبب زيادة في البيت الأخير!» وقلت له: أمال لو شفت العك اللي أنا عاملهولك في قصيدة ثانية وفتحت الحقيبة وأخرجت له قصيدة طويلة فقدت أصلها وأذكر منها المطلع وبعض الأبيات واسمها بنات القاهرة! وأذكر أن المطلع كان يمزج الرجز بالكامل مما كان يمثل قلقا دائما لي:
إذا أتيت يا صديقي واحتضنت القاهرة،
وتهت في شعابها تحدوك رؤيا عابرة،
ووقفت عند النيل ترنو للمياه الساحرة،
يحنو عليك الشط ترعاك النخيل الآسرة،
فامرح بأحياء السكارى والخبايا الكاسرة،
واجرع رحيق الفن في زق الرحيق الطاهرة!
عش يومها هونا وصاحب ليلها هونا ولكن،
يا صديقي إن حنا برد المساء احذر بنات القاهرة!
وضحكنا! كانت النغمة هازلة، ولكن التجربة التي أود تسجيلها هي أن المؤلف له أن يقول ما يشاء؛ إذ سرعان ما قال الحردلو: «أنا أستطيع تغيير الكثير في هذا الشعر حتى أرتفع بمستواه وأكسبه نغمة جادة!» وبدأ يعترض على كلمة «الكاسرة» وقال إنها أليق بزق الرحيق ، وعلى كلمة «الساحرة» لأنها «كليشيه» مؤكدا أن هذا هو ما علمته له أنا في دروس النقد التطبيقي، وعلى كلمة «الآسرة» ... فقلت له: «أنت تعترض على كلمات القافية كلها؟» فقال «وعلى البيتين الأخيرين اللذين لا أول لهما ولا آخر!» وضحك سمير سرحان جدا وقال: «مش كفاية على عناني مراجعة الترجمة؟ ناقص له كمان مراجع شعر؟» وفجأة أحسست بجدية الموضوع! إننا نكتب ما نريد ونغير ما نريد، ثم يأتي مترجم كتبت له الأقدار أن يترجم هذا إلى لغة أخرى فيتفانى في البحث عن المقابل الدقيق وإن لم يجده فالويل والثبور، وعظائم الأمور! وبدأت أتأمل معنى ما كتبت: ما معنى «يحنو» و«حنا»؟ وما معنى «هونا»؟ وسمعت الحردلو يقول (ويبدو أنه كان يتكلم دون أن أعي تماما ما يقول): إيه دي أحياء السكارى؟ فضحكت وقلت: أحياء الحيارى؟ فقال لا: أنت تقصد أهل الفن! فقال سمير: يقصد «أوكار السكارى!» وضحكنا! كان كل شيء قابلا للتغيير، والنص حتى لو نشر سيظل «مشروع نص» ولن يصبح مقدسا إلا عندما يكلف مترجم بترجمته!
وقال الحردلو: ولماذا أحذر بنات القاهرة؟ فقلت له: هذا ما يأتي في فقرات تالية؛ إذ أقول:
فالبنت في بولاق عند السوق عود من قصب،
سمراء فارعة تظللها نواص من ذهب،
تتناثر الألفاظ من فمها بأنغام عجب!
حينا تسب البائعين وتشتم الأتراب رائعة الصخب!
وضحكنا، وعاد الحردلو للنقد، ثم قال لي: أكمل، فقلت:
والبنت في حي الزمالك نزوة من الترف،
في كل ما تحيا به أصداء لمسة السرف،
فكأن فرعونا أصيلا بثها روح الصلف! ...
والبنت في حي الحسين زهرة ما أينعت،
هيفاء تحسدها الطبيعة أنكرت ما أبدعت،
ملفوفة الأعضاء ناعمة تكاد لو انثنت!
وعاد الحردلو يسأل: ولماذا الحذر؟ فقلت:
فبنات قاهرة المعز من الشمال إلى الجنوب إماء خصب وقرار،
الحب ليس له سوى عقد الزواج يصونه في عقر دار،
والقبلة البيضاء تنجب عقد أطفال صغار.
وأذكر أننا في هذا اليوم تواعدنا على اللقاء، وعندما طرأ طارئ أخل بموعدي وجدت أن الحردلو أرسل لي قصيدة هجاء مطلعها:
أتوعدني وتخلف يا عناني
وقبلك قط ما كانت غواني
وكان هذا البيت مصدر فرح وسرور لسمير؛ إذ لم يلتفت للخطأ في الكلمة الأولى (المفروض أنه يقصد «أتعدني»)، ولكنه عجب أن يكون عناني هو أول غانية في التاريخ!
وعلى الفور رددت عليه بقصيدة مطلعها:
تهجو الضياء وأنت للشعراء ظل!
وتسبني في موعد أخلفت يا حردلو؟!
ودارت الأيام، والتقيت عام 1969م بالشارع في لندن بعد أن أصبح دبلوماسيا يشار إليه بالبنان، فإذا به قد نسي الشعر وأيام القريض، وانطوت صفحة لم أكن أود أن تطوى؛ إذ كنت إذ ذاك طالبا أدرس للدكتوراه، وكان قد تخطى ذكرياتنا، ونسي أيامنا.
وكان سمير سرحان يجد في هذا الشعر الذي يطلق عليه البعض صفة «الحلمنتيشي»، ويضعه البعض الآخر في باب «الإخوانيات»، متعة كبيرة، وكان يضحك كثيرا من النظم التعليمي الذي كان والدي يساعدنا به في «الدراسة»، وقد أورثه ذلك - دون أن يدري - موقفا خاصا من الشعر التقليدي.
والواقع أن بعد الشقة بيننا وبين الشعر الكلاسيكي، وعدم اتساق لغته مع لغة الحياة المعاصرة، من العوامل التي جعلت جيلنا يفضل الشعر الجديد. وكان والدي قد كتب قصيدة طويلة أسماها «القصيدة الدرية» (نسبة إلى شارع الدري، وإلى الدر في الوقت نفسه طبعا) وضع فيها «خلاصة» تجاربه في الحياة، ويستهلها استهلالا تقليديا:
إلى الله أشكو ما ألم بساحتي
وخيبة آمال تقود لمحنتي
إلى الله أشكو وهو بالسر عالم
فليست إلى زيد وعمرو شكايتي!
ثم يتطرق فيها إلى خطأ «تجربة» الزواج، موجها إلى الشباب في آخر ذلك الجزء نصيحة غريبة:
فلا تقرب الدهر النساء فقد جنت
على آدم حواء من بدء خلقة
وينتقد الحياة في المدن، وينصح بسكنى الريف صراحة:
عليك بسكنى الريف إن كنت راغبا
صيانة مال بين كوخ ودوحة
ملمحا بذلك إلى أنه فقد ميراثه بسبب العيش في المدينة، وهو خطأ صريح، ولكن سمير كان يحب الشعر الفكاهي الذي كان ينظمه والدي عن ألوان الطعام أو الفيتامينات ويتندر بأبيات مثل:
ألف الفتامين الملوخ وزبدة
بقدونس لفت صفار سبانخ
فالمقصود بالصفار هنا هو صفار البيض، ولكن إضافة الكلمة إلى السبانخ تخرج تأثيرا فكاهيا، وكذلك الملوخ (أي الملوخية) أو البيت التالي:
ولا تنس الأرانب إن فيها
بروتينا به أسس النماء
وكان سمير يدعوني إلى كتابة مثل هذه الفكاهات، فكتبت مرة قصيدة ضاعت وإن كنت أذكر مطلعها موجهة إلى فاروق عبد الوهاب، الذي كان يتميز بالقلم السيال، بالعربية وبالإنجليزية، وكنت أعجب بقدرته على كتابة المقالات في جميع المجلات الثقافية التي تصدرها وزارة الثقافة:
فاروق يا رب الكتابة في مجلات الوزارة
رب السلاسة والمهارة والرصانة والشطارة!
ولما كان سمير مولعا بإملاء ما يكتب على الآلة الكاتبة، ويقتصر على المسرح فقد تطلب قصيدة مختلفة تذكر ما يمليه وتؤكد تمكنه من «الدرامة».
سرحان يا رب الدرامة والمقالات العجيبة
في كل ما تمليه من أشياء أفكار مريبة
وكان فاروق عبد الوهاب - الذي أصبح بعد رحيلنا - سكرتير مجلة المسرح الأوحد لسنوات طويلة، ما يزال يذكر قصيدتي الفكاهية، حتى بعد أن استقر به المقام في شيكاغو وأصبح أستاذ للغة العربية وآدابها هناك.
وكان أخي الأصغر مصطفى آنذاك ما يزال طالبا في كلية التجارة، ولكنه كان دائما أقرب الناس إلى قلبي؛ فهو يشاركني حب الأدب والاستمتاع باللغة، وكان كثيرا أثناء أيام دراستي في الجامعة يصاحبني في نزهاتي في القاهرة، وكنت - رغم فارق السن الصغير - أمتاز عنه بالضخامة، فكان يستمتع بما أشتريه من مأكولات تدخل في عداد «الرمرمة»؛ مثل الفول السوداني واللب (بذر البطيخ) والحمص والجيلاتي - بل والكشري! وكنت أقرأ عليه هذا الشعر الفكاهي فيضحك منه ويجده مسليا، وكنت ما أزال أثق فيه ثقة مطلقة، فكنت أبوح له بأسراري كلها، وكان يحفظها ويدهش منها، وقد اتجه في يوم من الأيام بعد تخرجه عام 1965م وعمله في هيئة السد العالي إلى كتابة القصة القصيرة، ونشر بعض قصصه في مجلة «صباح الخير»، وكانت قصصه تتميز بعمق النظرة الإنسانية والتحليل الدقيق للمشاعر، ولكنه كان يشاركني أنا وسمير «الحس الفكاهي» فكان يعمد - مثل نعمان عاشور في بداية حياته الأدبية - إلى السخرية، وكان يلتقط بسهولة ويسر «اللقطات» المضحكة في حياتنا، وكنت في أعماقي أحسده على سلاسة أسلوبه، وأحاول محاكاته فلا أوفق، ربما بسبب الوعي الذي كان يتزايد لدي بنماذج النثر الغربي الذي كنت من مدمني قراءته بعد التخرج.
كنت أكتشف يوما بعد يوم مدى الصعوبة التي تواجه كاتب النثر، ومدى المعاناة التي لا بد أن يكابدها من يصر على إيضاح أفكاره، ولم يكن الشعر موطأ الأكناف، فكتابة النظم يسيرة، أما كتابة شعر مثل ما يكتبه صلاح عبد الصبور أو أحمد عبد المعطي حجازي فكانت مستحيلة، ولم يكن أمامي إذن سوى المسرح!
ومع اشتداد حر صيف 1964م أصبحت جلسات لاباس - المقهى المكيف الهواء - أفضل مكان لقضاء فترة الظهيرة والعصر، وكانت نهاد صليحة قد عرفت المكان وأصبحت ترتاده معنا، وكان المفهوم أنني أحاول أن أخطب ودها بأسلوب جديد، فهي على أبواب السنة الثالثة، وهي موهوبة وطموحة، ونظريتي في الحب التي كنت أدعو إليها هي ما كنت أسميه «الحب المركب» أي الحب الذي يتحول إلى أسلوب حياة مشتركة، أي لا يقتصر على لواعج الغرام التقليدية القائمة على تجاذب الجنسين بعضهما إلى البعض، وقد قبلت نهاد ذلك ورحبت به، وكانت أحيانا تقضي المساء معنا أنا وسمير سرحان ثم نوصلها بالتاكسي، أو أحيانا سيرا على الأقدام، إلى منزلها.
كانت صعوبة الخروج من مصر تمثل لكل منا عائقا مخيفا، ومن ثم وطنت النفس، رغم تفاؤل سمير، على البقاء واستكمال دراستي في القاهرة، وبدلا من الانكباب على ترجمة «روميو وجوليت»، تحولت إلى الرسالة فبدأت أضع الخطوط الأولى للحجة التي أعتبرها جوهر الرسالة، وهي أن الشاعر عندما تحول عن الاتجاه الثوري في الفن والسياسة والدين، انعكس ذلك كله في صياغته للصور الشعرية شكلا ومضمونا، ولكنني كنت كلما بدأت الكتابة، وجدت أبيات الشعر العربية تزاحم الإنجليزية، وكلما استغرقت في كتاب بالإنجليزية وجدت بعض الواجبات «النقدية» في مجلة المسرح تطلب مني بذل الجهد، وفي سبتمبر 1964م كنا نحضر إحدى مناقشات الماجستير حين التفت إلى نهاد وقلت لها بأسلوب تمنيت أن يكون غير تقليدي «إحنا طبعا حنتجوز!» وتلعثمت، ولا أدري ما قالته فقد كان غمغمة فهمت منها أنها موافقة.
وعندما أخبرت سمير قال: «يا سلام! حتتجوز لوحدك؟» ولم أفهم ما يعني ساعتها، ولكنني فهمت بعدها بأيام عندما جاءني متهللا وقال: «أنا خطبت أمينة صبري!» وكانت طالبة لدينا في السنة الثالثة، وهي الآن كبيرة مذيعات صوت العرب، وعلم من أعلام الفن الإذاعي في مصر، وكدت أن أقول له ولكن أمينة لا تستطيع الخروج معنا، ولكنني أحجمت! ورحب فاروق عبد الوهاب بهذه الأخبار، ولكنه قال إنه ما يزال يبحث عن الفتاة الضخمة، وكان يسميها «ذات العود السرح» أي الطويلة أساسا! وكان ما فتئ يقلب بصره فيمن حوله فلا يجد الطول المناسب، وإن كان قد وجده بعد ذلك بعدة سنوات.
وفي أكتوبر بدأ العام الدراسي وشاعت أنباء ارتباطنا أنا وسمير، وكان الأهم هو أن المسرح القومي سوف يقدم «الخال فانيا» من ترجمتي أنا وسمير، وكان المخرج رجلا روسيا يدعى لزلي بلاتون، واسمه الأول إنجليزي واسمه الثاني فرنسي (يعني أفلاطون) بمساعدة المخرج المصري كمال يس رحمه الله.
9
كان المشهد داخل قسم اللغة الإنجليزية يتغير بسرعة؛ إذ أصيب الدكتور محمد يس العيوطي الذي كان يدرس لنا الرواية والدراما بشلل نصفي، وكان الدكتور أمين روفائيل قد شارف على الستين (سن التقاعد) دون أن يحصل على درجة الأستاذية؛ إذ لم يكن قد انضم رسميا إلى أعضاء هيئة التدريس؛ ولذلك لم يكن من الجائز قانونا أن تنطبق عليه شروط الترقي، فكان يشغل وظيفة محاضر أول، وكان قد مضى على حصوله على الدكتوراه عشر سنوات، وكان الدكتور أمين رحمه الله فريدا في كل شيء؛ فهو لم يتزوج أبدا، وكان على إيمانه بالعلم وتفانيه فيه يسخر منه، وكان كثيرا ما يصطحبني بعد الدروس إلى مقهاه المفضل في شارع عماد الدين حيث نناقش الشعر الرومانسي، وكان يحاول قبل التأميم إقناعي بالعمل بالتجارة مع خالي (إذ كان صديقا حميما له) ثم أصبح يقول لي: «كنت أنصحك بما ثبت فشله، وأصدك عما تأكدت من عدم جدواه، فالآن لا أدري ماذا أقول لك!» وكان المقهى يقع على ناصية مقابلة لمكتب خالين في مواجهة سينما «كوزمو» القديمة، وعلى مبعدة خطوات من مسرح محمد فريد، وكثيرا ما كنت أراجع معه تجارب كتبه الرائعة في الشعر الإنجليزي، وهي المختارات التي انتقاها بصبر وعناية من تراث الشعر الإنجليزي الحافل، أو أراجع معه ترجماته لقصص جيمس جويس، ولا أعرف هل نشرت فيما بعد أم لا، وقد احترمت منتخباته من الشعر الإنجليزي - التي كانت تدر عليه دخلا متواضعا - حتى توفي، ولم أقدم على إعداد المختارات الجديدة أنا والدكتور ماهر شفيق فريد إلا بعد أن أذن لنا صاحب مكتبة الأنجلو، بعد أن تأكد له أنه لم يعد للدكتور أمين ورثة يمكنهم الإفادة من الدخل.
وكان لدينا بالقسم أستاذة صامتة ذات أسرار لا تكتنه؛ هي الدكتورة صفية ربيع، وكل ما كنت أعرفه عنها كان مستقى من خارج الجامعة، فكنت أعلم أنها زوجة الكاتب والناقد بدر الديب، وأنها ترجمت مسرحية لثورنتون وايلدر، وأخرى لشيكسبير في سلسلة ترجمات جامعة الدول العربية، وحينما عدت عام 1975م بلغني أنها استقالت.
وكان من المدرسين لدينا بالقسم (مدرسي اللغة) عدد كبير ممن انتدبهم رشاد رشدي من المدارس الثانوية، وكان بعضهم معينا والبعض الآخر منتدبا من الخارج، وكان أنجحهم أثناء فترة دراستي الأولى في الخمسينيات شاب رقيق مهذب هو محمود شكري مصطفى، الذي اشتهر فيما بعد باسم الدكتور شكري. وكان له أخ يعمل طبيبا في سلاح الطيران اسمه الدكتور رمزي، وفي عام 1963م عاد الدكتور شكري من أيرلندا بعد أن أتم كتابة الدكتوراه لكنه لم يحصل على الدرجة لسبب غريب ونادر؛ وهو أنه رسب في الامتحان الشفوي؛ وذلك أن امتنع تماما على الحديث مع أعضاء اللجنة، فلم يجب على أي سؤال ولم يقل أي شيء، وكان يجلس في القسم بعد عودته صامتا، وقيل لي إن لديه اكتئابا نتيجة تفانيه في الدراسة؛ إذ حبس نفسه أربع سنوات كاملة في غرفة في دبلن، يدخن ويقرأ ويشرب القهوة ويكتب، حتى أصابه ذلك المرض النفسي اللعين.
وسرعان ما اكتشف الدكتور سعد جمال الدين سر اكتئابه؛ فالدكتور سعد - إلى جانب ما ذاع عنه من إتقان لا يجارى ولا يبارى في اللغة الإنجليزية - «ابن بلد» من الطراز الأول، وهو ما يسميه العرب «ألمعي» (بالعامية المصرية «يفهمها وهي طايرة») ولوذعي نحرير! أما السبب فهو أن الدكتور شكري «يريد أن يتزوج»! وطلب مني الدكتور سعد أن أبحث الموضوع، فوعدته خيرا، واتضح أن سعد قد تولى فحص الحالة جيدا؛ ومن ثم وجدت الدكتور شكري يطرق بابي ذات يوم (في شارع الدري بالعجوزة) ليسأل عن زميلة لي ورحبت به وحادثته طويلا في غرفة الصالون المتواضعة، وأفهمته أن الفتاة التي يسأل عنها قد تزوجت منذ سنوات، وأن لديها غلاما يدعى طارق! فقال في حسرة: «آه! أم طارق طارت!» وضحكت مؤكدا له أن هناك كثيرات غيرها يمكنه الاقتران بهن، فذكر عدة أسماء - من بينهن أسماء زغلول التي توفيت في حادثة طائرة، ولم يكن بطبيعة الحال يعرف ذلك، وأخريات من الأفضل عدم ذكر أسمائهن.
ومع بداية عام 1964م وصلت أخبار مفرحة تفيد أن مجلس جامعة دبلن قد وافق على منح الدكتور شكري الدرجة العلمية دون امتحان. وكان ذلك من العوامل التي ساعدت على تخفيف مظاهر اكتئابه، ويبدو أنه قرر عدم الاعتماد على أحد في البحث عن عروس، حين شاهد فتاة ذات شعر بلاتيني، بيضاء هيفاء، كثيرا ما تجلس على كرسي في الممر أمام غرفة عم علي (رحمه الله) بحجة شرب الشاي. ومن ثم فاتحها في موضوع زيارتها في المنزل لاتخاذ الإجراءات اللازمة فرحبت، وكنت أدهش من تجاهله لفارق السن، ولكن الشعر البلاتيني كان عاملا حاسما، رغم ما همست لي به إحدى زميلاتي من أنه «غير طبيعي» أي مصبوغ!
ووفقا للموعد المضروب زارها الدكتور شكري في المنزل فلم يجد أباها، ولكن والدتها رحبت به كل الترحيب، وكانت منهمكة في إعداد «مربى البلح»، فدعته إلى مشاركتها في تنظيف البلح «السماني» المستخدم في المربى بإخراج النوى منه، ففعل راضيا وانقضت السهرة دون أن يعود الأب، ودون مفاتحة الأسرة في الموضوع . وعندما قص علينا ما حدث قال له سمير سرحان أن ينسى الفتاة، وذكره بأن لها أنفا ضخما، وبأنها غير مجتهدة، ودعاه إلى الخروج معنا لمشاهدة فيلم «الحذاء الأحمر» وتناول الطعام عند «أرتين» وهو مطعم طاه أرمني عبقري، اكتشفه الدكتور شفيق مجلي، فخرجنا جميعا وأمضينا وقتا ممتعا، وأوصلناه بالتاكسي إلى المنزل، وعند وداعه قال له سمير: «خلاص بقى؟ ننسى الموضوع؟» فضحك رحمه الله وقال بعد ثوان بدت طويلة ممتدة: «بس شعرها بلاتيني!» وعندما حاولت الكلام نغزني سمير فسكت، وضحكنا ولم نعقب.
ولا بأس من استكمال قصته هنا، استباقا للأحداث؛ فعندما عدت من البعثة عام 1975م كان الدكتور شكري ما يزال يبحث عن عروس، وكان قد عين أستاذا في جامعة الأزهر دون المرور بالترقيات المعهودة، وذلك أن هناك قانونا من قوانين الجامعة يعمل به أحيانا ويعطل أحيانا أخرى، وهو يقول إنه يجوز تعيين أستاذ مساعد من خارج الجامعة إذا كان قد مضى على تخرجه عشر سنوات، ومضى عام على الأقل على حصوله على الدكتوراه، ويجوز تعيين أستاذ من خارج الجامعة إذا كان قد مضى على تخرجه ثمانية عشر عاما وعامان على الأقل على حصوله على الدكتوراه، وفي عام 1975م سمح بإعمال القانون لتعيين أحد أقرباء كبار المسئولين في الحكومة، فتقدم شكري وحصل على الوظيفة، فأدرك الفرصة قبل إعادة تعطيل القانون بأيام معدودة. ولا أدري الآن هل القانون معطل أم ساري المفعول.
ولم تمض سنوات حتى حصل شكري على وظيفة للعمل بجامعة الإمارات العربية المتحدة في مدينة العين، ولم يكن بحثه عن العروس قد توقف، وقد سمعت شائعة مفادها أنه كان يحب فتاة في صباه، وهي أستاذة (لا أستطيع ذكر اسمها) في إحدى الجامعات، فلما رفضته سببت له هذا التأخير. على أي حال وجد ضالته ذات يوم في فتاة فلسطينية تعمل مذيعة في التلفزيون الإماراتي، وتزوجها، وكنا نتابع أخباره في سعادة، ولكن الزواج كانت له ذيول غير متوقعة؛ إذ كانت الزوجة تمارس نشاطا تجاريا يتطلب ضمانا من البنك قدره مائة ألف دولار، وكان من الطبيعي أن تطلب منه ضمانها، فوافق، ولم تمض فترة طويلة حتى أعلنت إفلاسها وكان عليه أن يدفع المبلغ، فدفع معظمه مما ادخر من راتبه، واضطر إلى بيع أملاكه في مصر لسداد الباقي، ومن ثم تركها وانتابه الاكتئاب وأهرع إليه أخوه الطبيب فعاد به إلى القاهرة، وما لبث أن أصيب بصدمة عصبية أودت بحياته وتوفي في غضون أيام معدودة - رحمه الله.
وكان الدكتور شفيق مجلي من أبناء الإسكندرية، ولم يكن متزوجا هو الآخر، ولكنه كان على علاقة وثيقة بفتاة بلجيكية تعرف عليها في لندن، واستمرت مراسلاتهما حتى حانت له الفرصة للحصول على إعارة للتدريس في جامعة فاس بالمغرب، ومن ثم تزوجها واستقر به المقام أعواما، ثم رحل معها إلى أوربا حيث انقطعت أخباره، وإن كنت أحاول متابعة أخباره من أخويه ، أستاذ الآثار النابه منير (الدكتور) وعالم اللغة الشهير فؤاد (الدكتور) الذي شارك في إعداد قاموس أكسفورد (إنجليزي عربي) وقال عنه «دونياخ» مؤلف القاموس إنه كان ذراعه اليمنى ويده اليمنى معا! وقد زرته في أكسفورد أثناء مقامي في إنجلترا، وأسعدني أن أسمع أن كنيته كانت «المصري النابه».
أما الدكتور شوقي السكري فقد استطاع الحصول على وظيفة للتدريس في أمريكا، في جامعة «سكرامنتو» في كاليفورنيا، وكان يختفي ويظهر تسبقه خطابات وشهادات تتغنى ببراعته ونشاطه العلمي، وكان رشاد رشدي يعجب مما أعجب الأمريكان فيه، ولكنني كنت أعرف مدى حب الأمريكان للفهلوة المصرية، واللهجة البريطانية التي تنم على ثقافة عالية، ولا شك أن الأمريكان كانوا يدهشون لبراعة ذلك المصري صاحب الذلاقة والبراعة، وكان الطلبة يتعلقون به لقدرته على استمالة المستمع بمنطقه الخاص، وهو الذي يوحي فيه بالتبحر والتعمق، ولم يكن الأمر يتعلق، في النهاية، بتوظيف باحث (فلديهم كثيرون) ولكن بتوظيف معلم قادر على اجتذاب الطلبة؛ فالطلبة يدفعون مصاريف الدراسة، ولا حياة للجامعات الأمريكية دون مصاريف!
وانتهى الأمر بالدكتور شوقي السكري إلى الزواج من مصرية اسمها سهيرندا، كانت زميلة لزوجتي نهاد، وفي نفس العمر تقريبا، واصطحبها معه إلى أمريكا (كانت الزوجة الرابعة أو الخامسة) وبعد أن أنجبا طفلين، انفصلت عنه وتأمركت وتزوجت من أمريكي.
كان ذلك كله ما يزال في طي الغيب عام 1964م، ولكن بوادر التشتت كانت تلوح في الأفق، وكنت أنا نفسي أتصور الاستقرار خارج مصر وأحيانا كنت أعجب لمن تتاح لهم فرصة «الخروج» ثم يرجعون، وكنت مشدودا بقوة جبارة إلى قصيدة صلاح عبد الصبور «أغنية للقاهرة» التي يقول فيها:
وعندما رأيت من خلال ظلمة المطار،
نورك يا مدينتي،
عرفت أنني غللت للشوارع المسفلتة،
إلى الميادين التي تموت في وقدتها خضرة أيامي!
كانت وقدة حر القاهرة وحدها كفيلة بإضفاء جو سحري على «بلاد برة»، ولكن اللغة العربية التي عادت بي من إنجلترا هي الحبل الذي كنت أستمسك به، وكنت لا أتصور لي وجودا حقيقيا خارج مصر؛ ولذلك فقد كان موضوع الرحيل والعودة من الموضوعات التي تشغل بالي بصورة مختلفة، وكان سمير سرحان يشاركني هذا الاختلاف، فلم يكن يتصور أبدا أن يحط الرحال خارج مصر إلى الأبد، وكنا أحيانا ما نناقش موضوع المستقبل من حيث العودة لا من حيث الرحيل، هذا إذا قدر الله لنا أن نرحل من مصر على الإطلاق!
وذات يوم عثرت على مجموعة قصصية للكاتب الروسي العظيم تشيخوف مترجمة إلى الإنجليزية، وكانت تتضمن قصة العنبر رقم 6، وبدأت قراءتها، على طولها، ربما بسبب جاذبية الفقرة الافتتاحية، ولم أستطع أن ألقي بالكتاب حتى انتهيت منها. كانت تصور حال طبيب تتدهور حالته النفسية حتى يصل إلى مرحلة الجنون، وينتهي به الأمر إلى دخول عنبر المرضى بدلا من الإقامة مع الأطباء، رغم تميزه وتفوقه، وكان سحر القصة يرجع إلى أنها تروى بضمير المتكلم، بحيث لا يملك القارئ إلا أن يتعاطف مع الطبيب، وأن يوحد في خياله بين حاله وحال الطبيب، وفي النهاية يبدأ القارئ في الشك في معنى العقل ومعنى الجنون! كانت الساعة قد قاربت الرابعة صباحا فنمت نوما قلقا ساعة أو بعض ساعة، ثم أفقت مذعورا وحاولت النوم ثانيا فلم أستطع، ومن ثم اغتسلت وتهيأت للخروج واتجهت إلى سمير سرحان فأيقظته من النوم، وكان قد انتقل من منزله بشارع الأباصيري بالجيزة إلى منزل آخر بشارع محمد زاهر بالجيزة أيضا، ولم أفعل سوى أن أعطيته الكتاب وخرجت.
وقابلني في المساء مهموما وكأن لسان حاله يقول: «لم فعلت ذلك بي؟» كانت القصة قد هزته هزة عنيفة، وكانت بعض عباراتها قد التصقت بذهنه، مثل العبارة التي تنتهي بها الفقرة الافتتاحية، وهي «وكان نيكيتا مطمئنا يجلس خارج المستشفى على كوم من القاذورات.» ونيكيتا هذا هو الحارس «العاقل» الذي يشهد تدهور حالة الطبيب، إلى جانب عبارات أخرى تصور نظرات الطبيب في وحدته من الشباك إلى العالم الخارجي. ولم نناقش القصة، ولم نتحدث في الفن والأدب، فمن يقرأ تشيخوف، ولو بلغة غير لغته، يصاب بالإحباط واليأس؛ إذ كيف يمكن لأي منا أن يصل إلى ذلك المستوى العبقري؟
وكانت صورة نيكيتا المستقر فوق كوم الزبالة صورة كثيرين من العقلاء في الحياة من حولنا، بينما يتدهور حال الطبيب يوما بعد يوم، مثل كثير من أصحاب الفكر ومن تشغلهم هموم الدنيا، وعندما رأى رشاد رشدي ملامح القلق على وجهينا وأفصحنا له عما «حدث» ضحك ضحكا شديدا وقال: «هذا هو سبب حبي لتشيخوف! إنه يدفعني إلى القلق!» واستمر بنا الحديث عن فن القصة القصيرة حتى دخل الفنان حسين جمعة يحمل لوحات تتضمن تصميمات ديكورات ظننتها غربية. وعلى الفور بدأ يقص على رشاد رشدي تصوراته عن إخراج مسرحية ما، واتضح أنهما كانا قد اتفقا على تقديم مسرحية «الخرتيت» من تأليف يوجين يونسكو في مسرح الحكيم بالعامية، ويبدو أنهما كانا قد اتفقا على أن يتولى رشدي ترجمتها، بل يبدو أن رشدي قد «أقنع» جمعة بأن الترجمة موجودة بالفعل! وكان جمعة متخصصا في الديكور المسرحي، ولكنه خريج معهد فنون المسرح على أي حال، والسنوات التي قضاها في إيطاليا يعمل مع كبار المخرجين (الذين كان دائم الإشارة إليهم) أكسبته خبرة لا بأس بها، ولم يكن من قبيل الصدفة أن يبلغ كل الذين درسوا في إيطاليا مثل كرم مطاوع الذي قدم «الفرافير» ليوسف إدريس فأحدث ضجة كبيرة، وسعد أردش الذي قدم قبلها «رحلة خارج السور» لرشاد رشدي، أما جلال الشرقاوي فكان قد درس في فرنسا وكان دائما من أصحاب مذهب «الانتقاء» الفني، الذي يضع الجمهور في موقع الصدارة من اهتمامه، فأخرج «الزلزال» لمصطفى محمود فهزت الدنيا، وسرعان ما توالت إبداعاته الجميلة.
وفي آخر المساء، ونحن في التاكسي في طريق العودة، قال رشدي لي ولسمير إنه يريدنا أن نترجم الخرتيت بسرعة إلى اللغة العامية، وألا نقول لأحد إننا المترجمان حتى تنتهي الترجمة! وفعلا، حافظنا على السر حتى انتهينا من الترجمة، وعندها عرف الجميع أننا - لا رشاد رشدي - ترجمنا يونسكو! وسرعان ما بدأت التجارب المسرحية، وكانت الترجمة إلى اللغة العامية تجربة بالغة الطرافة، لا بد لي أن أتوقف عندها قليلا.
لقد علمتني تلك التجربة أن الفارق بين الفصحى والعامية لا يقتصر على الأصوات والألفاظ والتراكيب (النحو)، بل هو من الناحية الفنية فارق بين ثقافة زمنية، وثقافة معاصرة، أي إن قارئ الحوار بالفصحى يضع المتحدث في زمن معين، يحدده المستوى اللغوي الذي يختاره المترجم، وحتى لو كان الموضوع معاصرا فإن مستوى الفصحى المستخدمة يفرض زمنا ما على الأحداث والشخصيات، أو قل إنه على الأقل يفصل بينها وبين الشخصيات الحية حولنا، فمن يترجم عبارة بتعبير «ما الخطب؟» وهو الذي نقرؤه على شاشة التليفزيون في الأفلام المترجمة، يعرف أن ذلك التعبير «غير حقيقي»، ومن يقرؤه على الشاشة لا ينزعج منه، فالممثلون الأجانب لا يتكلمون لغتنا، والتعبير تفسير وحسب لما يقولونه، أما إذا كتبه كاتب في مسرحية، فسوف يوحي بأن شخصياته تنتمي إلى زمن سحيق، و«ما خطبك» تحيل القارئ إلى الآية
قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير
أما الكاتب الذي يفضل «ماذا بك؟» أو «ما الذي حدث؟» أو «ما الحكاية؟» فهو يوحي، خصوصا في التعبير الأخير، بأن هؤلاء يتحدثون العامية، وبأنه (أي الكاتب) يترجم تعبير «إيه الحكاية؟» أو «فيه إيه؟» أو «حصل إيه؟» أو حتى «إيش بك؟» إلى الفصحى المعاصرة، وأقول بالمناسبة إن «إيش» التي زعم البعض أنها تركية، هي في الحقيقة عربية، وموجودة في كتب التراث وفي بعض الأمثال السابقة على تأثير اللغة التركية على العربية المعاصرة، وربما كانت صورة مختزلة ل «أي شيء».
أما الذي يكتب الحوار العامي فهو يلغي عامل الزمن تماما؛ لأنه يحيل الشخصيات القديمة التي كانت تتحدث لغة غريبة عنا إلى شخصيات معاصرة، وسوف يكون مقياس الترجمة هو مدى «التحويل الذي يقوم به المترجم للشخصيات الأجنبية إلى شخصيات محلية معاصرة».
وهكذا استطعت آنذاك تقسيم الكتاب الذي يكتبون الحوار في روايتهم العربية إلى عدة أقسام؛ استنادا إلى مستوى الفصحى الذي يختارونه، وإلى مستوى العامية إذا استخدموا العامية. فتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ كانا يعتمدان على قدرة القارئ على إحالة الحوار الفصيح لديهما إلى العامية المصرية؛ ولذلك حار المترجمون الأجانب في فهم ما يكتبون؛ لعجزهم عن إدراك الدلالات الثقافية المعاصرة لذلك الحوار، وكان غيرهم مثل عبد الرحمن الشرقاوي وشكري عياد يعمد إلى استخدام كلمات عامية بعينها، مهما تكن أصولها الفصيحة؛ للدلالة على ما يتعذر على الفصحى «المقابلة» أن تنقله من معان ودلالات، وهكذا يفعل اليوم جمال الغيطاني وغيره من المؤمنين بالإبقاء على الفصحى، أو الذين يعادون العامية من حيث المبدأ، إلى جانب من يدرج التعابير العامية والحوار العامي في تضاعيف الفصحى في السرد مثل يوسف القعيد، أما من يستخدمون العامية في الحوار فيمكن تقسيمهم أيضا إلى من يحاولون الارتفاع بالعامية إلى مستوى الفصحى، فيستخدمون ما يسميه الدكتور السعيد بدوي «عامية المثقفين»، وهي ما كان الدكتور محمد مندور يسميه آنذاك ب «العامية الجزلة» (ويسميها غيره «العامية الراقية») مثل صلاح جاهين، وكانت أشعاره في تلك الأيام هي المثل الأعلى لهذا الاتجاه:
أنا اللي بالأمر المحال اغتوى،
شفت القمر نطيت لفوق في الهوا،
طلته ماطلتوش إيه أنا يهمني؟
وليه مدام بالنشوة قلبي ارتوى؟
عجبي!
وكان أحمد شوقي هو المثل الأعلى في الجيل السابق:
اللي يحب الجمال
يسمح بروحه وماله
قلبه إلى الحسن مال
ما للعوازل وما له
وفي مقابل هؤلاء كان هناك من يكتبون الحوار العامي بمستويات متفاوتة، أو يستخدمون التعبيرات التي تفصح عن «المواقع الاجتماعية» للشخصيات، بحيث يوحون بأكثر من المعاني الظاهرة للألفاظ عن طريق استخداماتهم المنوعة للعامية، وإلى هذا الفريق ينتمي معظم كتاب المسرح المعاصر بالعامية. وكان نعمان عاشور، رحمه الله، دائم الإشارة إلى هذه الطاقة الخبيئة للعامية، ولكن هذه المستويات القائمة في المسرح لم تدرس حتى الآن الدراسة التي تستحقها، بسبب الإهمال الذي تعاني منه العامية، بسبب ما يتصوره الكثيرون من أنها صورة «شائهة» للفصحى!
وقد استفدنا أنا وسمير سرحان من هذه التجربة، التي أثبتت لنا أن الأسلوب المميز لكتاب «مسرح العبث» (أو اللامعقول) يتسم بالتجريد أساسا؛ ولذلك تسهل ترجمته إلى الفصحى، وتصعب ترجمته إلى العامية! هل معنى ذلك أن الفصحى أقدر على نقل المجردات من العامية؟ لا أملك من الأدلة العلمية الثابتة ما يؤكد صدق دعواي ، ولكن ذلك ثمرة خبرتي العملية. فقد اغتنت الفصحى على مدار القرنين العشرين من الترجمات التي قدمها جيل الآباء عن اللغات الأوربية التي اكتسبت ثروة كبرى من العلوم الطبيعية وأصبحت تزخر بالمجردات، كما أحيا المترجمون مصطلحات علماء المسلمين الأوائل وفلاسفتهم، فأحيوا بذلك تراثا هائلا من المجردات، ظل مقتصرا على الفصحى دون أن يتسرب إلى العامية التي تكاد أن تقتصر على لغة الحياة اليومية، وحاجات الناس المباشرة، وعندما يريد المتحدث بالعامية التعبير عن فكرة مجردة فسرعان ما يجد أنه قد لجأ إلى الفصحى في ثنايا العامية! والتداخل بين هذه المستويات جميعا أمر واقع، وهذا هو ما فعلناه أنا وسمير آنذاك، وما تكررت تجربته عند تقديم شيكسبير بالعامية بعد ذلك بعشرين عاما!
ولا بد لي أن أشير فيما يشبه الحاشية إلى «الموضة» التي انتشرت آنذاك من باب مسايرة الدعوة إلى الاشتراكية، وهي كتابة الأغاني بعامية «محضة»؛ أي بعامية من المستوى الأدنى الذي حدده الدكتور السعيد بدوي، مثل الأغنية التالية:
بتسأل ليه عليه
وتقول وحشاك عنيه
من إمتى إنت حبيبي
وداري باللي بيه
ياللي بتسأل عليه
مالكش دعوة بيه
وقد اشتهرت الأغنية باسم «مالكش دعوه بي» وكنت أجدها مضحكة، وأجد أن التجربة في ذاتها فاشلة؛ إذ أثبتت أنه لا توجد «عامية محضة»، ولا أدل على ذلك من المقطع التالي في الأغنية نفسها:
سيبني لليالي
أسهرها لوحدي
سيبني لذكرياتي!
وابعد عن خيالي
يا أغلى ما عندي
وابعد عن حياتي!
فهل هذه عامية «محضة»؟ على أي حال، كانت تجربة هذه الترجمة ناجحة إلى حد بعيد، وكنت أجد في مناقشة هذه المسائل مع سمير سرحان وفاروق عبد الوهاب متعة كبيرة، خصوصا ونحن نقرأ في دراساتنا لغة أجنبية تصطدم في كل حين باللغة التي يتكلمها الناس من حولنا ونتكلمها نحن ونفكر بها. وانشغلنا بعد ذلك بخطوبة سمير؛ إذ أصر على إقامة حفل دعا إليه ثلاثي أضواء المسرح جورج سيدهم والضيف أحمد وسمير غانم، وكان سمير سرحان، ولا يزال، يؤمن بالطقوس والشعائر إيمانه بالمسرح! وكان حفلا مسرحيا رائعا، وكان العروسان بهجة للعين والقلب، وكم ضحكنا وفرحنا بهما! أما أنا فقد أصرت والدتي على شراء شبكة ودفع مهر، وكان المبلغ المعتمد للطبقة الوسطى آنذاك يتراوح بين 150 و300 جنيه، وكذلك الشبكة وغيرها مما لم أشغل نفسي به، وقد تم ذلك جميعا دون ضجة، ويوم 24 يناير 1965م لبسنا الدبلتين أنا ونهاد، وما تزالان في أصابعنا.
10
ولكن عام 1964م لم يطو صفحته دون المعركة المتوقعة بين أنصار «النقد الجديد» وأنصار «النقد القديم»، فكانت المقالات في الصحف تتوالى تأييدا لهذا المذهب أو ذاك، وأطلق على المعركة آنذاك معركة رشاد رشدي ومحمد مندور أو «الفن للفن» (الشعار الذي فرض علينا فرضا ولم نقل به مطلقا) و«الفن للمجتمع»! ففي نوفمبر 1964م نشرت إحدى المجلات قصة سوفيتية نقلا عن إحدى مطبوعات «دار الشرق» بعنوان «ليلة الميلاد»، وهلل لها النقاد الذين كانوا يزعمون أنهم يمثلون اليسار باعتبارها المثل الأعلى للأدب الهادف، وكان يمكن أن تفوتني فرصة قراءتها لولا أن مترجمها كان زميلي القديم أحمد مختار الجمال الذي التحق بالخارجية وعمل دبلوماسيا، واتصل بي تليفونيا لينبهني إلى ما أبدعت يداه. وتقول القصة بإيجاز إن إيغور بافلوفيتش كان ينتظر مولد أول أطفاله بلهفة، وكانت زوجته تنتظر لحظة الميلاد بصبر نافد، وكان الشتاء ذلك العام قارس البرد مريرا، وكان يدعو الله، لأنه كان مؤمنا، أن تأتيها آلام الوضع نهارا حتى يقبل الأطباء زيارتها ومساعدتها، كما ادخر مبلغا من المال لدفعه للطبيب؛ فأطباء تلك الناحية يصرون على تناول أجورهم فورا ودون إبطاء. وعندما انقضى يوم السبت قرر إيغور أن يذهب في الصباح إلى الكنيسة ليصلي للرب حتى يؤخر مجيء الطفل إلى يوم الإثنين. وتطلع ليلة السبت من نافذة مسكنه إلى المكان الوحيد المضاء في تلك الليلة، وهو مبنى الوحدة الاجتماعية للحي، وهي التي أنشأها المجلس المحلي الذي لا يؤمن به، ويعتقد أنه يأخذ من الناس الضرائب دون تقديم الخدمات؛ إذ كان إيغور يعارض دفع الضرائب ويدفعها مرغما، وكان لا يحس بأي فائدة لذلك المبنى ورجاله. ولكن قبل أن ينقضي الليل، وكان إيغور يغالب النوم على الكرسي في غرفة مكتبه الصغيرة، حيث فرغ من تصميم رسم هندسي جديد، سمع صوت زوجته فجأة، فانتفض مذعورا وأهرع إليها وتأكد بنفسه من أن اللحظة قد حانت. وأسقط في يده! البرد شديد والظلام حالك، ولكنه لا بد أن يستدعي أحد الأطباء، وأدار قرص التليفون يطلب من يعرفهم ويثق فيهم من الأطباء «المؤمنين» مثله، ولكن الردود جاءت جميعها بالنفي والاعتذار، وحاول إيغور مساعدة زوجته بكل الطرق الممكنة دون جدوى، وكلم أحد أقاربه ممن لهم دراية محدودة بالطب، فجاءه الرد حاسما قاطعا؛ من ذا الذي يمكنه أن يخرج في هذه الساعة؟ وتوسل إليه إيغور بحق الرب، ولكن قريبه قال له إن مشيئة الرب نافذة، وما عليه إلا أن يتقبلها!
وازدادت آلام الزوجة وعلا صراخها على فترات، وضاقت الدنيا بالرجل ولم يدر ما يفعل، فأطل من جديد من نافذته فرأى النور ما يزال مضاء في الوحدة وقال في نفسه لن أخسر شيئا إذا طلبتهم بالتليفون، وكان الرد مفاجئا له إذ قالوا سوف نرسل سيارة إسعاف فورا، ولم يكد يضع السماعة حتى سمع صوت «السرينة» يشق سكون الليل، وسرعان ما طرق الباب رجلان وامرأة، نقلوا الزوجة إلى الوحدة في دقائق، واتضح أن حالتها كانت خطرة، وتطلبت عملية قيصرية لأن وضع الغلام كان معكوسا، وعندما أشرقت الشمس كان قد رزق بغلام جميل.
ولم ينس إيغور أن يذهب إلى الكنيسة حسبما اعتزم الليلة السابقة، حتى يشكر الرب على إنقاذ حياة زوجته، وعلى إعطائه غلاما صحيح البدن، ولكن ذهنه شرد وهو في القاعة الفسيحة التي كانت شبه خاوية بسبب البرد، وتذكر أحداث الليلة الماضية، وكيف تخلى عنه الأطباء والأقرباء، ولأول مرة أحس بالندم لأنه ظلم الوحدة الاجتماعية، بل وشعر بالامتنان لأن الطابع الإنساني للنظام أنقذ حياة إنسانية جديدة.
والغريب أن القصة، على سذاجتها، وجدت من يدافع عن جمالها الفني استنادا إلى الأسس التي وصفها رشاد رشدي نفسه! فبها جميع الخصائص الفنية «المقررة» للقصة القصيرة؛ شخصية رئيسية واحدة، التركيز على التحول داخلها، وهو ما يمثل «التطور» الطبيعي غير المفروض من الخارج، وتوافر عناصر البداية والوسط والنهاية! ولكن الأهم من ذلك كله كان الهدف النبيل الذي تسعى القصة إلى إبرازه؛ فهي تؤكد عكس ما يزعمه أعداء الشيوعية من أنها «ضد الدين» فها هو النظام يسمح للبطل - رغم عدائه للنظام - أن يعيش حياته الشخصية كاملة، وأن يمارس حرية العقيدة والعبادة وحرية الاختلاف! والقصة تبرز بوضوح وجلاء الطابع الإنساني للنظام، وأنه يقوم على التكافل الاجتماعي؛ إذ تبين أن النوازع الفردية لأطباء الأمس قد قهرها التعاضد الإنساني والتلاحم البشري، مما يجعل المجتمع هو البطل الحقيقي للقصة!
وقارن أحد النقاد هذه «القصة الاشتراكية» بقصة كتبها محمود تيمور بعنوان «العوامة» يصور فيها حال موظف كان دائما يتطلع إلى السباحة في البحر، ويدخر المال في سبيل نزهة صيف على الشاطئ، وكيف استطاع آخر الأمر تحقيق حلمه واشترى عوامة تساعده على الطفو، وكيف هرب الهواء من العوامة المنتفخة في الماء فغرق الرجل دون ذنب جناه! «هذا هو نموذج الأدب التشاؤمي الذي لا هدف له» - على حد تعبير أحدهم - أو كما قال آخر «هذا هو الأدب الذي يهدم ولا يبني.» وذات يوم كنا في مبنى الإذاعة القديم، نجلس في الكافتريا على السطح في نحو التاسعة مساء حين دخل محمود كامل (واسمه الحقيقي محمود قاسم، وهو من بلدنا رشيد) وجاءنا ليهمس همسا حذرا: «لقد صدر لي التكليف بمراقبة جميع التمثيليات الإذاعية غير الاشتراكية والإبلاغ عنها.» وتلفت سمير سرحان إليه في دهشة وقال: «إنت؟» وكان معنى السؤال هو كيف يكلف ممثل من الطبقة الثالثة بمراقبة كتابة الكتاب؟ ولكن محمود أوضح لنا أن أكل العيش مر، وأن شخصا معينا بالطابق الثالث قد كلفه علي صبري بهذا العمل، دون إخطار أمين حماد رئيس الإذاعة، حتى يتم إقصاء جميع أعداء الاشتراكية واستئصال شأفتهم! ولما كنت قد عرفت محمود صبيا وصاحبته شابا في رشيد والقاهرة، وكان يعرف أسرتي خير المعرفة، فقد سألته في حذر: «فيها حاجة لك؟» فهمس والبشر يكسو ملامحه: «سوف يرقيني مدير العقود محمود مصطفى إلى الدرجة الثانية، وسوف أشترك في معظم التمثيليات!» ثم رجانا بنفس الهمس الحذر عدم إبلاغ أحد بذلك، وأن نكون على اتصال به حتى يكتب تقارير ممتازة عن تمثيلياتنا!
ولم تكد تمر أيام حتى شكا إلينا ميخائيل رومان أن المخرج أضاف دور «بواب» إلى تمثيلية إذاعية كتبها وسجلها في اليوم السابق، بل وطلب إليه أن يضع له عددا من السطور اللائقة حتى لا تقتصر التمثيلية على الحوار بين الطبيب والممرضة، وأضاف قائلا: «وبلغ من صفاقة المخرج أن أعطى الدور لممثل من الدرجة الثالثة!» وهممت أن أسأله هل هو محمود كامل، ولكن سمير سرحان نغزني؛ أي اسكت، فسكت! كنا نجلس في مطعم «الأونيون» بشارع 26 يوليو (الذي اختفى الآن) وكان معنا الدكتور فخري قسطندي الذي كان قد عاد من البعثة بعد ست سنوات في دراسة الدراما، وكان كعادته يتحدث في موضوع خارج حديث الجماعة، فكان يؤكد أن فريق الخنافس ليسوا خنافس، وأن كلمة بيتلز تكتب بحرف ال
e
وال
a
مما يتضمن تورية على كلمة إيقاع؛ ولذلك فهي تختلف عن كلمة بيتلز بمعنى الخنافس، وكان محقا - بطبيعة الحال - ولكن الذي كان يشغل ميخائيل رومان كان شيئا آخر تماما!
لم نكن نجد صعوبة في تسجيل تمثيلياتنا الإذاعية ، خصوصا بعد أن ترقينا أنا وسمير سرحان إلى كتاب من الدرجة الأولى (لأننا كتاب مسرح)، ولكن الدرجة الأولى في الحقيقة كان فوقها درجات أعلى بكثير، فكان فوقها كتاب الدرجة الممتازة (سعد الدين وهبة ويوسف إدريس ونعمان عاشور ورشاد رشدي وميخائيل رومان) وفوقها النجوم من كتاب الرواية الذي تتحول أعمالهم إلى مسرحيات، ومن فوقهم الأعلام وتضم فردا واحدا هو توفيق الحكيم. وكانت علاقتنا بتوفيق الحكيم قد توثقت من خلال مجلة المسرح؛ إذ كنت أذهب إليه أنا وسمير بانتظام للحصول على مقابلات صحفية، وكان أحيانا ما ينطلق في الكلام على سجيته، فيصول ويجول في أروقة الفكر العالمي، ثم ينتبه فجأة إلى أننا لسنا ضيوفا وربما نكون «من الصحافة» فيسكت، ولكن مكتبه في الأهرام كان بقعة مضيئة في جو تلبد بالغيوم واكفهر.
وعندما عقدت الانتخابات العامة، والاستفتاء على رئاسة الجمهورية، شعرت في منطقة العجوزة بتحركات غير معتادة. وكنت بطبعي حساسا للتغيير، أرقب ما يحدث بدقة وقد لا أعلق عليه إلا بعد سنوات، أو أختزنه في الذاكرة إلى الأبد، وكنت ما أزال أنفر من الشتائم والهجوم، ولا أحب أن أرى شخصا يتعرض «للبهدلة»؛ ولذلك كنت أتعاطف تلقائيا مع كل من ينهال عليه الصحفيون بالسباب؛ لأنه «غير اشتراكي» أو «يميني متفسخ»، وكان ذلك يسبب لي ضيقا شديدا، ولكنها كانت الموضة، وكان فتحي رضوان يخبرني، استنادا إلى معلوماته الخاصة، بأسماء «المخبرين» أو «المبلغين» الذين ينقلون إلى السلطات أنباء مشاعر الناس وكلامهم، وكانوا مكلفين في منطقتنا بمراقبة المسجد الصغير الذي نصلي فيه الجمعة، ومراقبة الزوار من أصحاب السيارات الفارهة، وكذلك مراقبة أحاديث الجماعات، سواء كانت جماعة من الطلبة، أو جماعات من المهنيين الذين يقضون وقت الفراغ على المقهى.
وكانت شلة الطلبة في شارع الدري تتكون مني وعلي أبو العيد، ومحمد فريد، وأخيه عادل فريد، ومحمد الشنواني، ووجيه صلاح الدين وأخيه، وجميل مكاوي (مفتش الضرائب) وأخيه نبيل مكاوي (ضابط الشرطة فيما بعد). وكان يقيم في إحدى الفيلات توءمان يصعب التفريق بينهما، ولكنهما لم يكملا تعليمهما، وكان أحدهما يعمل بعض الوقت لدى من سوف نسميه يونس اللبان، والآخر يعمل في وظيفة ثابتة في مجمع التحرير مشرفا على أرشيف البريد. وعندما بلغنا أن أحدهما قد بدأ عمله «مخبرا» (إلى جانب المكوجي والحلاق) قررنا أن نسايرهما، فلم نكن نستطيع التفريق حقا بينهما، بألا ننبذهما من الشلة بل بأن نوثق انضمامهما وندس إليهما من الأنباء ما يحيرهما! كان معظمنا قد تخرج والتحق بالوظائف، ولكننا كنا كثيرا ما نتجمع مصادفة في ساحة في منتصف الشارع لنتجاذب أطراف الحديث ومعرفة أخبار بعضنا البعض. واقترح وجيه صلاح الدين، وكان «ملك المقالب» أن يتحول إلى الحديث بالإنجليزية عندما يكون معنا أحدهما، ثم يسأله أحدنا أسئلة مثيرة بالعربية فيجيب عليها بالإنجليزية أيضا، فنحن واثقون أن أيا منهما لا يعرف تلك اللغة!
وتحقق ما كنا نرجوه إذ أتى أحدهما ذات يوم، واقترب ببسمة واضحة الاصطناع، وكانت تلك هي الفرصة التي ينتظرها وجيه، فبدأ حديث بالعربية قائلا: «انقلاب خطير!» وكان محمد الشنواني يراقب وجه صاحبنا، فاطمأن إلى أنه قد بدا عليه الاهتمام، ومن ثم تحول وجيه إلى الإنجليزية، وكانت لهجته تدفعني إلى الضحك، ولكنني كنت أقاوم الضحك وأتصنع الجد، وكان مجمل حديثه هو وصف مباراة لكرة القدم حفظه عن مذيع إنجليزي، ووسط حماسه سأله عادل فريد بالعربية: «ونجحت العملية؟» وأجاب بالإنجليزية: «نو!» واستمر يتحدث عن مهارة الدفاع في صد الهجوم، ويبدو أن صاحبنا قد ضاق صدره فهمس في أذني «هو بيحكي عن محاولة انقلاب؟» وهمست بلهجة حاولت أن تكون جادة إلى أبعد حد «اسكت واسمع». واستمر وجيه يتحدث وإذا بمحمد فريد يصبح قائلا: «يعني بعد كل ده مارضيتش؟» وذهل صاحبنا. وقال عادل: «وهو .. كان قالع؟» وأجابه وجيه بالإنجليزية. ثم قال الشنواني «على رأيك .. أخطر انقلاب في حياته .. قلب حياته رأسا على عقب!»
وفوجئ الجميع بصاحبنا ينفجر قائلا: «انتو بتضحكوا علي؟ أنا عارف انتو بتحكو على إيه!» وقال له عادل: «إنت عارفها؟» وقال محمد: «أنا شفته مع أخوها» وقلت أنا في تؤدة: «الراجل ما يهموش الفضايح الجنسية بتاعتكم ..» ووضعت يدي على كتفه وقلت: «ده راجل فاضل .. وغلطان اللي بيسمع لكم!» وبدت الحيرة على وجهه. وتلعثم ثم انصرف في اضطراب واضح.
وعندما سألني الأسطى فوزي الحلاق أثناء قص شعري عن رأيي في عبد الناصر، هكذا وبصورة مباشرة، قلت له: «رأيي هو رأيك .. إنت رأيك إيه؟» وقال بسرعة «لا .. إنت راجل متعلم .. يعني عاجبك اللي بيقوله على الملك حسين والملك فيصل؟» وبنفس سرعته قلت له: «وإنت شايف إيه؟» وعاد يقول: «أنا عايز أستفيد منك!» وقلت له إنني مواطن مخلص ولا علاقة لي بالسياسة، ولكن لي أصدقاء في جهات عليا سوف أبلغهم بمدى اهتمامك بالحديث عن عبد الناصر! وتوقف الحلاق برهة وفي يده المقص، وبدا أن عبارتي قد أصابت هدفها تماما، فجعل يحدق في المرآة ناظرا إلى صورة وجهي وأنا أتطلع إليه، وقال في صوت خفيض: «أنا ما أقصدش حاجة ..» وبسرعة قلت له «إنت بتتكلم على جمال عبد الناصر بقى لك ساعة!» وضحك ضحكة بدا فيها الحرج وقال: «أهو كلام يا أستاذ محمد .. بناخد وندي في الكلام!» ومنذ تلك اللحظة صار يتحاشى نظراتي إليه في الشارع، ويبدو كالمهموم الذي يحمل أثقالا لا يقوى على حملها.
أما التوءم الذي يعمل عند يونس اللبان فقد حدث له ما صرفه عن مهنة استراق السمع فترة ما؛ إذ كان والد اللبان قد اقتنى زوجة صغيرة جميلة، نقل إليها ملكية العمارة، فأصبحت الآمرة الناهية في محل الألبان باسم زوجها، وكان التوءم لا يطيق أوامر السيدات، فكان يشكو ليونس، ويونس يشكو لي؛ إذ كان طالبا منتسبا في قسم التاريخ، وكان يلجأ إلي لأشرح له ما استعصى عليه في دروس اللغة الإنجليزية، ولم يكن يكترث لوجود التوءم؛ فهو «كاتب حسابات» وحسب، ولكنه كان قد ضاق ذرعا بنمط الحياة في ظل الزوجة الجديدة. وسرعان ما بدا شعاع من الضوء في حياته، ولم يكن الشعاع باهرا ولا جميلا، ولكنه كان يمثل حلا للمشكلة؛ إذ كانت للزوجة ابنة من زيجة سابقة، وكانت تزعم أنها أنجبتها وهي ابنة اثنتي عشرة سنة، وأنها الآن قد بلغت السادسة عشرة (بالحساب الهجري) ومن ثم عرضت عليه أن يتزوج الفتاة ويقيم مع الأسرة، في شقة من شقق العمارة الضخمة، وبذلك يصبح شريكا في كل شيء!
واستشارني يونس فسألته سؤالا كان الحري بي ألا أسأله؛ إذ سألته إذا كان يحبها، وأدركت عندما أجابني مدى خطأ السؤال، إذ تحدث عن موقفه وهو يعمل منذ طفولته في الدكان، ويتفانى في خدمة والده ظانا أنه سيكون وريثه، وكان منطلقا في روايته عندما تداركت الخطأ وقلت له «يبقى على بركة الله .. المهم أنها بتحبك ..» وتزوجا، وبدا كل شيء على ما يرام عدة شهور، ثم بلغنا من التوءم أن الوالد توفي فجأة، ولم يكن يشكو أي مرض، وكان التوءم يهمس بشكوكه في النساء، ولكننا استبعدنا ذلك الاحتمال.
وجاءني التوءم ذات يوم في نحو السادسة صباحا وهو في حالة اضطراب يطلب مني الخروج معه، وارتديت ملابسي وخرجت بسرعة، وذهب بي إلى دكان اللبان حيث وجدنا يونس في حالة يرثى لها، كانت عيناه حمراوين، وكان يتكلم في شبه ذهول، قائلا إنه عندما عاد إلى شقته في مساء اليوم السابق، في نحو الواحدة صباحا، لم يستطع فتح الباب بالمفتاح لأن الزوجة كان قد غيرت الكالون، فطرق، ففتحت حماته (وأرملة أبيه) الشراعة وقالت له: «موش عايزين النهارده .. مع السلامة!» وضحك متصورا أنها كانت فكاهة، ورجاها أن تفتح الباب لأنه في حاجة شديدة إلى النوم، ولكنها أصرت على موقفها، وكانت تستخدم باستمرار عبارات مثل: «عايز إيه؟» «إنت مين؟» «امشي أحسن أنده لك العسكري!» ومن ثم اضطر إلى قضاء الليلة في الدكان جالسا على الكرسي، والحمد لله أن الليل كان قصيرا، والجو لا بأس به، ولم يجد من يستشيره سوى صديقه العاقل (يقصد شخصي الضعيف).
ولما وجدت نفسي في موقف يفرض علي التصرف العاقل، قررت أن أقوم بدور الوساطة، فوعدته أن أعود إليه بعد أن أغتسل وأرتدي ثيابا لائقة، وفعلا عدت بعد نحو ساعة، فطلبت منه الانتظار حتى أكلم السيدة، وصعدت مع التوءم إلى الشقة، وعندما طرقنا الباب فتحت لنا السيدة «الكبيرة» الشراعة، وكان الواضح أنها قد استيقظت من مدة طويلة، وسألتنا عن الغرض من الزيارة فقلت لها: «هل هذه شقة يونس اللبان؟» فقالت بسرعة ورنة انزعاج: «أيوه يا خويا .. هو فين؟ جرى له حاجة؟ أصله ما جاش ليلة امبارح!» ولم أعرف ماذا أقول. وبعد ثوان أحسست أنها كانت دهرا قلت لها: «لأ .. هو بخير .. بس كنا عايزينه في حاجة!» وردت بنفس اللهفة: «حاجة إيه كفى الله الشر؟ عمل حاجة؟ إنتوا بوليس؟» وحاولت بكل طاقتي أن أعيد الاطمئنان إليها، ولم أشأ أن أقص عليها ما رواه لي يونس؛ عسى أن يكون في الأمر سوء تفاهم، وقلت لها إن الأمر يتعلق بدراسته في الكلية، وإنني أعمل مدرسا في الجامعة وأطلعتها على الكارنيه، فاطمأنت، وانصرفنا.
وعندما هبطنا إلى يونس وجدناه قد أعد مجموعة من السكاكين والهراوات، وقال لنا إنه سوف يرتكب جريمة قتل، وكان في حالة هياج لم نفلح في إخراجه منها إلا بإغلاق الدكان والخروج معه إلى الطريق العام، وسرنا في اتجاه شارع النيل، وكان هدفي الأول هو أن أتبين حقيقة ما حدث، فجلس ثلاثتنا على مقهى صغير في حارة متصلة بشارع «محمد عوف» (وما يزال المقهى قائما حتى الآن) وطلبنا منه إعادة رواية ما حدث، فأعاد القصة بحذافيرها، وقلت له، «ألا يحتمل أن يكون أخطأ في الشقة؟» وسأله التوءم: «ألا يمكن أن تكون قد فقدت المفتاح؟» ونظر إلينا مثل الغائب عن الوعي وقال: «إنتوا صدقتوها؟» وترقرقت في عينيه دموع آلمتني ألما شديدا، فنهضت واصطحبته إلى خارج الدكان، فسار معي مطيعا حتى شارع نوال، وظللنا نسير حتى ميدان الدقي، ولم نكن نتبادل الحديث بل كنا نسير في صمت، وكان الصباح جميلا والنسائم منعشة، وعندما وصلنا إلى الجامعة حرصت على أن أشغله بأشياء كثيرة حتى الظهيرة ثم اصطحبته في طريق العودة بالأتوبيس.
وعندما دخلنا المحل قال لنا التوءم إن السيدة سألت على يونس، ولم أعرف من أصدق ومن أكذب، فطلبت منه أن يعود إلى شقته فقال: تعال معي! ولم أجد في ذلك غضاضة فصحبته حيث أدار المفتاح في قفل الباب وفتحه ودخل (ترى هل قامت السيدة بتغيير الكالون فوضعت القديم مكان الجديد؟).
ولم تمض أيام حتى تكررت الحادثة، وقمت بالوساطة من جديد، وكنا قد بدأنا نقترب من موعد الامتحانات فلم أكن أشاهد يونس اللبان كثيرا، ويبدو أن الحادثة تكررت عدة مرات وكان الصفاء يعود في كل مرة، حتى جاءني يونس ذات يوم وقال لي إن زوجة أبيه عرضت عليه أن يطلق ابنتها في مقابل التنازل عن كل حقوقها، و«تأجير» الدكان له. ولم أفهم.
وسألته إن كان والده قد أعطاه ملكية الدكان، فأجاب بالنفي، فسألته عن الشقة فقال إن كل شيء مكتوب باسم زوجة أبيه، وأنه لم يرث إلا بعض المال السائل، وهو يستطيع أن يبدأ به عملا في مكان ما. وعندما قررت أن أذهب إلى المرأة وأتبين حقيقة الأمر، وما إن شاهدتني حتى صاحت «أهو الدكتور شاهد!» ولم أفهم ماذا تعني إلا عندما أجلت بصري في الشقة فوجدت أشخاصا لا أعرفهم، ويبدو أنهم من أهلها، وأنها كانت تقص عليهم قصة ما، ولم تتوقف المرأة عن قصتها: «الولد ده مجنون! وإن ما كانش حيطلق بنتي بالسياسة حطلقها بالمحكمة! وأنا عملت له محضر تعدي في القسم! وعنده سكاكين وبلط عايز يقتلنا بيها .. إحنا الولايا اللي مالناش حد!» ثم انفجرت باكية وأمها تهدئ من روعها، وكانت أمها سيدة طاعنة في السن وما تزال بها مسحة من جمال الصبا، وتضع كثيرا من المساحيق والأصباغ! وقال أحد الموجودين: «قول له يا دكتور محمد يطلق وما يضيعش مستقبل البنت .. وهي حتبريه وتأجر له الدكان!» [تبريه: تبرئه من حقوق الزوجة المالية].
وجلست أستمع إلى قصص متناقضة؛ بعضها ينسب الوحشية ليونس الوديع، وبعضها ينسب الجنون لوالده المتوفى، وقدمت لنا إحدى الموجودات عصير ليمون، وأنا أخالس يونس النظر فأراه شاردا لا يقوى على النطق، وفجأة انشقت الأرض عن مأذون مثل الذي نراهم في السينما، ويبدو أنه كان قد انتهى من جميع الإجراءات ولم يبق إلا توقيع يونس على عقد الطلاق البائن، وعلى عقد إيجار المحل، كما قدم له المأذون ورقة تبرئة من الالتزامات، وبمجرد الانتهاء من ذلك، والذي لم يستغرق دقائق، انطلقت الزغاريد من غرفة مجاورة وانصرفنا.
واستأجر يونس شقة في شارع محمد شكري (الذي كان ماهر البطوطي يقيم فيه) فكنت أزوره أحيانا، فأرى السكاكين والهراوات معلقة على الحائط انتظارا ليوم الانتقام، ثم ما لبث جسده أن نحل وذوى، وغارت عيناه، ولكن الحظ ابتسم له فتخرج في قسم التاريخ، وعين في نفس العام (نوفمبر 1964م) مدرسا للغة الإنجليزية بإحدى قرى محافظة الجيزة، بالقرب من الصف، وكنت أراه لماما في الشهور الستة التالية قبل رحيلي إلى إنجلترا، والواقع أن وظيفة مدرس اللغة الإنجليزية، على معرفته الهزيلة بتلك اللغة، أكسبته رونقا وطلاوة، فكان حين يزور الحي (بعد أن تخلى عن دكان الألبان) يحادثني تليفونيا بالإنجليزية المصرية، وعندما أقابله لا يقول لي
glad to see you
أو حتى
How are your ؟ ولكن يقول لي
happy occasion (أي مناسبة سعيدة) وهذا تعبير لا يستعمل في اللغة الإنجليزية أبدا. وعندما عدت من إنجلترا عام 1975م كان الدكان قد اختفى، ولم أسمع عنه ولا عن أصحاب العمارة أي أخبار، على إلحاحي في السؤال والتقصي.
11
كانت الحياة من حولنا آنذاك مسرحا كبيرا، وكانت عيني تلتقط المشاهد وأذني تلتقط الأصوات، وكانت تعليقات سمير سرحان نفاذة لاذعة؛ إذ كان يتمتع بحس السخرية وروح الفكاهة الكفيلة بتحويل أي مشهد وأي مسمع إلى قطعة فنية. وكثيرا ما كان يستطيع بإضافة عبارة واحدة أن يحيل الحادثة الحقيقية إلى حادثة فنية! وذات يوم كنا عائدين من المسرح في وقت متأخر، وكنت أنتوي قضاء الليل في شقة الروضة للعمل في ترجمة «روميو وجوليت»، فقررنا استيقاف تاكسي لتوصيله أولا إلى الجيزة ثم الذهاب بعدها إلى الروضة. وعندما وقف التاكسي وهممنا بالركوب أضاء السائق نور السيارة الداخلي وتطلع في وجهينا مليا مما أثار دهشتنا، ولكنه أطفأ النور وقال: «لا مؤاخذة يا أفندية .. أصل امبارح ركب معاي جدعين وقالوا لي أوصلهم لمدينة المهندسين .. حتة مقطوعة بعيد عنكم ورا نادي الصيد! وأول ما وقفت مسكوني وسكعوني علقة وخدوا الفلوس كلها - فوق سبعة جنيه ونص!» وسألناه عن أوصافهما فانطلق يتحدث عن حياته وأحواله حتى وصلنا إلى الجيزة، وهناك قررت مغادرة التاكسي مع سمير وعبور كوبري عباس سيرا على الأقدام، فطلبنا منه الوقوف في آخر شارع الجامعة، وكان مهجورا تماما في تلك الساعة، ودفعنا له الأجرة (نحو 17 قرشا مع قرش للبقشيش) ثم انصرف. وهنا قال لي سمير، في نبرة ساخرة كأنما يضع اللمسة الأخيرة للقصة، «وهنا أعلن الراكبان عن اعتزامهما سلب نقود السائق، فصاح قائلا اتفضلوا اتفضلوا .. بس بلاش ضرب، وانطلق لائذا بالفرار!»
كانت فكرة تكرار السرقة، رغم احتياط السائق بإضاءة النور والتطلع إلى وجوه الركاب، قادرة على أن تحيل الحادثة «الإجرامية» إلى حادثة إنسانية؛ إذ يتحول عندها سائق التاكسي إلى «بطل» للقصة؛ فهو إنسان يجد ويجتهد في جمع النقود، وحياته لوحة كاملة الأبعاد لا تحتاج إلى المزيد من الرتوش، وبعد تكرار الحادثة تتحول حياته إلى «احتمالات» لا تتوقف؛ إذ يتحول هو أولا إلى إنسان يستريب بكل راكب، وتتحول رحلة التاكسي كل يوم إلى رحلة في عالم الخطر، وتصبح روايته لقصة الضرب وسلب النقود مونولوجا دراميا ينتهي نهاية مفجعة.
ولكن الكلمة التي غرست القصة في ذهني، وصورة السائق النحيل ذي الشارب الخفيف والحلة البالية، هي كلمة «سكعوني»! هي قطعا تحوير لكلمة «صك» ولكن العامية مولعة بحرف العين؛ فهو أصيل في العربية واللغات السامية، ومن العبث البحث في العربية إذا تجاهلنا حروفها الأصلية، مثلما فعل لويس عوض بعد ذلك بعشرة أعوام في كتابه «مقدمة في فقه اللغة العربية»؛ فنحن في مصر نضيف العين بعد الكاف أو قبلها لتوليد كلمات جديدة، فنقول: يكعمش (يكمش)، ويكعبش (يكبش)، ويتكعور (يتكور)، ويتكعبل (يتكبل)، ويكعكع (يتكأكئ)، ويتلكع (يتلكأ) ... وهلم جرا، فالعربية تستبدل العين بالهمزة في التمويع (بدلا من التمويئ؛ أي إضافة الماء)، بل ولم يجد بعض العرب المحدثين غرابة في إضافة العين إلى المكرونة فأصبحت معكرونة!
وكان من أسباب جمال عبارة «سكعوني علقة» هي أنها تدل على ظلم فادح؛ فالمضروب بريء، وهو عامل يكد ويجتهد ليلا ونهارا لكسب الرزق، ولو كان ما حدث له مقصورا على السرقة لهان الأمر، ولكنه عوقب على ذلك عقابا مريرا بأن «سكعوه» العلقة! فالمفارقة القدرية قائمة منذ البداية، وهي مفارقة مضحكة مبكية، أما تكرارها - كما اقترح سمير سرحان - فيحيلها إلى حدث رمزي بلغة النقد الحديث، بمعنى أنه يضفي عليها دلالات أعمق وأبعد من المأساة الفردية؛ إذ يجعلها تتخطى ذلك إلى دلالات جهد الناس في عالم لا يأبه، بل ويتربص بهم الدوائر، أو ما شئت من دلالات أخرى تتجاوز الحادثة العارضة لأنها تقيم نمطا أو بناء داخليا .. أو قل - بلغة النقد الحديث أيضا - شكلا باطنا، والشكل له معنى قد يتخطى أحيانا معنى المادة المشكلة!
وكانت الأحداث التي تقع حولنا في تلك الأيام لا تختلف عن الأحداث التي تقع في كل مكان وزمان، ولكننا كنا صغارا نسبيا، فلم يكن أي من أفراد الشلة قد تخطى السادسة والعشرين، ولكننا كنا نتمثل كل ما نقرأ وكل ما يحدث في وجداننا دون قلق على مرور الزمن، فالنهار طويل والليل أطول، ورؤية الحياة بوجدان الطفل تلغي الإحساس بأن ثمة نهاية، ومن ثم بالفناء، وربما كان هذا هو ما يعنيه وردزورث حين خاطب الطفل قائلا إن الخلود ينشر جناحيه عليه مثل ساعات النهار! وأنا أحاول الآن، في غضون استرجاع الأحداث التي حفل بها عام 1964م، وإحساسانا بهذه الأحداث، أن أذكر ما كنا نشعر به فلا أستطيع! وأعود إلى ما قاله الشاعر الإنجليزي نفسه حين قال في قصيدة أخرى إن النفس تذكر كيف أحست، لكنها لا تذكر ما أحست به! وهو يعلق على ذلك قائلا إن في محاولة استرجاع الزمن والعجز عنه دليلا على أن الزمن مطلق! أين ذهبت أحداث الأمس ومشاعره؟ وهل ما بقي منها في النفس هو ما خامر النفس آنذاك؟ وما مدى تحولها وتبدلها على مر الأيام وكر السنين؟ إن فشل الإنسان في إدراك ذلك هو سبيله إلى التسليم بوجود الزمن، والزمن بعد هو الفيض الدفاق أبدا، ولا يستطيع إدراك حقيقة الخلود من يغفل عن هذه الحقيقة.
كنا جميعا نعيش في سياقين زمنيين متلازمين، وأكاد أقول متطابقين؛ الأول هو سياق الحاضر - الذي يجرفنا بأحداثه فلا نحس به، والثاني هو المستقبل الذي نحس به كأنه نور دفاق يملأ الأفق ويمتد بلا نهاية، وهذا هو الذي قال عنه وردزورث إنه إشعاع ضوء الأبدية الذي ولدنا به، وكان يعني به يقين الروح من الانتماء إلى عالم غير أرضي! ولما كان وردزورث يؤمن بأن ضوء الأبدية فطري، أي بأنه يولد مع الإنسان، فقد كان يفسر أي إحساس بهذا الضوء بأنه «ذكرى» لعالم الغيب الذي أتى منه، وهذه رؤية شاعر على أي حال، أما أنا فكنت أرى أن هذا النور الدفاق أبدا هو الحقيقة الوجودية التي اختص الله الإنسان بإدراكها؛ سواء وضعها في رموز مستقاة من حياته (مثلما يفعل زعبلاوي بطل قصة نجيب محفوظ الشهيرة)، أو تركها مطلقة تشرق وقتما تريد، وتهب المعنى لوعيه بذاته في لحظات نادرة الحدوث.
وعندما كنا نعمل بجد في تلك الأيام، كان بعضنا يطل على المستقبل من خلال رموزه، فكان بعضنا يرى نفسه في صورة كاتب مسرحي، وقد يكون هذا الكاتب علما يشار إليه بالبنان، أو في صورة أستاذ مرموق، أو في صورة أستاذ وكاتب معا، لكن الصورة كانت تتداخل، وكنت أكثر من يعانون من هذا التداخل، فعندما يكتب الإنسان كلاما ثم يسمعه منطوقا على المسرح بنبرات وأنغام قد تتفاوت وقد تغير معناه، تختلط المعاني ويبدأ في التساؤل عن الوعي الذي تدل عليه، وعندما كنت أترجم «روميو وجولييت» كنت أتساءل عن المتكلم - شيكسبير أم الشخصية أم أنا أم الممثل؟ وكثيرا ما كنت أسمع الصوت الداخلي وقد تهدج وبدت عليه دلائل الإرهاق!
12
وفي الشهور الأولى من عام 1965م كنت أعمل بجد في الرسالة التي تأخرت، وفي ترجمة شيكسبير، وكتابة مقالات مجلة المسرح، وكنت أحس بأنني أصبحت حبيس زمن لا يريد أن يتحرك! ولذلك كثيرا ما كنت أخلو بنفسي في شقة الروضة، التي ظلت سرا لا أطلع عليه أحدا (حتى لا يرتادوها فيفسدوا خلوتي، وقد يفعلون ما لا أحب)، وكانت خطيبتي نهاد تشكو من أنها أحيانا ما تفشل في العثور علي في أي مكان في القاهرة! ولكنني كنت أشعر يوما بعد يوم بأن القراءة تتطلب الخلوة، وكانت الكتب التي لا بد من قراءتها تفرض علي العزلة، ومن ثم تمكنت من الانتهاء من ترجمة روميو وجوليت، ودفعت بها إلى المطبعة في مارس، وظهرت في عدد إبريل، ومع ظهورها جاءتنا مكالمة تليفونية غير متوقعة! كانت المتحدثة هي الدكتورة لطيفة الزيات، وأبلغتني باقتضاب أن علي صبري قد وقع قائمة تضم عشرة أشخاص سمح لهم بالخروج من مصر، وأن اسمي واسم سمير سرحان في القائمة، بعد أن اكتشف الموظف المسئول أن ميزانيتنا سبقت الموافقة عليها عام 1963م.
وأهرعت إلى سمير أبلغه الخبر السعيد، وسرعان ما استخرجنا جوازات السفر، وكانت مشكلة جواز السفر هي أنه لا يسمح باستخراج الجواز إلا مع النص على اسم الدولة التي سيسافر إليها المسافر، ولم تكن أوراق إدارة البعثات تسمح بالنص على إنجلترا (بالنسبة لي)، وأمريكا (بالنسبة إلى سمير) فخرج كل جواز وبه دولة واحدة يسمح لها بالسفر؛ هي ليبيا! وعملنا أسبوعين عملا شاقا لإضافة الاسمين، وما يزال جواز السفر القديم معي يحمل تأشيرة تقول «ليبيا - أضيفت إنجلترا بمعرفة المصلحة». وسرعان ما اشتريت تذكرة السفر، ذهاب فقط، بنحو 93 جنيها، وبدأنا الاستعداد، في سباق مع الزمن؛ للرحيل قبل أن يغير أحد المسئولين رأيه.
وحددت أنا تاريخ السفر في أقرب فرصة، وهو يوم 12 مايو 1965م، بينما حدد سمير الموعد بعده بأسبوعين، وصرنا نتردد على مجمع التحرير يوميا للانتهاء من الإجراءات، وتغيرت صورة مصر في نظري على الأقل؛ إذ كانت السنوات الست التي قضيتها بعد التخرج حافلة بالعمل، وبما هو أهم من العمل؛ ألا وهو الانتماء لمجتمع أدبي وفني مزدهر، بما في ذلك من علاقات بشرية عميقة ومتعددة، ولكن الذي لم أكن أعمل له حسابا هو البعد عن اللغة العربية؛ فلقد اكتسبت في تلك السنوات قدرة على الإحساس بها والتعبير بها، جعلها جزءا لا يتجزأ من كياني؛ وكذلك الابتعاد عن العود! وكنت قد اشتريت جهاز تسجيل ضئيل الحجم من أحمد أبو شادي (زميل فاروق عبد الوهاب) سجلت عليه بعض الألحان التي صنعتها لقصائد صلاح جاهين وما زلت أحفظ بعضها! لم أكن أعرف أن غيبتي ستطول عشر سنوات! وفي ليلة السفر دعانا رشاد رشدي مع نهاد وفاروق وسمير إلى السهرة في عوامة (مركب راسية) في النيل وجعلنا نتحدث حتى الساعات الأولى من الصباح، ثم حملت حقيبتي واتجهت إلى المطار، ولما كنت أكره لحظات الوداع والانفعالات المعتادة، بادلت المودعين التحية باقتضاب، في مطار خال من المسافرين، وفي الثامنة تماما أقلعت الطائرة ثم هبطت في مطار روما، حيث توقفنا ساعة، انتهزت الفرصة فيها لإرسال بطاقة إلى مصر، بعد أن غيرت النقود الإنجليزية بإيطالية، وكان لا يسمح للمسافر بأكثر من خمسة جنيهات إسترلينية.
وفي مساء ذلك اليوم هبطت الطائرة في لندن، وبدأت رحلة جديدة في واحات الحياة، وانطوت معها رحلة الزمن في الواحات التي كتب لها أن تختفي من حياتي إلى الأبد.
تقديم
تصدير
1 - لندن
2 - الشتاء الأول
3 - الخريف الجميل
4 - النكسة
5 - النهر والروافد
6 - سارة
7 - تحولات
8 - العودة
ملحق صور
تقديم
تصدير
1 - لندن
2 - الشتاء الأول
3 - الخريف الجميل
4 - النكسة
5 - النهر والروافد
6 - سارة
7 - تحولات
8 - العودة
ملحق صور
واحات الغربة
واحات الغربة
سيرة ذاتية: الجزء الثاني
تأليف
محمد عناني
تقديم
على نحو ما أذكر في كتابي «فن الترجمة» - وما فتئت أردد ذلك في كتبي التالية عن الترجمة - يعد المترجم مؤلفا من الناحية اللغوية، ومن ثم من الناحية الفكرية. فالترجمة في جوهرها إعادة صوغ لفكر مؤلف معين بألفاظ لغة أخرى، وهو ما يعني أن المترجم يستوعب هذا الفكر حتى يصبح جزءا من جهاز تفكيره، وذلك في صور تتفاوت من مترجم إلى آخر، فإذا أعاد صياغة هذا الفكر بلغة أخرى، وجدنا أنه يتوسل بما سميته جهاز تفكيره، فيصبح مرتبطا بهذا الجهاز. وليس الجهاز لغويا فقط، بل هو فكري ولغوي، فما اللغة إلا التجسيد للفكر، وهو تجسيد محكوم بمفهوم المترجم للنص المصدر، ومن الطبيعي أن يتفاوت المفهوم وفقا لخبرة المترجم فكريا ولغويا. وهكذا فحين يبدأ المترجم كتابة نصه المترجم، فإنه يصبح ثمرة لما كتبه المؤلف الأصلي إلى جانب مفهوم المترجم الذي يكتسي لغته الخاصة، ومن ثم يتلون إلى حد ما بفكره الخاص، بحيث يصبح النص الجديد مزيجا من النص المصدر والكساء الفكري واللغوي للمترجم، بمعنى أن النص المترجم يفصح عن عمل كاتبين؛ الكاتب الأول (أي صاحب النص المصدر)، والكاتب الثاني (أي المترجم).
وإذا كان المترجم يكتسب أبعاد المؤلف بوضوح في ترجمة النصوص الأدبية، فهو يكتسب بعض تلك الأبعاد حين يترجم النصوص العلمية، مهما اجتهد في ابتعاده عن فكره الخاص ولغته الخاصة. وتتفاوت تلك الأبعاد بتفاوت حظ المترجم من لغة العصر وفكره، فلكل عصر لغته الشائعة، ولكل مجال علمي لغته الخاصة؛ ولذلك تتفاوت أيضا أساليب المترجم ما بين عصر وعصر، مثلما تتفاوت بين ترجمة النصوص الأدبية والعلمية.
وليس أدل على ذلك من مقارنة أسلوب الكاتب حين يؤلف نصا أصليا، بأسلوبه حين يترجم نصا لمؤلف أجنبي، فالأسلوبان يتلاقيان على الورق مثلما يتلاقيان في الفكر. فلكل مؤلف، سواء كان مترجما أو أديبا، طرائق أسلوبية يعرفها القارئ حدسا، ويعرفها الدارس بالفحص والتمحيص؛ ولذلك تقترن بعض النصوص الأدبية بأسماء مترجميها مثلما تقترن بأسماء الأدباء الذين كتبوها، ولقد توسعت في عرض هذا القول في كتبي عن الترجمة والمقدمات التي كتبتها لترجماتي الأدبية. وهكذا فقد يجد الكاتب أنه يقول قولا مستمدا من ترجمة معينة، وهو يتصور أنه قول أصيل ابتدعه كاتب النص المصدر. فإذا شاع هذا القول في النصوص المكتوبة أصبح ينتمي إلى اللغة الهدف (أي لغة الترجمة) مثلما ينتمي إلى لغة الكاتب التي يبدعها ويراها قائمة في جهاز تفكيره. وكثيرا ما تتسرب بعض هذه الأقوال إلى اللغة الدارجة فتحل محل تعابير فصحى قديمة، مثل تعبير «على جثتي» (
over my dead body ) الذي دخل إلى العامية المصرية، بحيث حل حلولا كاملا محل التعبير الكلاسيكي «الموت دونه» (الوارد في شعر أبي فراس الحمداني)؛ وذلك لأن السامع يجد فيه معنى مختلفا لا ينقله التعبير الكلاسيكي الأصلي، وقد يعدل هذا التعبير بقوله «ولو مت دونه»، لكنه يجد أن العبارة الأجنبية أفصح وأصلح! وقد ينقل المترجم تعبيرا أجنبيا ويشيعه، وبعد زمن يتغير معناه، مثل «لمن تدق الأجراس»
for whom the bell tolls ؛ فالأصل معناه أن الهلاك قريب من سامعه (
It tolls for thee )، حسبما ورد في شعر الشاعر «جون دن»، ولكننا نجد التعبير الآن في الصحف بمعنى «آن أوان الجد» (المستعار من خطبة الحجاج حين ولي العراق):
آن أوان الجد فاشتدي زيم
قد لفها الليل بسواق حطم
ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزار على ظهر وضم
فانظر كيف أدت ترجمة الصورة الشعرية إلى تعبير عربي يختلف معناه، ويحل محل التعبير القديم (زيم اسم الفرس، وحطم أي شديد البأس، ووضم هي «القرمة» الخشبية التي يقطع الجزار عليها اللحم)، وأعتقد أن من يقارن ترجماتي بما كتبته من شعر أو مسرح أو رواية سوف يكتشف أن العلاقة بين الترجمة والتأليف أوضح من أن تحتاج إلى الإسهاب.
محمد عناني
القاهرة، 2021م
تصدير
هذا هو الجزء الثاني من سيرتي الذاتية «واحات العمر»، وعنوانه «واحات الغربة» يعفيني من الحديث عنه؛ فهو يتناول أحداث السنوات العشر التي قضيتها مغتربا أطلب العلم في إنجلترا، 1965م إلى 1975م، والواحات التي أعنيها هنا هي لحظات الوعي التي ما تزال حية نابضة في النفس، وهي اللحظات التي تؤكد لنا حياة الروح، كياننا الذي يكتنفه الغموض أبدا، منابعه مجهولة، ومساراته متعددة ملتوية متشابكة، ومصبه بحر شاسع بلا شطآن، لكنه كالزمن إحساس بالوجود وإطلال على ما وراء الزمن - على الخلود.
ولقد شاركني الكثيرون حياة الغربة في تلك الواحات فنفوا عنها الغربة؛ منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، ومنهم من شاركني مشاعري الدقيقة وكابدها لحظة بلحظة، ومنهم من لا يزال يذكر تفاصيلها - بل من يذكرها خيرا مني - وأنا أذكر أسماءهم الحقيقية، وأرجو أن يغفروا لي إغفالي بعض التفاصيل التي أفلتت رغم أنفي من الذاكرة، أو التي تنكرها الذاكرة - على حد تعبير وردزورث (
disowned by memory ) - فذاكرتي تستعين بالأوراق التي سجلت فيها تلك الأحداث، وهي أوراق واهية قد تسجل الواقعة ولا تسجل الدلالة، ونحن نغوص في أعماقنا استرجاعا لها وهي عصية متأبية، وقد يرى بعضهم أنني أغفلت ما هو مهم وسجلت ما هو غير جدير بالتسجيل، ولكن الغوص في أعماق النفس لا يأتي دائما باللآلئ، بل قد يكون الغوص هو الغاية، لا ما يعود به الغواص.
إلى هؤلاء جميعا أهدي هذه الصفحات، وإذا كنت أهديت الجزء الأول من واحات العمر إلى زوجتي نهاد صليحة، التي صاحبتني وتحملتني في معظم أشواط الرحلة، فأنا أهدي هذه الصفحات أيضا إليها وإلى ابنتي سارة التي رأت النور أول ما رأته في الغربة، وإلى أبناء جيلها الذين لا يعرفون ما كابده الآباء في تلك الرحلة الشاقة. ولقد حاولت أن أتحرى الدقة قدر طاقتي في رصد التواريخ والأحداث، ولكن الكمال لله وحده، ونحن بشر نصيب ونخطئ. ولا شك أنني سوف أرحب بأي تصويب قد يلفت الأصدقاء نظري إليه، مثلما رحبت بتصويب بعض الأخطاء التي وقعت سهوا في الجزء الأول من واحات العمر.
وأرجو من القارئ أن يغفر لي إدراج بعض الألفاظ الأجنبية في الكتاب؛ إذ إن جل مذكراتي مكتوبة بتلك اللغة، وكنت أخشى أن أغير كثيرا من مذاق ما سمعته وسجلته إن أنا ترجمت كل شيء إلى لغتنا الجميلة. لقد تحريت الدقة كما قلت وكانت الدقة تقتضي إدراج بعض العبارات بحروفها، راجيا من القارئ أن يقبل عذري واعتذاري.
ولا بد لي أخيرا أن أشكر الأصدقاء الذين شجعوني على هذا الغوص المضني في أعماق النفس، وقرءوا النص بعناية، وأبدوا ملاحظاتهم القيمة؛ فهو سجل لأيام أرجو ألا تسقط من ذاكرتهم، وأن ينتفع به من لم يشهدها ولم يكن يدري بها.
والله من وراء القصد.
محمد عناني
القاهرة 1999م
الفصل الأول
لندن
1
عندما حلقت بي الطائرة المصرية أول مرة فوق مدينة لندن، أفقت من الغفوة التي غلبتني بعد سهر الليلة السابقة، وفتحت عيني لأرى من النافذة الضيقة سحابات قليلة، خفيفة وشفافة ومتباعدة، يسطع عليها ضوء الشمس، ويلوح فيما بينها على الأرض ما يشبه البستان الكثيف، تقوم في أرجائه بيوت منخفضة متناثرة ضئيلة الجرم، يضرب لونها إلى الحمرة، فتصورت أننا ما زلنا في الريف بعيدا عن قلب المدينة؛ إذ كنت أتوقع ناطحات سحاب أو قل بعض المباني السامقة التي أصبحت علما على الحواضر الغربية، ولكن الطائرة حومت مرتين في دائرتين متسعتين، وكانت تزداد اقترابا كل مرة من الأرض، دون أن تظهر المباني السامقة، ثم اخترقت السحاب وبدأت الهبوط، فازدادت ملامح البستان وضوحا، فأيقنت أننا سنهبط في الريف المحيط بلندن.
كانت الساعة تقترب من الواحدة ظهرا، وكان اليوم يوم الأربعاء 12 مايو 1965م والمطار حافل بالناس، وعلى الجدران لافتات تحمل سهاما توجه القادمين إلى الأماكن الخاصة بكل فئة، ووجدت السهام التي أتبعها تحدد الفئة التي أنتمي إليها (مع بعض ركاب الطائرة) وهي فئة الأجانب (
ALIENS ) تمييزا لهم عن أبناء البلد، وانتهى مساري إلى شباك فحص جوازات السفر، فدفعت إلى الموظف الجالس فيه بجواز سفري ووقفت أنتظر.
كان الجواز يقول إن من حقي السفر إلى ليبيا فقط، وكنت أخشى أن يسألني الموظف عن دلالة ذلك، وخفت أن أتلعثم في قص القصة؛ إذ كان من حق طالب البعثة استخراج جواز سفر، وكانت لوائح مصلحة الجوازات والجنسية آنذاك تقضي بعدم استخراج جواز سفر إلا إذا نص فيه على البلد المسموح بالسفر إليها، ولم تكن الموافقة على سفري إلى لندن قد صدرت من مكتب الأمن، فوضع المسئولون ليبيا باعتبارها الدولة المأمونة الوحيدة آنذاك، وعندما أنهيت إجراءات الأمن الخاصة بالسفر إلى بريطانيا كتب الموظف في الجواز الذي ما زلت أحتفظ به «أضيفت إنجلترا بمعرفة المصلحة».
كيف أشرح للموظف ذلك كله بالإنجليزية؟ وهل تراه يدرك أن مسألة الأمن لا تعني أنني قد أكون خطرا على الأمن؟ وهل تراه يفهم العبارة الخاصة «بإضافة» إنجلترا مع أنها البلد الذي تقدمت بطلب السفر إليه دون غيره؟ ولكن خوفي لم يطل؛ إذ كان الموظف شابا باسم المحيا، انتهى من تسجيل بيانات الجواز بقلم في يده، قبل شيوع استخدام آلات التصوير وبعدها الكمبيوتر، ثم سألني عن مقصدي فقلت له «الدراسة»، ولم تبد الدهشة على وجهه بل بدا مطمئنا واثقا من صدق ما أقول، وعندما طرح المزيد من الأسئلة عن الشاعر الإنجليزي الذي تخصصت فيه (وهو وليم وردزورث)
William Wordsworth
أجبته إجابات يبدو أنها أسعدته؛ إذ قال إنه درس بعض أشعاره في المدرسة، وعندما بدأ يلقي بعض أبيات من قصيدة له، أكملتها له فضحك، وتمنى لي حظا سعيدا وسلمني الجواز، وطلب مني أن أتجه بعد أن يستقر بي المقام إلى أقرب مخفر شرطة لتسجيل نفسي (اسمي وعنواني) واستخراج بطاقة إقامة، وانصرفت.
وعندما وصلت إلى منطقة الحقائب وجدت حقيبتي المنتفخة، فحملتها حملا فلم تكن لها عجلات، ولم يكن بالمطار حمالون أو عربات لنقل الحقائب، وعندما وصلت إلى موظف الجمارك طلب مني أن أفتحها ففتحتها، ثم قال كلاما لم أفهم منه إلا أنه يطلب مني إغلاقها، وبعد أن أغلقتها أشار لي إلى باب الخروج، فسرت مثقلا بطيء الخطو حتى كدت أن أتعثر فتوقفت. وقبل أن أخرج، ناداني أحدهم فالتفت إليه، فطلب مني الاقتراب تاركا حقيبتي في مكانها بجوار الباب.
واصطحبني هذا الموظف إلى رجل الجمارك الأول، وكان يواجه فيما يبدو مشكلة من نوع ما، ولم يستطع أن يشرح لي المشكلة. ولمحت إلى جواره راكبا مصريا يتحدث بلهجة أهل الصعيد، وقد بدا الارتباك على وجهه، ولاحت حبات العرق على جبينه، وانعقد لسانه بعد فترة فلم يعد يتكلم لا بالإنجليزية ولا بالعربية! وسألت المصري سؤالنا التقليدي «خير؟» فأشار إلى الحقيبة التي أتى بها، ونطق بعبارات مقتضبة لم تفصح عن الكثير، فسألت موظف الجمرك إن كانت المشكلة خاصة بما يحمله، ففتح الحقيبة وإذا بغطائها قد انتظمت فيه خيوط مثبتة في الجانبين، وبها أعداد كبيرة من حبات البامية الناشفة (المجففة) فبدت كأنها خيوط مسبحة أو عدة مسابح طويلة، وحدست أن والدته أو زوجته هي التي أعدتها له طعاما في الغربة، وكانت الصفوف المنتظمة المعلقة في غطاء الحقيبة الداخلي تشبه الرصاصات الصغيرة التي يضعها الجنود حول أسلحتهم أو على صدورهم فيما مضى من الزمان. كان المصري حائرا لا يدري كيف يقنع الموظف أن هذه «الطلقات» هي طعام مصري محبب، والموظف يلح في سؤالي عن سبب إحضار هذه الأشياء إلى لندن، خصوصا؛ لأن الزائر ليس طالبا، بل كان في الواقع من أقرباء ضابط في الجيش يعالج من إصابة أصيب بها في حرب اليمن، وكان قد أتى له بهذا الطعام المصري لكي يطبخه له في المستشفى، ونصحت الزائر ألا يذكر قريبه الضابط، وأن يتخلى عن البامية إذا أصر موظف الجمرك على ذلك، ولم يطل انتظارنا إذ حضر اثنان من زملاء الموظف، وقالا إن رئيسهما يصر على عرض الأشياء الغريبة على الخبراء، ويصر على رفض السماح للمصري بالدخول إلى بريطانيا، ولما تحمست في تبيان «مناقب» البامية، قال أحدهما لي: وما يدرينا أنها ليست مخدرات؟ واستبعدت ذلك القول بحزم وقوة، وإزاء نبراتي الواثقة، قال أحدهما: سنسمح له بالدخول بضمانك أنت، ووافقت، ووقعت في ورقة صغيرة، ثم طلب الموظف من المصري أن يفك خيوط البامية، ففعل ذلك والحزن يعتصره، وقدم له أحد الموظفين كيسا شفافا (نايلون) وضع البامية فيه، و«حرزها»، وألصق عليها بطاقة تحمل اسم المسافر ورقم جواز سفره، وسمح له بالذهاب.
وعندما خرجت من المطار كان علي أن أجد مكانا أقضي فيه الليل قبل أن أذهب إلى الجامعة في الصباح، وأن أذهب أيضا إلى مكتب البعثات، وكنت أحفظ عنوانه وأكرره حتى لا أنساه. وكان علي أن أذهب إلى المدينة أولا وأن أسأل مثل بطل قصيدة حجازي «يا عم من أين الطريق؟» ولم تطل حيرتي إذ تقدمت مني فتاة هندية وقالت بلهجة إنجليزية كتب علي أن أعيش معها سنوات طويلة فيما بعد: هل تريد الذهاب إلى لندن؟ فأومأت بالإيجاب فقالت إذن هيا - سوف نشترك في سيارة أجرة خاصة - وفي لمح البرق كان السائق قد وضع حقيبتي في السيارة، وأجلسني إلى جواره، والهندية وأصحابها في المقعد الخلفي، وانطلقنا نحو لندن، وفي الطريق سألني السائق بلهجة أولاد البلد في لندن (
Cockney ) عن المبلغ الذي سأدفعه له وأدركت مرماه على الرغم من أنني لم أفهم كل كلمة قالها، فقلت له بلهجة عرفت فيما بعد أنها لهجة المثقفين والأجانب «خمسة شلنات» فقال
fair enough
وأردفها بكلام كثير لم أفهم معظمه، ولكنني تساءلت في نفسي عن معنى العبارة، وعما إذا كانت تنم عن الرضا حقا، وظللت طول الرحلة أتأمل الطريق الذي تقوم الأشجار على جانبيه، والسيارات وهي مارقة بسرعة فائقة، وشمس مايو الجميلة وهي تسطع على الخضرة من حولي.
ووصلنا إلى محطة فكتوريا، ودفعت إلى الرجل ما طلبه، ثم اتجهت إلى سيارة أجرة رسمية، من التي ما تزال تعمل في لندن، وطلبت من السائق أن يتجه بي إلى أحد بيوت الشباب، وكان معي عنوانه، وانطلقنا على الفور، وعندما وصلت رأيت أن العداد يقول أربعة شلنات، ففعلت ما أوصاني به الأصدقاء بأن أضفت إليها بقشيشا قدره نصف شلن (ستة بنسات)، وتناول الرجل النقود دون تعليق سوى كلمة مقتضبة هي “Ta, guv”
اكتشفت فيما بعد أنها تعني «شكرا يا أستاذ» وأنها تتكون من كلمتين لا كلمة واحدة هما العامية الدارجة لتعبير “Thanks, Governor!” ، وفي بيت الشباب اكتشفت أن أجر المبيت (مع الإفطار) هو 15 شلنا، وكان معنى هذا أنني إذا لم أسرع إلى مكتب البعثات للحصول على المال فسوف أفلس بعد قليل؛ إذ كان كل ما سمح لي بحمله من النقود عندما خرجت من مصر هو خمسة جنيهات استرلينية أنفقت منها أكثر من جنيه في يوم واحد. وبعد أن وضعت حقيبتي في الغرفة خرجت للسير في الطريق الواسع الممتد، والربيع يكسو المنطقة بالزهور والخضرة الزاهية والدفء الجميل.
محمد عناني وعيسى موسى (من ليبيا) والدكتور/نعيم إليافي (من سوريا) يمسك المظلة.
كانت تجربة إفطار الصباح فريدة لم أعهد لها مثيلا في حياتي. كان بيت الشباب يعج بالأجانب، معظمهم أوروبيون، وكان الإفطار يتكون أساسا من السمك، سمك الرنجة غير المدخنة، وهناك البيض لمن يريد، واللبن، و«كورن فيلكس» الذي أصبح معروفا في مصر، والشاي! وكان الجميع يلتهمون الطعام بشهية كبيرة، ولاحظت عدم وجود مكان لغسل الأيادي والفم، فعدت إلى الغرفة لأداء ما اعتدت عليه، ثم انطلقت إلى مكتب البعثات. وهناك قابلت مستر فيولنج
Fuling ، وهو فيما يقال أجنبي (أي غير بريطاني) يحب المصريين وقضى معظم سني حياته عاملا بالمكتب ، فاستقبلني بالترحاب، وانتهينا من بعض الأوراق الرسمية، ثم أخذني إلى مدير المكتب؛ حيث تناولت شيكا بعشرة جنيهات، باعتباره جزءا من مرتبي الذي يبلغ 45 جنيها في الشهر، إلى جانب ثلاثة جنيهات «علاوة لندن». وبعد أن وضعت النقود في جيبي (إذ كان فرع البنك مجاورا للمكتب) اتجهت إلى كلية بدفورد
Bedford College
التابعة لجامعة لندن؛ حيث قابلت رئيسة القسم الأستاذة تيلتسون
Tillotson ، وسألتني عن سبب تأخري في المجيء، وقابلت بعض الأساتذة الآخرين، ومنهم مستر كيرجنفن
Curgenven ، الذي حدده القسم للإشراف على دراستي. وقال لي المشرف ضاحكا: «لقد أتيت بالجو الصحو من مصر!» ثم ضرب لي موعدا في يوم الإثنين التالي. وانصرفت.
البط فوق سطح البحيرة المتجمدة في حديقة ريجنت.
خرجت من باب الكلية التي تقع في وسط حديقة ريجنت
Regent’s Park
لأجد ما لا يمكن أن أصفه إلا بالجنة! كانت الحديقة منبسطة لا تبدو لها نهاية. وفي وسطها تجري قنوات المياه العذبة التي تسبح فيها الطيور - البط بأنواعه التي كنت أعرفها جيدا، والإوز العراقي (التم) الذي يشيرون إليه خطأ باسم البجع - وحولها على الأشجار طيور أوروبية لا تأتي إلى مصر إلا في الخريف عندما تعبر المتوسط لقضاء الشتاء في السودان، وبدأت أتعرف على بعضها من صوتها، ودهشت لأنها كانت لا تفزع حين أقترب منها، بل تنظر إلي في حيرة أو تساؤل! وظللت أسير بين الأشجار حتى وجدت مكانا خصص للجلوس، وانتثرت فيه المقاعد الخشبية وبعض المناضد ومن حولها الكراسي، وكان على البعد أطفال يلعبون الكرة ويتواثبون فرحين صائحين في مكان خصص لهم، وكانت نسائم العصر منعشة تحمل أريج بعض الزهور التي انتظمت في أحواض خاصة، ورأيت رأي العين زهور النرجس الأصفر
Daffodils
التي كتب عنها وردزورث قصيدته المشهورة، فبهرت وتسمرت في مكاني أنظرها كأنما غبت عن الوعي!
وأفقت من دهشتي عندما سقطت بجواري كرة ألقى بها بعض الصبية، فالتقطتها ونظرت حولي باحثا عن صاحبها وإذا بفتاة كأنها من حور الجنة تقبل نحوي في سعادة باسمة ضاحكة، فألقيت إليها بالكرة، فضحكت وهي تلتقطها ثم مضت. وتذكرت وصف جيمس جويس
James Joyce
للفتاة التي رآها على شاطئ البحر في رواية «صورة الفنان شابا»
A Portrait of The Artist as a Young Man
وعجبت كيف استطاع ذلك العبقري أن يبدع تلك الصورة في كلمات قليلة، ولو حاولت أنا أن أصور هذه الفتاة ما استطعت ولو سودت صفحات وصفحات! وذكرت قصيدة «تيرنر»
Turner
بعنوان «ترنيمة إلى مجهولة»
Hymn to her unknown
التي كان رشاد رشدي قد نشرها في أحد كتبه، وبدأت أحس بصدق ما قاله وردزورث في قصيدة المقدمة
The Prelude (التي كنت أدرسها حين ذاك في مصر) عن الخيال، وبصدق ما قاله عن عجز اللغة البشرية عن التعبير عما يجيش في النفس حقا، وهو عجز يثير الأسى والحزن:
Sad incompetence of human speech
كان الخيال قد رسم لذلك الشاعر صورة مهيبة لقمم جبال الألب، ولما عبر الجبال لم يواجه المهابة بل واجه الخيال، وها أنا ذا أواجه واقعا يتضاءل معه كل خيال لي، وتعجز إزاءه كل قوة من قوى التصور والوهم! وظللت في مكاني ثابتا ألتهم بعيني صور الأشجار والأزهار والطيور والأطفال، وفي المشهد كله تموج روح البسمة الرائعة في وجه تلك الفتاة - كانت كأنما تقول إنني الحياة نفسها، وإنني روح الوجود بل وإنني الخلود!
لا أدري كم مر علي من الوقت وأنا أشهد تلك اللوحة، وكنت أعرف تماما أنني أشعر بما شعر به جويس عندما قال إن صورة الفتاة سكنت روحه إلى الأبد.
Her image passed into his soul for ever
فلكم تعددت الأماكن التي زرتها، ولكم كثر انتقالي وترحالي، ولكم شاهدت أزهارا ورياحين! ولكن تلك اللوحة الحية ظلت تتملكني وتشرق في أعماق نفسي كلما ضاقت بي الدنيا، وما فتئت أعود إليها أتملى ألوان طيورها وحركة أزهارها على شط الماء، ونسمات الربيع المنعشة فيها، وبسمة الصبية المجهولة التي ستظل صبية إلى الأبد في نفسي.
2
في اليوم التالي ذهبت إلى المقر الرئيسي لجامعة لندن بجوار «رسل سكوير»
Russell Square
أو ميدان رسل، المسمى باسم عائلة الفيلسوف الشهير برتراند رسل، وكان هدفي هو البحث عن سكن دائم عن طريق مكتب خدمات الطلبة، قابلت الموظفة فأعطتني بعض العناوين وبعض النصائح، ثم خرجت إلى نادي الجامعة الذي يسمونه اختصارا «يولو»؛ أي اتحاد «طلبة» جامعة لندن، فقابلت بعض المصريين ، وبعضهم يشغل الآن مناصب مرموقة في الحياة الأكاديمية والعامة، ثم أطلعتهم على أحوالي، فاقترح بعضهم على سامي أبو طالب (الدكتور الآن) أن يستضيفني مؤقتا، قائلين إن لديه الآن غرفة خالية، بعد عودة زوجته وابنه إلى مصر، وأن بإمكانه أن يؤجر لي الغرفة. ووافق سامي على الفور، وكان أجر الغرفة جنيهين وربع جنيه في الأسبوع، وهو مبلغ معقول؛ لأن أجر الشقة الكاملة ستة جنيهات. وفي غضون ساعات كنت قد انتقلت من بيت الشباب إلى الشقة، وكانت تقع في شمال لندن في منطقة تسمى «فنزبري بارك»
Finsbury Park ، وكان اسم الشارع هو «ولبرفورس رود»
Wilberforce Road ، وقد أطلق عليه اسم هذا المصلح الاجتماعي، ابن القرن التاسع عشر؛ لأنه كان فيما يقال أول من بنى به مسكنا سمح للزنوج بالإقامة فيه، والمعروف أن ولبرفورس هو صاحب الجهود التي أدت إلى تحرير العبيد. وبعد أن وضعت حقيبتي في الغرفة الصغيرة، ذهبت أنا وسامي لمقابلة صاحب المنزل وهو تركي من قبرص له شارب طويل مبروم، وعينان براقتان، فاستقبلنا بالترحاب، وقد وضع على الجدار صورة السلطان عبد الحميد، وقال لنا إنه لا يؤجر المسكن أو أي بيت من البيوت التي يملكها إلا للمسلمين، وكان ذلك البيت مقاما على مساحة صغيرة من الأرض ويتكون من ثلاثة طوابق، وباعتباره مسكنا لأسرة واحدة (في الأصل) مثل سائر البيوت التقليدية في إنجلترا، كان الطابق الأعلى يتكون من غرفتين فقط، وبعد درج صغير يوجد مطبخ صغير، وبجواره مرحاض، ثم بعد درج آخر يوجد الطابق الثاني حيث غرفتان ومطبخ، أما الطابق الأرضي فبه غرفتان ومطبخ وحمام ويطل على حديقة المنزل الخلفية. وكان صاحب المنزل يقيم بالطابق الأرضي مع أسرته، ويؤجر الطابق الأوسط لأسرة باكستانية، وعلى نحو ما هو متبع في البيوت الإنجليزية يوجد مفتاح واحد لباب البيت الخارجي، أما الغرف فلا مفاتيح لها، ولا يغلقها أحد بالمفتاح، ولو كان مستأجرا. وكان الإحساس بالأمان هو القاعدة التي لا استثناء لها (في تلك الأيام) وكان الإنجليز يتفاخرون بأن أي إنسان إذا أراد أن يدخل أي بيت يستطيع ذلك دون إثارة الشك، ولقد تعلمت فيما تعلمت آنذاك المثل الذي يعتبر البيت المثل الأعلى في الأمان وهو “as safe as houses” .
كما تعلمت في تلك الأيام الأولى من إقامتي في إنجلترا مدى تقدير الإنجليزي للصدق والأمانة. وكان بعض الكتاب يعزون ذلك إلى تقاليد الحركة الدينية البيوريتانية (التي ترجمها بعضهم بتعبير «التطهيرية» وإن كانت أقرب في معناها إلى التزمت أو إلى الأصولية) ولكن خبرتي بالحياة البريطانية نقضت هذا التفسير فيما بعد؛ إذ إنني أميل إلى اعتبار نزعة الصدق واحترام الصادق وأداء الأمانة من سمات المجتمع التجاري الذي يعتمد على الثقة؛ فالثقة لازمة لإبرام الصفقات بسرعة وتسيير حركة الأعمال التجارية. وأذكر أنني كنت أدهش في تلك الأيام الأولى؛ لأن أحدا لم يكن يطالبني قط بإبراز ما يثبت شخصيتي (كبطاقة الهوية أو جواز السفر) عند صرف شيك أو الدفع بشيك، بل إن الكلية لم تطالبني بأية أوراق رسمية عند التسجيل للبحث العلمي! ويؤكد ذلك إطلاق الإنجليز - دون شعوب الأرض - على المحتال (النصاب) لفظ «خائن الثقة» “con” man - وهي اختصار
confidence trickster - كما أذكر أنني عندما انتقلت من مسكني إلى مسكن آخر، ذهبت إلى بائع الصحف الذي كان يرسل لي الصحيفة اليومية في الصباح لتسوية الحساب قبل الرحيل، وعندما شرحت له الموضوع قال: «لا بأس! اعتبر صحف الأيام السابقة هدية! تكفيك متاعب الانتقال!» فكأنما كان يكافئني على الأمانة، مدركا أنني كنت أستطيع الرحيل دون سداد الدين.
الدكتورة هدى حبيشة ومحمد السوري أمام حجر رشيد بالمتحف البريطاني عام 1966م.
وفي تلك الأيام الأولى شهدت حادثة ما تزال محفورة بتفاصيلها الدقيقة في ذاكرتي، وكنا ما نزال في شهر مايو؛ إذ خرجت مع سامي أبو طالب للتريض في المنطقة في المساء، وكان الطريق شبه خال من السابلة، وفي الهواء لذعة برد خفيفة، وما كدنا نغادر الشارع الذي نقيم فيه إلى الطريق الرئيسي الواسع حتى شد انتباهنا صراخ قادم من الجانب الآخر للطريق، وكان مصدره حانة إنجليزية يسمونها
pub
وهي اختصار لتعبير (
public house )؛ حيث يحتسي الرواد الجعة الإنجليزية بصفة أساسية، ويتناولون بعض الوجبات الخفيفة، وجميع تلك الحانات تغلق أبوابها عادة في الحادية عشرة مساء. وقفنا نرقب مصدر الصراخ فإذا بامرأة إنجليزية تخرج من الباب وهي تصيح بلهجة أبناء لندن «إنه زوجي، إنه زوجي!» لم تكن ملامحها واضحة ولكنها كانت في منتصف العمر تقريبا، تميل إلى السمنة، ولم يلبث «الزوج» أن خرج، فإذا هو هندي قصير ربعة القوام داكن اللون وخط الشيب شعره، ومن خلفه شابان إنجليزيان يبادلانه السباب، وفجأة ازدحم الرصيف المتسع بالشبان الإنجليز الذين خرجوا من الحانة ثم علا صياحهم في وجه الهندي، وانقضوا عليه، فأخرج مدية من ملابسه وجعل يلوح بها في وجوههم، وصراخ المرأة يعلو ويشتد، وأحاط الرجال بالهندي وهو يحاورهم حتى نجح أحدهم في إسقاطه من الخلف على الأرض، وإذا بالجميع ينهالون عليه ضربا وركلا حتى خلنا أنه قد قتل، ثم انفض الجميع فجأة وانطلقوا يجرون هاربين حين نبههم أحدهم إلى قدوم الشرطة. جلست المرأة على الرصيف تلطم خديها وتبكي، وحين وصلت الشرطة لم يجدوا سواها وزوجها فنقلوهما في السيارة وانطلقوا مسرعين.
وقلت لسامي هامسا في فرق: هذا تأثير الخمر! فقال: بل كراهية الأجانب. وقص علي طرفا مما شهده على مدى السنوات الثلاث الماضية من أحداث تؤكد تلك النزعة العدوانية التي تتحول إلى العنف الدامي في لمح البرق، وإن كنت ما أزال أعتقد أن الخمر هي التي أطلقت تلك النزعة الجائحة الجامحة. وشرح لي سامي خوف الناس من الشرطة؛ لأن رجال الشرطة لا يرحمون، وعقوبة العنف رادعة، ولو لم يفر المعتدون لتعرضوا لأقصى العقوبات؛ فالقانون الإنجليزي ينص على أقصى عقوبة للإخلال بالأمن (أو حرفيا «تعكير صفو السلم»
Disturbing the peace ).
د. محمد مصطفى رضوان ود. سعد حجازي أثناء رحلة لبيت الطلاب العرب.
عندما قابلت الأستاذ المشرف في الموعد المحدد (في الساعة الثانية يوم الإثنين 17 مايو)، ناقشني في تفاصيل الرسالة، وكنت قد قطعت فيها شوطا كبيرا في مصر، فأشار إلي بأن أقتصر في الدراسة على الكتب الثلاثة الأولى من قصيدة المقدمة، ولكنني كنت طموحا فأردت توسيع نطاق البحث ليشمل الكتب الثلاثة عشر كلها في النسخة التي كتبها عام 1805م، ثم أصبحت أربعة عشر كتابا في النسخة المنشورة في عام وفاته، عام 1850م، ووعدني بتوسيع نطاق البحث في مرحلة لاحقة، ولكنه طلب مني أولا أن أطلعه على نموذج من كتابتي، واقترح أن أقرأ كتابا وأعد له عرضا في ثلاثة آلاف كلمة، وآتي به في الأسبوع التالي. واستعرت الكتاب من المكتبة، وعدت به فرحا إلى المنزل إذ كان من الكتب النادرة التي طالما سمعت عنها وقرأت مقتطفات منها في غضون كتب أخرى دون أن أطلع عليها. وما إن دخلت غرفتي حتى انكببت عليه ألتهمه التهاما مستعينا بالمعجم الذي اشتريته بعشرة شلنات، حتى غلبني النعاس، واستأنفت القراءة في اليوم التالي فلم أذهب إلى الكلية، ولم أتوقف عن القراءة إلا لأداء الواجبات، ولكنني لم أنته من قراءته حتى اليوم الثالث - يوم الأربعاء - وعندها بدأت الكتابة.
كنت أعرف أن ذلك المقال - كما يسمونه (
essay ) - بمثابة اختبار لقدرتي على التعبير، فتعمدت التنميق والزركشة، محاكيا كتاب الملحق الأدبي لصحيفة التايمز (
TLS ) أو ما يسميه شكري عياد «التأنق في الأسلوب»، وكتبت عشر صفحات قدرت أنها تضم ثلاثة آلاف كلمة، وراجعتها بدقة، ثم أسرعت إلى الكلية، وكان ذلك يوم الخميس 20 مايو، فوضعت المقال في درج البريد الخاص بالأستاذ وخرجت.
كان الجو الصحو يغري بالسير في الحديقة، فسرت الهوينى أرقب الطيور والزهور وأتأمل أنواع الأشجار الأوروبية التي لا نألفها في مصر، وأنظر إلى صفحة الماء الساكنة، وأتطلع إلى السحابات التي لا تكاد تتحرك عند الأفق حتى بدأت تصطبغ بألوان الأصيل، فأيقنت أن اليوم يطوي صفحته، وأن علي أن أهرع عائدا لشراء بعض اللوازم المنزلية قبل أن تغلق المحلات أبوابها.
وعندما عدت إلى المنزل حدثني سامي عن رسالته، وكانت عن أثر الثقافة في تعليم اللغة الإنجليزية في مصر، وتحادثنا طويلا في الصعوبات التي تكتنف مناهج التعليم بسبب اختلاف المفاهيم، وعرض علي بعضا من النتائج التي توصل إليها، وما يتصوره من أساليب للتغلب على الصعوبات الثقافية، ووجدت الموضوع شائقا لكنني لم أفهم ما يعنيه بالنحو التحويلي
transformational grammar ، ولم أكن سمعت بعد عن تشومسكي وأوستن وسيرل (Chomsky, Austin, Searle) ؛ إذ لم تكن علوم اللغة الحديثة قد «وصلت» إلى مصر في تلك الأيام، فبدأت أسأل وهو يجيب حتى حان موعد النوم.
وفي اليوم التالي - يوم الجمعة - اقترح سامي علي أن أصحبه إلى مسجد لندن لأداء فريضة الجمعة، فتوضأنا وذهبنا فرأيت عجبا، كان معظم المصلين ممن لا يعرفون العربية؛ فهم مسلمون من بلدان أفريقية وآسيوية، وبعضهم من أوروبا، وكان عدد المصريين لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، وكلهم يستمع إلى خطبة باللغة العربية ويؤدي الصلاة طبعا باللغة العربية، كان من بينهم جارنا في المنزل (باقر) الباكستاني، وبعد الصلاة تحادثنا فعرفت أنه من طائفة الإسماعيلية، ولم أكن أعرف عنها شيئا حينذاك، فكنت أستمع في صمت لما يقال ونحن نسير خارجين عبر الحديقة المجاورة للمسجد، حتى تفرق الحشد الحاشد وذاب في زحام الطريق.
كنت مشغولا أثناء العودة بالتفكير في خطبة الجمعة، كانت ولا شك من الخطب المحفوظة، وذكرتني بالخطبة التي كان يلقيها الشيخ «حمدتو» في مسجد الشيخ قنديل في رشيد؛ فهي تبدأ بالصلاة والسلام على النبي، وتلاوة آية، ثم تأتي العبارات المعهودة: «أما بعد فأوصيكم عباد الله بتقوى الله، وطاعة أوامره واجتناب نواهيه ...» وقلت في نفسي: هل يفهم المصلون هذا الكلام؟ إنهم ولا شك يفهمون الآيات وقصار السور التي يقرءونها في الصلاة، ولكن تراهم يفهمون معنى «تقوى الله»؟ وهل من الجائز إلقاء خطبة الجمعة بالإنجليزية؟ وهل هي خطبة حقا (
homily ) أم موعظة (
sermon )؟ وما الغرض منها في لندن؟ ولم تتوقف تساؤلاتي بعد كل جمعة أصليها في ذلك المسجد.
وذهبت يوم السبت إلى «اليولو» حيث قابلت بعض المصريين، فعلمت منهم أن كلية المسرح في لندن (رادا وهي اختصار
Royal Academy of Dramatic Arts ) ستقدم حفلا في نفس اليوم مرتين؛ الأول ماتينيه (نهاري وإن كان يبدأ مثل جميع المسارح في الثانية والنصف ظهرا)، والثاني مسائي، وأن المسرحية هي «عطيل» لشيكسبير
Othello ، وأن البطل الذي يقوم بدور عطيل هو المصري أحمد عبد الحليم، ولم أتردد. ذهبت وشاهدت العرض، وبهرني ذلك العملاق المصري وهو يؤدي دور القائد المغربي الذي نهشته أنياب الغيرة فقتل زوجته ظلما، وكنت أتابع حركاته وسكناته بمزيج من الإعجاب والاعتزاز بموهبته الفذة، وسعيت إليه بعد انتهاء العرض وقلت له إنني سأكتب عن العرض في مجلة المسرح القاهرية، وطلبت صورا تنشر للعرض، فوعد أن يأتي بها بعد أيام، وعندما صدرت جريدة المسرح الإنجليزية
The Stage
كان فيها مقال يمتدح أداءه، كما ذكرت صحيفة التايمز
The Times
اليومية نبأ حصوله على ميدالية الشرف. وكتبت المقال وأرسلته إلى مصر؛ فرئيس التحرير هو رشاد رشدي، وسكرتير التحرير هو فاروق عبد الوهاب (الدكتور، الذي يعمل أستاذا بجامعة شيكاغو حاليا) ولم يلبث المقال أن نشر في العدد التالي من المجلة بعنوان «عطيل جديد من القاهرة».
3
عندما قابلت المشرف يوم الإثنين التالي كان منفرج الأسارير، بشوشا كعادته، ولكن تعليقه على مقالي لم يكن يبعث على الاطمئنان؛ إذ بدأ - بعد تعبير عام عن الرضا - بتعداد عيوبي الأسلوبية، وأهمها ما كنت أظنه مزية كبرى وهو التأنق في العبارة! وجعل يردد أن الكاتب عليه أن «يختفي» وراء كتابته لا أن يبرز ذاته، وأن يعمد إلى البساطة في التعبير حتى يفهمه القارئ دون عناء، وأن بناء الجمل الطويلة المعقدة يرهق القارئ، وأشار بالقلم إلى بعض عباراتي التي قال إنها عسيرة الفهم، وإن علي أن أضع الوضوح نصب عيني لا الصياغة البديعة! وأردف قائلا إنه سيمنحني فرصة أخرى، لكتابة عرض لكتاب آخر، وموعدنا الأسبوع التالي. كان معنى ذلك أنه لم يرض عن المقال، وعبرت عن احتجاجي قائلا إن كاتبة الكتاب تستخدم الأسلوب نفسه، ولكنه رد في هدوء قائلا: إذن عليك أن تتولى تبسيط الأفكار بلغتك وبسطها بسطا مستفيضا
expatiation
فذلك من حق القارئ عليك. وانتهت المقابلة وخرجت أحمل المقال الذي خيب الظن، وعدت إلى المكتبة فاستعرت كتابا آخر وذهبت إلى المنزل لا ألوي على شيء.
كنت أشعر أنني طعنت في أعز ما أملك وهو قدرتي على الكتابة، أو على التعبير الواضح الجلي، وأن علي أن أجتهد حتى أبرر حسن ظني بنفسي، فعكفت على الكتاب الثاني أقرؤه على مهل، وأتوقف عند النقاط المهمة، فأنقل منه فقرة أو بعض فقرة ، في أوراق صغيرة مقواة (مثل البطاقات) حتى انتهيت من الفصل الأول. وجعلت أسأل نفسي ماذا تقول الكاتبة (واسمها
Enid
Welsford
واسم الكتاب
Salisbury
) ثم كتبت ما تصورت أنها تقوله في صفحة واحدة، وانتقلت إلى الفصل الثاني. وهكذا قضيت ثلاثة أيام لا هم لي إلا إيضاح الأفكار التي لم تكن في الواقع عميقة ولا جديدة عن الشاعر وردزورث، على عكس الكتاب الأول الذي كان يناقش العلاقة بين الرمز والصورة في شعر الشاعر نفسه (لمؤلفة أمريكية تدعى
Florence Marsh ) وانتهيت يوم الخميس من الكتاب، ولكنني لم أكن قد انتهيت من المقال، فتفرغت له صباح الجمعة ونقحت المسودة، ودعمته بمقتطفات من كلام ولسفورد نفسها، حتى طال فأمعن في الطول. ولكنني كنت راضيا عنه فلم أحذف أي شيء، وأسرعت إلى الكلية فوضعته في درج بريد الأستاذ وخرجت.
لم أكد أعود إلى المنزل حتى وصل خطاب في بريد العصر من سمير سرحان، يقول لي فيه: إنه سوف يسافر يوم السبت (اليوم التالي) من مصر إلى أمريكا، وإنه سوف يتوقف يوما وليلة في لندن ليراني. وطرت فرحا وأخبرت سامي أبو طالب فقال لي إنه يستطيع قضاء الليلة هنا معنا، وفي صباح اليوم التالي اتجهت إلى المطار في إحدى الحافلات المخصصة لهذا الغرض وأجر الرحلة ثلاثة شلنات ونصف، وانتظرت وصول الطائرة المصرية، وخرجنا معا إلى لندن. وحكى لي في الطريق أن الدكتور محمد مندور توفي وأن الدكتور لويس عوض مال على الدكتور رشاد رشدي أثناء العزاء وقال له «الدور علينا بقى» فغضب رشدي غضبا شديدا لأنه لا يحب ذكر الموت، ولولا شعوره بالواجب الاجتماعي ما حضر العزاء أصلا. وظللنا نتجاذب أطراف الحديث حتى وصلنا إلى المنزل، ثم انطلقنا إلى وسط المدينة لأول مرة.
محمد السوري، محمد عناني، أمام حجر رشيد في المتحف البريطاني عام 1966م.
كانت تلك ليلة السبت (أي عشية الأحد 30 مايو 1965م) وهي تقابل ليلة الخميس لدينا (أي عشية الجمعة) وكان ميدان بيكاديلي
غاصا برواد المسارح والسينما، فتجولنا ما شاء الله لنا أن نتجول، من ليستر سكوير
Liecester Square
إلى شارع ستراند
The Strand
حتى وصلنا إلى مسرح أولدويتش
Aldwych - مقر فرقة شيكسبير الملكية، وعرجنا على مسرح كفنت (كوفنت) جاردن
Covent Garden
حيث تعرض مسرحية موسيقية، وأخيرا عدنا إلى المنزل وقد أنهكنا طول التجوال، فوجدنا سامي أبو طالب في انتظارنا وقد أعد لنا عشاء خاصا، وبعد الطعام أكملنا السمر في غرفة سامي حتى حان موعد النوم، وفي الصباح اصطحبته للمطار وفي حلقي غصة؛ فقد بدأت أيام الغربة حقا، وعلي أن أنتظر عاما على الأقل حتى تنتهي نهاد خطيبتي من دراستها وتلحق بي في لندن.
أصبح قطار المترو (The Underground)
عادة يومية، أستقله في الصباح في الثامنة حتى أصل إلى الحديقة فأسير حتى الكلية، ثم أنتظر افتتاح المكتبة في التاسعة فأكون أول الداخلين، وأقرأ حتى الحادية عشرة - موعد القهوة - فأخرج لتناول القهوة بأربعة بنسات، ثم أعود للقراءة حتى الثانية عشرة والنصف، فأخرج لتناول الغداء، حتى الثانية - وكان ذلك موعد الأستاذ يوم الإثنين - أما في الأيام العادية فأعود إلى المكتبة حتى الرابعة - موعد الشاي - ثم أستأنف القراءة حتى السابعة - موعد العشاء!
وعندما قابلت المشرف في ذلك اليوم (31 / 5) لم ألق بالا إلى هشاشته فهي لا تعني شيئا، بل ركزت اهتمامي في الألفاظ التي سينطقها كأنما كان مستقبلي متعلقا بها، وعندما بدأ الحديث كان ما يزال يحدق في الأوراق التي كتبت فيها المقال، ثم استدار فجأة ليقول «أرى أنك تعلمت الدرس» فأردف ذلك ببسمة صافية، ثم قال كأنما يكلم نفسه «لم تكن هذه الفتاة تلميذة مجتهدة في يوم من الأيام .. ما رأيك في هذا الكتاب؟» وتملكني الصمت والذهول. لم أكن أدري أنه يعرف المؤلفة معرفة وثيقة، ولم أكن أعرف رأيه الشخصي فيها ولا في الكتاب، فتلعثمت وهو ينقل بصره بيني وبين الأوراق، فأجبت على سؤاله بسؤال من عندي، وهي حيلة أوصاني بها الدكتور مجدي وهبة (رحمه الله) للخروج من المأزق، فقلت: «ما رأيك في المقال؟» ويبدو أن الأستاذ فطن للحيلة فقال ضاحكا: «يبدو أنك راض عن الكتاب!» وهنا أدركت أنه كان يريدني أن أهاجم المؤلفة، فقلت بنبرات واثقة وضعت فيها كل ما أملك من التواضع: «لقد حاولت عرض ما تقول بأمانة، وموضوعية.» ونجحت الحيلة؛ إذ قال بسرعة «وأتيت في مقالك بالأفكار التي سرقتها من أستاذنا السير موريس رحمه الله! هذه من لصوص الأفكار يا مستر عناني! هل تعرف أنها سرقت مني أنا عبارة وضعتها في بحث التخرج عندما كنا في أوكسفورد
Oxford ؟ وهل تتصور أنها كوفئت على تلك العبارة بتقدير ممتاز في البحث؟» وصمت ليرقب تأثير ذلك الخبر علي فسألته: «عبارة واحدة؟» فأسرع يقول «كانت العبارة الأساسية (
Key ) التي أوضحت للممتحن إلمامها بالموضوع!» وقلت في دهشة صادقة هذه المرة: «وماذا فعلت أنت؟» فضحك وقال: «كان ذلك من زمن بعيد، وقد أغلقنا الملف وانتهينا!» ولم أجد ما أقوله فساد الصمت، وقام ليفرغ لنفسه شرابا من الجلوكوز يستمد منه القوة؛ فقد كان شيخا واهنا، ثم قال: «أعتقد أنك قادر على الكتابة، ويجب أن تبدأ بصياغة عنوان دقيق للرسالة حتى يتسنى التسجيل قبل انتهاء الفصل الدراسي.» وسألته إن كان العنوان وحده كافيا للتسجيل فأجاب بالإيجاب، وقال إن ما كتبته في خطاباتي لرئيسة القسم مقنع وسيرضى عنه مجلس الجامعة (
The Senate ) وسألته عن الإجراءات والأوراق المطلوبة، فقال: «اذهب إلى سكرتير الكلية، وعد إلي غدا أو بعد غد بعنوان دقيق، فإن لم تجدني فاتركه في درج الخطابات.» وانصرفت.
كان العنوان هو الذي سبق الاتفاق عليه، ولكن التحديد مشكلة، وآثرت عدم الإصرار على تناول جميع الصور الشعرية في قصيدة المقدمة برمتها، والاكتفاء بالصور الأساسية في الكتب الستة الأولى، وكتبت العنوان وجئت في اليوم التالي فوضعته حيث طلب، وعدت إلى المكتبة، وبدأت منذ ذلك اليوم، وكنا في أوائل يونيو، رصد كل ما كتب في الموضوع، وتلخيص كل مقال أو كتاب في بطاقة صغيرة (كارت) وإعداد هذه البطاقات للرجوع إليها عند الحاجة للاستزادة من كتاب من الكتب، وقدرت أن هذا العمل سيستغرق شهرا أو شهرين، ولكنني آليت على نفسي أن أنتهي منه قبل تحليل الشعر نفسه. وكانت المكتبة زاخرة بالكتب التي تتناول شعر الشاعر، وبالدوريات العلمية الحافلة بما كتب عنه، فكانت ساعات اليوم تفر سراعا وأنا منهمك في ذلك العمل المضني حتى انقضى الفصل الدراسي، واطمأن قلبي إلى أنني سوف أعرف كل ما كتب عن الشاعر حتى عام 1965م.
4
ولكن شهور الصيف سرعان ما انقضت دون أن أنتهي من ذلك العمل، وكنت أدرك كل يوم مدى التحول في كل شيء حولي؛ فلم يكد شهر سبتمبر يأتي بأجواء الخريف حتى اختلف وجه الطبيعة، وتغيرت ألوان أوراق الشجر، وبدأت الرياح تعصف أحيانا بلا مطر، وإن كانت الأمطار تسقط بلا نمط ولا نظام من أي نوع، وكنت أحس في كل يوم بذلك التغيير، وأفهم منه مدى انشغال الإنجليز بالطبيعة، بل وبدأت أفهم الشعر الذي أقرؤه فهما جديدا؛ فالإنجليزي يحب الطبيعة حبا مشبوبا، وهو دائم التفكير في حديقة منزله وزهور شجيراته، والمجلات التي تعالج موضوعات «البستنة»
horticulture (أي غرس أشجار البساتين المثمرة والمزهرة ورعايتها) كثيرة لا حصر لها، وأحاديث طلاب الدراسات العليا وأعضاء هيئة التدريس في غرفتنا (
The Common Room ) كثيرا ما تدور حول أنواع الأزهار والثمار التي يزرعونها في حدائق بيوتهم، وبدأت أفهم أيضا سر ميل الشعراء إلى تحديد أنواع الأزهار في أشعارهم؛ فالأزهار جزء من الثقافة الإنجليزية، ورعايتها جزء لا يتجزأ من تفكير الإنجليز بل ومن اللغة الإنجليزية نفسها، ووجدتني رغم أنفي أتعلم التمييز بين الزنبقة
Tulip
والأقحوانة
Daisy ، وبين القرنفلة
carnation
والبنفسجة
Violet ، وبين أنواع الورود، ثم أقف حائرا عند عشرات أسماء الأزهار التي لم أكن أعرف لها مقابلا بالعربية، واجتهدت حتى أصبحت أعرف ال
blue bells
وال
foxgloves
وال
orchids
وغيرها، وفرحت لأنني استطعت إدراك المعنى الصحيح لبيت ورد في قصيدة المقدمة، وكنت أسأت فهمه في مصر وجاء فيه:
snows
إذ كنت لا أعرف أن
snowdrop
اسم زهرة، وتصورت أنها تعني قطعة صغيرة من الثلج!
كان جمال الخريف أخاذا، وكنت أرقب الحديقة من مجلسي في المكتبة، وكثيرا ما كنت أترك القراءة وأتطلع فترات طويلة إلى الأشجار وهي تنفض أوراقها وتتعرى غصونها مع هبات الريح، وفي ذاكرتي أبيات الشاعر شلي
Shelley ، وكان الجو أحيانا يكفهر وتغيب الشمس خلف السحاب، وأنا أقلب بصري بين ما أقرأ وما أشاهد، حتى انقضى سبتمبر، وفاجأني سامي أبو طالب ذات يوم بأنه سوف يترك الشقة؛ لأن إدارة البعثات أخبرته أن كلية التربية قررت إيقاف مرتبه لأنه لم يحصل بعد على أي درجة علمية تبرر بقاءه في البعثة، وقال إنه سوف يضطر إلى الالتحاق بعمل «بعض الوقت» في بيت الطلاب بجامعة لندن بالقرب من ميدان رسل، مقابل الإقامة والطعام وبعض قروش زهيدة، حتى يستطيع الانتهاء من الرسالة!
وقع الخبر علي وقع الصاعقة، ولم أكن حزينا فحسب لأنه سوف ينتقل إلى مسكن آخر، بل أيضا لأنه كتب عليه أن يعمل عملا يدويا حتى يستطيع الاستمرار، وكان الأمل في أن تغير الكلية رأيها أو أن تتراجع عن قرارها شبه معدوم، وكان سامي طالبا مجدا قطع شوطا كبيرا في اكتساب المعرفة بعلوم اللغة الحديثة وهي بعد في مهدها، وكان يتابع الجديد ولا يترك شيئا دون تمحيص، فأحسست أنه مظلوم، وقلت في نفسي إن ما حدث له يمكن أن يحدث لأي إنسان، خصوصا بعد أن زارني كرم محسن ذات مساء عاصف في أواخر سبتمبر! وأذكر أنه كان يوم الجمعة (24 / 9) إذ جاء في الصحف نبأ يفيد اتفاق مصر والمملكة العربية السعودية على وقف إطلاق النار تمهيدا لإنهاء حرب اليمن. وكان كرم محسن زميلا يسبقني بعام في الدراسة، وتخرج بتقدير جيد جدا وعين مدرسا للغة الإنجليزية بالقسم، ثم حصل على بعثة إلى اسكتلندا وسافر قبلي بعامين، وكنت أتصور أنه قد بهر الجميع في جامعة إدنبره
Edinburgh
بجده واجتهاده؛ ولذلك فوجئت عندما طرق بابي في لندن ذات يوم وهو مهموم كاسف البال، وجلس يغالب الدموع ليقص علي رسوبه في الامتحان التأهيلي
Qualifying
Diploma
الذي تعقده تلك الجامعة لجميع المتقدمين للدراسات العليا قبل التسجيل للدرجة (أولا لدرجة
M. A.
أي الماجستير التي قد تتحول إما إلى
M. phil.
التي هي وسط بين الماجستير والدكتوراه أو إلى
أي الدكتوراه) وذلك بعد دراسة قد تستمر عاما واحدا يعقبه ذلك الامتحان، أو لمدة عامين إذا لم يوفق الطالب في الامتحان الأول، ويمنح الطالب الناجح ما يسمى بدبلوم الدراسات العليا
postgraduate diploma
وهو ليس درجة علمية بل خطوة تأهيل للبحث العلمي.
وجعلت أناقش كرم محسن في التفاصيل، فقص علي أنهم طالبوه بقراءة عدة نصوص لشيكسبير في مادة الدراما وكتابة أبحاث عن النقد الحديث الذي كان ملما به، وتوسع وأفاض في ميل بعض الأساتذة إلى اضطهاد الأجانب، وقال إنه يظن أنهم يهود (وقد اعتدت سماع ذلك فيما بعد من الذين لم يوفقوا) وأضاف إنه سيتحول إلى جامعة أخرى قد تكون أرحم وأشفق، وذكر لي بعض الجامعات الإنجليزية التي قبلته ثم مضى (وعلمت فيما بعد أنه صادف صعوبات كثيرة عاد بعدها إلى مصر دون الحصول على الدرجة).
كان الموقف كئيبا، وبدأت أتردد على بيت الطلاب العرب الذي يسمونه نادي الطلاب العرب ومقره هو مكتب البعثات؛ أي مكتب المستشار التعليمي والثقافي المصري، وتعرفت فيه على معظم المصريين وبعض الطلاب العرب من خارج مصر، وكان من بينهم من همس الهامس بأنهم «مخابرات» أي عيون ترقب سلوك الطلاب وترصد أقوالهم، فكنت أتعمد تحاشي المشاركة في المناقشات السياسية، وأحول دفة أي مناقشة إلى اللغة الإنجليزية وصعوباتها، وهم في حيرة من أمري! كان بيت الطلاب صورة مصغرة من الجو السائد في مصر والبلدان العربية «التقدمية» وكان الخوف هو الشعور السائد بين الجميع! من يدري قد يكون من تحادثه من «العيون» وقد يكون حديثه فخا منصوبا للإيقاع بك! ورأيت السلامة في تحاشي هذا وذاك، وإن كانت ثقتي لم تتزعزع ببعض زملاء الكلية الذين كانوا يدرسون تخصصات مختلفة.
كان ضيق ذات اليد من أهم ما يشغلني آنذاك، فاقترح علي أحدهم أن أتجه إلى القسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية علني أستطيع أن أكتب شيئا يأتي بعائد مادي معقول. كان رئيس قسم الدراما هو الكاتب السوداني الطيب صالح، وكان رئيس قسم المنوعات اسمه عبد الرحيم الرفاعي، ويرأس القسم الأول إنجليزي اسمه دكورث
Duckworth
ويرأس الثاني سيدة اسمها مسز شرينغهام
Mrs. Sheringham
وكان صالح والرفاعي قد اطلعا على ترجماتي لشيكسبير التي نشرت في مجلة المسرح القاهرية، فاقترحا أن أكتب بعض الأحاديث الإذاعية، فكتبت حديثا عن رديارد كبلنج
Kipling
قصاص الإمبراطورية البريطانية وشاعرها، وسلمته إلى سعيد العيسى وهو فلسطيني يعمل رئيسا لقسم الأحاديث، فأبدى رضاه عنه، خصوصا ما ترجمته من قصائد عثرت عليها في المجموعة التي نشرها ت. س. إليوت وكتب لها المقدمة، ولكنه لم يجد قصيدته المفضلة والشهيرة التي يشار إليها عموما باسم قصيدة “If”
والتي يقول مطلعها:
If you can keep your head when all about
You are losing theirs and blaming it on you ...
ومعناها: «إذا استطعت أن تظل ثابت الجنان،
وطاش عقل كل من يحيط بك،
وقال إنك السبب ...»
فتساءل كيف أغفل قصيدة شهيرة مثل تلك القصيدة، ولم يقتنع بما ذكرته عن عدم إدراج إليوت لها في المختارات، وأكد لي أن الحديث الإذاعي لن يكتمل إلا بها؛ ومن ثم اتجهنا إلى المكتبة وأتينا بديوان الشاعر، وفي دقائق كنت أعددت ترجمة منظومة للأبيات الأولى منها، مما أدهشه دهشة واضحة، فقال فلنضف الأبيات إلى الحديث ففعلنا، وانتهينا من التسجيل في أقل من نصف ساعة، وانصرفت على أن يرسل لي العقد الخاص بكتابة الحديث بالبريد، يتلوه الشيك. وكان العنوان الذي أعطيته إياه هو عنوان المنزل الجديد الذي انتقلت إليه في أكتوبر، وهو منزل قديم بني قبل الحرب العالمية الأولى، فبدت عليه دلائل الهرم، ولذلك قصة موجزة.
بعد أن انتقل سامي أبو طالب إلى بيت الطلاب، كان علي أن أبحث عن مسكن آخر بسرعة، وفي المنطقة نفسها، لأنني أصبحت أعرفها، وحيث يقيم عدد من إخواني المصريين، وحيث ألتقي بهم في نهاية الأسبوع أحيانا؛ مثل فؤاد أبو حطب، وحامد زهران، وحسنين ربيع وغيرهم، وقد تعرفت في منزل حامد زهران الذي كان تخرج في قسم الجغرافيا ولكنه كان يدرس التربية وعلم النفس، على سمير رضوان الذي كان يدرس الاقتصاد، وكان يتحدث عن الاشتراكية بحماس وإيمان منقطع النظير، ثم دار الزمان وسمعت صوته أثناء مقامي شهرا في جنيف للعمل بالترجمة في الأمم المتحدة عام 1992م، سمعت صوته في التليفون يسأل عن محمد العليمي، أحد خريجي القسم والعاملين بالأمم المتحدة، ولما سألت إن كان المتحدث هو الشخص نفسه الذي تفوق في جامعة كيمبريدج وكان من أبرز الدارسين ودعاة الاشتراكية، جاءني الرد بالإيجاب مع تذييل قصير مفاده أنه أصبح من كبار الدعاة الإسلاميين، شأنه في ذلك شأن محمد العليمي نفسه. ولم أشأ أن أطرح المزيد من الأسئلة؛ فالقصة متكررة ومألوفة، وأعود إلى قصة الانتقال إلى المنزل «الجديد».
كان من عادة أصحاب المنازل الذين يريدون عرض غرفة أو شقة للإيجار أن يعلنوا عن ذلك في بطاقات صغيرة توضع في لوحة خاصة خارج المحلات التجارية مقابل قروش زهيدة، وكنت قد اعتدت قراءة هذه البطاقات وفك رموزها التي تحدد «نوع» الساكن المطلوب، وكان معظم المعلنين من العجائز أو الأرامل اللائي أصبحن يعشن في وحدة بعد وفاة الزوج ورحيل الأبناء، أو بعد فقدان الأهل، وما كان أكثرهن في تلك الأيام؛ فلم يكن مضى على الحرب العالمية الثانية سوى عشرين سنة، وكانت تلك السيدات اللائي فقدن رجال الأسرة ما زلن قادرات على العمل (على تقدمهن في السن) وكان وجود السكان الأفراد في الغرف المفروشة يمثل مصدرا للدخل، ويوفر لصاحبة المنزل
The landlady
عملا يشغلها وينسيها آلام الوحدة. وكان الشائع في تلك الأيام أيضا وجود عبارة في ذيل البطاقة تقول «لا نقبل الملونين» مثلا (
no coloured ) أو لا نقبل أبناء أيرلندا، أو لا نقبل الأطفال أو الكلاب إلى آخر ذلك.
وانتقيت بطاقة لا يضع صاحبها شروطا من أي نوع، ويقول إن الغرفة إيجارها ثلاثة جنيهات إلا ربعا في الأسبوع، فأسرعت بالاتصال برقم التليفون فوجدت ترحابا، وطلب المتحدث مني أن أتجه إلى المنزل وأن أخبر من يفتح الباب أنني قد استأجرت الغرفة وأن لي أن أنتقل دون إبطاء، على أن يحسب الإيجار اعتبارا من اليوم التالي. كنا يوم الخميس (30 / 9)، فتوجهت من فوري إلى المنزل في شارع أيزلدون (13,
Isledon Road ) (وكنت أظن أن حرف ال
S
صامت ولكنني اكتشفت أنه ينطق زايا!) الذي لا يبعد إلا مائتي متر تقريبا عن منزلنا القديم، وعندما قرعت الباب فتحت لي امرأة سوداء هائلة الجرم، ضاحكة السن، شعرها أبيض كالقطن، وبدت خفيفة الحركة على ضخامتها، ترتدي ملابس زرقاء داكنة، وقالت كلاما لم أفهم معظمه، ثم اصطحبتني إلى الطابق الثالث (يوازي الثاني عندنا) وفتحت لي الغرفة وقالت لي تفضل ! كان بالغرفة شباك كبير يطل على فناء تابع لمحطة قطارات الضواحي، وقد تناثرت فيه قطع الحديد والأخشاب، ثم ارتج البيت رجة عظيمة حتى خلت أنه كاد أن يسقط، وبدت أمارات الهلع على وجهي وأمسكت بإحدى قوائم السرير، والتفت إلى السوداء الضخمة في تساؤل وذعر وكانت الأواني الموضوعة على المنضدة تصطك وتحدث جلبة مفزعة، فأجابتني بضحكة مجلجلة قائلة: «إنه القطار! سوف تعتاد عليه!» وبعد أن هدأ روعي خرجت لا أدري هل أمضي في مشروع الانتقال أم أبحث عن مسكن آخر، وعندما وصلت إلى باب المنزل قالت لي السوداء: «سأعطيك مفتاح البيت عندما تأتي .. وإذا شئت أتيتك بمفتاح للغرفة .. أنا في انتظارك على العموم!» وخرجت إلى الطريق العام دهشا من كلامها. وبعد أن قلبت الأمر على وجوهه قررت الانتقال في نفس اليوم، فأعددت حقيبتي وحملتها على كتفي وسرت حتى أفرغت ما بها في الغرفة الجديدة، ثم عدت إلى المنزل القديم وملأتها من جديد ثم عدت فأفرغتها وتركتها، ورجعت إلى التركي لكي أودعه وأعطيه مفتاح المنزل، وعندما استقر بي المقام في الغرفة الجديدة، حاولت أن أروض نفسي على تقبل الأمر الواقع؛ فالغرفة لا تدفئة بها، ولدي مدفأة تعمل بالجاز (الكيروسين) أوقدها ليلا، وليس بالغرفة مكتب، بل منضدة صغيرة لا تكفي كتبي وكراساتي. والمشهد من الشباك قبيح قبيح، وضجيج القطار يتكرر ليلا ونهارا، وعندما جاء صاحب المنزل يوم السبت (2 / 10) لتحصيل الإيجار وجدته عملاقا أسود، اسمه آشيل
Achilles (مثل البطل الإغريقي أخيلاس) وكان يتحدث كأنما لا يشاركه الحوار أحد، وأكاد أذكر كل كلمة قالها ذلك الصباح: - صباح الخير يا مستر عناني .. أنت من مصر .. هذا حسن! أنا من أفريقيا! نحن جميعا من أفريقيا. هل أعجبتك الغرفة؟ هذا حسن! روزانا تقول إنك دمث الأخلاق. هذا حسن. هل تحتاج لشيء؟ هذا حسن! إذا احتجت لشيء فاطلبه من روزانا! سآتي صباح السبت التالي!
لم تستغرق المقابلة سوى دقائق معدودة، اختفى بعدها آشيل ولم أعد أسمع له صوتا، بعد أن كانت جملة “That’s good”
ترن في الفضاء مثل الرعد! وفي الهدوء العميق الذي ساد المكان بعد رحيله، وجدتني أجلس على الكرسي الوحيد المواجه للنافذة، وأتأمل قضبان السكك الحديدية الصدئة، وأكواخ المهمات المهملة، وأكوام الأخشاب والصخور المستخدمة في بناء الوصلات، وأحد العمال يصيح في زميل له بلهجة من المحال تحديد كنهها، أنا لا شك أفريقي، ولكنني لست من هذه الفئة، وذكرت ما قاله سامي أبو طالب عن العنصرية والتعصب فقررت ألا أشغل بالي بالتصنيفات العرقية، وأن أتفرغ للدرس حتى أعود إلى مصر العربية، وإلى من لا يعتبرني «غريب الوجه واليد واللسان»!
وقضيت عطلة نهاية الأسبوع ما بين القراءة وبين التريض في الحديقة العامة التي أطلق اسمها على الحي، وعدت ابتداء من يوم الإثنين إلى النظام اليومي في الكلية أحاول أن أنتهي من تصنيف كل ما كتب عن الشاعر ووضعه في البطاقات، حتى خلت أن المهمة اكتملت، فأفضيت بالخبر السعيد إلى المصري الوحيد الذي كان يدرس معي في كلية بدفورد وهو عادل مشرفة، وفي تضاعيف الحديث ذكرت له تلك الغرفة الكئيبة، وكان قد عرفني بطالبة تخرجت في قسم اللغة الفرنسية، وهي إنجليزية تدعى هيلاري وايز (Wise)
وتدرس اللغة العربية في غضون بحثها عن النحو التحويلي الذي ما لبث أن «تحول» إلى موضة في الستينيات وما بعدها. وما إن سمعت هيلاري قصة آشيل حتى انطلقت تحدثني عن مغبة الحياة مع الزنوج، وكانت كأنما تذكرني بأحاديث جدتي - رحمها الله - إذ روت لي (أي جدتي) أن جدتها كانت لديها جارية سوداء، واكتشفت الأسرة ذات يوم أن لها ذيلا قصيرا، فتأكد لهم أنها «غولة» وسرحوها خوفا على أطفالهم منها. لم تزعم شيئا مثل ذلك ولكنها ذكرت بعض «الوقائع» ثم اقترحت علي أن أتقدم بطلب إلى بيت طلاب جامعي اسمه
Lillian Penson Hall
ومعنى
Hall
هو مقر إقامة، فهو اختصار تعبير
Hall of Residence
الذي ما يزال مستعملا في بريطانيا، وأما الاسم فهو اسم الأستاذة الجامعية التي تبرعت بالمال اللازم لتحويل فندق ضخم اسمه
Stephen Court Hotel
إلى بيت طلاب. وأرسلت الطلب بالبريد في اليوم التالي إلى عنوانه في تولبوت سكوير
Talbot Square
واستأنفت حياتي المعتادة.
كارول أثناء العمل بالترجمة في كوينز هاوس.
وانقضى أكتوبر وأنا أتحمل رائحة القرنبيط والكرنب المسلوق، وهم لا يضيفون إليه الكمون الذي يذهب بالرائحة، ولا يطبخونه بطريقتنا بل يسلقونه سلقا، وكانت الرائحة تملأ البيت في المساء، وما كان أبغضها وأقبحها! وفي يوم من أيام نوفمبر عدت إلى الغرفة مرهقا من طول القراءة في المكتبة، فأويت إلى الفراش بعد أن أوقدت المدفأة ولكن قبل أن يشيع الدفء في الغرفة، وإذا بي أرتعد وأرتعد ساعة أو ساعتين حتى خلت أنني سأهلك. وفي الصباح ذهبت إلى الطبيب، وكانت امرأة شرقية الملامح اسمها هانا بيرمان
Hanna Beerman ، شرحت لها ما أصابني فكتبت لي علاجا ونصحتني بالدفء.
اشتريت الدواء وبعض الطعام الذي أوصت به وعدت إلى الغرفة، وكان ذلك يوم السبت فوجدت جارتي السوداء (ولم أكن رأيتها من قبل) قد استضافت روزانا الضخمة، وباب غرفتها مفتوح، فدعتني للدخول فدخلت وسلمت، فقالت الجارة إنها سمعت رعدتي في الليلة السابقة؛ فقد كان السرير يهتز، ويبدو أنني كنت أتألم بصوت مسموع دون أن أدري، وقالت إن ذلك كثيرا ما يحدث لمن يسكن تلك الغرفة. وحينما لاحظت دهشتي قالت: «إن الروح الباردة تسكنها (haunted by a cold spirit) ، ولا يجدي فيها أي قدر من التدفئة!» وضحكت روزانا وقالت: «إنه يريد تدفئة خاصة تذهب تلك الروح!» وضحكت الأخرى. وأحسست بالرعدة من جديد! وقدمت لي جارتي قطعة من الكعك وفنجان شاي، وقالت إن البريد أتاني بخطاب قدمته لي فأخذته وانصرفت.
وعندما فتحت الخطاب وجدته من بيت الطلاب المذكور، وهو يتضمن الموافقة على الانتقال إليه، على أن أشارك أحد الطلاب غرفته بإيجار شهري قدره 14 جنيها أما الغرفة المستقلة فإيجارها ضعف ذلك! ولم أضع الوقت فانطلقت إلى الطابق السفلي حيث التليفون المشترك (لسكان المنزل جميعا) ووضعت أربعة بنسات وطلبت بيت الطلاب وقلت لهم إنني قادم! وعندما جاء السيد آشيل بعد نحو ساعة أبلغته الخبر فهاج وماج، وقال لا بد أن تخطرني قبل الرحيل بأسبوع، وأصررت على موقفي، فتصايحنا فجاءت جارتي، ثم جاءت روزانا، واقترحت المرأتان أن أدفع نصف قيمة إيجار أسبوع بدلا من الإخطار، ووافق آشيل وأخذ المال وانصرف.
وأبدت المرأتان حزنهما لرحيلي، ولكنهما أظهرتا قدرا لا بأس به من التعاطف، وساعدتني روزانا في حزم حقائبي (وكنت اشتريت حقيبة أخرى بجنيهين ونصف) بل حملت الحقيبة الثقيلة بنفسها، وطلبت لي سيارة أجرة بالتليفون! وفي أقل من ساعة كنت في مقري الجديد على مشارف وسط لندن!
الفصل الثاني
الشتاء الأول
1
كان بيت الطلاب الجديد ما يزال في مرحلة الإعداد، وكانت جميع ملامح الفندق القديم ظاهرة فيه، ولم يكن قد تغير فيه سوى تحويل قاعة الضيوف أو قاعة الاستقبال بالدور الأرضي إلى مكان يشبه المكتبة العامة، به مناضد مصفوفة وكراسي خشبية غير وثيرة، وإلى جواره غرفة خاصة للتليفزيون يجتمع فيها الطلاب في المساء لسماع نشرة الأخبار أو مشاهدة حلقة بوليسية، وكان به مطعم في الدور تحت الأرضي يقدم وجبات زهيدة السعر لتكون في متناول أيدي الدارسين، وكان هؤلاء خليطا عجيبا من الأجناس المتنافرة إلى جانب الإنجليز المغتربين عن أهلهم للدراسة في لندن، فكان فيه العرب وأبناء أفريقيا وآسيا وأمريكا، بل وأستراليا ونيوزيلاندا! وما إن حططت الرحال حتى تعرفت على زميلي الذي يشاركني الغرفة، وهو هندي تقدم به العمر، وكان يحاول جاهدا أن يحصل على الدكتوراه في الأدب الإنجليزي، ولن أنسى صباح أول ليلة أقضيها في ذلك المكان؛ إذ عندما فتحت عيني وجدته في وضع مقلوب، قدماه في الهواء ورأسه على الأرض، وفي الغرفة رائحة بخور خفيفة، عبيرها غير نفاذ، وضوء الصباح يتسلل برفق من خلف الستائر التي تحجب شباكا كبيرا واجهته شرقية.
كان الصمت يلف المكان، فمكثت في الفراش أرقب القدمين المعلقتين في الهواء عدة لحظات وأنا حائر في تفسير ما يفعل «فيكرام»
Vikram ، حتى انتهى من تلك الرياضة الصباحية، وقد اكتشفت فيما بعد أنها نوع من اليوجا، ثم جلس أمام صورة للزعيم الروحي بوذا في استغراق شديد، ورائحة البخور تزداد قوة، ولا أدري كم مر من الوقت عليه وهو في تلك الحال، وأنا أخشى أن أنهض حتى لا أتسبب في تعكير صفو تأملاته، وبعد برهة قام فأزال الصورة وأطفأ البخور وفتح الشباك وقال لي: صباح الخير!
كانت اللهجة الهندية التي يتحدث بها اللغة الإنجليزية طريفة، ولم نلبث أن تناوبنا استخدام الحمام، ثم انطلق كل منا إلى كليته. وعرفت من مناقشاتي فيما بعد معه أنه يؤمن بتناسخ الأرواح أو
transmigration of souls
أي بأن لكل مولود روحا تأتي من أحد الراحلين، وأذكر أنني عندما سألته كيف يفسر الزيادة في عدد الأرواح بزيادة عدد سكان الأرض أجاب بأن الأرواح تأتي ممن تركوا الأرض على مر الأزمان، وعندما اعترضت قائلا إن ذلك لا يعدو أن يكون من باب الظن، قال: «بل هو اليقين.» وانطلق يعرض النظرية التي درج على الإيمان بها دون مناقشة، ثم سألني فجأة: «ألا تشعر أحيانا أن بداخلك إنسانا لا تعرفه؟» ولم ينتظر مني الإجابة، بل أردف يقول واثقا: «لقد قرأت شعر الشاعر وردزورث، ولعلك تذكر ما يقوله في قصيدة «مشاعر الخلود المستوحاة من ذكريات الطفولة الأولى» - ولعلك قبلت ما فيها على أنه رؤية شاعر لرحلة الروح من عالم سابق على الوجود المادي إلى عالم لاحق على هذا الوجود! والشاعر كما تعرف ينكر تأثره بأفلاطون مؤكدا أن ذلك الإحساس داهمه حتى قبل أن يقرأ ذلك الفيلسوف اليوناني، وأنه كان يشعر بغربة روحة عن عالم الأرض، وضيقها بسجن الجسد، ونزوعها للتحرر منه آخر الأمر! إنه يؤكد أن الروح التي تولد معنا مثل الشمس التي تشرق في عالم جديد في اللحظة التي تغرب فيها عن عالم آخر - وهذا هو معنى التناسخ!»
وسجلت ملاحظاته في كراسة لدي ما زلت أحتفظ بها، وعدت إلى قراءة تلك القصيدة التي كنت ترجمتها ذات يوم في مصر، ولاقت إعجابا من أستاذي مجدي وهبة، رحمه الله، وشغلت يوما أو يومين بهذه الرؤية الشرقية المحضة لحياة الروح الإنسانية، وانتهيت إلى أنها لا تعدو أن تكون رؤية شاعر، وأنها لا تصل أبدا إلى يقين العلم؛ فالروح من أمر ربي، وما أوتي البشر من العلم إلا قليلا، ولكن أحببت أن أستزيد من العلم بهذه الفلسفة الشرقية التي كتب لها أن تظل ضربا خاصا من الاستبطان (introspection)
وألا ترقى أبدا إلى مرتبة الفكر الحقيقي. وعندما صارحته بذلك دار بيننا حوار أرجو أن أنجح في تلخيصه هنا استنادا إلى مذكراتي؛ إذ التفت إلي ببسمة الواثق قائلا: - لقد تدربت على التفكير الذي ينسب كل ما لا تعرفه إلى السماء؛ أي إلى مصدر خارج النفس، ولديكم في الإسلام والمسيحية رموز تتوسلون بها حتى تتجنبوا حياة الروح الحقيقية، ولكن أستاذنا بوذا يعلمنا كيف نغتني بالمواجهة الصادقة مع النفس عن رموز الجنة والنار، وعن تصور الملائكة والشياطين، ومفهومنا للخير نسبي، وكذلك مفهومنا للشر؛ فكل ما يؤدي إلى التوافق والتناغم والسلام خير، وكل ما يفسد ذلك شر، وأفكارنا الدينية أقرب إلى البراجماتية والعيش في هذا الكون من أفكاركم التي ترجئ كل شيء ليوم الحساب!
د. حسين ربيع أمام ميدان رسل في لندن عام 1966م. - ولكنك تستعين بالرموز في صلاتك، وتستخدم طقوس البخور والصور! - هذه ليست رموزا، بل هي من العوامل التي أستعين بها في التركيز! - ورياضة اليوجا؟ - هذه ليست رياضة بالمعنى المفهوم، بل هي تدريب للروح على تقبل الجسم الذي قدر لها أن تعيش فيه، وتدريب الجسم على تقبل الروح التي تسكنه! - أنت إذن تفصل بين مفهوم الروح ومفهوم الجسد، وهي الفلسفة الثنائية التي ينكرها علم النفس الحديث وتنكرها الفلسفة اللغوية المعاصرة! - الفصل قائم يا صديقي، مهما برع العلماء المزعومون في تبيان الصلات وإقامة العلائق! قل لي: ألا تشعر أحيانا بأن في ذاتك نوازع غريبة عنك؟ ألا تشعر أحيانا بأنك لا تعرف تلك النفس التي يقطع العلماء بوجودها؟ بل لعلك أحسست يوما ما بأن في داخلك ما تسميه الأديان بالملائكة والشياطين! إنها نوازع الروح التي تخاطبك بما لا تعرف! - وهل يعني ذلك أن الروح جاءت من كائن حي آخر؟ - قل لي وكن صريحا معي .. ألم تشعر يوما أن مشهدا ما قد سبقت لك رؤيته؟ ألم يداهمك الإحساس بأن نغما ما يثير نفسك فجأة دون سبب؟ ألم تنظر يوما إلى السماء فتدرك أن ما تراه ليس غريبا عليك؟ - ربما سبق لي أن شاهدته في الطفولة! - وعندما كنت طفلا .. ألم تكن تشعر أحيانا بأن منظرا ما مألوف لديك؟ - لقد انتهى علماء النفس من تحليل ذلك! - لم ينته أحد من شيء! كلنا يحاول ترويض روحه حتى تقبل الجسم وتقبل العالم .. وقد ننجح أو نفشل .. لكننا في الحالين لا نستطيع تغيير طبيعة الروح الخالدة .. قد تكون ذات خير فتدفع الجسم إلى الخير، وقد تكون ذات شر فتدفع الجسم إلى الشر، ونحن في صراع دائم مع الخير والشر معا! - وذلك ما تقول به الأديان السماوية .. كل ما هناك هو أننا ننسب الخير إلى دوافع عليا يرسمها العقل، وننسب الشر إلى دوافع سفلى يرسمها الشيطان! ونحن نهتدي بما أوحي إلى الأنبياء من آيات وأنزل عليهم من هدى!
ولكن فيكرام لم يكن - رغم عدم تصديقه للأديان السماوية - ممن يسخرون منها أو يهزءون بما أنزل على غيرهم من الأمم، بل كانت البسمة لا تفارق شفتيه، وكان هادئ الطبع، «طويل البال»، وكان أحيانا يطلب مني مغادرة الغرفة؛ لأنه يريد «التأمل» وحده، ولم أكن أعارضه، بل كنت أحمل كتبي وأهبط إلى قاعة الدرس، فأقضي الوقت الذي حدده وحدي، ثم أصعد لأنام.
ثم جاء يوم من أيام ديسمبر عدت فيه من الكلية مرهقا، فوجدته يطلب مني «إخلاء» الغرفة ساعتين، وكان لدي عمل كثير؛ إذ كنت قد بدأت تصنيف الصور الشعرية التي كنت كتبتها في بطاقات كثيرة في مصر، وكانت نهاد خطيبتي قد أرسلتها في طرد كبير، وكنت أعيد قراءة هذه الصور على ضوء ما قرأته عن الشاعر في مراجع لم تكن متوافرة في مصر، فأخذت أوراقي وهبطت إلى قاعة الدرس، وجعلت أعمل بجد حتى انقضى الوقت، وكنت قد تناولت العشاء في الكلية على مائدة طلاب الدراسات العليا والأساتذة، فشعرت بأنني لا بد أن آوي للفراش.
وعندما طرقت باب غرفتنا، فتح لي فيكرام، وكان يرتدي ملابس الخروج مع أن الساعة قد تجاوزت العاشرة، ودخلت فإذا بحسناء إنجليزية الملامح واللهجة تجلس على سريري وفي يدها قدح حدست أن فيه خمرا، فقدمني إليها وعرفني بها، ثم قال إننا نرجوك الانتظار نصف ساعة أخرى فنحن على وشك الانتهاء من الحديث الشائق ذي الشجون! وانعقد لساني من المفاجأة، ولم أشأ أن أعترض، فوضعت الكتب على المكتب، وخرجت.
محمد عناني يكتب على الآلة الكاتبة في حجرته عام 1966م.
وفي قاعة الاستقبال التي كانت ما تزال تحمل ملامح الفندق القديم، جلست شارد النظرات لا أدري ما أصنع، هل كان ذلك دأبه في كل مرة طلب مني مغادرة الغرفة؟ وقررت الانتقال إلى غرفة مستقلة
single room
مهما كلفني ذلك من مال؛ فنحن نطلق في مصر لفظا غير كريم وغير مشرف على من يحتمل ما احتملت، ولم أقل شيئا لأصدقائي العرب الذين أدهشهم وجودي في ذلك الوقت المتأخر في قاعة الاستقبال، وشغلت بالحديث مع بعض الزملاء السودانيين ممن يدرسون تخصصات مختلفة في جامعة لندن، وكان عدد آخر من دارسي الأرصاد الجوية يجلسون قريبا؛ ثلاثة منهم من سوريا والرابع ليبي، وسرعان ما اشتعل النقاش وحمي وطيس الجدل، فنسيت ما أنا فيه، ولم أفق إلا حين رأيت الحسناء تغادر البيت.
وذهبت في الصباح إلى الإدارة، وطلبت الانتقال إلى غرفة مستقلة، فنظرت لي السكرتيرة وقالت لي ما يلي بالحرف الواحد: - It didn’t work out? No, I didn’t think it would!
أي «لم تنجح إقامتكما معا؟ لا، لم أكن أظن أنها ستنجح!».
وعجبت من ردها! إذا كانت لا تتوقع لها النجاح فلماذا حاولت إنجاحها؟ يبدو أنها كانت تأمل (على استحالة الأمل؛ أي
Hoping against Hope ) أن نتفق بسبب دراستنا المشتركة للأدب الإنجليزي، ثم أردفت قائلة إن الغرف المستقلة مشغولة، وبقاء غرفة مشتركة دون «شريك» من قبيل «وجع الدماغ» (
is a headache ) ولكنني ألححت، فوعدت خيرا، وفي اليوم التالي اقترحت علي الانتقال للسكنى مع أنور عبد العظيم (الأستاذ حاليا في كلية العلوم بجامعة القاهرة) حتى يتسنى لها تدبير غرفة مستقلة لي.
وسرعان ما أصبحت غرفة أنور عبد العظيم ملتقى للمصريين وللعرب أحيانا، وأصبح من روادها صديقي محمد مصطفى رضوان، طالب الهندسة المتخصص في التصوير الجوي، وكان يقضي النهار كله في المختبر الهندسي بجامعة لندن، وكان بارعا في الرياضيات وكان أستاذه معجبا به، وكان يقيم في غرفة مشتركة مع دارس آخر للرياضيات اسمه ريتشارد لندن، وكان هذا الأخير مصداق قول ألبرت أينشتاين إن بعض الناس يفكرون «بالأرقام»؛ أي لا يستخدمون الصور ولا الألفاظ، وكنت قد قرأت كتابا عنوانه «العملية الإبداعية»
The Creative Process
وردت فيه أقوال الكثيرين في هذا الموضوع، ومنها أقوال عالم الرياضيات الشهير مع تحليل علمي لها، ولذلك لم أدهش للصمت الدائم الذي كان يعيش ريتشارد لندن فيه! ولا أذكر أنني سمعته يوما يقول عبارة يزيد طولها عن ثلاث كلمات.
وعندما انتصف شهر ديسمبر (1965م) حل شهر رمضان المبارك، وبدأنا الصيام، وما كان أيسره في لندن! فنحن نتناول السحور في الخامسة صباحا (الفجر يؤذن له في السادسة) ثم نصلي الفجر ونتجه إلى كلياتنا في السابعة، ونعود في الثالثة، حيث نقوم بإعداد طعام الإفطار معا، ونفطر في الرابعة تقريبا! كان قصر النهار فريدا، وبرودة الجو تمنع العطش (أو الإحساس به) وكانت الصحبة رائعة، خصوصا ونحن نفطر جميعا معا، وكانت تتناول الطعام معنا طالبة مسيحية اسمها نادية (لحق بها زوجها جورج بعد فترة) وكانت صائمة؛ ولذلك كنا نصنع نوعين من الطعمية (الفلافل)؛ نوعا يضاف إليه البيض، ونوعا لا يتضمن البيض وهو مخصص للصائمين المسيحيين، وقد أطلق عليه فيما بعد اسم «طعمية نادية»! وسمعت أحد الأمريكيين يتساءل عن ذلك اللون الفريد من الطعام بعد أن ذاقه فراق له وتساءل دهشا “Is it meat?” (أي هل هذا لحم؟) وغمزت لأصدقائي حتى لا يفصحوا عن سر الوجبة الشهية، وشرحت له أنها تأتي على صورة مسحوق من مصنع سان جورج بالإسكندرية، ثم نضيف إليها الماء ونعيدها سيرتها الأولى، وسرعان ما انتشر الخبر في بيت الطلاب، وقالت لي السكرتيرة: - Must you have a party everyday?
وشرحت لها أن تلك «حفلات» إفطار رمضانية، تنتهي بحلول العيد، وكان من العسير عليها أن تدرك معنى «الصحبة»، وهو المعنى الأصلي لكلمة “party”
وإن كانت قد اقترنت في الأذهان بالرقص والموسيقى والشراب! وعندما حل عيد الفطر شهد بيت الطلاب ما يشبه العرس، فاجتمع جميع العرب، ورقص السوريون «الدبكة» وغنى السودانيون أغاني ذات سلم موسيقي خماسي، واجتمع الطلاب من شتى الجنسيات لتأمل هؤلاء العرب الذين اختلفت ألوانهم وجمعهم تراث واحد، ولغة واحدة، بل إن نادية أعدت الفتة الشهيرة ليلة السادس من يناير (ليلة إفطارها) وحملت طبقا منها إلى السكرتيرة، مزانة بقطع اللحم (الهبر) فهالها حجم الطبق، وأصرت على أن تحمله إلى المنزل حتى يفرح به زوجها وأطفالها!
وقبل أن يحل العيد، جاءني صوت مألوف عبر التليفون، يطلب مني الحضور. كان ذلك صوت فادية سراج الدين، الطالبة في قسم اللغة الإنجليزية، وابنة المرحوم أنيس سراج الدين الذي كان رئيسا لبنك القاهرة، وكانت تعالج في أحد مستشفيات لندن من شلل الأطفال، فخرجت من الكلية وزرتها ثم انصرفت مسرعا لكي أدرك الإفطار مع الأصدقاء، وبعد ذلك اتصل بي والدها وطلب مني أن أعينها على متابعة الدروس حتى لا يضيع عليها العام الدراسي، فزرتها وكانت قد انتقلت إلى فندق فاخر قريب من بيت الطلاب، وترددت عليها حتى اطمأن قلبي إلى أنها قرأت ما هو مطلوب، فودعتها، وعادت إلى مصر وانقطعت عني أخبارها عشرين عاما، حتى رأيت النسخة المكتوبة بخط يدها من كتاب يطبع في الهيئة المصرية العامة للكتاب في أواخر الثمانينيات وعليها توقيع من سمير سرحان يقول فيه: «حافظوا على هذه النسخة فهي الوحيدة بخط المؤلفة رحمها الله.»
2
كنت أعيش في عالمين مختلفين؛ فأنا بالنهار في المكتبة، أقرأ الإنجليزية من الصباح إلى المساء، وأحادث الإنجليزي بالإنجليزية طبعا، وأتناول العشاء مع الأساتذة على مائدة خاصة، نتحادث فيها أكثر مما نأكل، وقد بدأت ألتقط التعبيرات الجديدة على مسمعي وأكررها، وأحاكي لهجة الأساتذة، فإذا كتبت تعثرت؛ لأنني لم أكن أعرف كيف أفرق بين العبارات العامية والعبارات الفصحى، وأحيانا ما كنت أمزج هذه بتلك فيدلني الأستاذ المشرف على الصواب، وكنت باختصار أعيش عالما غريبا بكل معنى الكلمة.
أما العالم الذي كنت أعود إليه في المساء فقد جعلته الغربة وطنا؛ فالطلاب في البيت الذي أقيم فيه أغراب، لكن رباط الغربة يشد بعضهم إلى بعض، وكنت أحيانا أخرج مع أحدهم، خصوصا جلال الإدلبي (السوري) فنذهب إلى السينما أو نتنزه في شوارع منطقة بادنجتون
التي تتميز بأحيائها الفقيرة، وكان بعضها قد دمرته الحرب ولم تمتد إليه يد التعمير بعد، أو في منطقة «لانكاستر جيت»
Lancaster Gate
المجاورة لنا ذات المنازل التقليدية التي صورها جورج أورويل في رواياته، والتي بدأت بعض المنازل الجديدة تظهر فيها، وبعض ملامح العمارة الحديثة فيما بعد.
وبدأت أشعر بالصراع بين العربية الكامنة في أعماقي والتي كتب عليها أن تظل حبيسة الزمان، وبين الإنجليزية التي أنهل منها فلا أشبع! لم يكن همي الانتهاء بسرعة من الرسالة، بل كنت أعيش في العالمين معا، خصوصا بعد أن عرفت طريق الإذاعة، وكتبت سلسلة مقالات عن «المغنيات العربيات»، جئت بالمعلومات عنهن من كتاب الأغاني للأصفهاني الموجود في كلية الدراسات الشرقية بلندن، وخصوصا بعد أن التقيت ببعض الزملاء من المصريين الذين رحبوا بوجودي بينهم، ويسروا لي سبل الكتابة والترجمة. وكان أهمهم المرحوم إدجار فرج الذي كان شريكا للمترجم دنيس جونسون دافيز في مكتب للترجمة، يتردد عليه المصريون جميعا؛ فهو قريب من المكتب الثقافي، وكانت لهما قصة ستأتي في حينها.
د. مسعد حجازي في بيت الطلاب 1966م.
كان إدجار صعيديا قحا، يتحلى بالشهامة والمروءة، وكان يعرف من يعاني من ضائقة مالية فيرسل إليه نصوصا يترجمها ولا يبخل عليه بالمال، بل كان يعطيه أجرا أكبر من القدر المرصود للترجمة، متظاهرا بأنه يحاسبه ب «المليم» حتى لا يشعر المصري بأنه يتلقى مساعدة من أي نوع. وكان من أهم المتعاملين مع المكتب عبد اللطيف الجمال، الذي كان قد حصل على درجة الماجستير من جامعة القاهرة، وانتهى من دبلوم الدراسات العليا بجامعة ليدز
Leeds
وسجل موضوع الدكتوراه عن النظرية النقدية عند أ. أ. ريتشاردز
I. A. Richards
وكان قارئا نهما، ولم يتخلص من عاداته الريفية (فهو من إحدى قرى المنوفية) فهو يميل إلى الصراحة والصدق، وهما من الفضائل التي يحتفل بها الإنجليز كما سبق أن قلت، ولم يكن في تلك الأيام يفكر إلا في تعلم الألمانية، وبعد أن قضينا يوما من أيام السبت مع عبد الرشيد الصادق المحمودي الذي كان يدرس الفلسفة، عرفني بإدجار فرج، ثم لم يلبث الجمال أن رحل إلى ألمانيا.
كان شتاء ذلك العام غير قارس البرد، وكنا نقضي معظم أوقاتنا في المكتبة التي تتميز بدفئها المعقول، وكانت حياتي في الكلية منتظمة إلى حد لا يمكن تكراره في أي مكان آخر، وكانت حاجاتي محدودة فكل ما أريده من كتب موجود، وكنت قد أقلعت عن التدخين واشتريت لنفسي غليونا ألهو به في أوقات الفراغ في المنزل، ولكن الحاجة إلى المال كانت ما فتئت تعاودني، وكانت عيناني تتطلعان إلى الكتب الجديدة فلا أستطيع شراءها، وإلى الملابس الفاخرة دون أن أشعر بالحاجة إليها، ولكنني كنت قد بدأت عادة لم أتخل عنها طول عمري وهي الذهاب إلى المسرح، ولما كانت تذاكر المسرح غالية نسبيا فإنني كنت ألجأ إلى الحجز مقدما لشهور طويلة، وقد ساعدني المخرج أحمد زكي الذي كان يدرس الإخراج المسرحي في لندن في الالتحاق بجمعية المسرح الإنجليزي مقابل اشتراك سنوي زهيد، مما أتاح لي حضور بروفات (تجارب) المسرحيات الجديدة في مسرح رويال كورت
Royal Court ، وفي منطقة تشلسي
Chelsea
الفاخرة، ومشاهدة العروض أيضا مجانا، كما أرشدتني هدى حبيشة، أستاذتي القديمة في جامعة القاهرة، والتي كانت تعد الدكتوراه في الشعر الميتافيزيقي الإنجليزي، إلى طريقة أستطيع بها أن أحجز تذاكر لموسم مسرحي كامل في مسرح أولديتش
Aldwych
حيث تقدم فرقة شيكسبير الملكية عروضها؛ إذ كنت أذهب في الصباح الباكر غداة الإعلان عن فتح باب الحجز فأشتري تذاكر للحفلات النهارية (من 2:30 ظهرا إلى الخامسة يومي الأربعاء والسبت) لجميع المسرحيات التي سوف تقدمها الفرقة على مدى الموسم كله (ثلاثة أشهر) في أماكن جانبية في المسرح حيث أستطيع أن أسمع الحوار بوضوح وإن كانت زاوية الرؤية مرهقة، كما كنت أشتري تذاكر لمشاهدة عروض المسرح القومي واقفا (بأربعة شلنات ودون حجز) فكنت أذهب قبل العرض بساعة أو بعض ساعة فأقف في الطابور وأشتري التذكرة وأشاهد العرض واقفا ثم أجلس في الاستراحة، مما أتاح لي مشاهدة لورانس أوليفييه العظيم في مسرحية عطيل لشيكسبير وغيرها، وكان من نتيجة هذا التدبير والميل إلى التقشف أن أصبحت شديد الوعي بقيمة النقود والتمييز بين الضروريات والكماليات، وتعلمت من الطلاب حيلة قراءة الصحف والمجلات دون أن أشتريها؛ إما في غرفة الأساتذة بالكلية أو في أماكن بيع الصحف بالمكتبات، فكان كينيث جوردون، صديقي الإنجليزي، يشير علي بالمكتبات التي لا يكترث أصحابها بمن يغافلهم ويقرأ الصحف، كما أرشدني إلى الأماكن التي يترك الإنجليز الصحف اليومية فيها بعد قراءتها، وكان كثيرا ما يتجول وحده ليكتشف المطاعم الرخيصة والمكتبات التي تبيع الكتب القديمة، فكان خير عون للفقراء، وسرعان ما قال المصريون إن كن (
Ken
وهو اسمه المختصر) «واد جن»! (أو «كن مصور»!).
كان دخلي من الإذاعة محدودا، وكتابة الأحاديث مرهقة، وعملي في الرسالة يستغرق معظم وقتي ولا يترك لي الوقت الكافي لزيادة الدخل، وكانت معظم مسراتي في الحقيقة ذات تكاليف محدودة؛ فالسير في الطريق الذي يتوسط متنزه هايد بارك لا يكلف شيئا، وكانت الحديقة قريبة من منزل الطلاب، ومشاهدة الطيور في البحيرة الساكنة ومحاولة معرفة أنواعها، ومشاهدة الأزهار الغريبة أو الاستماع إلى المذياع؛ كل هذا من المتع التي اكتسبتها، وكان على رأسها جميعا فن المحادثة!
وقد اكتشفت جمال هذا الفن على مائدة الغداء في الكلية بعد أن عرفني عادل مشرفة بزملائه الذين أصبحوا زملاء لي، ومن بينهم أمريكية كانت تدرس علم الاجتماع اسمها سوزان، وتشكو دائما من عدم توافر الأفكار اللازمة للرسالة، وشاب يوناني اسمه بابادوبولوس، وكان يدرس الرياضيات، وأخرى تدرس الفيزياء واسمها كريستين، وكانت إنجليزية محضة، وكان يرتاد المائدة غيرهم من طلاب الدراسات العليا، فإذا دار الحديث الذي عادة ما يبدؤه الإنجليز بذكر أحوال الطقس، برزت اتجاهات تعلمت رصدها في تفكير كل منهم، وكنت أذكر في هذا الصدد قول الطيب صالح إن الذكاء يختلف عن سرعة التفكير (mental agility)
أو ما يوحي بسرعة التفكير واللماحية (أو الألمعية) في تراثنا الشرقي (
wit )؛ فالشرقي يرحب بسرعة التفكير والردود الحاضرة وإن اقتصرت على ردود الأفعال الساذجة، أما الغربي فلا يكترث لها، بل يهمه أن يكون المتحدث على صواب بغض النظر عن إطالة التفكير أو الإبطاء في الرد؛ ولذلك فلدى الإنجليز ما يسمى بالحديث العابر أو الاجتماعي (
small talk ) الذي يدرجه الدكتور بيرن
Berne
في باب «الطقوس الاجتماعية» (rituals)
مثل الحديث عن الجو أو عن الصحة والمواصلات وكل ما لا يتوقع معه المتحدث ردا حقيقيا من صاحبه، وقد يدرج فيه ما يسميه بيرن بحديث تزجية الوقت (pastime)
أو حتى الأحاديث ذات الطابع الآلي التي لا تنم عن تفكير من أي نوع (
mechanical ) وهم يفرقون بين ذلك كله وبين المناقشة الحقيقية، وهي عادة ما تتسم بالحذر والتردد بسبب ضرورة تقليب الأمر على وجوهه، وكان بعض علماء اللغة آنذاك قد أصدروا كتبا يحللون فيها مسالك الحديث ومساربه، لا من منطلق علم النفس كما فعل بيرن في كتابه «الألعاب التي يلعبها الناس»
Games People Play
الذي قرأته آنذاك (نوفمبر 1965م) بل من منطلق بناء اللغة في كل موقف، مما أدى إلى استحداث مفاهيم جديدة تتعلق بما يسمى بفعل الكلام
Speech acts
وما تلا ذلك من توسع في علم الدلالة؛ فدلالة الألفاظ لا تكمن فيها وحدها، كما هو معروف، بل تكمن في دلالتها في العبارة والموقف؛ أي في دلالة تداولها، مما أدى آخر الأمر إلى نشوء فرع من علوم اللغة يبحث التداول في المواقف المختلفة، واصطلح على تسميته «التداولية»
pragmatics . وبدا لي الأمر شائقا عندما بدأت تحليل مناقشاتنا حول مائدة الغداء، ثم حول مائدة العشاء.
اكتشفت أن نمط المتحدث الإنجليزي التقليدي
the typical English speaker
يميل دائما إلى الحذر حين ينتقل من الحديث العابر إلى موضوع جاد، وقد يعود ذلك إلى أسلوب التنشئة أو التربية في المنزل والمدرسة؛ فالأهل والمدرسون يشجعون التلميذ على التفكير أولا قبل الإجابة على أي سؤال، وهم لا يتوقعون من الطفل أن يكون حاضر البديهة، بل ولا يعتبرون ذلك من سمات الذكاء، ووراء ذلك كله قرون طويلة من عصر العلم، وتقاليد الإصرار على أن يكون للطالب وجهة نظر مستقلة، وأن يمارس حرية التفكير ثم يحاسب على هذه الحرية وما فعل بها؛ ولذلك فما أسرع ما يعترف المخطئ بخطئه ويعرب عن أسفه! وهذا مما يعتبره المربون مزية كبرى، والأهل والمعلمون لا يحاسبون المخطئ على الخطأ بل على مكابرته إذا كابر؛ فالجهل ليس عيبا، بل العيب كل العيب أن يدعي الدارس أنه يعرف ما لا يعرف؛ أي أن «يتعالم». ويتجلى ذلك كله في استعمال اللغة الإنجليزية في الحديث والكتابة، وعندما أدركت هذه الحقائق فهمت غضب الأستاذ المشرف علي حين وجدني أستخدم ألفاظا قاطعة، وأطلعني على عرض كان يكتبه لكتاب قرأه، وكيف كان يتحاشى فيه القطع بأي شيء؛ فالعلوم الإنسانية، كما يقول، تتناول تفسير الحقائق أكثر مما تتناول الحقائق باعتبارها حقائق؛ ومن ثم شرعت في محاكاة هذا الأسلوب، فلم تلبث اللغة التي أتكلمها وأكتبها أن اكتسبت طابعا أقرب إلى طابع أهلها؛ أي أهل الإنجليزية!
د. عادل مشرفة ود. نعيم اليافي في كلية بدفورد عام 1966م.
كان الفن الحديث يرتبط بدراستي، والحيل اللغوية تتردد في حوار الناس والممثلين على المسرح، فإذا أراد شخص أن يعرب عن اعتراضه لم يقل «إني أعترض» بل قال “I don’t know ...”
بداية، ومعناها «لست واثقا من صحة ما تقول»، ثم يردفها برأيه الذي قد يمثل نقيض ما قيل، وإذا أراد التعبير حتى عما نعتبره من الأحكام غير الخلافية، أدرج في العبارة ألفاظا تسمح بقدر ما من الاختلاف، وذلك كما أقول حتى لو كان الأمر لا خلاف عليه! وانظر الحوار التالي الذي يعتبر غريبا عن العربية: - It feels warm enough here! - The central heating must be working well! - It’s the new librarian, you know! She says she’s a greenhouse plant and seems to relish the sweltering heat! - Would those foreigners, coming from the tropics?
وانظر إلى ترجمته الحرفية: - أشعر بأن الدفء هنا يكفي! - لا بد أن جهاز التدفئة المركزية يعمل بكفاءة! - والسبب هو أمينة المكتبة! فهي تقول إنها مثل النباتات التي تنمو في الصوبة الزراعية، ويبدو أنها تستمتع بهذه الحرارة البالغة! - وهل يستمتع بها هؤلاء الأجانب القادمون من المناطق الحارة؟
الحديث - كما ترى - من نوع «تزجية الوقت» في الظاهر، ولكنه يتضمن الاعتراض على زيادة التدفئة إلى حد أكبر مما ينبغي، ولكن الصياغة تحيل الأفكار إلى ملاحظات تقبل النقض، خصوصا العبارات التي تتضمن المقارنة أو ما يسمى بالتعبير النسبي، (
Comparative )، مثل كلمة
enough ؛ فماذا تعني الكناية هنا؟ يكفي ماذا أو لماذا؟ إنها تعبير تنفرد به اللغة الإنجليزية ويبدو في الترجمة غريبا، وانظر إلى تعبير
must be (لا بد أنه) الذي لا يفيد اليقين، وكذلك
seems (يبدو) والسؤال الختامي! بل إن العبارة التي تنسب لأمينة المكتبة «التسبب» في رفع درجة الحرارة غير واضحة! فما معنى السطر الثالث حقا؟ هل يعني ما جاء في الترجمة من أن أمينة المكتبة هي السبب؟ لا شك أن ذلك هو المعنى الموحى به، ولكن التعبير نفسه لا يقطع بذلك؛ فقد يكون المعنى أنها توافق على رفع درجة الحرارة، أو لا تعمل على خفضها، أو أنها ذات صلة ما بالحرارة الشديدة وحسب! وانظر إلى الحذر في الإشارة إلى ما تبديه أمينة المكتبة من استمتاع بالحرارة؛ إذ يبدأ التعبير بعبارة «إنها تقول ...» أي «والعهدة على الراوي!» مما يبرئ المتحدث من تهمة التجني عليها! ترى لو قدر لاثنين من العرب أن يعبرا عن الأفكار نفسها - أي عن الحقائق
facts
الواردة هنا - فهل يقولان ذلك؟ أفلا يقولان «ما أشد الحرارة هنا! إلخ»؟
كنت أتعلم الإنجليزية لا باعتبارها ألفاظا بل باعتبارها أنماط تفكير، وسرعان ما وجدت أن عالم الجامعة والكتب ومناقشات المائدة
table talk
أصبحت تتناقض مع عالم العربية التي أتحدثها أحيانا في المساء مع الأصدقاء، وكانت الهوة تزداد حتى أصبحت أشعر أنني غير قادر على كتابة الأحاديث الإذاعية، وبازدياد ابتعادي عن الإذاعة ازداد ناب الفقر حدة، وغدوت أستعيض عن متعة الإنفاق بمتعة الحديث، خصوصا حول مائدة العشاء مع الأساتذة الإنجليز، وقل معدل الخطابات التي أرسلها بالعربية إلى مصر وإلى سمير سرحان في أمريكا! وبدأت أكتب رسائلي بالإنجليزية إلى نهاد خطيبتي وحدها!
3
وكان من المتع الأخرى متعة الاستماع إلى مغامرات المصريين مع الإنجليزيات واصطدام ميل المصري إلى الكذب مع ميل الإنجليزية إلى الصراحة، وكنت أحاول في متابعة أخبار الأصدقاء، وبعضهم ممن تربطني به علاقة مستمرة، أن أعرف دوافعهم الحقيقية للكذب، واكتشفت على مر السنين أن الدافع الرئيسي هو «الافتقار إلى الأمان»، وهي ترجمة شائعة ورديئة لكلمة
insecurity
التي تعني في الواقع ما نعنيه في حياتنا المعاصرة بالقلق وعدم الاطمئنان، وتتضمن بعض عناصر الخوف وعدم الثقة بالنفس. كان بعض أصدقائي قد ارتبطوا بفتيات إنجليزيات أو أمريكيات، واتفقوا إما على البقاء في إنجلترا أو على الهجرة إلى أمريكا أو كندا، ولم يكن هؤلاء بحاجة إلى الكذب، بل كانوا يختفون فلا يظهرون في دوائر الطلاب العرب، وتقتصر صلتهم بالمكتب الثقافي على الخطابات الرسمية المتبادلة، ولكن البعض الآخر لم يكن واثقا مما سيفعله في المستقبل، وكان لذلك «يحمي» نفسه بستار كثيف من الأكاذيب، وكان بعضهم قد اعتاد الكذب على الفتيات في مصر، وتمكنت منه العادة التي كان يراها لازمة، ثم لم يستطع أن يقلع عنها حتى بعد زوال ذلك اللزوم، وكانت فئة ثالثة تكذب لا لسبب؛ فهو كذب يكاد يكون مفروضا على الفرد من باطنه، وهو ما يطلق على صاحبه تعبير
compulsive liar ، وأخيرا كانت هناك فئة تجد في الكذب متعة إبداعية؛ فألوان الكذب هنا منوعة تتفاوت بتفاوت المواقف، ويعمل الكاذب فيها خياله فيبحر في المحيطات ويجوب الفيافي، ويؤلف القصص وينسج الحكايات، وإن كانت الحادثة التالية تقبل التصنيف في جميع الفئات المذكورة!
قال لي صديقي، وسوف أخفي اسمه الحقيقي وأسميه «عبده» إنه تعرف بإحدى زميلاته في الكلية، وكان يعمل معها كل يوم في المختبر؛ إذ كانا متخصصين في الكيمياء العضوية
organic chemistry
وبعد عام تقريبا من الزمالة قال لها أثناء ساعة الغداء إنه يحبها! وفوجئ بأنها تنكر هذا القول وتقول له ببسمة صافية: «لا أعتقد ذلك! لقد اعتدت مصاحبتي في العمل فقط!» ولم يجد ما يرد به عليها فلغته الإنجليزية محدودة، وهو لا يملك إلا بعض العبارات التي يحفظها منذ الصبا، أو مما سمعه يتردد حوله في محيط الجامعة؛ ولذلك لم يجد بدا من تكرار ما قاله، مؤكدا أنه يحبها من زمن بعيد! وهاله أن تنصرف الفتاة في عجلة دون تعقيب، بل وأن تغيب عن الكلية عدة أيام، مما جعله يلجأ إلي طالبا النصح!
ولم تكن لدي نصائح حاضرة؛ فأنا لا أعرف الفتاة، بل ولا أعرف شيئا عن الفتيات، أو الإنجليزيات بصفة خاصة، ولم أكن أمضيت في إنجلترا إلا شهورا معدودة، ولكنني حاولت أن أعرف منه بعض التفاصيل، فهونت عليه الأمر وطلبت منه أن يتصل بها تليفونيا ليرى إن كانت غابت بسبب المرض. وعندما قابلني بعد نحو أسبوع سمعت منه ما كان يمكن أن أتوقعه لو أنني أوليت الأمر عنايتي الصادقة ولو أنني أحطت بالمعلومات الكافية؛ إذ جاءت الفتاة إليه بعد المحادثة التليفونية، وقد ارتدت أجمل أثوابها، وبدت مشرقة وضاءة، ووجهها - كما يقول - ينطق بالسعادة الغامرة، واستأنفت العمل في المختبر دون أن تشير إلى ما قاله أو ما قالته، وعندما حان موعد فسحة القهوة عرض عليها الذهاب إلى الكافيتريا (ويسمونها في جامعة لندن
buttery ) لكنها رفضت وقالت إنها ستستمر في العمل، ولم يجد بدا من الاستمرار هو الآخر، حتى حان موعد الغداء فبادأته هي بالدعوة، وعندما جلسا لتناول الطعام قال لها: «كنت قلقا عليك.» وكان ردها مقتضبا (شكرا)؛ ومن ثم انطلق يبثها لواعج غرامه مؤكدا أن حبه قديم. وهنا قالت له عبارة لم يفهمها وإن حفظها وهي: “But you didn’t do much about it, did you?”
أي ولكنك لم تفصح عنه طيلة هذه المدة، واعتذر بأنه كان يخاف رفضها، فقالت: «هل تظنون أن الإنجليز يتسمون بالبرود؟» وفوجئ وانعقد لسانه، بينما انطلقت هي تتحدث، فأخبرته أنه ظل يشغل فكرها شهورا، وكانت تحلم باللحظة التي يميل فيها قلبه إليها! وكاد يطير من الفرح فعرض عليها الخروج فورا، ولكنها قالت إن العمل في المختبر متأخر، وإن صدمة اعترافه بحبها قد أربكتها عدة أيام، وهي تحاول الانتهاء من العمل في موعده رغم التأخر، ولكنها ضربت له موعدا في عطلة نهاية الأسبوع.
كان «عبده» منفعلا وهو يحكي لي ما حدث، وكان ينظر إلى الورقة التي دون فيها كلامها خشية أن ينسى شيئا منه، وقلت له إن ذلك أمر طبيعي وهي قصة حب عادية بل عادية جدا، وقد تنجح وتكلل بالزواج. وبدا الهم على وجهه. الزواج؟ «نحن لم نذكر شيئا عن الزواج!» وضحكت وقلت له: إذن تراجع وأنت على البر! فرد قائلا: «ولكنني أحبها!» وشرحت له أن ذلك هو ما كانت تعنيه عندما أنكرت أول الأمر حبه لها، فالحب
Love
عند الإنجليز يعني الزواج، ولم يكن هناك ما يدعو إلى استخدام تلك الكلمة ما دام لا يريد الزواج، ودهش «عبده» من كلامي وقال لي إنني ملم بأحواله، وإنه لن يتسنى له الزواج قبل الانتهاء من الدكتوراه، وربما يكون أهله قد رتبوا له زواجا في مصر عند العودة، وزواجه من هذه الفتاة معناه اصطحابها إلى مصر «حيث عليها أن تجد عملا، أو أن تقنع بمرتب الجامعة الذي سأتقاضاه (نحو أربعين جنيها في الشهر)، أو أن أعيش أنا هنا إلى الأبد بعيدا عن أهلي!»
لم يكن «عبده» سعيدا سعادة صافية بالحب الوليد، بل كان يرى فيه مصدر هم أو عبئا لم يعتد حمله ولا يعرف كيف يحمله، وتخفيفا عنه حاولت الدخول من باب آخر، فقلت له «ربما لم تكن تحبها حقا.» أو «ربما تكون قد تسرعت أنت فأسأت فهم عاطفتك.» وألا يمكن أن تكون هي أيضا قد تسرعت بإعلان «استجابتها» لك؟ فبدت عليه الحيرة، وانصرف على أن نلتقي بعد مقابلته لها في عطلة نهاية الأسبوع.
لم تشغلني كثيرا قصة «عبده» أثناء الأسبوع التالي؛ إذ أعاد المشرف لي الفصل الذي كنت كتبته من الرسالة، وذيله بعدة ملاحظات كان أهمها رضاه عن المنهج، ولكنه أبدى بعض التحفظات على بعض الألفاظ التي وصفها بأنها أمريكية واقترح إبدالها، فعكفت على ذلك، وأعدت طباعة الفصل على الآلة الكاتبة التي اشتريتها (مستعملة) ثم شرعت في كتابة الفصل التالي، وكان الشتاء ما يزال يقبض على الطبيعة بيد من حديد، فإذا ظهرت الشمس أسرعت إلى الحديقة أتأمل الطيور وهي تسير على ماء البحيرة المتجمد، وبعض الأشجار التي لم تنفض أوراقها وقد كسا الثلج أطرافها، وكنت سعيدا؛ لأن مرض الحساسية الذي كان يصيبني بالتهاب في الجيوب الأنفية قد رحل، وأصبحت قادرا على التنفس من جديد!
وفوجئت يوم الاثنين بشيك يصلني من الإذاعة، مكافأة إضافية عن بيع سلسلة أحاديث المغنيات العربيات إلى محطة عربية في الخليج، وكان المبلغ كبيرا (45 جنيها) فوضعته في البنك، وقررت تحقيق حلمي القديم بشراء جهاز تسجيل حتى أسمع ما أريد من الموسيقى، وكان من بين نزلاء بيت الطلاب طالب سوري لا أذكر إلا أن اسمه كان محمدا، قرر الهجرة إلى أقاربه في البرازيل، وعندما حصل على تأشيرة الزيارة عرض ما لديه من «كراكيب» (ويسميها الأغراض) للبيع، وكان من بينها جهاز تسجيل متوسط الحجم، باعه لي بخمسة وثلاثين جنيها (بدلا من 45 جنيها) ففرحت به وشغلت بالاستماع إلى الموسيقى الكلاسيكية، ثم أخبرني صديقي محمد مصطفى رضوان أن طالبا سعوديا لديه أسطوانات عبد الوهاب القديمة، ولا يملك جراموفونا، وأن علي النشار (طالب الهندسة الذي هاجر إلى أمريكا ونجح نجاحا باهرا؛ إذ اكتشف طريقة تحلية المياه بأسلوب الضغط الأسموزي) لديه مثل هذا الجهاز لكنه لا يكن له (أي للجهاز) احتراما كبيرا، فقررنا عقد أمسية عربية في غرفتي، نسمع فيها عبد الوهاب ونسجل أغانيه على شريط!
ولم نكد نبدأ الأمسية، ونبدأ في تحضير الأطعمة الشرقية، حتى وصل «عبده» وطلب الانفراد بي على الفور. وطلبت الإذن بالخروج تاركا الغرفة للأنغام ورائحة الفلافل، وخرجت مع عبده إلى قاعة الاستقبال، وانتحينا ركنا قصيا حتى لا يسمعنا أحد، وبدأ حديثه بعبارة لن أنساها أبدا: «شورتك مهببة يا عناني!» وعجبت من ذلك؛ فأنا لم أشر عليه بشيء، وإن كنت اقترحت التراجع، فهدأت روعه وطلبت منه أن يحكي لي ما حدث.
قال عبده: «ذهبنا مساء السبت إلى السينما، وشاهدنا فيلم
My Fair Lady
وكانت تستمتع هي به بينما أحاول أنا متابعة الحوار دون ترجمة على الفيلم، وبعد السينما خرجنا في البرد، فاقترحت أن نذهب إلى غرفتي (وكانت بجوار الجامعة) لكنها قالت إنها تفضل قضاء الليلة في فندق، تخيل! وقلت لها إن أهلها سوف يقلقون عليها ولكنها أصرت، وكلما أبديت اعتراضا قالت لي بلهجة قاطعة: «ألست تحبني؟» وأنت تعرف أن لغتي الإنجليزية ليست ممتازة، ولا أستطيع أن أتحدث بطلاقتك، وحاولت أن أثنيها بذكر الإيجار المرتفع للفنادق، ولكنها قالت إننا سنتقاسم جميع التكاليف، ودون أن أدري، كأنما كنت مخدرا وجدتني أوقع في كشف نزلاء أحد الفنادق، ودفعت جنيهين كاملين، وصعدنا إلى غرفة بالطابق الثالث، وقضينا الليلة فيها، وكان ما كان، ولم أنم إلا من فرط الإرهاق، وفي السابعة هبطنا إلى مطعم الفندق حيث تناولنا الإفطار، وانصرفنا.»
وبدأت في التساؤل عن الأشياء المعتادة في هذه الظروف، وفهمت من إجاباته أنها قالت إنه ليس أول رجل «تحبه» فقد سبق لها «معرفة» شاب نيجيري، وكانا على وشك الزواج لولا أن والدها رفض؛ لأن الحبيب كان كاثوليكيا، ووالدها متزمت في مسألة الدين، وهو لا يقبل إلا البروتستانت، ويفضل أتباع كنيسة إنجلترا (الإنجليكانية) وقالت له إن والدها أعد لها منزلا خاصا لأنه ثري، وهو صاحب مصنع كبير في جنوب إنجلترا، وإنها سوف تعمل فيه حالما تحصل على الدكتوراه؛ لأنه ينتج الأدوية وبه قسم للبحوث، وبإمكانها أن تسعى حتى يحصل «عبده» على عمل فيه معها، وإنها لم تكن تريد أن تخبره بذلك كله حتى تتأكد من مدى اتفاقهما الزوجي
conjugal compatibility
ولذلك أصرت على مسألة البيات في لندن بعيدا عن أهلها (الذين يقيمون في الضواحي) ولم تفصح لهم بعد عن السبب وإن كانت سوف تفعل عندما «يوافق» عبده على ذلك!
وسألته عما فعل بعد ذلك، وقد انقضى أكثر من أسبوع، فقال إنه وجد أن السبيل الوحيد للخروج من هذا المأزق هو أن يلتزم الصمت؛ فقد كانت الليلة رغم كل شيء «ليلة سعيدة» وقد وجد في جيب الجاكتة مبلغ جنيهين مساهمة منها في التكاليف، ثم تسرع في لحظة طيش وهما في غرفته (إذ أصبحت تتردد عليه أثناء النهار) وأخبرها أنه مسلم! وكان في الحقيقة قبطيا (أرثوذوكسي) والواضح أنه أدى بذلك إلى غيابها يومين، وجاء الآن يسألني ما العمل؟ وقلت له كان ينبغي أن تكون صريحا معها منذ البداية، وإن الأخطاء لا تصحح بارتكاب مزيد من الأخطاء، وآن الأوان أن تعاود الصراحة وتثوب إلى رشدك وتتوب؛ فباب المغفرة مفتوح، واحزم أمرك، وفكر في مستقبلك في مصر وفي أهلك. وبدا عليه التردد، ولكنه وعد بأن يحاول جاهدا وضع حد لتلك العلاقة، وانصرف، وعدت إلى حفل عبد الوهاب وهو يوشك على الانتهاء.
4
فاجأنا الربيع مثلما فاجأنا الشتاء، كما يقول الشاعر، وتحقق وعد السكرتيرة، فانتقلت إلى غرفة مستقلة، وأصبحت قادرا على أن أخلو بنفسي ساعات طويلة في المساء، أستمع إلى الموسيقى الكلاسيكية التي أصبحت هواية مفضلة، وأقرأ حتى الواحدة، وأنهض مع شروق الشمس فأذهب إلى الكلية وأسير في الحديقة فرحا بالزهور والبراعم التي تتفتح كل يوم، أو أتمتع فحسب بهواء الصباح المنعش الذي يذكرنا بالنيل عند رشيد، حتى تفتح المكتبة أبوابها، فأقرأ أو أكتب حتى ينتهي اليوم، ولم أعد ألتقي بأصدقائي العرب إلا فيما ندر؛ إما عند العشاء في الفندق، أو في قاعة الاستقبال حين ألقاهم مصادفة، وكان شهر مارس برمته شهر التجوال وتأمل الطبيعة، وكان يصحبني أحيانا بعض الأصدقاء ذاهبين إلى كلياتهم سيرا على الأقدام، وكان الحديث يتطرق أحيانا إلى أحلام المستقبل، فكان بعضهم يحلم بفيلا وسيارة، والبعض الآخر يحلم بالهجرة، وفئة ثالثة لا تعرف الأحلام، وكنت بالنسبة للجميع المرجع الذي يسألونه في اللغة الإنجليزية، ورغم تقاربنا في العمر كانوا يعتبرونني أخا أكبر، وكانوا لسبب ما يستودعونني أسرارهم، ويرون في قراءتي للأدب وهوايتي للفلسفة وعلم النفس مصدر حكمة يمكن أن تعين من يطلب العون، وهكذا وجدت أنني قد كتب علي وأنا بعد في السابعة والعشرين أن «ألعب دور» الشيخ الحكيم أو الأخ الكبير العاقل!
وأفضى إلي بعضهم بمغامراته مع بعض العاملات في الفندق (اللائي احتفظن بوظائفهن بعد تحوله إلى بيت طلاب) وكان معنا طالب نابه من جنوب السودان، لا يعتبره الشماليون عربيا مع أنه يتحدث العربية، ولكن ملامحه كانت زنجية خالصة، ولونه فاحم لامع، وكان طويلا فارعا لطيف المعشر، عقد صداقة مع فتاة برتغالية تعمل في الفندق، وكان كل منهما يقص علي أخباره مع صاحبه، وكانت هي أيضا فارعة الطول نحيلة، ملامحها شرقية، وغير جذابة، ولكنها كانت عاملة مجتهدة، تحاول أن تجد لنفسها ركنا تعيش فيه في أي مكان في العالم (
niche )، بعد أن ضاقت بها سبل العيش في بلدها، وكانت تتصور أن السوداني سوف يعود بها إلى جنوب السودان. أما هو فكان واضحا في موقفه وصريحا إلى أقصى درجة؛ فلا مكان للبرتغاليات في جنوب السودان - هذا إذا عاد هو إلى الجنوب - وعليها أن تظل في بريطانيا.
وعلى كثرة الجنسيات في ذلك الفندق القديم، وكثرة جنسيات من التحق بالعمل به بعد تحوله إلى بيت للطلاب، لم تكن بين الخادمات أو العاملات زنجية واحدة! كان الجميع تقريبا من أوروبا، ومعظمهن إما من أيرلندا أو إسبانيا ودول أوروبا الشرقية، وكان أصحاب الوظائف الإدارية من الإنجليزيات، ترأسهن مس ساتون
Miss Sutton
ذات الصوت المجلجل، والتي يرهبها الجميع فهي المديرة التنفيذية للبيت، وهي مسئولة عن كل صغيرة وكبيرة فيه، وأما السكرتيرة الهادئة مسز تريسي
Mrs. Tracy
فهي العقل المدبر والمدير المالي معا، تعرف جميع النزلاء وتحادثهم تليفونيا في غرفهم، ولها في غرفتها بالطابق الأرضي نافذة تطل منها على مدخل الفندق القديم فتعرف القادمين والخارجين وتكاد تتابع أخبارهم، ويبدو أنها أدركت من علاقتي بالعرب أنني أقوم بدور المترجم لمن لا تسعفه اللغة الإنجليزية؛ إذ كان بعضهم يأتي من بلدان عربية لا تشترط إجادة اللغة الإنجليزية قبل الشروع في الدراسة، فكانت تسألني في رفق أن أبلغهم الرسائل التي تريدها ، وتتصل بي تليفونيا لمعرفة الجواب.
وذات يوم عدت إلى غرفتي بعيد مغرب الشمس، ولم أكد أتخفف من ملابسي حتى جاءني صوت في التليفون يطلب الغوث! كان صوت إنجليزية صميمة، أبلغتني الرسالة بسرعة ووضعت السماعة فأسرعت إلى تريسي لأبلغها بنفسي حتى تطلب الطبيب؛ فتليفونها مشغول دائما. كان أحد نزلاء بيت الطلاب مصريا يدرس بعض الوقت في كلية الفنون التطبيقية (البوليتكنيك) ويعمل طول الوقت في مطعم في وسط لندن؛ فهو طباخ محترف، وكان يعاني من مرض غريب في أذنه، وسمعت أنه قريب لأحد الوزراء في مصر، وأنه حصل على البعثة بالواسطة (الوساطة!) للعلاج أساسا، وإن كان السبب المعلن هو الدراسة، ولولا الوزير ما غادر مصر أصلا. وكان يقيم وحده في غرفة مستقلة وتتردد عليه إحدى موظفات بيت الطلاب، وهي ربعة القوام غليظة مربعة، كنت أراها تحادث الدكتور سمير المنقبادي، وهو مصري يعد دراسات «ما بعد الدكتوراه» في القانون، ويقيم في النرويج ويدرس القانون في جامعة أوسلو بعد أن تزوج ابنة عميد كلية الحقوق هناك. كنت أراها تحادثه محادثة من يعرفه حق المعرفة، وقد تحقق ظني فيما بعد، وكانت هي التي حادثتني ذات المساء؛ لأنها كانت تزور صاحبنا ذا الأذن المعطوبة فأصيب بما يشبه الإغماء أو النوبة القلبية مما جعلها تستغيث بي. أبقيت الأمر سرا، بطبيعة الحال، ودفعني حب الاستطلاع إلى معرفة القصة الكاملة وهي مما لا يروى في مثل هذا السياق.
د. حنين ربيع مع المؤلف في ميدان رسل لندن عام 1966م.
وعندما جاءت أمطار أبريل، تبدلت عاداتنا بعض الشيء، لكن روتين الكلية والمكتبة (أو المختبر عند الآخرين) لم يتغير، وعندما دفعت إيجار الغرفة المستقلة أحسست أنني لا بد أن أحصل على مورد رزق آخر وإلا لم يعد لدي ما أنفقه على ما أعتبره من ضرورات حياتي (كالمسرح). وسعيت يوما إلى نادي هيئة الإذاعة البريطانية حيث يجتمع العاملون في القسم العربي، وقضيت بعض الوقت أحادث الذين كانوا هناك للراحة والسمر، فعلمت أن عبد الرحيم الرفاعي انتقل إلى الإذاعة السويسرية، وتابعت أخبار بعض المسيطرين على الأقسام من العراقيين (ممدوح زكي ونعيم البصري وزوجته وأولغا جويدة ... إلخ) أو من الفلسطينيين أو المصريين على قلتهم، وتبين لي أن مجال العمل قد ضاق فأمعن في الضيق. كان صلاح عز الدين مخرجا في قسم الدراما لكنه كان يتكلم بطريقة لم أفهمها، وكان قسم الدراما يسيطر عليه بعض الأصدقاء والأحباء الذين لم يسمحوا لأحد أن يدخل بينهم، وانصرفت مهموما؛ فالحياة في غرفة مستقلة ترف لا يمكن الاستمرار فيه دون مورد آخر.
وذات ليلة من ليالي مايو، وبينما أنا مهموم بأفكاري - أتأمل العام الطويل الذي انقضى في غرفة غريبة، وضيق ذات اليد الذي أصبح لا علاج له، ومهارتي في الترجمة التي لا أستطيع الانتفاع بها - إذ بالتليفون يرن، وإذا بصوت الصديق العزيز عبد المنعم سليم، الكاتب المشهور، يقول لي: هل تقبل أن تترجم خطابات من العربية إلى الإنجليزية يوما أو يومين في الأسبوع؟ أقبل؟ كدت أطير فرحا .. وقال اذهب غدا إلى منير عبد النور في مبنى اسمه
Queen’s House
أمام مبنى كوداك بالقرب من
Bush House
حيث الإذاعة؛ فهو في حاجة إلى مترجم في قسم بحوث المستمعين لمدة أربعة أو ستة أسابيع؛ لأن الوظيفة الخالية لم يعلن عنها بعد، وهم يستخدمون الأشخاص بعض الوقت للعمل بالساعة. وذهبت في اليوم التالي فقابلت منير عبد النور - المصري - الذي طلب مني أن أذهب إلى الإدارة حيث أقابل ماري بيرتون (Mary Burton)
رئيسة المستخدمين، وفعلت ذلك فقالت لي: لك أن تعمل إما يوما كاملا أو نصف يوم، يومين أو ثلاثة في الأسبوع، تبعا لحاجة العمل، واليوم الكامل بخمسة جنيهات، ونصف اليوم بثلاثة جنيهات ونصف! وكان معنى هذا أنني أستطيع لو أردت أن أكسب نحو عشرة جنيهات في الأسبوع تكفي لدفع الإيجار بل تزيد! ووقعت العقد المؤقت وطرت إلى منير عبد النور حيث عرفني بمصري آخر اسمه ريمون مكلف (Mecallef) ، وهو اسم شائع في مالطة، وبالسكرتيرات (سالي وماريون وكارول
Sally, Marion and Carol ) وقال إن لدينا أستاذا مصريا في الجغرافيا اسمه عزت أبو هندية يعمل بكلية هولبورن
Holborn
للغات والاقتصاد، وهو يعمل بعض الوقت أيضا، وسيدة مصرية اسمها إفادات كيبرون (Capron)
متزوجة من رجل إنجليزي، وهي مؤقتة أيضا، وسيدة مصرية من أصل لبناني اسمها ماري روك (متزوجة من إنجليزي
Rook ) تتولى النسخ على الآلة الكاتبة. أما العمل فهو ترجمة خطابات المستمعين التي ترد إلى القسم العربي بالإذاعة وتتضمن تعليقات على البرامج الإذاعية، وتصنيفها؛ فبعض المستمعين يطلبون الاشتراك في مجلة هنا لندن العربية، وبعضهم يرسل مساهمات في برنامج ندوة للمستمعين، وهذه خطابات لا تترجم بل تحول إلى الأقسام المختصة، ولكن بعض الخطابات تتضمن نقدا (مدحا أو قدحا) وهذه هي التي يهتم المسئولون بترجمتها لمعرفة ما يدور في القسم العربي وإصدار التعليمات اللازمة بشأنها!
وبدأت العمل فورا، وكنت أجهز الخطابات التي تفتحها السكرتيرات، ثم أمر عليها بعيني سريعا لأرى نوع الخطاب وأصنفه ثم ألخص محتواه بالإنجليزية. واستغرقت في اليوم الأول فترة طويلة في ذلك العمل إذ كنت أكتب النص المترجم بخط يدي، وأضع رموزا على الخطابات الواردة إلى الأقسام المختلفة، ثم أبعث بالنصوص المترجمة إلى غرفة السكرتارية، ثم شاهدت الدكتور عزت وهو يعمل، كان يملي على السكرتيرة مضمون الخطاب بالإنجليزية وهي تكتبه بالاختزال
short-hand
ثم تأخذ دفترها وتنسخ ما فيه على الآلة الكاتبة. وكانت إفادات تكتب بخط يدها، وهي دائمة السؤال، مترددة، تخشى أن تخطئ فتفقد عملها، وكان البحث قد بدأ عن موظف دائم يغني الإذاعة عن المؤقتين.
ولم يمض الأسبوع الأول إلا وقد أحكمت الصنعة، فأصبحت أملي السكرتيرة مضمون الخطابات بلغة تعمدت أن تكون عامية أو أقرب إلى العامية حتى أتدرب على استخدام ذلك المستوى من اللغة الذي حرمت منه في الجامعة، واخترت الحضور ثلاث مرات أسبوعيا (نصف يوم) فكنت آتي في التاسعة والنصف وأمكث إلى الثانية عشرة موعد الغداء؛ حيث ينطلق الجميع إلى مطعم الإذاعة في مبنى
Bush House ، أما أنا فأنطلق إلى الكلية لأستمتع بالطبيعة ثم أعكف على الدراسة في المكتبة حتى السابعة.
وكانت الإذاعة ترسل لي النقود في ظرف مختوم على عنوان مسكني، وكانت نقدا
cash ، فكانت تسرني خيرا من الشيكات، ولم يكن يخصم منها بنس واحد، بخلاف النظام المصري المعروف ، وكنت أسارع بوضعها في البنك، مع حشد التجار الذين كانوا يأتون بحصيلة الأسبوع إلى البنك يوم الجمعة. وكنت أحتفل بقدوم المال كل أسبوع فأشتري ما لذ وطاب من الأطعمة، وأحيانا ما كنت أذهب إلى المطبخ المشترك في بيت الطلاب فأقوم بالطهي أو إعداد الطعام بنفسي. وكان متوسط ما يصلني أسبوعيا يتراوح بين عشرة جنيهات ونصف وبين اثني عشر جنيها إذا اقتضى العمل قضاء يوم كامل، وكنت في ذلك اليوم أتناول الغداء في مطعم الإذاعة وأحادث الإخوان العرب، وكثيرا ما كنا نجتمع حول موائد يشارك فيها الإنجليز، فتعرفت على زاهر بشاي المصري الذي كان يعد رسالة للدكتوراه، طال عمله فيها فأمعن في الطول (ولم يحصل عليها إلا حين أبلغته الإذاعة بإلغاء عقده، فحصل عليها لكنه لم يفصل!)، والدكتور محمود حسين الذي كان متزوجا من أجنبية، أظن أنها كانت سويدية وله منها ثلاثة أولاد، وكان ضخم الجثة رقيق الصوت، عرف عنه انشغاله بالنساء ومطاردته لهن، وتعرفت على أكرم صالح - الفلسطيني المتخصص في البرامج الرياضية - وكان إذا حاول مصادقة فتاة فصدته وصفها بأنها صهيونية، وكنت أرى الكثيرين من الطلاب الذين يترددون على المطعم لتناول الغداء والصحبة فحسب.
كان مجتمعا غريبا؛ فكل منهم له قصة، وكل منهم يعيش حياة تختلط فيها صور الماضي بالحاضر دون أن يرى له مستقبلا، كان العرب يندفعون مع الإنجليز كل صباح إلى العمل، ثم يطلون في أحاديثهم على الذكريات التي يبتعد بها قطار الزمن فتختلف ألوانها وتشحب، وتتداخل خطوطها وتشتبك، وكان معظم المصريين هناك ممن جاءوا إلى بريطانيا أصلا للدراسة، ثم انقطعت رواتبهم فالتحقوا بالعمل وهم يرون شمعة الدراسة تذوي ويخفت ضوءها، وتزوج بعضهم من إنجليزيات واشترى له بيتا ذا حديقة، وأنجب أطفالا يحملون الجنسية الإنجليزية ولا يتكلمون العربية، وظلت صورة الوطن كما هي - أي كما تركوه - وكانوا يتأثرون قطعا بما يسمعونه في أجهزة الإعلام، وكان بعضهم يحاول أن يبرر حكمة خروجه من مصر وعدم العودة إليها، وبعضهم يبدي الندم في لحظات نادرة عابرة، وكان من بين هؤلاء عزت أبو هندية (رحمه الله) الذي ينتمي إلى دمياط، وقد اشتهر عنه إمساك اليد، ولو أن هذا يرجع إلى فقر أيام الدراسة، وهو يقول إنه على استعداد للعودة إذا وافقت إدارة البعثات على دفع تكاليف تعليمه طيلة فترة عمله وإنفاقه على نفسه. وكان يعيش خارج لندن في منزل اشتراه، وكان لا يريد الزواج حتى لا تستولي زوجته على أمواله، وكان يحاكي الإنجليز في «تعقلهم» في الإنفاق والحرص على المال، وكذلك رغم تقدمه في السن (إذ كان قد جاوز الخمسين) ورغم مرض القلب الذي يعاني منه في مصادقة الفتيات. حتى وقعت الحادثة التالية:
اقترحت إفادات كيبرون أن تعرفه بفتاة ثرية اسمها شيلا جرين تعمل في العلاقات العامة، وأفهمت كلا منهما أن صاحبه ممتاز (وكانت شيلا ولا شك ممتازة) وعملت إفادات على «توفيق رأسين في الحلال» حتى يجد الدكتور عزت من يرعاه إذا مرض، ومن يعتني به في حياته اليومية حتى يظهر بالمظهر اللائق بجميع المصريين. وكنت حاضرا أثناء المقابلة، ومال كل منهما - كما يبدو - إلى صاحبه، وأصبحنا نتوقع إعلان الزفاف بين لحظة وأخرى، ولكن عزت تراجع في آخر لحظة، ويبدو أنه سمع منها ما يفيد أنها تعرف أنه مريض بالقلب، فتخيل أنها تريد أن ترث ماله حين يوافيه الأجل، ولم يمض أسبوعان حتى نعى الناعي شيلا جرين، وقال قائل إنها توفيت دون أن تعاني من أي مرض، ولكن الأجل المحتوم لا يحتاج إلى مرض، كما تحدث المتحدثون عما خلفته من ثروة طائلة، آلت إلى الحكومة؛ لأنها لم يكن لها وريث، وأصبحنا نرى الدكتور عزت وهو شارد اللب، يفيض صوته بالحزن، ثم فوجئنا به في المكتب ذات يوم يقول «أنا أعرف حظي .. لو تزوجتها لعاشت مائة عام!»
أما ريمون مكلف فكان إسكندرانيا ظريفا (ابن بلد وابن نكته) يحمل جواز سفر بريطانيا لأن أصله من مالطة وأبوه مالطي يحمل الجنسية البريطانية، واستقر أخيرا في الإسكندرية. وحين طرد الإنجليز (ومن يحملون جوازات سفر إنجليزية) من مصر إبان العدوان الثلاثي عام 1956م، كان ريمون قد ارتبط بغرام مشبوب بفتاة من حي بحري بالإسكندرية (وتقيم في شارع رأس التين) اسمها جانيت، وكانت ما تزال تلميذة في المدرسة الثانوية، وكان يتمنى أن يخطبها فور حصولها على التوجيهية (الثانوية العامة) ثم فوجئ بقرار الطرد، فجاء إلى لندن حيث عمل في بحوث المستمعين، لكن خطاباته لم تنقطع إلى جانيت، وما إن تحسنت الأحوال السياسية حتى هبط مصر بالطائرة وتزوجها في اليوم التالي، وبعد يومين كانا في لندن، فاشترى بيتا في جنوب لندن، في منطقة
Streatham ، وأنجب منها ثلاثة ذكور، أحدهم مريض بالهيموفيليا (مرض سيولة الدم) وعندما زرته صباح يوم من أيام السبت شممت رائحة مصرية محببة كنت افتقدتها من زمن، وعندما سألته قال «أصل جانيت لازم تدمس الفول بنفسها!» ولا شك أنها كانت مدبرة منزل رائعة، ولا أظن أنني أكلت فولا أشهى مذاقا من فول جانيت.
5
كان من نتائج عملي الجديد، الذي تطلب إذنا خاصا من وزارة الداخلية (بالعمل خلال الصيف للطلاب) أن اختلف نظام حياتي فتعلمت السهر، خصوصا بعد أن طال النهار واعتدل الجو، واشتريت جهازا للراديو ماركة بوش
Bush (ما يزال يعمل حتى الآن) أغناني عن الراديو المشترك للفندق القديم، واشتريت قلنسوة من الفراء، كندية الصنع، بخمسة جنيهات، ما زلت أرتديها حتى اليوم في شتاء أوروبا، وبدأت أتردد على بعض المطاعم الهندية التي تقدم وجبات كثيرة التوابل، ومتنوعة الطعوم يطلق عليها الأجانب مجتمعة لفظ كري بتفخيم الكاف
curry (وتنطق في مصر كاري بترقيقها ومد الفتحة) كما اكتشفت كشكا يبيع الكتب القديمة بنصف الثمن، وأحيانا ما كانت كتبا جديدة أصابها تلف طفيف، فبدأت أقرأ بنهم في شتى الموضوعات، خصوصا في الفلسفة وعلم النفس؛ إذ كان الأستاذ هاردنج
Harding ، أستاذ علم النفس بكلية بدفورد مولعا بالشاعر الذي أدرسه، وكان يوجهني إلى قراءة كتب معينة في علم النفس يرى أنها لازمة لدراسة هذا الشاعر، كما بدأ في ذلك الوقت غرامي الشديد بالفيلسوف الألماني كانط
Kant ، بعد أن قرأت مدى تأثر كولريدج
Coleridge (صديق وردزورث) به، وكنت أقرأ عنه قبل أن أقرأ الترجمات الإنجليزية المشروحة لكتاباته، وبدأت مكتبتي الخاصة تزدهر؛ فكل كتاب أقرؤه أحتفظ به وأعود إليه، وكان ذلك كله سببا في تعطيل الكتابة (في الرسالة) ولكن المشرف لم يعترض.
أحمد عثمان المؤلف المسرحي والمؤرخ ونجلاء عاصم زوجته وهي ابنة مدحت عاصم عام 1966م.
وذات مساء دافئ من أمسيات مايو الجميلة، كنت أتريض في الحديقة حين رأيت على البعد شخصا يشبه «عبده» المصري. وتوقفت من المفاجأة. ما الذي أتى به إلى الحديقة؟! وسرعان ما جاءني وفي يده حزمة أوراق، وقال لي: ذهبت إليك في الفندق، فقالت السكرتيرة إنك ذهبت إلى الحديقة! (قلت في نفسي هذه سكرتيرة «مخابرات»!) وقال إن لديه خطابات من صديقته كاثلين ريلتون
Kathleen Railton
دأبت على إرسالها إليه بعد ما انقطع عنها في الأسابيع الثلاثة الماضية، وألقيت على الخطابات نظرة سريعة فإذا هي أقرب إلى الفن الجميل أو الأدب الرفيع منها إلى الخطابات العادية، فقررت قراءتها فيما بعد على مهل، وكانت تواريخها المتقاربة وكثرتها تدل على أن صاحبتها لم تتوقف عن التفكير في «الموضوع» بل كان يشغلها تماما، وطلبت منه أولا أن يقص علي التطورات، فقال إنه كان مطمئنا بعد أن قال لها إنه مسلم، فلا يوجد في ظنه دين يمكن أن يعترض عليه والدها مثل الإسلام، وعندما غابت عن الكلية عدة أيام استبشر خيرا، ولكنه فوجئ بها تفعل ما فعلته في المرة السابقة؛ إذ عادت هاشة باشة، وقالت له إنها لن تخبر والدها بخبر دينه، وإنها على استعداد لاعتناق الإسلام وقد سألت بعض أصدقائها من «الراسخين في العلم» فقالوا لها إن الإسلام لا يمنع زواج المسلم من المسيحية، ومع ذلك فهي لا تريد لأطفالهما أن يعانوا، وتعتزم أن تعتنق الإسلام فتصبح مثل «ممتاز» الفتاة الباكستانية المسلمة في قسم الفيزياء، بل إنها سألتها عن الخطوات الواجب اتباعها حتى تصبح مسلمة.
قال عبده: وعندها قررت أن أصارحها بالحقيقة، ولكنها رفضت الاستماع إلي مثلما يحدث في الأفلام، وقالت لي إنني لن أفهم تفكيرها إلا إذا خرجت معها إلى الغابة يوم الإثنين 2 مايو؛ فهو يوم عطلة (
Bank Holiday )، ولم أعرف ما تعني بالغابة ونحن في إنجلترا فاتضح أنها تعني حديقة وندسور الكبرى
Great Windsor park
التي يطلقون عليها اسم غابة وندسور
Windsor Forest (والاسم ينطق ونزر لا كما نكتبه بالعربية) وفعلا قضينا اليوم هناك، وسوف تجد وصفا لتلك الرحلة في خطاب لها، وقالت كلاما كثيرا لم أفهم معظمه، ويدور حول الحرية والانطلاق والتحرر من قيود التقاليد وما إلى ذلك، وتحدثت فأسهبت عن عدم حاجتها إلى والدها أو إلى أمواله، قائلة إنها على استعداد لأن تتبعني إلى أقصى أقاصي الأرض، حتى الصعيد الجواني، تحقيقا لحبها العظيم. وعندها أحسست بالخطر خصوصا عندما وصلتني خطابات من أهلي تفيد أنهم «شموا» الخبر، وأنهم لن يقبلوا زواجي من إنجليزية، وعلى الفور انتقلت إلى مسكن آخر لا يعرف أحد عنوانه، وكلفت أحد أصدقائي بترك الخطابات التي تصلني إلى الكلية لدى إبراهيم الدويني، وكنت أمر عليه ليلا لكي آخذها ثم أنصرف سرا. واليوم ذهبت إلى المكتب الثقافي لأطلب تحويل تسجيلي إلى جامعة خارج لندن فوجدت مستر فيولنج يعاتبني على عدم إخطاره بتغيير العنوان، وأردف ذلك قائلا: «لقد سألت عنك خطيبتك ولم أجد لدي العنوان الجديد!»
كانت التطورات جادة وتتطلب تفكيرا عميقا، فجلسنا على أحد المقاعد الخشبية في الحديقة للنظر في جميع الاحتمالات، وكانت اقتراحاتي كلها مرفوضة، لا لأن عبده يرفض الارتباط بكاثلين ولكن لأنه يريدها ولا يريدها في الوقت نفسه، وهو لا يريد أن يقول الحقيقة حتى ولو كانت فيها نجاته، وعندما غربت الشمس بدأنا نحس نسمات البرد الخفيفة، فاقترحت عليه أن يأتي معي إلى غرفتي، ولكنه كان يخاف أن تكون في انتظاره؛ ومن ثم أعطاني عنوانه السري الجديد ورقم تليفونه ورحل.
وعندما عدت إلى الغرفة نحيت أوراق الرسالة والكتب جانبا، وجلست إلى المكتب أقرأ رسائلها إليه، بعد أن وضعتها في تسلسلها الزمني الصحيح، وفقا لتواريخ إرسالها، وبدأت بالرسالة التي تحكي فيها قصة غابة وندسور، ولاحظت أن فيها فقرات تكاد تكون منقولة بالحرف من رواية عشيق الليدي تشاترلي للكاتب د. ه. لورانس
D. H. Lawrence’s Lady Chatterly’s Lover ، التي أخرج لها الدكتور أمين العيوطي ترجمة عربية ممتازة في الثمانينيات، كما كانت بها فقرات تقطع بأن كاتبتها موهوبة، وأنها تمثل نمطا فريدا من التفكير الرومانسي كان الدكتور شفيق مجلي قد حدثني عنه في مصر في الستينيات، فلم أكد أصدقه. وسوف أقتطف من هذه الرسالة التي ما زلت أحتفظ بها فقرة قصيرة: «إنك تخاف يا حبيبي من القيود والمحاذير التي وضعها الناس لأنفسهم، وهي قيود ينسبونها إلى الدين أو إلى الأديان، ولكنك إذا رجعت إلى اليهودية أقدم الأديان لوجدت أصل هذا الخلط؛ الإنسان لا يستطيع التفكير المجرد، ولا يستطيع الاتصال بروح الكون، وهو لا يستطيع إدراك المعنى إلا إذا رآه مجسدا في رمز، ونحن لا نعرف معنى الروح البيولوجية إلا عند تأمل الخلية الحية. تعرف هذا مثلما أعرفه؛ ولذلك كان اليهود يرون أن الله لا يعبد إلا في معبد، فألبسوا المعبد ثوب القداسة وجعلوه مكانا إلهيا، مثلما فعلنا نحن بالكنيسة ومثلما فعلتم أنتم بالمسجد (حسبما تقول ممتاز) ولذلك أيضا صب كل رجال الدين همهم على الجسد؛ لأنهم رأوا فيه رمزا للروح؛ أي إنهم تصوروا أن الروح تسكن فيه فحرموا هذا وحللوا ذاك، ولكن الجسد والروح شيء واحد، والخلية إذا لم تكن حية لم تعد خلية؛ أي إن الحياة صفتها الأساسية، ونحن لا نتعامل مع مادة مضافا إليها (
plus ) روح، بل مع حياة إذا قتلتها لم تعد موجودة، وهذا هو ما قلته لك حين غبنا عن الوعي تحت الشجرة أول مرة، لقد امتزجنا فأصبحنا حياة واحدة، ولاحظ أنني لا أقول جسدا واحدا، وكانت تلك الحياة الواحدة هي التي تكررت بعد ذلك ثلاث مرات، ولا أستطيع أن أتصور بعد ذلك كيف تتكلم عن الإسلام أو المسيحية!»
وقلت في نفسي «ما أشد جرأتك يا عبده أفندي!» وظللت أقرأ خطابات تتكرر فيها هذه المعاني حتى وصلت إلى الخطاب الأخير، وكان الخط رديئا فالواضح أنه كتب على عجلة، ولكنني ثابرت حتى قرأت العبارة المذهلة التالية: «أخبرت والدي بأنك مسلم، فلم يعترض، وتساءلت والدتي: هل هذا معناه أنه ليس كاثوليكيا؟ فرد عليها قائلا: «طبعا يا جاهلة .. المسلمون مهذبون.» (
decent ) وقالت أمي: لا بأس، ما دمت متأكدا أنه ليس كاثوليكيا! أبشر يا حبيبي، لسوف نحقق أحلامنا. وأرجوك أن ترد على خطاباتي.»
وأسرعت إلى التليفون، لكنه لم يكن قد وصل بعد، ثم فكرت في الذهاب إليه بنفسي، لكني تساءلت ماذا عساي أن أفعل لو كنت مكانه؟ ولما لم أجد إجابة شافية، ضممت الخطابات بعضها إلى بعض، باستثناء خطاب الغابة، ووضعتها في الدرج، وقررت الانتظار إلى الصباح.
الفصل الثالث
الخريف الجميل
1
كانت الخطابات المتبادلة بيني وبين نهاد خطيبتي شريان حياة، وحبلا يصلني بالواقع الذي كنت أعرف أنني سأعود إليه، ورباطا متينا يشدني إلى مصر، حبي الأول والأخير، ولم تكن نهاد تبخل علي بالأخبار، وإن كانت في تلك الأيام تعمل بجد للانتهاء من دراستها الجامعية والمحافظة على الامتياز والتفوق ودرجة الشرف، ولم يكن لدي من الأنباء ما أنقله إليها؛ فحياتي على طرافتها رتيبة، وما إن انتهت الامتحانات حتى اتفقنا على عقد القران بالتوكيل، فأرسلت توكيلا إلى أخي مصطفى (موثقا من القنصلية المصرية) حتى يوقع العقد نيابة عني (وتم ذلك فعلا يوم 17 يوليو 1966م) وبدأت نهاد في القيام بإجراءات السفر، وكانت شاقة مضنية، وأعلمت الجميع بالخبر، وطلبت من مديرة بيت الطلاب غرفة كبيرة استعدادا لقدوم نهاد، وكانت اللوائح هنا لا تسمح بمكوث الضيف (الطالب) أكثر من عامين، فعلمت أننا لا بد أن ننتقل إلى شقة خاصة بنا مهما بلغ إيجارها.
كنت كثيرا ما أتأمل ترددي بين العالمين اللذين أعيش فيهما، وأعجب للمفارقات التي كتب علي أن أحيا فيها ليل نهار؛ فعملي في مكتب بحوث المستمعين يتيح لي معرفة ثمينة بأفكار مرسلي الخطابات، ومعظمهم من شمال أفريقيا، وهي أفكار أمة عربية ما تزال تتلمس طريق النهضة الذي أتلمسه، وتتأرجح مثلما أتأرجح بين الماضي العربي السحيق الذي يعيش في الوجدان حاضرا ومستقبلا، وبين الحاضر الغربي الذي نحاول التكيف معه دون مساس بذلك الماضي، وكانت تلك الخطابات من النوافذ النادرة على ذلك الفكر، وكنت أقرأ هذه الخطابات وأختزن في ذاكرتي ما أراه ذا دلالة خاصة، أو أنقل في كراسة لدي بعض ما يرد فيها من طرائف، حتى ولو لم تكن من الخطابات التي تترجم أو تلخص.
واستطعت أن أصنع خطوطا عامة للفوارق التي بدأت تتضح بين الدارسين العرب في لندن، وبين البيئة الإنجليزية التي تعتبر غريبة عن تقاليدهم إلى حد التناقض الصارخ، وقد اصطدمت بهذه التقاليد مرتين في الشهور الأولى من عملي في الكلية؛ إذ كان من بين الذين يتناولون طعام العشاء كل يوم دارس اسمه بيتر، له لحية منمقة، وأسلوب خاص في تناول الطعام، وكثيرا ما كنا نتجاذب أطراف الحديث أثناء العشاء، على مدى أربعة أشهر كاملة، حتى أصبحت أتصور أننا غدونا أصدقاء أو معارف على الأقل، وذات يوم شاهدته في فناء الكلية مقبلا نحوي فابتسمت له وحييته ولكنه لم يرد الابتسام ولم يرد التحية ومضى في طريقه كأنني غير موجود، وفي المرة الثانية قابلت مسز تيلوتسون رئيسة القسم فابتسمت لها وحييتها وكان رد الفعل مثل رد فعل بيتر! ترى ما عسى أن يقول العربي إذا فعل ذلك عربي مثله؟ إننا لا نقول إن لهم أعذارهم فهم مشغولون، ولا نقول إن لكل شيء وقتا مخصصا لا يتعداه، فالعمل لدينا يسير أو يتوقف دون أن نحاول وضع نظم زمنية تحكمه، وزملائي قد يطرقون بابي في أي لحظة بل ويدخلون (فالباب مفتوح دائما) سواء كنت مشغولا أو غير مشغول! وقد تعلمت من الإنجليز في تلك الأيام أن أحتفظ بمذكرة (مفكرة يومية
Diary ) أدون فيها المواعيد مثل أوقات الذهاب للمسرح ومقابلة المشرف ومواعيد العمل في ترجمة الخطابات، وأسجل فيها بعض ملاحظاتي، فكانت خير عون لي على التكيف مع حياة العمل الدائب في لندن.
حديقة هايد بارك في الشتاء وقد كساها الثلج شتاء 1966م.
وكان من بين رواد غرفة الأساتذة في الكلية شاب يبدو في أواخر الثلاثينيات اسمه كونراد رسل، كان من أسرة رسل الأرستقراطية، وكان من حولي يقولون إنه ابن برتراند رسل، ولكنني لم أكن ألتفت إلى حسبه ونسبه، بل شدني إليه أسلوبه في الحديث وطريقته المنطقية في صوغ الحجج وبسطها، وكان يتكلم بلهجة المثقفين الخاصة، ولا غرو فقد كان يعمل أستاذا للتاريخ الحديث، وكانت له زوجة شابة تأتي مع طفلها الصغير (الذي لم يتجاوز عامه الثاني) لتناول الغداء معه في الكلية، وقد وجدت نفسي ذات يوم طرفا في مناقشة سياسية لم أكن أتوقعها ولم أكن أريدها، وذلك عندما دخلت إلى غرفتنا بعد الغداء فوجدت كونراد يحادث طالبا هنديا من طائفة السيخ اسمه سوخديف (أو سوخديب) حول مشكلات عهد الاستقلال في الدول التي تنتمي إلى ما أطلق عليه ديجول تعبير العالم الثالث، وكان ديجول قد فاز برئاسة الجمهورية الفرنسية من جديد في ديسمبر 1965م، وفاجأنا بعبارة
le monde tertieme
التي لم تكن ذات معنى محدد آنذاك؛ فنحن في مصر نتحدث عن دول عدم الانحياز، باعتبارها تمثل كتلة لا تنتمي للشرق ولا للغرب، ولكننا لا نعرف ما يقصده ديجول بالعالم الثالث، وعندما دخلت الغرفة كان النقاش قد تركز في مشكلة كشمير، وهي الإقليم المتنازع عليه بين الهند وباكستان خصوصا بعد الحرب التي اندلعت بينهما في سبتمبر 1965م، وكانت الصين تؤيد باكستان، وأمريكا تؤيدها أيضا! وكان سوخديف مهموما بعد زيارة هيوبرت همفري نائب الرئيس الأمريكي في فبراير 1966م إلى باكستان لإعلان استئناف مساعدتها، والآن أصبحت إنديرا غاندي رئيسة للوزراء في الهند ولم تعد تتحدث في رأي سوخديف إلا عن السلام!
ولا أدري السبب الذي جعل سوخديف يتصور أنني سوف أؤيد موقف الهند من قضية كشمير، والأرجح أنه كان مؤمنا بعبد الناصر وكان يرى في حركة عدم الانحياز الوليدة حلفا شرقيا بين الهند ومصر وإندونيسيا وبعض الدول الأفريقية، ولم يكن هذا الموضوع يشغلني البتة؛ فالمعاني المطلقة التي كنا نؤمن بها في شبابنا سرعان ما تصبح نسبية، ومعنى «الوحدة» مثلا باعتبارها مثلا أعلى قد يتغير بتغير الظروف، وكنت أسمع عن سقوط زعماء وصعود زعماء (سقوط بن بيلا في الجزائر ونكروما في غانا وصعود كازافوبو في الكونغو ... إلخ) فأمر على هذه الأنباء مر الكرام؛ لأن انشغالي بالأدب واللغة أدى إلى انشغالي بالناس - بالبشر الذين يعملون ويتعلمون هنا ثم يفصلون تماما بين حياتهم وحياة الآخرين، وكان كونراد رسل أصدق نموذج لهؤلاء.
وعندما دعاني سوخديف للمشاركة في النقاش اعتذرت بأنني لا أعرف شيئا عن المشكلة، وأن لنا في الشرق الأوسط (أو في الوطن العربي) هموما من لون آخر، وهنا قال كونراد بلهجة الواثق مما يقول: «ولكن إسرائيل مشكلة مماثلة، وهي مشكلة لا تزول بتجاهلها.» وأكدت له أنني لا أتجاهلها، ولكنني أومن بأن العرب يسعون لاحتوائها (أي لمنعها من التوسع) وأن النهضة العربية كفيلة بأن تذيب الكيان العنصري حتى تصبح فلسطين مكانا يجمع بين العرب واليهود، مع غلبة الثقافة العربية آخر الأمر؛ فبذا يقضي مسار التاريخ، وقلت إنني أتصور عودة الشعب الفلسطيني إلى دياره حين يختفي التعصب العرقي اليهودي، ويتحول المثل الأعلى من الغلبة العسكرية إلى الارتقاء بمستوى معيشة الناس الذين ما يزالون يعانون من الفقر والجهل والمرض.
وقال كونراد: «أنت شاعر! فهذه أحلام الشعراء، والواقع يقول إن القوى المادية هي التي تسير التاريخ لا الآمال والأحلام.» وانطلق يضرب الأمثلة لا من الشرق أو العالم العربي بل مما يسمى بالديمقراطية الغربية، وأسهب في تبيان سيطرة بعض الطبقات (وصحتها «الفئات») على مسار السياسة البريطانية عبر القرون، وكيف أن «العقد الاجتماعي» الجديد وكان هارولد ويلسون يسميه
social compact (لا
contract ) يعني الاحتفاظ لأصحاب الامتيازات بامتيازاتهم بشرط السماح للآخرين إذا استطاعوا أن يلحقوا بهم، وقال لي في هدوء شديد: «هل تعتبر أن حزب العمال يمثل العمال حقا؟ وهل تعتبر أن تأميم صناعة الصلب خطوة في صالح الطبقة العاملة؟» وأجاب على التساؤلين قائلا: «انظر إلى عدد النواب اليهود في مجلس العموم، 72 نائبا يمثلون من؟ إنهم قطعا لا يمثلون نصف مليون يهودي، وهم أقل الأقليات العرقية عددا في بريطانيا، بل هم يمثلون مصالح كبار التجار اليهود، أرباب تجارة الخرق مثلا (
The rag trade
ومعناها تجارة البلو جينز
blue jeans
وأمثال تلك الأقمشة مما أصبح الشباب يرتديه باعتباره الموضة الجديدة) ومن وراء هذه التجارة ثقافة كاملة تغتنم غضب الشباب على ويلات الحرب والدمار الذي خلفته في الدعوة إلى التمرد الذي لا هدف له، وهي ثقافة يغذيها كبار الكتاب من يهود أمريكا وإنجلترا (أرولد ويسكر، وبيتر شافر، وهارولد بنتر لدينا وعشرات لديهم برئاسة آرثر ميلر، ونورمان ميلار، وهنري ميلر، وصول بيلو، وجورج سيجال وغيرهم) وعندما أقول «لا هدف له» أقصد أن الشباب لا يعرف له هدفا؛ فالتمرد من سمات الشباب في كل عصر، وقد يكون التمرد هو في ذاته الهدف! أما الغاية فهي خدمة مصالح كبار الرأسماليين الجدد!»
ولم أفهم غضب كونراد على الرأسماليين؛ فهو أرستقراطي ومن الطبيعي ألا يؤيد حزب العمال، ولكن هجومه على الرأسماليين بدا محيرا، فعدت أسأل عن صناعة الصلب وكيف لا يرضى عن تأميمها بعد أن دافع هارولد ويلسون دفاعا مجيدا عن ذلك أقنع الجميع؟ وهنا قال كونراد وقد بدأ ينظر في ساعته؛ إذ كانت تقترب من الثانية: «إن لعبة الانتخابات التي أتت بهارولد ويلسون إلى الحكم تتضمن مكافأة من أنفقوا عليها! لقد تعثرت صناعة الصلب؛ لأن الآلات التي كنا نستخدمها بالية، أو قل إنها لم تعد قادرة على المنافسة مع غيرنا من المنتجين وتحديث هذه الصناعة يتطلب استخدام آلات جديدة لا قبل لأرباب أو أباطرة صناعة الصلب (the steel tycoons)
بتكاليفها؛ ولذلك رحبوا بتدخل الدولة لإقالتهم من عثرتهم بأموال دافعي الضرائب.» وقلت بصوت حاولت أن يجاري صوت كونراد في انخفاضه وبعده عن الحماس: «ولكن تحديث الصناعة سيعود بالخير على العمال وعلى الدولة.» فأومأ موافقا وأضاف: «ويتضمن نجاح مرشحي حزب العمال في منطقة سالفورد
Salford ، ولو في المستقبل القريب.» ونهض من مجلسه وهو يقول: «ولكن هارولد ويلسون لن ينجح في أي انتخابات قادمة، بل ستأتي حركة البندول (the swing of the pendulum)
بحزب المحافظين الذي سيعيد الصناعة إلى أصحابها بعد أن تصبح عملا مربحا (
a going concern ) فتذكر ما أقول عندما يحدث ذلك!» وخرج باسما.
وكانت تلك المناقشة بداية وعي جديد بالحياة العامة، خصوصا بعد أن تحققت نبوءة كونراد رسل فيما بعد وأتى حزب المحافظين إلى الحكم عام 1971م، وبدأ عهد التوسع الاقتصادي
expansion
وتخفيض سعر الفائدة على القروض من البنوك فيما يسمى بعهد الأموال الرخيصة (cheap money)
وكان هدفه المعلن هو إتاحة النقود لمن يطلبها في عهد أطلق عليه عهد تحريك النقود والأسعار (
reflation ) وإن كان قد أتى بالتضخم (
inflation ) الذي كان حزب العمال يحاربه، والغريب أن تكون من أسباب نكسة حزب العمال ما أقدم عليه وزير المالية العمالي جيمس كالاهان
James Callaghan
عام 1969م من تخفيض لسعر صرف الجنيه الإسترليني مقابل العملات الأوروبية، مما دفعه إلى الاستقالة من منصبه، وذلك بعد ضغط الرأي العام؛ إذ قال بعض الصحفيين إنه نكث بعهده، وأقول إن ذلك غريب؛ لأن انخفاض سعر الصرف استمر سنوات وسنوات في عهد المحافظين.
2
كان من أهم ما خرجت به من المناقشات الجامعية على مدى عام كامل هو الوعي بأن الأستاذ يتمتع بحرية تكاد تكون مطلقة في تفكيره وبحوثه، وإذا كان ذلك مما لا يدعو للدهشة في العلوم الطبيعية كالكيمياء والفيزياء، فهو يدعو للدهشة حقا في العلوم الإنسانية، وكان مما يسر لي الوصول إلى هذه النتيجة اختلاطي بنماذج متعددة من أفراد الطبقات الأخرى في المجتمع الإنجليزي، فكانت «كارول» السكرتيرة ذات الملامح الشرقية تحدثني عن صديقها وكيف حاولت معه التشبه بالطبقات العليا فذهبت للرقص في فندق هيلتون وكيف مثلت دور إلايزا دوليتل
Eliza Doolittle
في فيلم سيدتي الجميلة عندما حاولت التحدث بلهجة أبناء الذوات، وكيف انكشف أمرهما حين لعبت الخمر بالرءوس فانطلقا يتحدثان بلهجة أولاد البلد في لندن، وعلمت من «سالي» أن صديقها ديفيد يريد أن يذهب معها إلى إيطاليا في أغسطس، وكانت مترددة بسبب تحذير ريمون مكلف لها؛ إذ قال لها إن عليها أن تشترط عليه الزواج أولا، وهي لا تدري ما تفعل، فهي تخاف أن يتهمها بعدم الثقة فيه، وتخاف أن يهجرها، ولم تكن أسرتها تعترض، لكن خوفها من ريمون كان سبب ترددها.
كارول زميلتنا في العمل في كوينز هاوس.
وجاء ديفيد ذات يوم إلى المكتب فوجدته شابا نحيلا قصيرا، غير وسيم، لا تبدو له ملامح محددة (
nondescript ) وكانت «سالي» في رشاقة نجوم السينما، مرحة ضحوكا، وعندما وجداني أجلس وحدي في ساعة الغداء، عازفا عن الخروج، أسجل بعض الملاحظات في مفكرتي التي تضخمت، طرقا الباب ودخلا، فعرفتني سالي به، وعرفته بي قائلة إنه مستر عناني الذي أطبع له الرسالة (وكانت تتولى نسخ الفصول بعد تعديلها على آلة كاتبة كهربائية لديها في المنزل). وقال ديفيد ضاحكا “The one who’s swallowed the dictionary?” (أي أهو الذي ابتلع القاموس؟) وأنكرت أنني ابتعلت شيئا، فأردف قائلا إنه لم يفهم حرفا واحدا مما كتبت، وضحكنا ثم سألني: «هل ستذهب مع نهاد إلى إيطاليا؟» وعجبت من سؤاله ورددت عليه بسؤال: «ألا بد من ذلك؟» فرد قائلا «كنت أتصور أن الناس يتزوجون في إيطاليا!» وسألته بسرعة «وهل ستتزوج سالي في إيطاليا؟» فقال: «ولم لا؟ ربما فعلت» (
why not? I might, you know ) وتطرق الحديث إلى شراء المنزل، فالقاعدة أن يشترك العروسان في شراء منزل الزوجية أولا، فهما يدفعان مقدارا من المال أولا (ألف جنيه على الأقل) ويدفعان الباقي على أقساط شهرية للبنك، فالبنك هو الذي يقدم القرض لهما (الثمن الكامل الذي تتقاضاه الشركة العقارية) وكان في هذه الحالة 3500 جنيه، ويعتبر المنزل مرهونا للبنك حتى إتمام سداد القرض؛ ولذلك تعتبر الدفعات الشهرية (الأقساط) قيمة فك الرهن، ويشار إليها عادة باسم الرهن فقط، فيقال (
to pay the mortgage rate ) ويشار إلى الفائدة المفروضة على القرض باسم سعر فائدة الرهن (mortgage rate)
واتضح من الحوار أن ديفيد لا يملك إلا ثلاثمائة جنيه، فقالت سالي: «أستطيع أن أدبر المبلغ الباقي (
I can manage the rest )» واعترض ديفيد أولا، ثم قال: «سأرد لك المائتين عندما أفتح محل البقالة الخاص بي!» وغني عن البيان أن سالي كانت تشعر بسعادة غامرة، وعندما نهضا التفت إلي ديفيد وقال: هل الأستاذ المشرف هو الذي سيمتحنك في الرسالة؟ فأجبت بالإيجاب، فقال ألا يعتبر هذا من قبيل الغش (cheating) ؟ وعندما رأى الدهشة على وجهي قال: «أعني أنه هو الذي تولى تصحيح الرسالة .. فما الذي سيمتحنك فيه؟» وضحكت ولم أعلق فغادرا المكتب.
سالي زميلتنا في العمل في كوينز هاوس.
كانت أحلام سالي وديفيد أحلام الطبقة الفقيرة، ولم تكن أفكارهما تتجاوز شراء المنزل وتدبير نفقات المعيشة، وكانت قد مضت على صداقتهما سنوات طويلة، يخرجان للنزهة أو يذهبان إلى السينما، على مرأى ومسمع من الجميع، ولم يكن ديفيد قد حصل على أي شهادة، فهو
school leaver
وحسب؛ أي إنه قضى فترة التعليم الإلزامي في المدرسة حتى سن الخامسة عشرة (رفعها حزب العمال إلى 16 بحجة رفع المستوى التعليمي وقال حزب المحافظين إن الهدف من ذلك تخفيض عدد تاركي المدرسة المسجلين في قوائم العاطلين) ثم عمل صبيا في محل بقالة، وكان دخله قليلا وطموحاته أقل، أما سالي فكانت ماهرة في أعمال السكرتارية مثل الاختزال والآلة الكاتبة والأرشفة وما إلى ذلك، وتطمح في أن تصبح سكرتيرة خاصة لمدير إحدى الشركات، وهذه فئة يطلق عليها «مساعدة شخصية» (P. A. Personal Assistant)
وتوازي منصب «مدير المكتب» لدينا. وقد كتب لي أن أزورها في المنزل وأرى والديها، وكانا مثل ديفيد يفتقران إلى الطموح، وقال والدها لي:
I don’t encourage moonlighting
أي لا أحبذ القيام بعمل جانبي إلى جانب العمل الأصلي؛ فالإنسان في رأيه لا بد أن يعيش ويتمتع بحياته، لا أن يكافح في طلب المال، وأكد لي أن «سالي» لم تكتب لي الرسالة إلا بسبب دماثة خلقي، وأنها لا تسعى إلى أي لون من الكسب المادي.
3
كان الإحساس الذي بدأ يتملكني هو أن الأوروبيين يؤمنون بالنظم التي تعفي الفرد من مكابدة ما يكابده الفرد في بلادنا؛ فنحن لم نرث نظما ثابتة بل نحاول وضع نظم جديدة لا نعرف إلى أي حد يمكن أن تنجح، أما الإنجليز وهم من غلاة المؤمنين بالنظم، ولا يكاد يتفوق عليهم إلا السويسريون فيما أعلم؛ فهم منذ البداية يقبلون ما تسير الدولة عليه، والثورة لديهم ضرب من الجنون بالمعنى العلمي (أي الذي يقتضي علاجا في مصحة)؛ ولذلك فإن أي تغيير في المجتمع يستغرق دهورا، وقد سبق ابن خلدون علماء الاجتماع المحدثين في تبيان أحد أسباب ذلك وهو طبيعة الجو؛ فالإنسان الذي ينشأ في بيئة أو في مناخ يصعب التنبؤ به يميل إلى الاحتماء من تقلباته، ويسعى في سبيل ذلك إلى وضع نظم يدخل عليها تحسينات قليلة أو كثيرة عاما بعد عام، حتى تصبح مأمونة، وحتى يجد ما يركن إليه ويثق به. وقد يدهش من يعلم أن أرقام خطوط الأوتوبيس في لندن لم تتغير على مدى الخمسين عاما الماضية، وعندما أشاهد بعض الأفلام القديمة ألاحظ تعليقات الإنجليز عليها كأنما لم يمض علينا زمن! ومثلما يؤمن الإنجليزي بالثبات، يعرف أن التغيير محتوم وهو يقبله على مضض، وكثيرا ما يتحسر على الأيام الخوالي، ويكاد يتمنى لو وقف الزمن وظلت حديقته غناء إلى الأبد! وكان صدق هذا الحدس يتأكد لي كلما التقيت بالطاعنين في السن، وأذكر أنني دخلت صيدلية وكانوا يسمونها على أيامنا (
Chemist’s ) أي دكان كيميائي (ثم تغيرت بعد الوحدة الأوروبية إلى
)، وطلبت قطعة من الشبة لأضعها على جروح ما بعد الحلاقة وكنت أعرف أن اسمها
alum
وأن الاسم العلمي لها هو
styptic
فطلبتها بالاسم العلمي، فنظر إلي الصيدلي الشاب دهشا، فقلت له ألا نكتبها بحرف الواي (
Y ) وننطقها كالكسرة؟ فسمعت من أقصى الصيدلية شيخا يصيح: «هل تغير هجاء هذه الكلمة أيضا؟ ما الذي يحدث للعالم؟» (Have they changed that too? What’s the world coming to?)
وطمأنت العجوز قائلا إن الهجاء لم يتغير ولكنني أجنبي غير واثق من الهجاء الصحيح، فنهض وجاء إلي متكئا على عصا غليظة ووقف يقص علي أحزان المهنة، وما صنعته الكيماويات بصحة الشعب الإنجليزي، واسترسل في الحديث (وأنا به سعيد) عن مغبة الانسياق وراء المواد الصخرية التي تدخل في صناعة الأدوية، ثم همس لي قائلا: سوف أتلقى خطابا من الملكة بعد اثني عشر عاما؛ أي عندما أبلغ المائة! وضحكت وقلت له: ربما لن أكون هنا لأرى الخطاب! وانصرفت. ويجمل بي أن أضيف أنني كنت أمر على الصيدلية كلما زرت لندن (وكنت أقيم خارجها منذ 1969م) حتى عام 1973م حين لم أجد لها أثرا، وسألت صاحب الدكان المجاور فقال إن صاحبها توفي وإن الورثة باعوها.
راعني ذلك التمسك بالقديم والاستمساك بالتقاليد وأصبحت أرى فيه تفسيرا للكثير مما ينسبه البعض إلى التعصب أو ضيق الأفق
narrow-mindedness (والمعنى واحد في التعبير الإنجليزي؛ أي إن
narrow-mindedness
توازي تماما
intolerance
وما يجري مجراها مثل
bigotry ... إلخ)؛ فالإنجليز لا يكرهون الأجانب بالمعنى المفهوم للكراهية بل هم يستريبون بهم، ويخشون أن يأتوهم بما يدخل ولو تعديلا طفيفا على أسلوب حياتهم (أي على ثقافتهم) والتعديل قد يعني التغيير، مصدر الخوف من المجهول! وعندما انسحب الإنجليز من مستعمراتهم القديمة، كانوا مضطرين لأسباب اقتصادية محضة إلى الإبقاء على الوشائج التي كانت تربطهم بأهلها، وهكذا أنشئوا الكومنولث
commonwealth
وهي كلمة أخرى للفظة
republic
أي الجمهورية (فلفظة
res
اللاتينية تقابل
wealth
وكلمة
publica
توازي
common )؛ ومن ثم فالمصطلح يعني أن دول الكومنولث تشكل فيما بينها اتحادا جمهوريا! فهكذا أطلق أوليفر كرومويل تلك الصفة على حكومته في القرن السابع عشر، عندما تحولت إنجلترا إلى جمهورية للمرة الأولى والأخيرة! ولكن الواقع ينفي ذلك؛ إذ كان الإنجليز في أعماقهم يخشون هذا الامتزاج بأقوام قد تؤدي معاشرتهم إلى التغيير! إن تقلب الجو، وتقلب البحر الذي لا بد لسكان الجزيرة أن يركبوه، والخوف من التقلب بصفة عامة، من العوامل التي أورثت الإنجليزي ولعا بالثبات يصل إلى حد الوله!
وقد وجدت نفسي في تلك الأيام أعيش في مجتمع يتغير بسرعة لم يشهدها عبر تاريخه الطويل، ويحاول التوافق مع حقائق الدنيا الجديدة؛ فلقد أدرك ذلك المجتمع أنه ينبغي ألا يصدق دعوى التفوق العنصري، ويجب أن يقتنع بأن الإمبراطورية القديمة قد زالت وانقضت، فكان التمزق بين الوجدان العميق وبين حقائق الدنيا التي يقول بها العقل، والإنجليزي يفخر بأنه «متعقل» وكلمة
reason
ومشتقاتها تشغل مكانا لا تشغله كلمة أخرى في اللغة الإنجليزية، وما تزال الصفة
reasonable
تمثل لي مشكلة في الترجمة القانونية، وأعترف أنني لا أعرف تحديدا ما يعني تعبير «معقول» في عبارة «قدر معقول من ...» فأنت تقرأ مثل هذا التعبير في حكم المحكمة
beyond a reasonable doubt «دون قدر معقول من الشك» وفي الحديث العابر “do be reasonable” «أرجوك تعقل!» وشتان بين هذه الصفة وبين العقلانية
rationality ! أقول إنني كنت أشهد التغيير، وما زلت أحتفظ بصحيفة اشتريتها أيام إقامتي في بيت الزنوج (أو بقصاصة منها) تحكي عن اعتزام إيان سميث (Ian Smith)
إعلان استقلال روديسيا (الجنوبية) من جانب واحد، فيما كان يسمى (
Unilateral Declaration of Independence) UDI . لقد كان عصيان إيان سميث لحكومة الملكة بمثابة تغيير لا يمكن قبوله؛ فبريطانيا «تمنح» الاستقلال، سواء أكان ذلك لأقلية بيضاء أم لأغلبية سوداء، أما أن تعلن دولة استقلالها من طرف واحد عن بريطانيا، ولو كانت الحكومة تتكون من الإنجليز البيض، فهذا ما لا يمكن قبوله! ويكفي أن أذكر في آخر هذا القسم التعبير الذي دخل مصطلح الإنجليزية من أوسع أبوابها وهو «رياح التغيير» (winds of change)
الذي ورد في خطبة هارولد ماكميلان في جنوب أفريقيا!
كان المجتمع الإنجليزي يتغير في المدينة، وكنت أعيش في المدينة، وكنت أذكر قول أستاذ مجدي وهبة: إذا أردت أن تعرف إنجلترا فاذهب إلى الريف! ولكنني كنت مرتبطا بالمسرح وبالحياة الحافلة في المدينة، وأما الريف فكان يكفيني أن أراه في حديقة الكلية والحديقة المجاورة لبيت الطلاب.
4
كانت أقوال أساتذتي مجدي وهبة ورشاد رشدي ولويس عوض تشغل مكانا ثابتا في ذهني عن إنجلترا في فترات مختلفة وأماكن مختلفة؛ فمجدي وهبة خريج جامعة أوكسفورد، ورشدي من جامعة ليدز، ولويس عوض من كيمبريدج، أما أنا فكنت أنتمي إلى الكلية التي تخرج فيها محمد مصطفى بدوي وشفيق مجلي، وكانت رئيسة القسم تقول لي إنهم كانوا أفضل سفراء لمصر في إنجلترا، وكنت أعيش في لندن، المدينة التي كان الدكتور صمويل جونسون يعتز بالحياة فيها، وما يزال المنزل الذي كان يقيم فيه قائما في عطفة من شارع ستراند (وهم يسمونه
The Strand
فقط) وعليه لافتة تحمل اسم الناقد الكبير ومؤلف أول معجم إنجليزي نسجت حوله الأقاصيص في القرن الثامن عشر، وكان مجدي وهبة قد ملأ نفسي بحب هذا العملاق، ولم يكن من الممكن أن أنساه وأنا أقرأ أسلوبه البديع ولغته الإنجليزية الصافية، مما أكسبني دون قصد نزعة كلاسيكية ما لبثت أن رسخت وتعمقت، وفي جوهرها يكمن ما ذكرته عن العقل والتعقل وهو ما يجب علي أن أوضحه بعض الشيء.
كانت روح القرن الثامن عشر التي نصفها بالكلاسيكية الجديدة ترتكز على الإيمان بأن الإنسان كائن لا يختلف تكوينا ونفسا من مكان إلى مكان، ولا من زمان إلى زمان؛ فنوازعه معروفة ومرصودة، وقد أقام أصحاب الفلسفة الإنجليزية الواقعية؛ أي التي تستند إلى معطيات الواقع أسسا لدراسة الإنسان انطلاقا من الحقائق المادية، واستخدموا المنهج التجريبي الذي نشأ في القرن السابع عشر أساسا لإرساء قواعد العلم الطبيعي، فأقاموا بنيانا من الأفكار المنطقية المستندة إلى الوقائع والتجارب، فيما أصبح يسمى بالبراجماتية وقد استلزمت هذه المدرسة الفلسفة مبدأ «الوسطية» في كل شيء؛ أي الابتعاد عن الشطط واتباع الهوى الذي قد يضر بالآخرين، وبرزت في اللغة الإنجليزية صفات أصبحت تعتبر محمودة مثل البديهة السليمة
commonsense
و
level-headedness
وعلى رأسها جميعا كلمة الإنصاف
fairness
أو
even-handedness
وكلها تحمد العدل والاعتدال
moderation
باعتبارهما من سمات «التعقل». وكان الأجنبي الذي يستطيع استيعاب تلك الروح التقليدية يكتسب رضاء المجتمع الإنجليزي، ويفتح الإنجليزي له الأبواب مثلما يفعل الفرنسيون الذين يقبلون من يجيد لغتهم بل يعتبرونه واحدا منهم (
citoyen passé ). ويكفي أن أختم هذه الفقرة بالإشارة إلى إطلاق لفظ «الطبيعة» على من يتجنس بالجنسية الإنجليزية؛ إذ يسمونه
naturalized !
وقد ذكرت في الفصل الأول أن الصفات الخلقية التي ينسبها بعض النقاد إلى تراث النزعة البيوريتانية تعزى في الحقيقة إلى الممارسات التجارية التي لا تنجح إلا بالصدق والأمانة، وقد أضيف هنا أن صفات الوسطية والاعتدال والاتزان (balance)
والإنصاف ربما ترجع أيضا إلى الخبرات التجارية التي اكتسبها الإنجليز على مر القرون؛ فهذه جميعا من صفات التاجر الإنجليزي الناجح، وقل أن تجد بين الإنجليز من يكتب له النجاح إذا لم يتصف (أو لم يحاول الالتزام) بهذه الصفات. أما الاستثناءات فهي نوع من الاستثناء الذي يؤكد القاعدة ولا ينفيها.
وقد اضطررت إلى هذا الاستطراد القصير لأنني أجد فيه تفسيرا لاتجاه العقل الإنجليزي إلى الوضوح في التفكير والتعبير، وتفسيرا لميل الإنجليز إلى الإقلال من الكلمات، واعتبار الاقتصاد في التعبير أسمى الفضائل وأعلى قمم البلاغة؛ فما نظنه من قبيل «البرود» الإنجليزي هو في الحقيقة ضبط للنفس وضبط للسان خشية أن ينحرف أو يشتط، وأحيانا مخافة أن يقول ما يجب كتمانه، أو ما لا يجوز البوح به، فإذا تكلم آخر الأمر وجدت أنه واضح الفكرة والعبارة، لا يخرج عن «المسموح به» اجتماعيا أو يجنح إلى «ما لا يقال» (أي العيب)!
وأنا أذكر ذلك كله أيضا لأنه أوضح لي في سنوات التكوين البعيدة مدى تأثير التراث الإنجليزي في جيل كامل من أساتذتنا، وأنا أعتز بأنني تتلمذت على أيديهم، وإن كانت مبادئ هذا المنهج العلمي الصادق تضرب بجذورها - كما تعلمت في الكبر - في تراثنا العربي، ولكننا ننساها أو نتناساها في هذه الأيام، ونطلق ألفاظا عامة ظالمة على تراثنا كله، بل لا نفرق (أو لا نكاد نفرق) بين عصور ازدهار العلم العربي وعصور التخلف التي اتسمت بالنقل والمحاكاة دون تمحيص. ولكم كانت فرحتي حين اكتشفت أن الشاعر الذي أدرسه (وليم وردزورث) إنجليزي الطابع بالمعنى الذي ذكرته، وإن كنت هنا أستبق الأحداث؛ لأن ذلك لم يحدث إلا في مرحلة الدكتوراه في مطلع السبعينيات، فلأعد الآن إلى ما دعاني لهذه التأملات العابرة - ألا وهو عودة «عبده» من العطلة ومعه كاثلين!
كانت المفاجأة مذهلة؛ كنا في شهر أغسطس 1966م، وكان صيفا حارا بالمقاييس الإنجليزية، وكان سمير سرحان قد زارني مرتين في صيف ذلك العام، مرة وهو في طريقه إلى مصر لحضور مؤتمر المبعوثين الذي تحدث فيه جمال عبد الناصر شخصيا إلى ممثلي الطلبة، وكان من أبرز أحداث ذلك الصيف، ومرة أخرى وهو عائد إلى أمريكا ، ومكث معي في الغرفة وتحادثنا عن أحوالنا باستفاضة، وتنزهنا وقص علي ما يفعل ولكنه اعترض على التحاقي بالعمل المؤقت وطالبني بالانتهاء من الرسالة بأسرع ما يمكن حتى نعود لتحقيق أحلامنا في مصر، وبعد رحيله كنت أشعر بحزن دفين لم يخفف منه سوى توقع فرحتي بوصول زوجتي، وكنت كل يوم أفعل شيئا جديدا استعدادا لهذه الفرحة، بل كان لا يكاد يشغلني بعد رحيل سمير سرحان سوى إرسال الخطابات والبرقيات تلهفا على وصول نهاد.
وذات صباح دافئ، لا سحاب ولا مطر فيه، خرجت قاصدا النزهة، ولكنني لم أكد أخرج من باب المصعد حتى وجدت «عبده» أمامي ومعه فتاة إنجليزية سمينة، ناصعة البياض، قصيرة الشعر، عيناها زرقاوان، باسمة الوجه، فوقفت جامدا لا أستطيع الكلام. وإذا بها تقول ضاحكة: «لا بد أنك محمد!» وقلت نعم. تفضلا. وقالت بسرعة: «كنا ... أقصد ...» وأكملت لها العبارة التي يستخدمها الإنجليز فكهين في مثل هذه الظروف: «كنتما في المنطقة فقلتما ...» “you were in the neighborhood and thought ...” . فضحكت وقالت إنها «فكرة عبده!» وقلت لها: «لا بأس .. فلنخرج معا إلى الحديقة (هايد بارك) فالجو رائع!» وخرجنا.
كان عبده قد انقطع عن الاتصال بي فترة طويلة، ولم أكن أتابع أخباره بعد أن ترجمت له ما جاء في خطاب كاثلين الأخير، وكانت حياتي حافلة بمشاغل الدراسة والعمل، فلم أشغل نفسي كثيرا بهذه المسألة؛ ولذلك فضلت الصمت. وبعد أن توغلنا في الحديقة ونحن نعلق تعليقات مقتضبة أو مسهبة على الزهور، جلسنا جميعا على مقعد خشبي، وبدأت كاثلين حديثا طويلا سجلت أهم نقاطه فيما بعد في مفكرتي، وسوف أوجزه هنا، قالت كاثلين: «صارحني عبده بأنه كانت له خطيبة في مصر وأنها سوف تحضر هنا بعد أن تزوجها بالتوكيل، وشرح لي موقف أهله من الموضوع، وتفهمت الموقف تماما، وقررت أن الإنصاف يقتضي أن أتركه، وإن كان ذلك يحز في نفسي، وقطعت على نفسي عهدا بألا أراه بعد اليوم، وبأن نزورك معا قبل الافتراق؛ فهو يعتبرك أخلص أصدقائه، وسوف أرحل إلى الجنوب حيث أعمل مع والدي، ولكنني لن أعطيكما العنوان أو التليفون، حتى نغلق الكتاب تماما.»
وأدركت أن هناك أشياء لا أعرفها، وكان حدسي يقول لي إن عبده قد كذب من جديد حين زعم أن له خطيبة وأنه تزوجها بالتوكيل، ولكنني قلت في نفسي: «لعل أهله قد زوجوه في غيبته فعلا.» ولذلك لم أعلق، وسألتها إن كانت حصلت على الدكتوراه أم لا، فقالت في غير اكتراث «الدكتوراه ليست عاجلة وأستطيع إكمالها فيما بعد.» واعترضت على ذلك فقالت بلهجة جادة «ربما لم أخلق للبحث العلمي. والأفضل لي أن أعمل!» وذكرت المشهد الأخير من مسرحية الخال فانيا لتشيخوف، حيث يعزي فانيا نفسه بالعمل، وتحلم سونيا بالسعادة في العالم الآخر، وتألمت. وكان أشد ما آلمني هو نبرة الهدوء والثقة التي كانت تتحدث بها كاثلين عما تنتوي فعله، ولم أكد أصدق أن هذه هي الفتاة التي كتبت تلك الخطابات الملتهبة. ترى هل نقلت بعض الفقرات من روايات أخرى لم أقرأها؟ وكنت أسترق النظر إلى وجه عبده أثناء حواري مع الفتاة فأجده جامدا لا يفصح عن أي انفعال، ولم أشأ أن أحادثه خشية أن يقول ما لا يريد، وبعد نحو ساعتين نهضنا وعدنا أدراجنا فاقترحت عليهما أن يتناولا الغداء معي ولكن كاثلين قالت إنها لا بد أن تدرك القطار (وإنها تركت حقيبتها في المخزن الخاص بالمحطة) مما زادني دهشة، فعرضت الذهاب معهما، ولكنها قالت إنها تفضل أن تذهب وحدها، تاركة «عبده» في صحبتي! ودون دموع أو انفعال صافحتنا ودارت ومضت. وتسمرت في مكاني ذاهلا كأنني أشهد مشهدا في رواية خيالية!
5
رحلت كاثلين، وسرنا بخطوات ثقيلة نحو المطعم، وبعد أن طلبنا الطعام وجدت أن تطلعي إلى معرفة ما حدث يكاد يذهب بشهيتي، فقلت له بطريقتنا المصرية المباشرة: «ماذا حدث؟» وأجاب وهو يتطلع إلى النادلة وهي تحضر الأطباق: «سأحكي لك كل شيء فيما بعد!» ولكنني ألححت، وتصورت أن مشاعره الجياشة سوف تغلبه فيبكي أو أن اللحظة غير مناسبة؛ فهو يصر على الصمت وقد خلا وجهه من أي تعبير. كان وجهه مصريا أسمر، به قدر لا بأس به من الوسامة، وقد زاده النحول جاذبية، وكان بيده منديل ما يفتأ يمسح به عينيه قبل إحكام وضع النظارة الطبية. ورسم لي خيالي أنه يمسح الدموع لا حبات العرق، فقررت إرجاء الحديث إلى وقت لاحق.
وعندما صعدنا إلى الغرفة قمت بإعداد الشاي، وفضلت أن أتيح له مزية المبادأة، لكن صمته طال فلجأت إلى الحيلة وقلت له: «لماذا لا تستأجر غرفة كبيرة هنا تقيم فيها مع العروس؟» وضحك فتفاءلت؛ ومن ثم بدأ يحكي في إسهاب تفاصيل محاولة هروبه منها (أي كاثلين) وكيف عثرت على مسكنه الجديد بعد يوم أو يومين، وكيف قبلت في الظاهر جميع الذرائع الواهية التي قدمها تبريرا لمسلكه، ثم أصبحت تقضي سحابة نهارها معه حتى أنسته العمل ولم يعد يذهب إلى الكلية، وكانت - كما يقول - «لا تشبع من حبه» وترسل إليه خطابات تقول له إنه «شمس الفراعنة وسر الحياة»، بل أتته من القسم المصري بالمتحف البريطاني بمطبوعات عن اللغة المصرية القديمة وفك رموزها، وبصورة كبيرة لحجر رشيد، ثم قالت له إنها تريد أن تتعلم العربية حتى تستطيع التفاهم مع أهله، وبعد نحو ثلاثة أسابيع قالت له إننا علماء وعشاق، وإذا كان العلم لا وطن له، فالعشق لا وطن له أيضا، وفي تلك الليلة «المنشودة» قالت له: «أعرف أن لديك سرا يمنعك من مبادلتي عاطفتي القوية.» وأكدت له أنه مهما يكن من أمر هذا السر فهي على استعداد لمواجهته «حتى لو كنت متزوجا!». وقال عبده: «داهمني الخوف منها، مثلما داهمني الخوف على مستقبلي، ولمحت طوق النجاة، وكنت كالغريق الذي يتعلق بقشة، فكررت ما قالته «حتى لو كنت متزوجا؟» وقالت: «أنت متزوج ولا شك.» ثم عانقتني وقبلتني والدموع في عينيها قائلة: «هذا هو العذر الوحيد الذي يمنعك من الانطلاق، ولطالما أحسست به في نظراتك الزائغة وترددك، فلا تخش شيئا وصارحني».» وقدمت لعبده كوبا آخر من الشاي فرشفه على مهل، وبدا عليه الانفعال لأول مرة، ثم أردف يقول إنها أخبرته أنها كانت دائما تحس أنه لم يكن «خالصا» لها، وأنها كانت تغافل نفسها وتخدع عقلها أملا في الاستيلاء عليه، وكانت تتصور أن الأيام التي قضتها معه أخيرا سوف تحقق غايتها، ولكن ذلك كان وهما؛ ومن ثم رحلت واتفقت معه على اللقاء بعد أسبوع.
وعاد «عبده» بعد ذلك إلى الكلية، وقابل الأستاذ المشرف، واتفق معه على بعض الخطوات الخاصة بالبحث، وقال إن المشرف أحس باضطرابه فطلب منه أن يمنح نفسه عطلة رسمية؛ فالفصل الدراسي كان قد انتهى يوم الجمعة 22 يوليو، ومن حق كل طالب أن «يعيش»، وسأله «عبده» ماذا عساه يفعل فقال له: «اذهب إلى حي البحيرات في الشمال، وتعلم الاستمتاع بالطبيعة.» وطمأنه على الدكتوراه قائلا إنه سوف يسمح له بكتابة الرسالة في أكتوبر؛ فالنتائج التي حققها في المختبر تكفي، وضحك قائلا: «نحن لا نتوقع منك بحثا يأتي بجائزة نوبل!»
وقال عبده إن كاثلين لم تبتعد عنه أسبوعا كما قالت، بل زارته في اليوم التالي وقالت له إنها عرفت أن المسلم من حقه الزواج بأكثر من زوجة، وأنه ربما كان يفكر في اتخاذها زوجة ثانية، ولكنها لن تقبل ذلك، ولن تقبل أن تكون في المرتبة الثانية (وقد كتب عبده التعبير الذي استعملته حتى يريني إياه وهو
second fiddle
قائلا إنه يظن أنها استخدمت فعل
to play
أيضا)؛ ومن ثم فقد قررت أن تتركه لزوجته، وطلبت منه تفاصيل الزواج، فقال لها إنه تزوجها بالتوكيل وإنها سوف تحضر إليه يوم السبت 27 أغسطس، وقال إنه لا يدري ما الذي جعله يحدد هذا الموعد؛ إذ كان حائرا مضطربا؛ لأنه يخشى أن تكتشف الحقيقة ولذلك فكر في أن يسافر إلى مصر وأن يتزوج فعلا ولكن الأحداث لم تمهله؛ إذ قالت له برنة صدق لم يعهدها في فتاة من قبل: «فلنسافر معا إلى حي البحيرة أسبوعا أو أسبوعين، ثم أتركك قبل موعد وصول زوجتك بفترة «معقولة»، على الأقل حتى تعتاد أن تنسى اسمي ولا تخاطبها بما كنت تناديني به (وهو كاثي)» ووافق عبده؛ لأنه كان كما يقول يشعر بأنه قد وقع في فخ لا فكاك منه، وكان الحل الذي اقترحته «معقولا» وفعلا سافرا أسبوعا وقضيا ساعات جميلة كانت فيها مثال العاشقة المخلصة، تسهر على راحته وتفعل كل ما يتمناه حتى دون أن يطلبه، حتى تساءل ذات يوم بينه وبين نفسه لماذا لا يتزوجها؟ وكان يعجب منها حين تصحو مبكرا وتكتب ما يشبه الخطابات الموجهة إليه، وكثيرا ما يلمح الدموع في عينيها خلسة، وإذا سألها قالت له: «لا .. لا شيء.»
ماريون زميلتنا في العمل في كوينز هاوس.
وما إن عادا من الرحلة، وكان ذلك يوم الجمعة 12 أغسطس حتى اتفقا على زيارتي في اليوم التالي، وكانت قد سمعت كثيرا عن محمد الذي يعتبره «عبده» أخا أكبر يشتهر «بتعقله واتزانه»، واتخذت جميع إجراءات رحيلها إلى منزل والدها، وجاءا إلي وكان ما قصصته عند مقابلتهما. وقلت لعبده إنها كانت تبذل محاولة أخيرة لإقناعه، ولكنه قال إنها ذات إرادة حديدية «وكان يمكن أن أتزوجها لولا شخصيتها المسيطرة» وانطلق يرسم في خياله ما كان يمكن أن يحدث له لو تزوجها وعاد بها إلى القاهرة، وقلت برنة الملاحظة العابرة إنها كانت ستكتشف كذبه عليها، فقال دون مبالاة: «لقد حدثتني كاثلين عن رواية قرأتها للكاتبة ميوريل سبارك
Muriel Spark
اسمها بوابة مندلبوم تصور فيها اليهود والعرب في القدس، وتصور فيها إحدى الشخصيات (واسمه علي) على أنه كذاب بالطبع والسجية، وقالت لي أكثر من مرة إنها تعرف أن العرب كذابون!»
وفجعني ما أسمع! «هل وطنت نفسها إذن على أنك كذاب بطبعك وسجيتك لأنك عربي؟ ولماذا لم تناقشها في ذلك؟» وهز كتفيه غير مكترث بحماسي ثم غمغم: «كثيرا ما كنت أكذب عليها في أشياء صغيرة فتضحك، وكانت دائما تقول: «لا يهمني ما تكذب علي فيه ما دام حبك صادقا، ودلائل صدقه واضحة ساطعة!» إنها فتاة عجيبة يا عم عناني! ولو كان الإنجليز جميعا مثلها لخرب العالم!» ونظر في الساعة ثم نهض، فنهضت وأنا أدرك أنه يريد الخروج ل «شم الهواء»، وخرجنا وقال لي ونحن في الطريق إلى محطة القطار: «مرت بي لحظات قلق حين كنا نزور الكنائس فأصلي بالعربية؛ فأنا أصلي كثيرا، وكنت أخشى أن تسألني إذا كان يجوز للمسلم أن يصلي في الكنيسة، ولكنها لم تسأل هذا السؤال أبدا!»
وعندما وصلنا إلى المحطة قلت له: «هل ستحاول الاتصال بها من جديد؟» فرد ضاحكا «وأخون زوجتي معها؟!» فقلت بنفس النبرة الضاحكة: «لا بد أن أراها حين تصل يوم 27 منه!» فقال «ضروري .. أمال!» وهمست وأنا أصافحه حين وصل القطار: «ولا تنس أن تختار لها اسما طريفا!» ويبدو أن ضجيج القطار طمس صوتي، فقال وهو يجري للحاق به «ماذا؟» فصحت «ولا يهمك .. مع السلامة!» ومضى القطار بعبده، وعدت إلى الغرفة، وكانت الساعة قد جاوزت الخامسة، فوجدت أنه قد ترك خطابات كاثلين وبعض أوراقها، ولا أدري إن كانت قد تركتها هي معه عامدة أم سهوا، فوضعتها على رف عال بجوار الكتب، وهبطت إلى غرفة التليفزيون لأتابع أنباء الثورة الثقافية في الصين.
6
يوم الخميس 8 سبتمبر 1966م «موعد وصول حبيبتي» كان ذلك ما كتبته في المفكرة، وذهبت مبكرا إلى المطار، كان الجو صحوا، وكان في السماء سحابات لا تقوى على حجب ضوء الشمس وذهبت إلى مكان انتظار القادمين، وظللت واقفا لا أجرؤ على تحويل عيني عن الباب الذي يخرجون منه، وفي نحو الواحدة ظهرا رأيت نهاد تهبط السلم وهي ترتدي نظارة شمس وتحمل العود في يدها، وكنت قد أوصيتها بإحضاره، وكان حمله مربكا ولم تكن قد اعتادته، فتعثرت وكسر كعب الحذاء، وقلت للحارس: «هذه زوجتي!» فابتسم وقال: «تفضل.» فهرعت إليها لحمل العود، ولم نلبث أن أخذنا الحقيبة وخرجنا إلى الأتوبيس.
وبعد الدردشة العابرة قالت لي: «أين العمل؟ ألم تعدني بأنني سأعمل؟» وضحكت وقلت لها: «ضروري إن شاء الله.» وكان حوارنا يتحول إلى الإنجليزية بسهولة ويسر، وما لبثنا أن وصلنا إلى الغرفة التي كنت قد اهتممت اهتماما بالغا بتنميقها، وكانت نهاد رغم سهر الليلة السابقة متعطشة لرؤية المنطقة والحديقة وكل ما سمعت عنه في خطاباتي، فخرجنا للغداء ثم للنزهة، وصحبتها إلى مكان سوق السبت الذي يبيع المزارعون فيه منتجاتهم بأسعار زهيدة، (قفص الطماطم بخمسة شلنات وكيلو الموز بشلن ... إلخ) ثم سرنا في شارع
Bayswater
المجاور للهايد بارك، ومررنا بدار سينما
ABC (وهي شركة لدور العرض السينمائية) فعرضت عليها مشاهدة فيلم فكاهي رأيته من قبل وضحكت فيه «حتى قضقضت ضلوع صدري» كما يقول صلاح عبد الصبور، فوافقت وقطعنا التذاكر ودخلنا، وكانت الساعة قد قاربت السابعة، ولم يكد الفيلم يبدأ والظلام يسود، حتى خلدت نهاد إلى النوم العميق! وبعد انتهاء الفيلم عدنا لتستأنف النوم الذي لم تكن ذاقته في الليلة السابقة!
وخرجنا في الصباح إلى وسط لندن، وقضينا اليوم كله ننهل من مباهج الطبيعة في الحديقة المجاورة، ثم سألتني جادة: «أين الأحياء الفقيرة (slums)
التي حدثتني عنها في خطاباتك؟» فذهبت بها إلى منطقة المساكن القديمة في حي بادنجتون، وهي المساكن التي تجاور محطة القطار ومخازن السكة الحديدية، وتصل في نهايتها إلى طريق إدجوير
Edgware Road ، ويطلقون عليها اسم المنطقة الغاربة
twilight area (حرفيا المنطقة الغسقية) ولكنها لم تجد فيها «الفقر» كما نعرفه في مصر، وقالت لي إنها مساكن لا بأس بها، وقرأنا إعلانا معلقا على أحدها يعرض المنزل للبيع ويصف فيه صاحب المنزل منزله بأنه قد تم تحديثه؛ أي أصبح
modernized
ولم أكن أعرف حينذاك أن التحديث يعني إلحاق المرحاض بالمبنى نفسه؛ فالمنازل القديمة لا مرحاض بها، بل يوجد المرحاض خارج المنزل في الحديقة الخلفية، ومررنا على بائع السمك المقلي والبطاطس المقلية وهي الوجبة الشعبية التي تقابل الفول والطعمية عندنا، وقررنا محاكاة الإنجليز في تناول هذه الوجبة، فطلبنا طبقين صغيرين
two small portions
سعر الواحد شلنان، فلفهما البائع في أوراق خاصة مثل ورق الصحف (لكن دون حبر الطباعة) وعدنا لتناول الغداء في الغرفة.
وذهبنا يوم السبت إلى السوق الشعبية فاشترينا الفاكهة والخضر وحملناها إلى الغرفة، وعشنا أياما طويلة جميلة على ثمار الصيف الإنجليزي، ورحبت نهاد بمسرات المشي مسافات طويلة في الحديقة المجاورة (الهايد بارك) أو في الشوارع الفسيحة، ونحن نتبادل الأخبار ونخطط للمستقبل، وكنت أحس صادقا أن غربتي قد انتهت، وأن الله قد من علي بحبيبة ورفيقة رائعة هي نهاد، وكان سيرنا معا مضرب الأمثال في بيت الطلاب، وعندما حل الخريف قررنا أن نفكر جديا في مسألة التحاقها بدراسة الماجستير، وكانت المصاريف الدراسية خمسين جنيها في العام، ولكن موعد التقديم كان قد فات، فقررت نهاد أن تلتحق بمعهد لدراسة الآداب واسمه
London Literary Institute
مصاريفه ثلاثة جنيهات في الفصل الدراسي، وأنشأه مجلس حي هولبورن في شارع جانبي هو (
Stukely Street ) بالقرب من مسرح كفنت جاردن، وقريبا من مكان عملي، وهو معهد أهلي لا يمنح شهادات رسمية، ولكنه يمنح الثقافة لمن يطلبها ويتولى التدريس فيه أساتذة جامعيون، ولا يضع أي قيود من أي نوع على التسجيل للدراسة، وعندما ينتهي الطالب (مهما يكن عمره) من دراسة المادة التي يدرسها يمنح شهادة بأنه انتهى من دراستها وتفاصيل تلك الدراسة إذا كان يريد ذلك.
وأنا أذكر الآن تلك الأيام بشوق وحنين، ولربما أضفى خيالي عليها جمالا زاد من جمالها الفعلي؛ فقد كان كل شيء جديدا، وأصبحت رحلة المسرح رحلة ذات مذاق فريد؛ فكثيرا ما كنا نقرأ المسرحية قبل مشاهدتها ثم نناقشها بعد المشاهدة، واكتسبنا في رحلات المسرح عادة الدقة المتناهية في احترام المواعيد، فمن يتأخر عن موعد رفع الستار مهما كانت منزلته، ولو كان ذلك دقائق معدودة، لا يسمح له بالدخول، وما تزال نهاد تستمسك بهذه العادة في مصر رغم ما تعرفه عن عدم احترام المواعيد لدينا، وقاعة المسرح مثل قاعة المعبد مقدسة، لا يأكل فيها أحد ولا يدخن (طبعا) ولا يتكلم، ولا يوجد ما يسمى بالمقاعد الخالية؛ فالمسرح «كامل العدد» دائما، وعند الدخول نشتري البرنامج المطبوع بشلنين، ونرجع إليه في صمت إن توافر الضوء الكافي، وفي الاستراحة يخرج من يريد إما إلى الكافتيريا لشرب المرطبات (الشاي أساسا) أو للتدخين، أو للحديث في صالة الاستقبال الرحيبة.
وازداد الخريف جمالا عندما بدأت الرياح تعصف بالأوراق الذابلة، وكنا قد اعتدنا أن نلتقي أنا ونهاد في فترة الغداء إما لديها في كافتيريا المعهد أو في مطعم من سلسلة مطاعم الليونز
Lyon’s Tea Shops (وأعتقد أنها اختفت الآن) وكان يقدم السلاطة بأربعة شلنات ونصف، وللطاعم أن يختار بنفسه ما يريد من الأطباق، فكان أول «بوفيه مفتوح» أراه في حياتي! لكن ألذ مذاق سأظل أذكره ما عشت هو مذاق ساندويتش الجبن الأبيض بالطماطم الذي أتت لي به نهاد ظهر ذات يوم من أكتوبر، وكان صحوا مشرقا، وكان من نوع الخبز الفينو الطويل، الذي يصفونه في إنجلترا بأنه «خبز فرنسي»؛ إذ أضافت إليه نهاد قطعا من الزيتون الأسود، فكنت أقضمه قضما بشهية لم أعهدها من قبل، ولا أظن أنني سأعرفها ما حييت.
إلى اليمين الأصلع ريمون مكلف ود. سامي أبو طالب أصدقاء العمل في كوينز هاوس.
وسرعان ما تعرفت نهاد على الطلاب العرب من نزلاء بيت الطلاب المذكور، وصرنا نتسامر معهم ومعهن أحيانا في المساء، وفي نوفمبر حلت طالبة سودانية ظريفة اسمها فهيمة، فكانت تحدثنا عن السودان حديثا يختلف عما كنت أسمعه من أصدقائي السودانيين الآخرين؛ مثل بشير إبراهيم بشير (أستاذ التاريخ الآن) وفاروق اليماني (المتخصص في المكتبات) والدكتور حسن شريف (الطبيب النابه) وكنا نستمع إليها في شغف، وذات يوم انضم إلى الحلقة ثلاثة من أبناء المغرب، هم فتحية وابنة أختها غيتة، وكان لغيتة أخ يدعى محمد، وسرعان ما تحولت دفة الحديث إلى الأطعمة الشرقية فذكرت للمغاربة البامية المصرية (
okra/lady’s fingers ) فأنكروا معرفتهم بها، وشرحت لهم فهيمة أسلوب «عمل الويكة»، والملوخية البراني، فقالوا إنهم يعرفون الملوخية لكنهم لا يعرفون البامية. وهنا تطوعت نهاد بأن تعد لهم وجبة بامية مصرية (مع الليمون طبعا والفلفل الأخضر) واتفقنا على ذلك في عطلة نهاية الأسبوع. وما إن فتحت نهاد غطاء حلة البامية المطبوخة باللحم الضاني حتى صاح الجميع «الله! ملوخية!» واتضح أن ذلك هو اسمها في المغرب. ولن أنسى الحرج الذي أصاب فهيمة حين سألتها فتحية المغربية: «لماذا لا تغيرين اللباس السوداني؟» وكان المقصود هو «التوب» ولكن الكلمة العربية الصحيحة أصبحت تعني للمصريين والسودانيين شيئا آخر.
وقررت إدارة البعثات زيادة مرتبي سبعة جنيهات (علاوة زواج) ولكن ذلك لم يكن كافيا، فكان علي أن أقضي المزيد من الوقت في العمل، حتى كاد العمل في الرسالة أن يتوقف، ولكنني كنت أواصل قراءاتي المتنوعة مع نهاد، وكان لديها من الجلد والصبر ما أعجب له ، وذكرت ذلك ذات يوم للمشرف فقال لي: «لا تقلق .. النساء بطبيعتهن صبورات! ألا ترى الدجاجة وهي ترقد على البيض؟» وكنا نتبادل الكتب فتنتهي هي من الكتاب في يوم أو يومين، ثم لا أنتهي أنا منه في أسبوع كامل! وبدأنا رصد التعبيرات الاصطلاحية التي نسمعها في حياتنا اليومية أو في الراديو أو نقرؤها في الصحف، وخصصنا لذلك كشكولا ضخما امتلأ حتى ضاق بما فيه، ولم يكن برد الخريف الخفيف يمنعنا من التريض، وكانت اهتماماتنا المشتركة تزداد عمقا واتساعا كل يوم، وأعتقد أن العالم الجديد الذي كنا نعيش فيه بعيدا عن الأهل والأصدقاء القدامى ساعد على هذا التعميق، وتدريجيا بدأت نهاد تتعرف على زملائي في العمل، وكنا نتغلب على أي خلافات بالتفاهم الباسم؛ إذ حاولت أنا أن أحاكي الإنجليز في نبذ الانفعال، كما كانت تلجأ هي إلى استخدام اللغة الإنجليزية في أي خلاف مما كان يكسر من حدة الانفعال لديها، ويضفي منطقا هادئا على كل شيء.
وما إن علم الإخوان العرب في الإذاعة بأن لدي آلة العود الشرقية، حتى قرروا قضاء سهرة موسيقية في منزل أحدهم، فزارني أكرم صالح الفلسطيني واصطحبني بسيارته إلى ذلك المنزل، وبمجرد أن بدأت العزف، وكان اللحن الذي طلبوه هو «ودع هواك وانساه وانساني/ عمر اللي فات ما حيرجع تاني» لمحمد عبد المطلب (تلحين محمود الشريف) حتى وجدت الدموع تسيل من عيونهم، فكان معظمهم يغالب النهنهات، خصوصا «زغلول» وهو مصري فرضت عليه حياة الغربة فرضا، فكان مقام الراست الشرقي يهز أعماقه، والإحساس باستحالة «عودة الزمن» يثير مكامنه، وكان الموجودون خليطا من جميع البلدان العربية، وكلهم يبكي جرحه حتى حل الهزيع الثاني فانفض السامر، وأدركت أن العربي يحمل الوطن في قلبه إلى الأبد، وعندما عدت إلى الغرفة كانت نهاد قد أوت إلى الرقاد، فجلست وحدي أفكر في شتات اللغة العربية التي كانت تتناثر حولي، وكل كلمة ذات جذور تضرب في أعماق الوجدان وأعماق التاريخ.
7
وفي ديسمبر فوجئت بصوت لا أعرفه يحادثني في التليفون. قال إنه مصري انتهى من دراسة الطب وكان يقضي سنة الامتياز، لكنه كان طموحا ويريد أن يصبح جراحا شهيرا؛ ومن ثم استخرج لنفسه «جواز سفر طالب»؛ لأنه إذا أكمل عام الامتياز وتخرج فلا بد أن يعين في الأقاليم (أو في القرى والدساكر كما يسميها) واشترى لنفسه تذكرة طائرة، وأتى بتأشيرة خروج سياحية، ذاق الأمرين في استخراجها، إلى لندن. وأشار عليه أحد معارفه القدامى ممن سبقوه إلى لندن بأن يتصل ب «عم عناني» حتى يترجم له ما يريد. وعندما قابلته وجدت شابا أسمر لوحته الشمس، يتميز بخفة الظل والألمعية، ولا يتحدث إلا في الطب وأطلعني على أوراقه الرسمية، وقال لي إنه يريد أن يتقدم للعمل في مستشفى مارلبون
St. Mary Marylebone
القريبة من منزل الطلاب، لكنه لا يريد أن يبدأ من الصفر؛ فمن كان طموحا مثله لا بد أن يبدأ من القمة، وأفهمته أن ذلك لا يصلح مع الإنجليز، أو مع الأوروبيين، وقصصت عليه قصة ناجي الحبشي عازف الفيولنسلو (الشيلو) المشهور، فعندما حصل على بعثة وذهب إلى إيطاليا للدراسة مع أشهر عازف كونشرتو (concertist)
في أواخر الخمسينيات قدم نفسه على أنه عازف كونشرتو مصري ، وكان رد الأستاذ الإيطالي هو أنه ما دام كذلك فعليه أن يعود إلى مصر، وقال له: «العازفون يأتون إلي حتى يصبحوا عازفي كونشرتو! وما دمت قد أصبحت كذلك فعليك أن تعود إلى بلادك.» وبعد تدخل رجال البعثات في روما قبله الأستاذ ولكنه لقنه درسا في التواضع؛ إذ فرض عليه ألا يعزف شيئا سوى السلالم الموسيقية وتمارين المبتدئين ثمانية أشهر كاملة! ولكن سمير سيدهم (وكان ذلك اسم الشاب المصري) كان مصرا على المحاولة، فاقترحت حلا وسطا يتمثل في أن يقدم «مشروع بحث» في عملية الغضروف التي يحتاجها الرياضيون في مصر على وجه الخصوص دون أن يلجأ إلى الكذب في شيء، فإذا وافق مجلس أمناء المستشفى
Board of Governors
على المشروع عينوه باحثا، فإذا نجح استطاع دخول عالم الجراحة من الباب الصحيح. ووافق سمير وكتبنا المشروع وقدمه واختفى أسبوعين أو ثلاثة، ثم جاءني صوته على التليفون مبتهجا جذلا؛ إذ وافق مجلس الأمناء ، وعين له اثنين من الأطباء الإنجليز (
physicians ) يعملان تحت توجيهاته، بحيث يبدأ الفريق عمله على الفور اعتبارا من أول يناير 1967!
كرستين في معمل الرياضة والفيزياء.
ولن يدهش القارئ الذي يؤمن بذكاء المصريين إذا علم أنه لم ينقض عامان حتى نجح البحث الذي قام به فريق المستر سيدهم (وكانوا ينطقون اسمه سيدم) وتم تعيينه أستاذا مساعدا بالمستشفى
Senior Registrar
وفتحت أمامه أبواب الترقي إلى درجة الاستشاري
consultant
ومن بعدها الأستاذ
professor ! وظللت أتابع أخبار المستر سيدم شخصيا وفي الصحف طوال إقامتي في إنجلترا، والجراح في إنجلترا لا يقولون له دكتور بل مستر، وكان يستشيرني في عروض الوظائف التي تنهال عليه، وفهمت منه أن الجراحة فن وموهبة، وهي لا تحتاج إلى العلم الكثير بل إلى مهارة الأصابع والبديهة الحاضرة، وأن الجراح لا بد أن يستعين بطبيب يساعده في التشخيص ولا يضن عليه بالمشورة. وقصة نجاح سمير سيدهم مثل قصة نجاح رماح البرعي وهو من أهم الجراحين في مستشفى وست ميدلسيكس (West Middlesex)
ولكن القصة ستأتي في مكانها.
كاد الخريف ينتهي وحلت بوادر الشتاء، وفي يوم 14 يناير 1967م وصل خالي الدكتور مصطفى كمال بدر الدين مع زوجته اعتدال، وبلغتنا أنباء رفع المصاريف الدراسية في الجامعات الإنجليزية من 50 إلى 250 جنيها في العام!
الفصل الرابع
النكسة
1
كانت أغاني أم كلثوم الجديدة بمثابة دقات الساعة التي نحصي عليها السنوات، وفي يناير 1967، ونحن ما نزال نرشف من جمال ألحان عبد الوهاب في أغنيته الأخيرة لأم كلثوم («أمل حياتي») طلع علينا بليغ حمدي بتحفة لا مثيل لها وهي «فات الميعاد». وشغلنا في الغربة بالطرب الحزين، وبدأ العرب من حولي يرددون: «ياما كنت أتمنى أقابلك بابتسامة» و«عايزنا نرجع زي زمان/قل للزمان ارجع يا زمان!» وذات صباح بارد كنت في طريقي إلى العمل حين لمحت حشدا من العرب أمام مبنى الإذاعة القريب، فدفعني الفضول إلى التساؤل عما حدث، فلم أجد من الواقفين إلا إجابات مقتضبة مفادها أن أحد الزملاء واسمه «قيس» قد توفي، وأنهم سيتجهون للمشاركة في جنازته؛ فليس له أهل ولا أصحاب سواهم. ومن كان قيس؟
كان قيس الفلسطيني مذيعا نابها «وقع» في حب فتاة إنجليزية وتزوجها، وبدا للجميع أنه يعيش في سعادة غامرة، ولكن الفتاة لم تلبث أن قلبت له ظهر المجن، ويبدو أنها كانت على علاقة مع شخص آخر فطلبت منه الطلاق فرفض، ولم يكن القانون الإنجليزي يسمح بالطلاق آنذاك إلا في حالة من ثلاث حالات هي ثبوت الخيانة الزوجية (adultery)
أو الهجر (desertion) (لمدة عامين) أو القسوة النفسية (mental cruelty)
وكانت أيسر هذه الحالات عمليا هي الحالة الأولى إذ يذهب أحد الزوجين إلى فندق مع شخص آخر (
co-respondent ) ويسجلان اسميهما في دفتر النزلاء، مما يعتبر دليلا على وقوع الخيانة، وجريمة الزنا في ذاتها لا عقاب عليها، ولكن توابعها المالية باهظة، فالطلاق معناه اقتسام كل أملاك الزوج من عقارات ومنقولات وأموال سائلة بين المطلقين، إلى جانب تحمل مصاريف التقاضي وهي تبلغ آلافا مؤلفة. وقد تغير ذلك القانون عام 1969م فأصبح يسمح بالطلاق أو قانونا بإلغاء الزواج (
decree nisi ) في حالة انهياره دون أمل في الإصلاح (
irreparable breakdown of marriage ) ولكن القانون القديم كان ما يزال ساريا آنذاك، وامرأة قيس تريد التحرر، وهو يعارض، وذات صباح دهمته بسيارتها فأردته قتيلا.
وقع الحادث أمام منزلهما، تحت سمع الجيران وبصرهم، ولم يكن هناك أدنى شك في أن القتل متعمد، وكانت جلسة التحقيق الأولى (
the coroner’s inquest ) قد سجلت ذلك، وأصبحت الزوجة «مشتبها فيها» وإن لم توجه إليها التهمة فأفرجت الشرطة عنها بكفالة (on bail) . ولم تمض أيام حتى سمعنا من يقول إنها أتت بشهود يقطعون بأن فرامل السيارة كانت قد تعطلت عن العمل، وأن توصيف الجريمة تحول من القتل العمد (murder)
إلى القتل الخطأ (manslaughter)
ورغم توجيه التهمة رسميا إلى الزوجة، فإن بعض الجيران قد عدلوا عن أقوالهم، وتناقضت الأدلة، ولم تلبث أن ضاعت التفاصيل في أروقة المحاكم، ولم يكن لقيس من يرثه أو يطالب بحقوقه، ولم يكن له من يستطيع توكيل محام للمطالبة بحقوقه أو إثبات الوقائع التي حدثت، فأصدرت المحكمة بعد فترة حكما مع وقف التنفيذ، وعادت الزوجة إلى الحياة حرة طليقة!
كان الوجوم الذي علا الوجوه في ذلك الصباح ذا جذور عميقة، وكان العرب في لندن يشعرون بأنهم لا حول لهم ولا طول، وأن دم قيس المهدر رمز لما أهدروه حين اختاروا الحياة في الغربة، وكانت المناقشات تميل أحيانا إلى العنف، وذات يوم كنت في مكتب ترجمة الخطابات، وكنت أقنعت سامي أبو طالب بأن يتقدم للوظيفة الشاغرة فتقدم وحصل عليها وكان يجلس مكان إفادات كيبرون، فسألته عن رأيه في مقتل قيس فقال بهدوء هزني هزا: «على من يقبل الحضارة المادية أن يتحمل النتائج!» فسكت وعدت إلى العمل، وعندما جاء عزت أبو هندية (وكان من عادته التأخر) وسأل عن سبب وجومنا وقلت له السبب قال بلهجته الدمياطية: «الإنجليزيات يدفعن إلى الجنون! وهذا سبب إحجامي عن الزواج!» ثم التفت إلي وقال لي: «لقد أحسنت بالزواج من مصرية، فسوف تعود معها إلى مصر .. إنها صمام الأمان.» ولم أفهم جميع دلالات قول سامي وقول عزت إلا بعد سنوات طويلة في الغربة.
2
كان خالي الدكتور كمال (وهذا اسم شهرته) يزورنا كثيرا في منزل الطلاب مع زوجته وكنا نتردد عليه كثيرا؛ إذ كان يقيم قريبا منا، وكان يتابع أخبارنا ويخرج معنا في رحلات نادي الطلاب العرب، فزرنا بعض المدن الساحلية والشمالية، وقمنا بنزهات كثيرة، ولكن رفع المصاريف الدراسية في الجامعات جعل نهاد تصمم على الحصول على عمل؛ فدون الدخل الإضافي لن تتمكن من الالتحاق بالجامعة للدراسة (الماجستير مثلا أو الدكتوراه) وذات يوم قادتني خطاي عبر الحديقة إلى الجانب الآخر منها، حيث رأيت سفارة السودان، وكنت أعلم أنهم يحتاجون إلى موظف في قسم العلاقات الثقافية الذي كان يرأسه حسن عباس (وقد علمت أخيرا أنه توفي) فدخلت وسلمت وطرقت باب قسم العلاقات الثقافية فوجدت اثنتين إحداهما في مقتبل العمر وسمراء، والأخرى في منتصف العمر وبيضاء تسمى مسز مويلان (وهي أيرلندية) وحادثت الكبيرة عن الوظيفة، وقلت لها إن زوجتي تريد أن تتقدم لها وإنها مصرية. فسألتني سؤالا واحدا: هل تعرف الإنجليزية؟ وقلت لها بل تعرفها خيرا مني. فقالت لي أرسلها لي غدا صباحا. وفي الصباح ذهبت مع نهاد، وبعد دقائق معدودة قضتها في مناقشة سريعة خرجت نهاد لتقول لي: اذهب أنت .. سأبدأ العمل اليوم!
د. مصطفى كمال بدر الدين وزوجته اعتدال، ود. نهاد صليحة.
كان الشتاء قد بدأ يطوي صفحته ولاحت بشائر الربيع، وكنا نخرج كل صباح فتتجه نهاد إلى الحديقة لتذهب إلى العمل سيرا على الأقدام، وأركب أنا المترو إلى العمل، ومنه إلى الكلية، وكنت قد وضعت الجدول الزمني للانتهاء من الرسالة في مايو، حتى أستطيع أن أنتهي من إجراءات المناقشة قبل نهاية العام الدراسي، ولكن مايو أتى بما لم يكن في الحسبان؛ إذ وردت الأنباء بأن العلاقات قد توترت بين إسرائيل وسوريا، وأن إسرائيل تحشد قواتها على حدود سوريا تمهيدا لغزوها، أو على الأقل لاحتلال هضبة الجولان التي كان الفلسطينيون يستخدمونها في قصف المستوطنات الإسرائيلية. كنا حتى ذلك الحين نتابع أنباء الوطن دون حماس كبير؛ فلكل منا مهمة عليه الانتهاء منها، ولا يستطيع طالب البعثة أن يشغل نفسه بالسياسة كثيرا، ولكننا لم نستطع أن نتجاهل أنباء التهديد بالغزو أو الحرب، وكانت الإذاعة والصحف المحلية مشغولة بنقل أنباء حرب فيتنام، وتورط أمريكا في تلك الحرب يزداد، والفظائع تهز ضمائر الكتاب والمعلقين السياسيين، خصوصا استخدام النابالم (napalm)
وقتل المدنيين العزل، وأحاديث الرئيس الأمريكي لندون جونسون مفزعة، والأهوال مخيفة مرعبة، والإنجليز ما يزالون يذكرون أهوال الحرب العالمية الثانية ويعارضون في أعماقهم ذلك التورط الأمريكي الذي أصبح يتخذ صورة البطش السافر.
ولذلك فعندما تجمعت سحب التوتر والحرب في سماء الشرق الأوسط وجد فيها الصحفيون فرصة لتحويل الأنظار عن فيتنام، ووجد فيها رجال الإعلام اليهود بصفة خاصة فرصة لشغل الرأي العام بقضية أخرى أقرب إلى اهتمامات الإنجليز المباشرة، خصوصا لأن الكثيرين من كبار السن في بريطانيا كانوا قد شاركوا في الحروب الاستعمارية القديمة، أو هم يذكرونها بوضوح، وكانت منطقة الشرق الأوسط تمثل للكثيرين «مسارح شباب»؛ فالبعض حارب في الحرب العالمية الأولى، والبعض في الثانية، وكانت العراق وبيداء الشام وفلسطين والصحراء الغربية المصرية مناطق ذات ذكريات حية في نفوسهم، وكنت ما أزال أذكر المستر بيفن وهو شيخ في أرذل العمر، يعيش في منزل ضخم ذي حديقة فسيحة، وكان سامي أبو طالب قد أخذني لزيارته ذات يوم؛ لأنه كان يقيم في المنزل قبل الانتقال إلى فنزبري بارك، وكان أطرف ما حدثني به سامي عنه هو أنه كان يعتمد تماما على عجوز ترافقه ليل نهار حتى تصور سامي أنها زوجته، وعندما ذكر سامي ذلك له هال المستر بيفن ما يسمع، وقال له ما معناه «حاشا لله أن تكون زوجتي. إنها ترعاني فحسب!» وكنت حين زرته مع سامي قد أيقظت حواسي كلها لالتهام ألفاظ ذلك الهرم، وكان يتحدث مثل الشخصيات المسرحية التي يصورها الكتاب (وكان قد ذكرني بشخصية سبونر في مسرحية «العزلة» لهارولد بنز) فهو يتكلم في عبارات متوالية مثل طلقات المدفع ثم يردفها بسؤال إلى سامعه، دون أن يتوقع في الواقع إجابة أو تجاوبا، وانطلق في ذلك اليوم يتحدث عن ذكرياته في العراق إبان الحرب العالمية الأولى، فأسهب وأطال، وعندما أتت المرأة بالشاي ونحن نستمتع بدفء ذلك النهار، لاحظت أن بيفن قد شردت به الذكريات فقالت له مؤنبة: «يكفي ذلك يا كريس! تعلم أن ذلك مضر لك.» ولم أفهم ما تعني إلا بعد أن شرحت لنا العجوز أنه كان ينسى نفسه حين يسترسل في ذكرياته ويتوقف عند حادثة أسره في شمال العراق، ثم يعاني من الكوابيس التي تأتيه ليلا فيصدر أصواتا مزعجة ويوقظها بصراخه وعويله!
تذكرت تلك الحادثة بوضوح، ثم ذكرت أن مشرف النظافة في بيت الطلاب نفسه كان دائما يقول لي إنه حارب في مصر، وكان يستوقفني بعد عودتي أو إذا صادفني واقفا في الردهة ليحدثني عن قناة السويس، وكذلك كان أحد البوابين - وكان فارعا ذهب شعر رأسه ويلبس نظارة طبية سميكة - وكان منظره يوحي بالأستاذية والاحترام، وكان كثيرا ما يسر إلي بأخبار الطلاب، ويهوى الغمز واللمز، ولم أكن في البداية أفهم كلامه، ثم علمت منه فيما بعد أنه كان يعمل في سلاح التموين بالجيش البريطاني في فلسطين، وكان يمارس هواية تقديم الخدمات الغرامية للضباط (ويبدو أنه احترفها فيما بعد) إذ كان يتحدث بخبرة العارف المحيط ببواطن الأمور عن «الفتيات اليهوديات» ومزاياهن. ويبدو أنه كان حزينا عندما اضطر إلى الرحيل بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ونشوب الحرب بين العرب وإسرائيل في عام 1948م، وكنت أشعر من حديثه أنه يندم على تحويل الفندق إلى بيت للطلاب؛ إذ كان يستطيع في الأيام الخوالي أن يواصل هوايته الخبيثة، وكان أسلوبه في الحديث يؤكد إتقانه لهذه الهواية (أو الحرفة) فقد كان يحب الهمس والحديث الملتوي، ولكن دون حركات الأيدي، وكان ذلك هو أهم ما يفرق بينه وبين الطائفة التي ينتمي إليها أمثاله في مصر.
هؤلاء الإنجليز الذين يقرءون الصحف يريدون أخبارا عما يعرفونه، وهذا هو ما انتبه إليه رجال الإعلام فحولوا دفة التركيز من فيتنام إلى الشرق الأوسط، خصوصا وأنهم لم ينسوا هزيمة «إيدن» في عام 1956م، والانتصار المعنوي الكبير الذي حققه العرب على أطراف العدوان الثلاثي (بريطانيا وفرنسا وإسرائيل)، كما استغل الإعلام عداء الحكومة البريطانية لجمال عبد الناصر باعتباره الزعيم الذي ساهم في تقويض الإمبراطورية البريطانية، وكان ما يزال يعمل على مناهضة النفوذ الغربي في الشرق الأوسط، بل ويحارب ذلك النفوذ عمليا في الجزيرة العربية، فكان اسمه رمزا لما يحب الإنجليز أن يحاربوه، وكان اسمه هو الراية التي يجتمع العرب في ظلها في كل مكان؛ فلقد كان «المعنى» الجديد والهوية الجديدة للكيان العربي، وكنا نرفع الرأس في كل مكان فنحن من بلد ناصر، وكان الكثيرون يحادثوننا بتعاطف المؤمن بالوجود العربي، وبالتاريخ العربي، وكانت أنباء التوتر في الشرق العربي باختصار موضوعا حيا، يضمن لقراء الصحف مادة ساخنة.
وعندما تعالت أصوات بعض العرب تتهم عبد الناصر بأنه سمح لقوات الأمم المتحدة بالمرابطة في خليج العقبة على أرض مصرية، طلب عبد الناصر من أو ثانت (
U Thant ) و
U (أو) تعني السيد فحسب، الأمين العام للأمم المتحدة سحب تلك القوات في 17 مايو، وانصاع «أو ثانت» للطلب، وخرجت الصحف البريطانية يوم 18 مايو 1967م، تحمل أنباء انسحاب القوات الدولية، ونشرت صحيفة الجارديان الصورة صباح ذلك اليوم (وكان يوم خميس) صورة جمال عبد الناصر بطول الصفحة الأولى، ومعها عنوان مثير هو «عبد الناصر بطل العرب دون منازع». وعلى امتداد أسبوعين كاملين سادت أنباء «أزمة الشرق الأوسط» أجهزة الإعلام، وأصبحت الحديث اليومي للعرب في كل مكان، وعندما قابلني «سوخديف» الهندي في الكلية وفتح معي الموضوع قلت له: «لقد حان وقت محاسبة اليهود على ما فعلوه بأبناء فلسطين.» ولم يكن أحد يدري بما يدور في كواليس السياسة الدولية، ولا داعي للإفاضة فيما أفاض فيه المؤرخون، وما كشف عنه محمد حسنين هيكل النقاب؛ فأنا أروي فقط ما حدث لي في الغربة، وكيف عشنا تلك الأيام.
وتحول كل اهتمامي باللغة الإنجليزية والأدب الإنجليزي إلى تساؤلات عن مدى الكذب الذي يعمد إليه أصحاب الصحف. إنه كذب من نوع غريب؛ فهو لا يقدم ما هو «غير حقيقي» بل يعمد إلى اختيار عناصر بعينها من الصورة فيلقي الضوء عليها، ويغفل عامدا غيرها من العناصر، وبعض الكتاب قد يكون لهم العذر بسبب الجهل مثلا، وإن كان الجهل عذرا قبيحا، ولكن الغالبية لا يعانون من الجهل بل يعملون لما أصبح يسمى «مصلحة البلد» وهو تعبير خبيث لا يقصد به في الحقيقة إلا المصالح المادية البحتة لفئة من المنتفعين بالنظام؛ فقد تكون تلك المصالح مصالح حزبية محضة ومن ثم فهي مصالح الفئة الحاكمة، وقد تكون مصالح اقتصادية أساسا، ولكنها في النهاية تنسب في لغة السياسة إلى «البلد». لم أكن مهموما بسبب ما تقوله الصحف؛ فأنا واثق من عدالة قضيتنا ومما أعرف أنه يتفق مع المثل العليا للأخلاق حتى في بريطانيا (بل وفي كل مكان)، سواء أكان مردها إلى البيوريتانية أم إلى النزعة التجارية. كنت ما أزال أثق في الإنصاف وفي الحق، وأثق قبل ذلك كله في نقاء نية زعيمنا، والجميع يشاركني في ذلك، ولا أستطيع أن أكتب عما لم أكن أعرفه من ملابسات وأسرار، فأنا في الغربة أسمع ما يقال وأقرأ ما يكتب فحسب، وسموم الدعاية الإنجليزية لا تقلق بالي، بل تدفعني إلى التفكير فحسب.
وعندما تصاعدت الأزمة لجأت إلى أحد زملائنا وهو الدكتور مسعد حجازي الذي عمل بعض الوقت ضابطا وشارك في حرب اليمن، فبث في نفسي قدرا كبيرا من الاطمئنان، ولكنني كنت في حاجة إلى أن أستمع إلى إذاعة القاهرة، فأتى محمد مصطفى رضوان بجهاز الراديو الضخم الذي يملكه إلى غرفتنا وكان قادرا على التقاط بث إذاعة مصر، واستمعنا في يوم الأحد 4 يونيو إلى المؤتمر الصحفي الذي تحدث فيه عبد الناصر، وكان شامخا مهيبا، وجاءت أنباء الصلح مع الملك حسين، واستعداد الدول العربية الأخرى للوقوف إلى جانب مصر إذا نشبت الحرب، فازداد اطمئنان الجميع، وأوينا إلى مخادعنا هانئين.
وفي صباح الإثنين 5 يونيو كنت قد قررت عدم الذهاب إلى الجامعة؛ لأن الملكة الأم كانت ستفتح جناحا جديدا بالكلية، والأفضل في هذه الحالة هو العمل في قاعة الدرس ببيت الطلاب، وبعد فترة لا أدري كم طالت، وكانت عقارب ساعتي تشير إلى التاسعة، جاءني محمد مصطفى رضوان مهتاجا؛ ليقول لي: «هل سمعت الإذاعة؟ لقد بدأت الحرب!» وحملت كتبي في عجلة وأعدتها إلى الرفوف، وجلست في غرفتي معه (وكانت نهاد قد خرجت إلى العمل) أستمع إلى صوت جلال معوض وهو يهدر، ويعلن إسقاط الطائرات الأجنبية، ثم وهو يعلن أن الأردن دخلت الحرب وتقدمت «واحتلت جبل المكبر في القدس.» وقلنا جميعا الله أكبر! وتوافد العرب علينا حتى امتلأت الغرفة، ثم جاءنا من يقول: إن الإذاعة البريطانية تزعم أن الطائرات الإسرائيلية قد دمرت الطائرات المصرية وهي في مرابضها على الأرض! كذب فاضح! وصحنا جميعا هذا ما لا يكون أبدا؛ فلقد فعلها الإنجليز والفرنسيون من قبل، ولكن إسرائيل لا تستطيع أن تفعلها أبدا! وخرجت إلى الطريق فاشتريت صحيفة المساء
The Evening Star
التي تصدر أولى طبعاتها في العاشرة صباحا، فوجدت التفاصيل المفزعة عن ضرب الطيران المصري، وعن القتال الدائر في سيناء وفي هضبة الجولان وفي الضفة الغربية! محال محال محال! وعندما عادت نهاد في الخامسة من العمل، لم يكن لنا هم إلا متابعة الأنباء، فاجتمعنا في القاعة المخصصة للتليفزيون؛ حيث أذاعت الإذاعة جانبا من الحديث الذي أدلى به عبد الناصر، ثم تحقيقا مصورا عن ضرب الطائرات المصرية، وقال المعلق العسكري في النهاية: «لقد انتهت الحرب فعليا على الجبهة المصرية في الساعات الأولى من هذا الصباح، فلن يستطيع الجيش المصري أن يصمد للقتال في سيناء دون غطاء جوي.»
د. محمد نوح، د. محمد مصطفى رضوان عام 1967م.
ويعلم الله كيف قضينا تلك الليلة، وفي الصباح الباكر خرجت الصحف جميعا وعلى صدر صفحاتها خرائط وصور فوتوغرافية، وتصريحات لا نهاية لها، وتعليقات، وكنت أترجم ما أقرأ والعرب حولي يستمعون حتى حل المساء فانصرفوا، وفي صبيحة اليوم الثالث (الأربعاء) سمعت جلال معوض يقول إن تحولا قد وقع في سير المعارك؛ إذ تدخلت طائرات أجنبية فتأكدنا أنه يعني الطائرات البريطانية والفرنسية؛ ومن ثم أرسلت استقالتي إلى ماري بيرتون فمن المحال أن أعمل في جهة معادية، ولو كانت رسميا مستقلة عن الحكومة، وانتابني مرض غريب لا أعرف وصفا له حتى الآن؛ إذ كنت في شبه غيبوبة، فاستدعت نهاد الطبيب، وعندما فحصني بدت عليه علامات الحيرة، وقال إنها إنفلونزا مصحوبة بارتفاع مفاجئ في الضغط، ووصف عدة أدوية خرجت نهاد فأحضرتها، ومكثت في قبضة ذلك المرض أكثر من أربع وعشرين ساعة، ونهاد يعتصرها القلق ولا تفارقني، حتى تماثلت للشفاء واطمأنت، وأعلن الراديو قبول قرار الأمم المتحدة بوقف إطلاق النار، وقال إن عبد الناصر سوف يوجه حديثا إلى الأمة في المساء.
د. محمد نوح 1967م.
واجتمع العرب في نحو الخامسة مساء في غرفة سيدة أردنية كانت حاملا ولديها مذياع ممتاز يمكن الاستماع فيه إلى معظم المحطات العربية، وفي نحو الخامسة والنصف بدأ عبد الناصر حديثه فروى الخدعة التي تعرض لها، ويبدو أنني لم أكن منتبها لدلالة ما يرمي إليه، ولم أنتبه إلا إلى السيدة وهي تصرخ وتلطم وتقول: «لا لا يا عبد الناصر! لا تتركنا!» وكان لم يعلن بعد عن القرار الذي قرر أن يتخذه ولكنها أحست بفطرتها بما يرمي إليه، فبدأ بكاء وعويل غريب؛ ومن ثم اصطحبت نهاد وخرجنا من المبنى وطفقنا نسير ونسير كأنما لنستوعب ما حدث، هل نصدق ما تقوله الصحف البريطانية؟ هل وصل اليهود فعلا إلى قناة السويس؟ وفي ثلاثة أيام؟ ألم نحارب حقا؟ هل دمر سلاح الطيران المصري؟ وأهم من ذلك كله، هل فقدنا عبد الناصر؟
ولم نعد إلا في ساعة متأخرة، ولم نستغرق في النوم إلا هما وكمدا، وفي التاسعة صباحا طرق أحدهم على الباب فقلت له تفضل فإذا به محمد مصطفى رضوان يقول لي إن الجماهير في القاهرة قد خرجت في مظاهرات تطالب عبد الناصر بالعدول عن قرار التنحي. ولم تغرب شمس يوم الجمعة حتى قبل عبد الناصر أن يعود وإن استمرت الجماهير في الإعراب عن حبها وتأييدها له في اليوم التالي، وتنفسنا الصعداء، وإن كنا ما نزال نتابع أخبار الحرب على الجبهة السورية، وكانت أنباء ضياع القدس قاتلة، وضياع الضفة الغربية، وما إن حل الأسبوع الجديد حتى توقف إطلاق النار على جميع الجبهات، ستة أيام عصفت بنا قبل أن تعصف بالجميع؛ فنحن نعيش وسط الأعداء، وكان موقف العرب الذين يعملون في الإذاعة لا يحسدون عليه، وكان الهنود يسألونني لماذا لم تطلقوا الصواريخ؟ وكان معظم الإنجليز لا يدرون حقيقة ما جرى رغم كم الألفاظ الهائل المنهال عليهم ليلا ونهارا، وكان خالي الدكتور كمال يعتصره القلق على أسرته في الإسكندرية، فقرر الرحيل مع زوجته وقطع فترة عمله في لندن، وظل يتردد على شركات الطيران حتى وجد مكانين على إحدى الطائرات بصعوبة بالغة، وبتنا وحدنا نواجه صيف النكسة.
3
وحاولت استعادة توازني فذهبت إلى الكلية لمقابلة المشرف، فحدد لي موعدا في يوم الإثنين التالي، وعندما قابلني بدا عليه التعاطف وقال لي «ماذا كنت تفعل؟ الأنباء من مصر لا تساعد على التركيز!» وعجبت لتلك «المخافضة» (understatement)
في التعبير، وناقشته في مستقبل العمل، واتفقنا على أن نحاول وضع الرسالة في صورتها النهائية في سبتمبر، وأن أتقدم للامتحان في أكتوبر. وعدت للعمل الدراسي بانتظام، ولكنني لم أكن أستطيع التركيز فيما أقرأ، وكانت ليالي صيف يوليو مشحونة بالكوابيس، وكنت أحلم وأنا بعد يقظ أحاول الاستغراق في النوم، كنت أحلم حلما لا يتغير ولا يتبدل، وهو أننا أعددنا الصواريخ سرا، وفاجأنا العدو فدمرناه تدميرا، وكنت أسرح في تفاصيل الأسلحة التي سنستعملها، ثم أرسم لنفسي صور الأنباء التي ستنقلها أجهزة الإعلام، وما إن يشرق الصباح حتى نعود إلى النقاش فيما حدث، وكيف حدث - ولماذا حدث؟
ووصل إلى لندن بعض الضباط الذين أصيبوا في الحرب للعلاج، وكان من بينهم رائد يدعى حسيب أصيب بقنبلة نابالم في سيناء، وهذا النوع من القنابل المحرمة دوليا يشعل النار التي لا يطفئها شيء، ولحسن حظه كان يرتدي بلوفر ذا أكمام طويلة وكان يرسل لحيته فخلع البلوفر المشتعل وأكلت النار لحيته، وكنا قد خرجنا في رحلة من رحلات نادي الطلاب العرب، فانطلق يقص علي ما فعله الإسرائيليون، وكيف حاربوا، وقال لي تفصيلا كيف كانوا يحاصرون إحدى الكتائب بست وعشرين بطارية مدفعية ولا يتوقفون إلا بعد تدمير الكتيبة، ثم ينتقلون إلى غيرها، ولا منجاة لكتيبة في الصحراء لا تملك من سلاح الجو ما يعوضها عن العراء المفزع. وتوالت لقاءاتنا مع القادمين من مصر، وتوالت متابعتنا للصحف المصرية، حتى جاءت سميرة قنديل التي كانت تعد رسالة للدكتوراه في الزراعة بعد أن جمعت المادة العلمية من مصر وقالت لنا في أسى إن أهلها لم يعلموا أن اليهود قد وصلوا إلى القناة إلا في سبتمبر! وفي سبتمبر بدا أن الجميع قد استعادوا توازنهم، وكثرت اللقاءات التي كنا نعقدها في نادي الطلاب العرب، ووصلني خطاب من إدارة البيت يقول إن علي أن أرحل بعد أن انتهى العامان الدراسيان المسموح بهما، وكنت شاهدت العمل وهو يجري على قدم وساق في بيت قديم قريب من بيت الطلاب في شارع ساسكس جاردينز
Sussex Gardens
وقد علقت عليه لافتة تقول إنه سوف يصبح بيتا جديدا للطلبة اسمه النادي الدولي للطلاب
International Students Club
فقدمت طلبا وتحدد أكتوبر موعدا للانتقال.
في سبتمبر رن جرس التليفون، وسمعت صوتا يتحدث بلهجة إسكندرانية بها مسحة لا تكاد تبين من اللهجة غير المصرية، وقال إنه يحمل رسالة لي من خالي الدكتور كمال ، فهبطت إليه وقدمته إلى المديرة فحجزت له غرفة مستقلة، وكان اسمه الدكتور محمد صديق نوح، وكان طبيبا يدرس للحصول على الزمالة، وهو مولود في الإسكندرية من أم سكندرية، وزوجته «فتان» سكندرية، ولكن أباه سعودي؛ ولذلك كان يحمل الجنسية السعودية. وسرعان ما توثقت عرى الصداقة بينه وبيني وبين نهاد، وعندما علم أننا نعتزم الانتقال إلى بيت طلاب جديد، قرر الانتقال معنا، وانتقل محمد مصطفى رضوان إلى غرفة في منزل قريب من المنزل القديم، وكان الأصدقاء السوريون قد رحلوا بعد أن حصلوا على الدبلوم، وكذلك رحل الليبي عيسى موسى، بعد أن أنجب طفلا لم يسمه محمدا، وتفرق الشمل، وكشر عام النكسة عن أنيابه، ولم تنقطع صلتنا بالدكتور نوح حتى هذه اللحظة (1999م)؛ فهو حتى بعد أن استقر في الرياض يتابع أخبارنا تليفونيا ونتابع أخباره ونحضر أفراح أنجاله. أما محمد مصطفى رضوان فما يزال يتصل بنا تليفونيا من هولندا؛ حيث هاجر واستقر، وأصبح من كبار أساتذة الهندسة الجوية (المساحة الجوية) في العالم، وبعد أن تزوج وأنجب ثم انفصل وتزوج، لكنه ما إن يشاهد أحدنا (أنا أو نهاد) في التليفزيون مثلا حتى يتصل تليفونيا، وقد قال لي في العام الماضي على التليفون إنه عندما يسترجع الماضي يجد لحظات نور لا تنطفئ أبدا عرفها معي ومع نهاد.
كان الانتقال إلى المسكن الجديد يسيرا؛ إذ استعرنا عربة يد (wheel-barrow)
من بيت الطلاب القديم، ونقلنا متاعنا وكتبنا في رحلات متوالية لا أذكر عددها، ثم استقر بنا المقام في غرفة فسيحة ذات مدفأة كهربائية تعمل بالعملات، ولها عداد، وكان للمنزل سلم حلزوني طريف، وكنا نتلقى الخطابات من مصر ونرسل خطابات كثيرة، ولكن صدمة النكسة كانت تطاردني - في يقظتي ومنامي - ففي الغربة يصبح المصري مصر كلها، وعرفنا أصدقاء جددا حول منضدة تنس الطاولة، وكان من بينهم شابان سعوديان مصابان بالصمم ويتعلمان النطق في مدرسة خاصة، وكانا يحادثاننا بالعربية، وما زلنا نذكر أنا ونهاد عبارتهما المشهورة «مخ مفيش» عندما يشيران إلى غباء الإنجليز! وكان صاحب المنزل هو القس لانكاستر الذي قضى شطرا من حياته في مصر مع زوجته وكان يحدثنا بشوق عن أيامه فيها، ويتحدث عنها حديث المحب الوامق.
وفي سبتمبر 1967م، هبت نسمة منعشة من نسمات مصر فأتت إلي في لندن بأستاذ شكري عياد، ولم أكن أتوقع مثل هذه المفاجأة الرائعة فاندفعت في شوق للقائه، وانطلقنا نسير في شوارع لندن، ونستأنف حديثنا في الأدب الذي لم ينقطع من عشر سنوات مضت! كان يسأل وأجيب، وأسأل ويجيب، وعلى كثرة ما سألنا وأجبنا لم نتطرق مطلقا للسياسة، مما أعاد إلي بعض الثقة التي كانت قد اهتزت، كانت ثقة في النفس وفي مصر، وتنوعت نزهاتنا الثقافية فذهبنا إلى المسرح عدة مرات، وإلى السينما حيث شاهدنا فيلم «رجل لكل العصور» المأخوذ عن مسرحية روبرت بولت، وفيلم «ترويض السليطة» المبني على مسرحية شيكسبير، وشاهدنا مسرحيات لتشيخوف وبرنارد شو وأوسكار وايلد، وكان دائما يتحمل تكاليف التذاكر، ويبدأ حديثه التليفوني بعد السلام بقولة شهيرة هي: «أنا أدعوك.» فإذا عارضت قال لي «إنها دراهم معدودة!» وعندما حان موعد رحيله سألني عن موعد انتهائي من الدكتوراه فقلت له إنني ما زلت أعمل في الماجستير، فقال لي إنه يبدو من مناقشاتنا أنني أسرف في قراءة كتب خارج الرسالة، وقال لي بلهجة الجد «كفاية صرمحة بين الكتب وخلص رسالتك!» وحاولت أن أعمل بنصيحته بعد رحيله لكنني لم أستطع! كانت زيارته كالحلم، وأفقت في أكتوبر على واقع يصعب الفرار منه، والكتب المنوعة المتاحة بقروش زهيدة لا يمكن مقاومة إغرائها.
كان أهم تأثير تركه شكري عياد في نفسي هو السؤال المحير «وبعدين؟» أي وماذا بعد أن ندرس الأدب واللغة؟ وماذا بعد أن نقرأ إبداعات الخيال وتصاوير الواقع؟ كان شكري عياد يطرح الأسئلة التي أثيرت بعد ذلك بعشرين عاما في مؤتمر كيمبريدج عام 1987م، حين انهمك فريق الأساتذة الإنجليز في تحليل معنى «الأدب الإنجليزي» أو ما يمكن تسميته ب «فكرة الأدب الإنجليزي»؛ إذ اكتشفت آنذاك صدق ما دعا إليه شكري عياد من إعادة النظر فيما يسمى ب «أدبية الأدب» وهي التي كان أصحاب البنيوية يدعون إليها بل ويكادون يفرضونها فرضا في فرنسا، وكنت مؤمنا بها بحكم دراستي للنقد الجديد، وهو ما أتت به المدرسة الأنجلوأمريكية، وكان الإنجليز يبدون تحفظاتهم على كل جديد، ويستريبون بكل ما من شأنه التشكيك فيما درجوا على اعتباره «صلب» المنهج الأدبي، ولم أكتشف إلا بعد عشرين عاما ما وراء ذلك كله، ولكنني لن أستبق الأحداث فأعود إلى أكتوبر 1967م.
كنت ولا شك أعيش في دوامة يومية؛ فأنا في الكلية أقرأ كتبا في غير الأدب، وفي المنزل أحاول الكتابة فلا أستطيع، وكنت في كل يوم أتخذ قرارا بالتركيز على الرسالة، ثم أعجز عن تنفيذه، وبدأت أتساءل ولو تساؤلات عابرة عن دلالة ما يقال وما يكتب، ثم بدأت أستمع إلى القس لانكاستر وهو يتحدث إلينا في نبرات واثقة حديث رجل الدين الذي يدعو للسلم بالمعنى النفسي والاجتماعي معا، وتفتق ذهن إحدى الراهبات السابقات (بعد أن تحولت إلى موظفة مدنية في المنزل) عن عقد ندوات يناقش الطلاب فيها أمور الحياة، وكان الموعد في عطلة نهاية الأسبوع - يوم الأحد 22 أكتوبر - وعندما اجتمعنا كنت أشعر بفرح لم أعرفه من شهور؛ إذ قام رجال البحرية المصرية في اليوم السابق بإغراق المدمرة الإسرائيلية «إيلات»، وكان الجميع يقرءون صحف الأحد بحماس شديد، وعندما بدأ النقاش وكان حول الحرب التي تدور في نيجيريا منذ فترة لإنهاء انفصال بيافرا (الإقليم الجنوبي المتمرد) قام أحد أبناء نيجيريا وهو مسلم من الشمال فتحدث بطلاقة لسان وفصاحة يحسده عليها أبناء اللغة، وأسهب في الحديث عن دور الغرب المشبوه في الدول الحديثة الاستقلال، وتحدث عن فظائع زعيم الانفصال، وفوجئت بأن الراهبة السابقة تكاد تعلم كل شيء عن ذلك، وتتحدث حديث الخبير عن الثروة النفطية في الجنوب، وعن دور الشركات الأجنبية في الإيعاز للعقيد أوجوكو بمحاولة الاستقلال بها، وأن المطامع المادية هي التي كانت وراء محاولة الانفصال، وكنت أسمع لأول مرة تعبير «الشركات المتعددة الجنسية»؛ أي
transnational corporations
إذ قالت إن شركة «شل» مثلا هولندية وبريطانية معا، وإن مبيعاتها السنوية تزيد على عشرة آلاف مليون جنيه استرليني ، وهالني الرقم وكتبته في مذكرتي، وعندما انتهت سألتها إن كان الرقم صحيحا فأشارت إلى صحيفة في يدها تضع هذه الشركة بين أغنى عشر شركات في العالم، وجاء دوري للحديث عن الشرق الأوسط.
كنت أشعر أن السياسة قد فرضت علي فرضا، وأن اهتماماتي اللغوية والأدبية لن تنفصل بعد اليوم عما يجري في العالم، وأن قدري في الغربة أن أعيش - كما يقول التعبير الإنجليزي - «فوق قمة الأحداث» لا داخلها؛ فالذي يعيش في بلده يعرف أنه واحد من ملايين، وأنه لا طاقة له على تغيير مسارها، أما في الغربة فالمرء يتصور أنه يعرف أكثر من أهل البلد، ويتحدث في الشئون العامة حديث من يعتد برأيه حتى ولو لم يملك القدرة على تغييرها، وكنت قد استمعت إلى خطاب ألقاه عبد الناصر قبل عشرة أيام تقريبا يوجه فيه أصابع الاتهام إلى وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، ويؤكد دورها في الحرب، ولا شك أن أحاديث الرئيس الأمريكي جونسون آنذاك كانت تشي بمعرفة ما لا يعرفه إلا أهل الاستخبارات، وكانت الصحف الإنجليزية تنقل عن الصحف الأمريكية بعض المعلومات التي تعد في مصر من الأسرار العسكرية، فعرضت على المجتمعين وجهة نظري وهي أن الهجوم الإسرائيلي على مصر وسوريا والأردن يمثل محاولة من الغرب لإيقاف مسيرة النهضة، وأن له أبعاده الثقافية التي لا تنفصل عن الأبعاد الاقتصادية والسياسية، ودفعني الحماس إلى أن أقول إن أمام العرب حرب بقاء، وإن بذل الروح في سبيلها يهون، ويبدو أنني انفعلت وتهدج صوتي فأشرت إلى أحد الأنباء الصحفية التي تقول إن رونالد ريجان حاكم كاليفورنيا آنذاك نصح جونسون بالتلويح باستخدام القنبلة الذرية في فيتنام، وقلت للحاضرين كيف تقبلون الحديث عما تسمونه «محرقة» اليهود في ألمانيا النازية وتنسون محرقة الفيتناميين؟
ولم ينقض يومان حتى هاجم الإسرائيليون مصنع تكرير البترول بالسويس، وبدءوا حملة لمهاجمة مدن القناة، وبقية الأحداث معروفة، ولكن كل نبأ يأتي من الوطن كان يعتصر النفس اعتصارا، وكنت أتطلع في بطاقات «الصور الشعرية» التي أعكف على تحليلها في الرسالة فلا أجد فيها إلا الخواء ! ولم أعد أطيق المناقشات، وكنت أسير في الشارع فأجد الفتيات يعلقن صورة موشى ديان ذي العصابة حول إحدى العينين، بل وجدت بعض الإنجليزيات ممن كنت أعرف إخلاصهن المسيحي قد اشترين نجمة داود وصرن يتباهين بها! ودخلت مكتبة ذات يوم بالقرب من المبنى الرئيسي للجامعة، وجعلت أتصفح الكتب، ثم لمحتني إحدى البائعات فجاءت تسألني إن كنت من مصر، ولم أكد أومئ حتى قالت: «كيف تسمحون لليهود بذلك؟ إنهم كلاب الأرض!» ولم أجد ما أرد به عليها، وسرعان ما جاءت فتاة أخرى وجعلت تحكي كيف يتآمر اليهود لإغلاق محل
C &A
الهولندي الأصل متهمين أصحابه بأنهم يعادون اليهود (معاداة السامية)، بل وأسهبت في عتابي كأنما كنت المسئول عن الهزيمة! ولم أشتر كتبا بل خرجت مهموما، وعلمت عند عودتي أنني أستطيع الابتعاد عن ذلك كله إذا انتقلت إلى شقة مستقلة، وخصوصا بعد أن قدمت نهاد طبا لدراسة «الماجستير» في جامعة
Sussex
في جامعة جنوب إنجلترا، ولم يعد عليها أن تعمل، وخصوصا بعد أن تعثر عملي في الرسالة شهورا طويلة. وكانت الشقة في منزل مجاور لمنزل أسقف سابق هو
Bishop Creighton
ولذلك أسموه منزل الأسقف كرايتون تيمنا به، وكان إيجار الشقة المستقلة ثمانية وعشرين جنيها، فقدمت طلبا، وفي نوفمبر جاءني الرد، وكان بالقبول.
وفي أكتوبر أيضا تلقى الدكتور نوح برقية تقول: «وصلت اليوم. توقيع خالد.» وحملتها إليه فطار فرحا، كان خالد هو ابنه الجديد، وقد رزق به بعد رانده ورحاب، فأرسل يستدعي أسرته إلى لندن، ولم تمض شهور حتى حضرت الأسرة، وأقامت في شقة في وسط لندن في شارع اسمه إيفلين جاردنز، وصرنا نتزاور وتوثقت العلاقة الأسرية، كما انتقل محمد مصطفى رضوان إلى غرفة مستقلة مع زوجته هدى نصر، ورزقا في العام التالي بفتاة أسمياها داليا، وما إن حل عام 1968م حتى كانت كل أسرة قد استقلت واستقرت، وانتقلنا نحن إلى شقة في المنزل الذي كان يشار إليه أيضا باسم
The Garden House
في شارع بوثويل
Bothweel ، في حي فولام
Fulham .
4
كان المشرف دائم السؤال عن الرسالة، ولم يستطع أن يدرك أبدا أن النكسة السياسية قد تسببت في نكسة عامة أصابت المصريين جميعا، وكنا نتابع أخبار الوطن على البعد، ونحاول أن نعزل أنفسنا فلا نستطيع، لكننا بذلنا جهدا كبيرا في سبيل ذلك؛ إذ تركت نهاد العمل، وعدت للرسالة أحاول تعويض ما فات، لكن التغير في موقفي من الحياة الإنجليزية - خصوصا على المستوى العام - كان قد بدأ يتضح في سلوكي وفي قراءاتي، فأصبحت لا أصدق كل ما أقرأ، وتحديدا في أجهزة الإعلام، وأصبحت أومن بضرورة إعادة النظر في كل ما كنت قد بهرت به في عامي الأول، وكانت تلك عملية مراجعة مستمرة لم تتوقف حتى الآن، وقد مر بي حادث ترك أثره العميق في نفسي، وأكد على ضرورة التريث والتمهل قبل تصديق أي شيء، ولو كان ذلك يتخذ صورة «نتائج علمية» وبخاصة في العلوم الإنسانية.
بدأ الحادث باعتراف أحد أساتذة علم النفس الاجتماعي بأنه زور المادة الإحصائية التي استند إليها في إصدار أحكامه على المستويات الذهنية والنفسية لفئات مختلفة من سكان بريطانيا (وقد روى الحادثة الدكتور زكي نجيب محمود تفصيلا فيما بعد في مقال نشره بالأهرام)؛ ومن ثم اشتعل الجدل حول مصداقية منهج الإحصاء، وامتد إلى صحة وموثوقية (validity and reliability)
الاختبارات النفسية واختبارات معدلات الذكاء (Intelligence Quotient)
وأسهبت الصحف، وبخاصة صحف الأحد، في تحليل دلالة ذلك التزوير ومدى تدخل التحيزات السياسية والدينية والعرقية في الأحكام التي يصدرها «العلماء» على الزنوج مثلا أو على الأيرلنديين.
وتوالت الأصداء حتى اكتسبت أبعاد الأزمة حين طالب بعض الصحفيين بعزل ذلك الأستاذ وإدانته علنا، وإذا بمجلس أمناء الجامعة يصدر حكما بتبرئته من كل شيء، وقال في حكمه: «إنه إذا كانت بعض الأرقام التي وضعها الأستاذ غير مستقاة من الواقع، فهي لا تتنافى مع الواقع، وهي منطقية وتتفق في مجملها مع ما توصل إليه غيره من الباحثين وما توصل هو إليه نفسه من استقراء الوقائع الثابتة.» ومن ثم قرر مجلس الجامعة تثبيته في منصبه، واعتبار اعترافه بمثابة أداة غفران، وصك اعتذار عن ذلك البحث، مما يؤكد أن سائر بحوثه صادقة وهي تؤهله لشغل منصب الأستاذية .
أي إن منطق المجلس كان يقول إن ضمير الأستاذ الذي استيقظ قد نجاه، وإن له ضميرا قادرا على الاستيقاظ دائما، ولكن المعترضين شككوا في الفرضية، وكان من أشد المعترضين الأستاذ المشهور «هانز أيزينك» وهو يهودي من أصل ألماني، كان ينادي مثل الأستاذ المتهم (والمعترف) بالتزوير، بتفوق الجنس الأبيض، بل إن التشكيك في بحث ذلك الأستاذ جعله يعمل على امتداد أربعة أعوام في تأليف كتاب أسماه تفاوت البشر
The Inequality of Man
نشره فيما بعد، بعد أن وضع فيه أدلة إحصائية لا يتصور أن أحدا يستطيع أن يدحضها، وقد يبدو أن تلك مفارقة، وقدم لها الكتاب تفسيرين، كان الأول كما يلي:
يسود الاعتقاد في الأوساط العلمية الأوروبية أن التعميم خطأ، وأن القاعدة ذات الصحة المطلقة لا تصدق إلا على الجوامد، أما في العلوم الإنسانية فلكل قاعدة شواذ، وعلى كل مؤسسة (مجموعة من العلماء) أن تقدم من حين إلى آخر كبش فداء (a scapegoat)
يعتبر الحالة الشاذة التي تؤكد صحة مناهج سائر العاملين في كل مجال على حدة، وهكذا أراد أيزينك أن يكون ذلك «العالم» هو كبش الفداء، وأن يلفظ من مجتمع العلماء حتى تتوافر للآخرين المصداقية والموثوقية. وأما التفسير الثاني فكان كما يلي:
كان أيزينك قلقا؛ لأن العالم المتهم قد أدرج معايير «تاريخية» و«دينية» تتضمن إدانة للجنس اليهودي؛ ولذلك فإن استبعاده بسب «تزوير الإحصاءات» سوف يضمن عدم المساس باليهود وإنكار القول بأنهم طائفة تتسم بصفات نفسية معينة مما قد يلقي بالشك على أبحاث أيزينك نفسه! ونادى أصحاب هذا التفسير بنشر بحث الأستاذ المتهم (ولم يكن قد نشره إلا في مجلة متخصصة لم تطبع منها سوى مائة نسخة) وتوزيعه على نطاق واسع حتى يستطيع العلماء أن يستبعدوا الإحصاءات المزورة ويدرسوا المنهج «التاريخي» و«الديني» الذي اتبعه في التحليل.
وفي خضم المناقشات نشرت الصحف حادثة الدكتور أشرفي، وهو رجل من أفغانستان، وصفوه بأنه شعلة من ذكاء، جاء قبل عشر سنوات بشهادة مزورة من جامعة كابول تقول بأنه حصل على البكالوريوس في الطب النفسي، وسمحت له السلطات الطبية بممارسة المهنة، فبزغ نجمه فيها وذاع صيته، واغتنى وفتح لنفسه عيادة كبيرة يعمل فيها كثير من الأطباء الإنجليز، وتزخر بالممرضات والأثاث الفاخر والأدوية والكتب، ولم يعد أحد يتساءل عن تخصصه، لا سيما بعد أن أصبحت عيادته كعبة يحج إليها أبناء الطبقة الراقية، بل وأصبح الأجانب يؤمونه، وخصوصا ذوات الثراء الفاحش من الأمريكيات اللائي عجزن عن شفاء أنفسهن في أمريكا!
كان المجلس الطبي البريطاني في حيرة من أمره؛ فقد حكم بشطب اسمه من سجل الأطباء بسبب عدم حصوله على درجة علمية تؤهله للعمل، وطالب بترحيله إلى بلاده، ولكن وزارة الداخلية ترفض ذلك لأنه تزوج من إنجليزية، وتجنس بالجنسية الإنجليزية، ولم يعد لها سلطان عليه! ومما زاد الطين بلة أن الأطباء الذين يعملون معه شهدوا له بمهارة لا تتوفر في كبار الأساتذة، وكتبوا عريضة ضموها إلى طلب استئناف الحكم الذي أصدره المجلس، وانقسم الصحفيون ما بين مؤيد ومعارض للترحيل، وظهر أيزينك في التليفزيون البريطاني ليعلن إدانته الشديدة لذلك المزور، وليشرح أسباب اعتقاده باستحالة نبوغ رجل من أفغانستان، حتى من باب الاستثناء، مما أثار كثيرا من المشاهدين.
وفي غضون ذلك توفي الأستاذ الذي كان قد اعترف بالتزوير، وفجأة توقفت أنباء المنافسات العلمية، وحل في الصحف محلها نبأ هجوم رأس السنة الذي شنته قوات الفيت كونج على الأمريكيين، وإصدار الرئيس جونسون أمرا بتكليف قرابة خمسة عشر ألفا بالذهاب إلى فيتنام، ولم نعد نعرف ماذا حدث للدكتور أشرفي، ولا ما انتهت إليه قضية ترحيله، وكأنما الأرض ابتلعته!
وفي غمار ذلك كله، وكنا في يناير 1968م، قمت مع الدكتور نوح بزيارة رماح البرعي! كان رماح - وهو سكندري سمين ضحوك - طالبا مجدا في كلية الطب، ثم اكتشف بعد تخرجه أن فرصة عمله بالجراحة محدودة، وهي عشقه الأول والأخير، وكان قد خطب فتاة صغيرة (بطريقة الخاطبة) لكنه شعر بأنه لن يستطيع تحقيق حلمه إلا إذا سافر، فقبل وظيفة جراح مبتدئ بإحدى مستشفيات الكويت، ودأب على الدراسة استعدادا لدخول امتحان الزمالة، ونجح في الجزء الأول، لكنه ظل يرسل المال إلى أهله والهدايا إلى خطيبته في مصر، وتصادف أن مرض أحد أمراء البحرين فجاء إلى العلاج في الكويت، وأجرى له رماح عملية ناجحة، فما كان من الأمير إلا أن بنى له مستشفى خاصا، وفتح له أبواب الممارسة الجراحية على مصراعيها، وتمكن في أثناء ذلك من اجتياز الجزء الثاني من امتحان الزمالة في إنجلترا، فعرضت المستشفى عليه وظيفة استشاري! وكان على رماح أن يقرر ما يفعل؛ إذ ارتبط قلبه في الغربة بحب فتاة كويتية، وخطيبته في مصر قد بلغت الخامسة والعشرين وما تزال تنتظره، ولم يتردد رماح طويلا بل ذهب إلى الإسكندرية، وزار أهل خطيبته وصارحهم بالموقف، وعرض عليهم أي تعويض مالي يطلبونه، وطلبوا ثلاثين ألف جنيه فلم يعترض، وأودع لهم المال في البنك، وعندما أحس بالرضا عاد إلى الكويت. وهنا عرض على حبيبته الزواج بشرط الإقامة الدائمة معه في لندن، فوافقت وسافر العروسان!
وعندما زرناه حانت فسحة القهوة، فإذا به يخرج من درج مكتبه رغيفا ضخما (فينو) وشرع يأكل بعد أن دعانا إلى مشاركته، وكلانا مثله نحب الطعام، ولكننا اعتذرنا، فقال شارحا: «أصل مراتي ما تحبنيش أجوع.» وأظن ظنا أن الساندويتش كان يتضمن لحما وبعض شرائح الطماطم والخيار، وكان رماح قد انتهى لتوه من عدة عمليات جراحية ناجحة، وانطلق يحدث الدكتور نوح عنها، وكنت أتابع مناقشتهما بدهشة وإعجاب!
5
كان اللقاء مع رماح البرعي، على طرافته، بالغ الأثر في نفسي، فإذا كان قد أعاد لي بعض الطمأنينة بتأكيد ذكاء العربي ومهارته، فلقد أكد لي أيضا أهمية ما قاله شكري عياد عن «الدلالة»؛ فالمادة الإنسانية التي يشكلها الأديب لا تقل دلالتها عن الصور والأبنية الجمالية التي ينشئها أو يحاكيها أو يقتبسها ويعد لها. وسواء قصصت قصة رماح ببراعة القاص المحترف أم رويتها عارية عن الأشكال الأدبية التقليدية أو المبتكرة، فسوف تظل المادة الإنسانية زاخرة بالدلالات، وسوف يكون تجاوب القارئ العربي معها بمثابة الإجابة على سؤال شكري عياد «وبعدين؟» نعم نحن نحتاج إلى الأدب لأننا نحتاج إلى أن نعرف رماحا، ونحتاج إلى أن نزيد وعينا بالحياة! وعندما ركبنا الأتوبيس الذي سوف ينقلنا إلى أقرب محطة للمترو، لاحظ الدكتور نوح أنني كنت شارد اللب، فسألني عن سبب شرودي فقلت له: «أبدا .. بس مستغرب شوية.» فأدرك أنني أفكر في قصة رماح، فقال بلهجة ابن البلد الصادقة: «أمال لو شفت الأجهزة اللي عندهم!» ولكنني لم أكن مبهورا بنظافة المستشفى ونظامها، بل كان ما يشغلني هو ذلك الهم الذي كتب علي أن أحمله مدى الحياة - ألا وهو التساؤل مع شكري عياد عن الدلالة!
وعدت إلى الرسالة أتأمل ما قطعت فيها من أشواط، وما بقي من جهد لا أقوى على بذله، وتساءلت من جديد: ترى أستطيع أن أقلع عن «الصرمحة» بين الكتب، وأنتهي من الرسالة عملا بنصيحة شكري عياد؟! وقررت أن أحاول من جديد، وإن كانت الضائقة المالية تتطلب البحث عن عمل، وكنت أرجو أن يكون هذا العمل ذا طابع منتظم حتى لا أكابد هذا العناء، ولجأت من جديد إلى أصدقائي في الإذاعة، فوجدت أن الجميع يؤكدون أن بريطانيا لم تشارك إسرائيل في العدوان على مصر، وقال بعضهم إنني أخطأت حين استقلت، وإنهم سوف يرحبون بعودتي، ولكنني لم أتحمس لموضوع الخطابات!
وجاء نهاد خطاب من جامعة ساسيكس
Sussex
يقول لها إن الجامعة قد وافقت على تسجيلها اعتبارا من خريف 68 بشرط اجتياز المقابلة الشخصية، وكانت عندما تقدمت بطلبها أول الأمر طلبوا منها إرسال نموذج من كتاباتها، فكتبت بحثا عن الروائي جوزيف كونراد عنوانه «ازدواج الوعي عند كونراد» ولاقى القبول، وتحدد لها موعد للمقابلة، وذهبنا بالقطار إلى مدينة برايتون
Brighton
الساحلية، واتجهنا إلى الجامعة، وبعد المقابلة (وكانت مع الأستاذ ليرنر مؤلف كتاب كوميديات شيكسبير) قيل لها إنها يجب أن تقيم في مكان لا يبعد أكثر من 11 ميلا عن الحرم الجامعي، ولما كان ذلك عسيرا، فقد قدمنا طلبا لالتحاقها بالمدينة الجامعية، وعدنا إلى لندن.
وعندما عدت من الكلية في اليوم التالي وجدت خطابا من منير عبد النور رئيس وحدة بحوث المستمعين يخبرني فيه أن قسم الاستماع بالإذاعة قد أعلن عن مسابقة للتعيين في وظيفة مترجم للمواد الإذاعية التي تبثها المحطات العربية، خصوصا نشرات الأخبار والتعليقات السياسية، وأنني يجب أن أقدم طلبا على وجه السرعة إن كنت أحب هذا اللون من الترجمة! واتصلت تليفونيا بمنير عبد النور أسأله عن التفاصيل فقال لي إنني أستطيع أن أعمل في عطلة نهاية الأسبوع وأتفرغ باقي الأيام للدراسة، وفرحت بذلك وقدمت الطلب، وتحدد يوم الامتحان، وذهبت إلى مبنى الإذاعة الرئيسي في لندن وكان الامتحان يستغرق ثلاثة أيام؛ الأول للترجمة التحريرية من العربية إلى الإنجليزية، والثاني للاستماع؛ نشرات عربية يستمع المتقدم إليها ويترجمها كتابة فور سماعها، والثالث للمعلومات العامة بالإنجليزية. وكان عدد المتقدمين نحو عشرين من مختلف الأعمار والجنسيات، وكنت واثقا من نجاحي.
وبعد نحو أسبوعين جاءني خطاب يحدد لي موعدا للمقابلة الشخصية، فأدركت أن إجاباتي لاقت القبول، وكان مكان المقابلة خارج لندن، في مكان يدعى كافرشام
Caversham
وهي قرية على مشارف بلدة ريدنج
Reading (تنطق ردنج
reding ) التي تبعد عن لندن نحو 35 ميلا يقطعها القطار في نحو نصف ساعة، وهي في منتصف المسافة بين لندن وأوكسفورد. وعندما ذهبت للمقابلة وجدت لجنة من خمسة أشخاص، وتلفت حولي أنظر باقي المتقدمين فلم أجد أحدا، فتفاءلت. ورأيت بين أعضاء اللجنة رجلا قصيرا أصلع الرأس، أسمر الوجه وعيناه خضراوان، كان يتكلم الإنجليزية بلكنة أجنبية، وعرفت فيما بعد أنه مصري، واسمه حمدي الجمل، وكان رئيسا لقسم الترجمة العربية. وكان من أعضاء اللجنة رجل أحمر الوجه شعره أبيض ويتكلم الإنجليزية بلهجة تشبه لهجة أبناء وسط أوروبا، عرفت فيما بعد أنه ألماني الأصل يدعى بريم
Brehm
ويعمل مراقبا للإنتاج، أما رئيس اللجنة فكان مستر شرينجهام، الذي كان يعرف العربية وكانت زوجته مصرية! واقتصرت في حديثي على الإجابة على الأسئلة، وكنت صريحا في كل ما قلته حتى لو أدى ذلك إلى ضياع الوظيفة، فقلت لهم إنني طالب، وإنني لا أنتوي العمل بالترجمة مدى الحياة، وإن هدفي الأوحد هو كسب المال، وإن زوجتي مصرية تعيش معي في لندن، وإنني لا أعتزم ترك الشقة، فقال أحدهم: ولكنك ستضطر أحيانا إلى العمل مساء وقضاء الليل هنا. فأسرع شخص آخر وقال: يمكننا أن نهيئ لك سكنا مؤقتا ليلة أو ليلتين في الأسبوع. ثم انصرفت.
وبعد نحو أسبوعين وصلني خطاب يقول كلاما غريبا: «إننا مهتمون بالطلب الذي تقدمت به، وسوف نعلمك بالنتيجة قريبا، ونرجو أن تخطرنا إذا التحقت بعمل آخر في هذه الأثناء.» كنا في مارس وكنت قد بدأت العمل من جديد في الرسالة، ووصل نهاد خطاب القبول النهائي من جامعة ساسكس، وكان ما لدينا من المال لا يكفي للمصاريف الدراسية، ناهيك بمصاريف المواصلات وإيجار الشقة! ولم ينقض أسبوع آخر حتى جاء خطاب القبول من الإذاعة، ويتضمن سؤالا عن الموعد الذي أحب أن أبدأ العمل فيه. وذهبت إلى المشرف أسأله ما أفعل، فقال إن كنت ستنتهي من الرسالة في مايو فابدأ العمل في يونيو. واتفقت مع نهاد على أن تكون لندن هي قاعدتنا التي ننطلق منها إلى برايتون وردنج، ومن ثم كتبت الرد المطلوب.
وكان «بيت الحديقة» يتكون من أربع شقق، نسكن في إحداها وتتكون من صالة كبيرة وغرفة نوم وحمام ومطبخ، ولكنها كانت تتسم بالرطوبة مما كان يصيبني بالكحة كثيرا دون أن أدرك السبب، وإلى جوارها على الطابق الأرضي أيضا شقة مماثلة يقيم فيها سوداني يدعى عبد الحليم عباس وزوجته نجاة نجار، وفي الطابق العلوي (الأول عندنا في مصر) شقتان يقيم في إحداهما سوداني آخر هو الطبيب الجزولي دفع الله العاقب وأسرته، وفي الأخرى نيجيري عملاق وزوجته الأجنبية (الألمانية) ويصل بين الطابقين درج تتوسطه بسطة فيها تليفون مشترك لجميع السكان. ورغم الشهور القليلة التي قضيناها في ذلك المنزل فقد كنا نشعر أنه بيت الأسرة حقا، وسرعان ما توطدت العلاقة بيننا وبين جيران الطابق الأرضي، فكنا نتزاور، خصوصا لأن عبد الحليم كان شقيق حسن عباس (المستشار الثقافي بالسفارة السودانية) وكانت زوجته تعمل فيها، ولم يكن عبد الحليم قد انتقل إلى المنزل عندما انتقلنا إليه، بل كان يقيم في الشقة دارس للعلوم يسمى محمد علي، وسرعان ما رحل مع زوجته والرضيع الذي ولد في لندن.
وكان أمام البيت حديقة فسيحة، وطريق تقوم الأشجار على جانبيه يؤدي إلى كوبري بتني
، وكثيرا ما كنا نسير في الحديقة أنا ونهاد ونعبر الكوبري، وكانت مناقشاتنا في الأدب والحياة لا تنتهي، وكانت «صداقتنا» قد بدأت تتخذ طابعا عميقا جعل الجميع يعجبون ولا يصدقون أنه لم يمض على زواجنا عامان كاملان، وكانت تحب القراءة مثلي وتحب المسرح أكثر مني، فكانت تحفزني إلى حجز التذاكر بانتظام، ثم استأجرنا جهاز تليفزيون (إذ لم نستطع شراء جهاز لضيق ذات اليد) فكنا نشاهد البرامج الثقافية والدرامية، والأفلام أحيانا، وأتقنت نهاد فن الطبخ، ولم تكن تهتم به إلا قليلا من قبل، وكانت لدينا في الشقة مدفأة عجيبة تتكون من أحجار بالغة الثقل؛ فهي قطع مكعبة من الصخور الطبيعية ولها خاصية الاحتفاظ بالحرارة ساعات طويلة وحولها ملف كهربائي يعمل ليلا حين يكون التيار الكهربائي رخيصا ثم تحتفظ بالدفء طول اليوم، ثم تعلمت نهاد بنفسها الكتابة على الآلة الكاتبة، وعلى مدى شهور شغل كل منا بالاستعداد لمرحلة جديدة في حياته - الدراسة لها والعمل لي والسفر لكلينا!
نجاة النجار من السودان وجريس الهندية 1968م.
وفي يوم 29 مايو 1968م (يوم الأربعاء) وصلتني برقية من كافرشام تقول إنني يجب أن أذهب في الغد لتوقيع العقد والشروع في العمل، ورافقتني نهاد في تلك الرحلة، فسعدت أيما سعادة بجو الريف، ودخلت معي مبنى العمل، ولم يستغرق توقيع العقد دقائق، ثم تجولنا في الريف المحيط بالمبنى، وعدنا أدراجنا إلى المنزل في لندن، وقد توارت أحزان الصيف الأليم في العام السابق تماما، وبدأنا نحس أننا على أعتاب حياة جديدة. كنا قد اتفقنا على أن أعود للدراسة (الدكتوراه) بعد أن تنتهي هي من الماجستير، ومن يدري؟ لعلنا ندرس معا للدكتوراه! كان الأمل الذي يحمله العمل هو وجود المال، وكان الافتقار إليه هو مصدر المتاعب الأول في حياتنا.
وبدأت العمل يوم الجمعة وكانت النوبة مسائية فقضيت الليل لأول مرة خارج المنزل في بيت ضيافة ملحق بالعمل يسمونه
Sanatorium
أي المصحة؛ لأنه كان يستخدم مصحة يوما ما، وفيه تعرفت على بعض الضيوف الأجانب وقابلت - بعد أكثر من عامين - عبد اللطيف الجمال! كان قد قضى العامين في ألمانيا، ولا هم له إلا تعلم الألمانية، حتى حدثت النكسة فعاد إلى لندن، وقد أفلس إفلاسا تاما، حتى لم يكن في جيبه ثمن تذكرة المترو، وكان المتقدمون لامتحان الترجمة في ذلك العام قد رسبوا جميعا فتقدم هو ونجح، وبدأ العمل في يناير 1968م، واستقر به المقام في بيت الضيافة ولم يكن يريد أن يغادره أبدا! وعملت السبت والأحد وعدت إلى لندن يوم الإثنين، ولولا صحبة الجيران الجميلة لما تمكنت نهاد من تحمل الوحدة والوحشة!
كان عملي في أول أسبوعين هو التدريب فقط، فكنت أترك وحدي في غرفة صغيرة يسمونها
cubicle (أي المكعب) وأترجم ما أسمع بالعربية إلى الإنجليزية على الآلة الكاتبة، وكان من شروط التعيين القدرة على استعمالها بسرعة «معقولة» هي 35 كلمة في الدقيقة، وكانت سرعتي 40، وإن كنت أذكر أن زملائي في الإذاعة المصرية كانت تصل سرعتهم إلى 65 كلمة (مثل قريصاتي ونابليون طانوس) ولكن الترجمة عمل لا يأتي بالملال أبدا؛ فالأساليب متفاوتة، والموضوعات منوعة، والصياغة تتطلب جهدا خلاقا، وعندما اطمأن قلبي إلى سير التدريب، عدت إلى الرسالة، وذهبت إلى الكلية في يوم الثلاثاء لمقابلة المشرف .
وعلمت منه أن موعد التقدم لامتحان هذا الفصل الدراسي قد فات، وأنه من الأفضل أن أنتظر إلى سبتمبر، خصوصا حتى أستعد للامتحان التحريري! ودهشت. أي امتحان؟! لم أكن أعلم أن هناك امتحانا تحريريا في خلفية البحث (أي في القرن التاسع عشر كله) وأنني يجب أن أستعد له فلا يدري أحد من سيكون المصحح! وسألته عن الكتب التي يوصيني بقراءتها فوعدني بإعداد قائمة، وفعلا أرسل لي القائمة بالبريد، وكانت تزيد على ثلاثين كتابا!
وخرجت أنا ونهاد فاشترينا بعض الكتب، وكنا نقرؤها معا وتمتحنني فيها، فكانت أياما حافلة بالعمل الممتع، وأذكر أنني جعلت أقرأ لها أشعار (بايرون
Byron ) وهي نصف مهتمة، ثم دارت الأيام وتخصصت هي (في الدكتوراه) في مسرح بايرون! وفي أوائل يوليو وصلني خطاب غريب من سمير سرحان يقول فيه إنه يكتب لي من نيويورك بعد زيارة واشنطن للاستعداد للسفر (بالحرف الواحد «للسفر! أي والله للسفر! فلقد حصلت على الحبيبة وسوف نسافر أنا ونهاد في منتصف الشهر القادم») ويقصد بالحبيبة الدكتوراه، أما نهاد الأخرى فهي نهاد جاد زوجته (رحمها الله).
وفرحت فرحا شديدا إذ قال إنه سوف يتوقف في لندن ليراني وحتى نصل ما انقطع ولكنني أستبق الأحداث هنا؛ فلم يكن صيف 1968م بأهدأ من صيف 1967م، وإن كان في جبهات مختلفة، فلأعد إلى أوائل يونيو وما كنا بصدده في ذلك الشهر، بعد أن سمعنا عن احتكاك الاتحاد السوفيتي بالنظام في تشيكوسلوفاكيا بعد تولي دوبتشيك الذي كان يدعو للإصلاح السياسي مقاليد الحكم في ذلك البلد، وبعد أن سمعنا إدوارد هيث، زعيم حزب المحافظين الذي كان يمهد لتولي السلطة في المستقبل بعد حزب العمال، وهو يتفاخر بأن القوات الأمريكية قتلت عشرة آلاف فيتنامي في حملة واحدة! كان العالم يتغير بسرعة أكبر مما توقعت!
الفصل الخامس
النهر والروافد
1
إذا كانت الكتب التي عكفنا عليها أنا ونهاد في ذلك الصيف هي التيار الرئيسي لما نكتسبه من معرفة، فلقد كانت لمجرى النهر روافده وهي دفقات الوعي التي تصب فيه وتختلط به، فتكسب المياه ألوانها الخاصة ومذاقها المتميز ، وأعني بدفقات الوعي إدراك كل منا لما يجري من حوله في العالم، وقد تلتقي هذه الروافد وقد تتعارض ولكنها تمتزج في التيار الرئيسي آخر الأمر، وكانت الصحف اليومية وصحف نهاية الأسبوع هي المصدر الرئيسي لوعي كل منا، وكلما أضيف رافد جديد إلى تيار الماء تغير لونه واتسع مجرى النهر، وكان من هذه الروافد في صيف 1968م أنباء ثورة الطلاب في فرنسا، وكان يقال إنهم يثورون على البنيوية باعتبارها مذهبا فلسفيا ونقديا لغويا، وراعتنا ردود الفعل الإنجليزية إزاءها؛ فرئيس الجمهورية شارل ديجول رجل شامخ وشخصية ساحرة ولكن الإنجليز يقولون إنه يفكر بعقلية القائد العسكري الذي يعتبر الثورة تمردا والتمرد خيانة، وزعيم الحزب الاشتراكي فرانسوا ميتران، الذي كان في الثانية والخمسين تقريبا، يتحدث بتؤدة وبمنطق الخبير، فيكتسب الأنصار من الشباب، ويتوسل في ذلك برأس حربة (على حد تعبير الصحف الإنجليزية آنذاك) تتمثل في كوهين بنديت، الذي كان يطلق عليه زعيم اليسار الجديد، وكان عالي النبرة حاد التعبير، فاتبعه ملايين الطلاب، وأغلقت جامعة السوربون أبوابها للمرة الأولى منذ إنشائها قبل 700 سنة، وامتد الإضراب ليشمل العمال والموظفين وكادت فرنسا أن تواجه الشلل الكامل في الحياة العامة، ولم تكن الصحف البريطانية تبدي التعاطف مع أي من الطرفين؛ فبريطانيا تنفر من «شخصية» ديجول لأنه يمثل الوطنية المتطرفة، ولأنه كان يذكي في النفوس الكبار نار المنافسة القديمة بين إنجلترا وفرنسا على سيادة «ما وراء البحار» إبان عصر الاستعمار القديم، وبريطانيا تخاف اليسار الجديد؛ لأنه يذكرها بالثورة الفرنسية ويهدد بنشر أفكار التغيير في بلد أشد ما يقض مضجعه هو التغيير الثوري؛ ولذلك لم نجد في الصحف التي نقرؤها تحليلا لجذور الإضراب والاضطراب بل أنباء «الفوضى وغياب النظام الذي ينذر بالخراب».
ولما كنت قد أصبحت شكاكا أومن بالتريث وبعدم التسليم بصحة أي شيء قبل التحقق منه، فقد لجأت إلى المستر ويلكينز (Wilkins)
أستاذ اللغويات (علم اللغة) الذي كان متخصصا في اللغة الفرنسية، والذي كان كثيرا ما يحدثنا عن المناهج النقدية واللغوية الجديدة، ومنها البنيوية، وكانت له زوجة فرنسية، وكانت تربطه علاقة حميمة بكلية بدفورد وكان يزورها بانتظام قبل الانتقال (وهذه من المصادفات العجيبة) إلى جامعة ردنج التي انتقلت إليها فيما بعد. وكان ويلكينز دائم التردد على غرفة الأساتذة (استراحة الأساتذة والدراسات العليا) وكنا يوم الثلاثاء 4 يونيو 1968م حين قصدت إلى الاستراحة المذكورة فلم يخب ظني؛ إذ كان واقفا وحده بجانب الباب الزجاجي المفضي إلى الحديقة (
French window )، وعندما شاهدني حياني وقال لي: «الكلية مهجورة هذا الصباح.» وفهمت أنه يستفسر عن سبب غياب الأساتذة دون مبرر ظاهر، رغم أن يوم الثلاثاء يوم عمل مهم، فذكرت له أن الجميع يتناولون مأدبة غداء رسمية أقامتها الكلية للمديرة (
) التي تقاعدت (وهذه هي الوظيفة الإدارية التي تتضمن مهام العميد لدينا ولكنها ليست وظيفة أكاديمية).
وبعد الكلمات التقليدية عن جو يونيو، وهم يسمونه يونيو الملتهب (flaming June) (وتستخدم هذه الصفة على مستوى اللغة الدارجة باعتبارها من ألفاظ السباب، ربما بسبب إشارتها إلى الجحيم) سألت الأستاذ عن سر استمرار هياج الطلبة بعد أن وافقت الحكومة الفرنسية على رفع المرتبات بنسبة «غير معقولة» هي 35٪، فكنت كمن ألقى بحجر في الماء، فانداحت الدوائر التي تتسع باطراد؛ إذ شرح بإيجاز أن نظام التعليم الفرنسي يقوم على التلقين (instruction)
لا على التربية (education)
وأسهب في تبيان الفرق، وهو ما كنت أعرفه خير المعرفة، ثم قال ما لم أكن أعرفه وهو أن اعتراض الطلاب على ما تسميه الصحافة البريطانية بالمناهج أو بالمقررات المعتمدة قديم، وثورتهم عليها «موثقة» (أي مسجلة) في العديد من مطبوعاتهم ونشراتهم التي ازداد عددها زيادة مذهلة في الخمسينيات، وكان من دوافعها الباطنة تيار التمرد الذي اجتاح العالم الغربي كله بعد الحرب العالمية الثانية، فالكل يثور على تراث الحرب؛ لأن الحرب كانت تمثل لهم قمة العبث (the absurd)
أو البلاهة (العبط!) لأنها دمرت وأهلكت دون معنى ودون دلالة.
وفي نبرة حماس نادرة قال ويلكينز: «ولكن المرجل الذي يغلي سنوات طويلة لا بد أن ينفجر يوما، وهو يثور على رموز القديم، رموز الحرب، والألفاظ الطنانة المرتبطة بذلك كله، والتي تتدفق من رمز الحرب الأول ديجول!» فقلت له وما شأن البنيوية باعتبارها مذهبا في اللغة وفي التحليل النقدي بديجول؟ فابتسم وقال: «هذه هي القضية! ينبغي ألا يكون لها شأن! ولكن القنبلة كان لا بد لها من فتيل يفجرها، وكانت الثورة على البنيوية هي هذا الفتيل!» وابتسمت وقلت له مداعبا: كان أولا مرجلا
caulderon
ثم أصبح قنبلة؟ فضحك وقال أنت لا تقبل خلط الاستعارات مثل البنيويين! وأحسست أن الجو قد هدأ فاستزدته فقال: «يتفاخر الفرنسيون بأنهم ملوك تحليل النصوص، وهم يعتزون كل الاعتزاز بطاقة «العقل الفرنسي» الإبداعية على الغوص وراء العلاقات المتداخلة بين المعاني والأبنية، ويرون أن آفاق التحليل «لا محدودة» بل و«لا نهائية» فإذا ببعض الأساتذة يدعون إلى اتباع أساليب شكلية محضة، بل ويقطعون بأنها صادقة دائما؛ لأنها مثل نظم الأبنية النحوية في اللغة، ذات جذور عميقة في نفس الإنسان بل وفي حياته البيولوجية، وإذا بهم يحاولون تلقينها للطلاب!» وقلت له إن لهذه الأبنية جاذبيتها ودلالتها، والدراسة الأدبية تؤكد فائدتها في التحليل، وقبل أن أسترسل قاطعني قائلا: «أنا لا أنكر ذلك، ولكن الطلاب كانوا يريدون أن يثوروا، وبدءوا بالثورة على من يفرض عليهم منهجا، خصوصا إذا كان المنهج «مستوردا» من الشرق ومن الغرب!» وفهمت أنه يشير إلى ياكوبسون (جاكوبسون) الروسي وتشومسكي الأمريكي، فقلت له إن المعرفة عالمية، وإن الأدب هو الأدب، فأومأ وعلت وجهه سحابة تأمل عميق، ثم قال: «للأسف! لم ينظر أحد إلى البنيوية باعتبارها منهجا قابلا للنقض، بل اتخذها الطلاب ذريعة لتفريغ شحنة غضبهم من نظام التعليم الفرنسي، ومن ورائه نظام الحياة برمته وقالوا إنه كان يجب بعد الحرب أن يتغير فإذا به يتحجر! إن ديجول ما يزال يعلن عظمة فرنسا، وبالأمس زار مقاطعة كيبيك في كندا وقال إنها فرنسية، ورغم استقلال الجزائر فما يزال يشير إليها باعتبارها أرضا فرنسية!»
ونهض ويلكينز ثم نظر في ساعته فعلمت أن الموضوع أكبر من أن يحسم في ساعة الغداء، فنهضت أنا أيضا وسرت معه ونحن نستكمل الحوار في الطريق إلى سيارته، وعندما فتح باب السيارة قال لي: هل قرأت دريدا (Derrida)
فأجبت بالنفي، فقال سوف تسمع عنه كثيرا وتقرأ له، وسوف يهلل الفرنسيون له ويكبرون لأنه فرنسي وإن كان جزائري المولد! وهو لا يبني بل يهدم! إنه روح هؤلاء الشباب! وانطلق بسيارته باسما.
وعدت إلى المكتبة حيث كان علي أن أفرغ من تنظيم قائمة المراجع التي ستوضع في ذيل الرسالة، وكانت المكتبة شبه خالية؛ فالشمس ساطعة والحديقة تغري الجميع بالتنزه، ولكنني كنت راضيا بالنظر من الشباك الكبير بين الفينة والفينة إلى النباتات اليانعة بلونها الأخضر الزاهي، وأحواض الزهور المتناثرة هنا وهناك، ثم العودة إلى أوراقي. وفي الخامسة مساء خرجت أسير وحدي وأنا أفكر فيما قاله أستاذ علم اللغة، وعندما وصلت إلى المنزل وجدت نهاد تتحدث بحماس عن ثورة الطلاب في فرنسا، وشاهدنا أخبار الساعة السادسة في التليفزيون، وكان أهم ما فيها قرار العمال الفرنسيين بالإضراب يومي 11 و15 يونيو، وبعدها تناولنا العشاء وعدنا للقراءة.
في الحديقة عام 1971م.
وذهبت إلى كافرشام يوم الخميس مساء وقضيت الليلة في بيت الضيافة وفي الصباح زرت عبد اللطيف الجمال في غرفته فوجدته يقرأ رواية بالألمانية لتوماس مان، وجعل يحدثني عن ذلك الكاتب حديثا مسهبا، واقترح ألا أعود إلى لندن وأن أقضي اليوم معه، فأخبرت نهاد تليفونيا، ثم خرجت معه إلى وسط البلد (ردنج) سيرا على الأقدام وهو يحدثني عن توقف عمله في الرسالة، واهتمامه برصد تأثير نيتشه على أ. أ. ريتشاردز، وكان يقرأ نيتشه بالألمانية، وقلت له إن شكري عياد نصحني بأن أنتهي من الرسالة وأعود، فقال عبد اللطيف دون اكتراث: تعود؟ وماذا في مصر يمكن أن تعود إليه؟ وأجبته إجابة كنت أظنها مقنعة، ولكنه قال إن مصر تمر بمرحلة انكسار، والأفضل لمن جعل القراءة عمل حياته أن يعيش خارجها، وكان ردي على ذلك «معقولا» أيضا، ولكنه كان يبدي من اللامبالاة ما أقنعني بعدم الرد، وذهبت إلى العمل في المساء، وفي الصباح سمعنا نبأ اغتيال بوبي (روبرت) كينيدي، شقيق جون كينيدي الذي كان قد اغتيل أيضا قبل خمس سنوات! وقلقت؛ لأن القاتل كان اسمه سرحان بشارة سرحان! فماذا سيكون تأثير ذلك في موقف أمريكا من العرب؟ ولم يكن قد مضى على اغتيال مارتن لوثر كنج إلا نحو شهرين، وكنا ما نزال نتابع مسيرات الزنوج والفقراء في أمريكا، وعدت إلى لندن وقد بدأت هموم الأنباء تثقل فكري، وقضيت مع نهاد الأربعة الأيام التالية ونحن نتابع تلك الأحداث، وإذا بأحد الأصدقاء يحادثني تليفونيا ويقول لي إن الطلاب في مصر قاموا بمظاهرات صاخبة وإن جمال عبد الناصر ألقى فيهم خطابا مهما، وأبديت الرغبة في أن أستمع إليه فأتى لي الصديق بالشريط (وما زلت أحتفظ به) وسمعناه مرات عديدة، حتى فيما بين فترات القراءة والاستذكار!
2
لم يحدث في يوليو (شهر الثورات) شيء مثير أو ثوري، سوى وصول خطاب سمير سرحان، وتوقع وصوله في أغسطس، وكان قد أرسل شريطا صوتيا به معظم الأغاني الجديدة، وكانت الشرائط آنذاك بكرات مستديرة تتراوح مدتها الزمنية بين ساعة وأربع ساعات، وفقا لطول الشريط وإمكانيات الجهاز وسرعة التسجيل، فإذا استخدمت التراكات
tracks (أي المجاري الممغنطة) الأربعة والسرعات البطيئة فقد يستغرق الشريط 16 ساعة! وكانت رسائلنا سجلا حافلا لكل ما يدور في حياتنا الخاصة والعامة، وما أزال أعود إليها كلما ضاقت بي الدنيا لأستروح نسمات الماضي. وفي يوم 20 أغسطس وصل سمير سرحان مع نهاد جاد (زوجته) إلى محطة فكتوريا بالقطار من ساوثهامتون
Southampton ؛ حيث رست السفينة التي ركباها في نيويورك، وقابلتهما في المحطة وعدنا إلى المنزل، وسهرنا نحن الأربعة، ولم ننم إلا بسبب الإرهاق، وفي الصباح، وكان يوم الأربعاء 21 أغسطس، فتحت الراديو لأسمع أنباء الغزو السوفييتي لتشيكوسلوفاكيا (الذي شاركت فيه قوات حلف وارسو)، وتركت الجميع نائمين وخرجت لشراء الإفطار والبحث عن صحف المساء (وأولاها كان يصدر في العاشرة)؛ إذ لم تكن أنباء الغزو قد نشرت في صحف الصباح؛ لأن القوات تحركت ليلا ودخلت براغ في الرابعة صباحا، فوعدني بائع الصحف بإرسال النسخ إلى المنزل حالما تظهر. وما إن استيقظ الجميع حتى كانت الصحف بين أيديهم.
وقرأ سمير الصحف باهتمام، فهو قارئ نهم، وقال بسرعة حين لاحظ انزعاجي «يعني كنت عايزهم يسيبوا ألكسندر أفندي يفركش العملية ؟!» وضحكت من أعماقي، وكانت ضحكة صادقة لم أضحك مثلها منذ يونيو 1967م؛ فهو يتمتع بقدر كبير من اللماحية الفكهة، ورغم ما شاع عن ميله لكتابة التراجيديا وميلي لكتابة الكوميديا، فنحن نشترك في الإيمان بضرورة رؤية كل شيء من مختلف زواياه، وتعدد الزوايا يكفل اكتمال الرؤية، كما أنه يتيح النظر من زاوية الفكاهة، وهي الزاوية التي ينظر منها الكاتب الساخر، والتي لا غنى عنها لأي كاتب. وبعد المناقشات المحتومة انطلقنا إلى محطة فكتوريا أولا للسؤال عن معطف كان سمير سرحان قد نسيه في القطار، وما إن سألنا عنه حتى أتى به الموظف فحمله سمير على ذراعه وخرجنا لقضاء اليوم في ربوع لندن.
كانت كل زيارة يقوم بها سمير سرحان إلي في لندن تملؤني بالثقة في المستقبل ، وتؤكد لي أن مشاغل الحياة العامة التي بدأت أهتم بها يجب أن تحتل المرتبة الثانية أو الثالثة بعد الدراسة والحصول على الشهادة، وروى لي تفصيلا كيف فرض على نفسه العمل يوميا في الرسالة، وكان يكتب «صفحة واحدة على الأقل» كل يوم حتى يضمن انشغاله بالموضوع وعدم انصراف ذهنه إلى أي شيء آخر، وتمنيت في أعماقي أن أستطيع ذلك، ولكن ولعي المشبوب بالقراءة «خارج الرسالة» وبالناس ولغتهم ولهجاتهم كان كثيرا ما يشغلني عن التخصص، وكان عملي الجديد بالترجمة، على ما فيه من جاذبية وسحر، مرهقا، فإذا قام المراجع الإنجليزي بتعديل عبارة كتبتها أو تصحيح خطأ وقعت فيه، جعلت همي أن أدرس السبب، خصوصا بعد أن قرأت كتابا عن الأساليب، وأصبحت مشغوفا بفنون صنعة الكتابة، وقد انتهى بي ذلك الشغف إلى أن سجلت موضوع الدكتوراه فيما بعد في «الأساليب الشعرية» وكيف تطورت من الكلاسيكية الجديدة إلى الرومانسية.
ورحل سمير ونهاد جاد بعد يومين، وبدأت زهور الصيف تذوي، وعندما حل الخريف اصطحبت نهاد إلى المدينة الجامعية في جامعة ساسكس، وقضيت ليلتين وحدي، وفي السادسة صباحا في اليوم الثالث أيقظني رنين التليفون من تلك الجامعة، وكانت المتحدثة هي المشرفة على بيت الطلاب، وأمرتني بالحضور فورا. وعندما ذهبت بعد نحو ساعتين قالت لي المشرفة إن نهاد لا تستطيع تحمل الحياة وحدها هناك، وإنها (أي المشرفة) قد استصدرت لها استثناء بأن تقيم في لندن، وتأتي مرة في الأسبوع لمقابلة الأستاذ، وكان الأستاذ هو العلامة الأسكتلندي ديفيد ديتشيز
Daiches .
وبدأت نهاد دراستها الجادة للماجستير، وكان النظام أمريكيا مستحدثا يتطلب الجهد المستمر طيلة العام الدراسي ثم كتابة بحثين في تخصصين متكاملين، واختارت نهاد تخصص الرواية وتخصص الدراما، وكانت تسافر وحدها مرة في الأسبوع، وكنت أسافر أنا إلى كافرشام فأقضي ليلة أو ليلتين خارج لندن، وبدأت اهتماماتي بالترجمة واللغة تستغرق كثيرا من الوقت الذي كنت خصصته للرسالة، حتى كدت أيأس، ولكنني عقدت العزم على الانتهاء منها في نوفمبر، واجتزت الامتحان التحريري بنجاح، وإن لم أجرؤ على تقديم الرسالة، فقال لي المشرف إنه يفضل نقل الإشراف إلى أستاذة أخرى تحتمل تلكؤي وتباطؤي، فقابلت رئيسة القسم وهمست لي إن المشرف مريض والأفضل أن أعمل مع الأستاذة أجنيس ليثام
Agnes Latham
فقابلتها وطلبت مني أن تقرأ ما كتبت حتى الآن، ولم يمض أسبوع حتى استدعتني وقالت لي: «كيف تبذل كل هذا الجهد وتقيم كل هذا الصرح من الدراسة لدرجة
M. A
فحسب؟ لسوف أطلب من الجامعة تحويلها إلى
M. Phil - إلا إذا كنت تريد تحويلها إلى دكتوراه.» وفزعت لما تقول وأكدت لها أنني أريد أن أبدأ بداية جديدة وأن أغير الموضوع في الدكتوراه، فقالت لا بأس، ثم اقترحت بعض التعديلات في الفصول وطلبت مني الاستعداد للامتحان المقبل؛ أي في فصل الربيع، حتى تكون موافقة الجامعة على التحويل قد وردت.
واطمأن قلبي لما قالته المشرفة، وراجعت نفسي فوجدت أن كلامها صحيح، وأن الخطة كانت تتميز بالطموح بأكثر مما ينبغي على نحو ما حذرني منه المشرف، وقد علمت أنه كان يعاني من مرض عضال لم يمهله؛ إذ توفي مع البروفسور جيفري تيلوتسون زوج رئيسة القسم في مطلع عام 1969م، وكان علي أن أعيد تقسيم الفصول، فعملت جادا في إصلاح ما يحتاج إلى إصلاح، وقد اكتشفت أن عيوب الصورة الأولى للرسالة (والتي ما زلت أحتفظ بها) كانت تتلخص في عدد من الملامح التي ترجع إلى طريقتي الخاصة في التفكير ومن ثم في الكتابة، ألا وهي الاستطراد
digression - العدو الأول للبحث العلمي وللكتابة العلمية. وكان أهم شاهد على ذلك وجود حواش مطولة في الكثير من صفحات الرسالة؛ إذ كان يعن لي خاطر أثناء متابعة الحجة التي أقيمها في متن الرسالة فأدرجه في الهامش، وربما تفرع الخاطر فولد فكرة أراها مهمة فأتوسع فيها مما يحول الإشارة الهامشية إلى حاشية، وقالت لي المشرفة إن كثيرا من هذه الأفكار يجدر إدراجه في المتن، أو إرجاؤه إلى حواش منفصلة في ذيل الرسالة، وقد فعلت ذلك في الصورة المعدلة، وأجد من الطريف أن الكثير من الكتاب الأمريكيين يفعلون ذلك الآن في كتبهم - والمثال الحاضر على الاستطراد في ثنايا المتن نفسه هو ستانلي فيش
Fish (خصوصا في كتاب أصدره عام 1989م بعنوان «التصرف الطبيعي»
Doing What Comes Naturally
وجون إليس الذي يؤجل الحواشي في كتابه (اللغة والمنطق والفكر)
Language, Logic and Thought (1993م) إلى مكانها في آخر الكتاب مثلما فعل في كتابه (مناهضة التفكيكية)
Against Deconstruction (1989م)، ولقد تطور نظام وضع الهوامش
marginalia
والحواشي
endnotes
فلم تعد الهوامش (الإشارات إلى الكتب والمؤلفين) توضع في الهامش بل في غضون المتن نفسه، وأصبحت الحواشي تلحق بالكتاب أي توضع في ذيله، أما الاستطراد في تضاعيف الحديث نفسه فقد أصبح السمة الغالبة على كتابة الكثيرين من كتاب الثمانينيات والتسعينيات، وأقول بالمناسبة إن ذلك مما يرهق المتخصص الذي قد يبدأ قراءة كتاب عنوانه «النقد التفكيكي» مثل كتاب فنسنت ليتش بهذا العنوان المنشور عام 1883
Vincent Leich
فيتوقع أن يقدم له المؤلف فصولا في النقد التفكيكي ولكنه يجد شطحات والتواءات يتوه فيها بين الفكرة ونقيضها، فيضل ولا يهتدي، فإذا كان ذلك حال المتخصص فما بالك بغير المتخصص؟ وذلك هو، بالمناسبة، السر في عدم نجاح ترجمة الكثير من أمثال هذه الكتب إلى العربية، ولكن الدفاع التقليدي عن مثل هذا المنهج هو أنه كتاب لا رسالة جامعية؛ أي إنه مجموعة من الأفكار وثمار القراءات المنوعة في موضوع واحد يجمع بينها، ولكن الرسالة هي تسجيل لنتائج بحث علمي، وينبغي فيه التركيز والضغط حتى لا يتشتت القارئ.
ولقد توقفت بعض الشيء عند «عيب» الاستطراد؛ لأنني تعلمت من ممارسة الكتابة النقدية (بل والإبداعية) على مدى الأعوام الثلاثين الماضية أن القارئ بصفة عامة، ومهما بلغ من تفصيل القول في «أنواعه» (على نحو ما يفعل إيزر
Iser ) يبحث عن فكرة واحدة أو فكرة رئيسية، ويتوقع من الكاتب الإيضاح والشرح والتبسيط، وكم من كتاب قرأته في غمار جمعي للمادة فعانيت في فهمه الأمرين! وجهدت حتى أصل إلى مقصد صاحبه، فإذا بالنتيجة لا تساوي ما بذل في سبيلها من عناء!! ولكنني لم أكن تعلمت الدرس بعد، وكانت معاناة كتابة الرسالة أو إعادة تنظيم مادتها هي أول خطوة في هذا السبيل.
لقد أكسبني هذا الجهد خبرة لا تقدر بمال، وتعلمت في خضم «التعامل » مع الكلمات ومع أبنية العبارات كيف أهيئ القارئ لتلقي النتيجة التي أريد أن أصل إليها، بالتلميح إلى آراء الثقات أحيانا، وبضرب الأمثلة أحيانا أخرى، ثم أتدرج في بناء الحجة حتى إذا وصلت إلى المرحلة التي يطمئن قلبي فيها إلى أن طرح مقولتي أصبح يستند إلى دعائم صلبة ومقنعة، صغتها في ألفاظ واضحة وموجزة. وآتت جهودي أكلها، فما إن قرأت المشرفة الفصل الأول حتى أرسلت لي بطاقة بريدية (ما زلت أحتفظ بها) تقول فيها حرفيا “Congratulations! What depth, what lucidity!” ؛ أي إنني أهنئك على العمق والوضوح، ولقد فرحت بما قالته، ووجدت فيه عزاء عن التأخير؛ إذ انقضت السنة الثالثة وأنا ما زلت أصوغ وأتأمل، وقد يكون من المناسبة أن أذكر أن تخفيف النبرة كان من عوامل إحكام حرفة الكتابة، إلى جانب تخفيف النبرة بإدراج عبارات الاحتراز، واللجوء في ذلك إلى تغيير أنماط أبنية العبارات، وأذكر أنني عدلت عبارة في الصورة الأولى للرسالة كنت أقول فيها إن الشاعر رغم إنكاره للإيمان بتناسخ الأرواح أو بنظرية أفلاطون عن عالم المثل (
ideas
لا
ideals ) فإنه يوحي بذلك إيحاء صريحا، وهذه عبارة قد يقبلها القارئ من شاعر كبير مثل سيسيل داي لويس
Cecil Day-Lewis
أو أستاذ ضليع مثل إرنست دي سلينكورت (Ernest de Selincourt)
أو حتى هيلين داربيشر
Helen Darbishire (تلميذة الأخير) ولكنه لن يقبلها من دارس مبتدئ، وقد عدلتها إلى «إن المقولات (statements)
الواردة في قصيدة «مشاعر الخلود» والتي قد تفهم حرفيا على أنها تعبير عن إيمان بفكرة فلسفية أو دينية، قد تكون أسلوبا جديدا في بناء الصورة الشعرية دون استعمال المجال اللغوي المباشر، على نحو ما بينته فلورنس مارش في كتابها الذي سبقت الإشارة إليه، وإذا كان الشاعر قد أنكر في شيخوخته (عام 1847م) في الحواشي التي أملاها على الآنسة إيزابيلا فنيك
Fenwick
أنه كان يؤمن بتناسخ الأرواح أو بأفلاطون، فربما كان ذلك لأنه تحول إلى العقيدة المسيحية التقليدية، وإن كان ذلك لا ينفي أن القارئ الذي اطلع على هذه القصيدة عندما نشرت أول مرة عام 1807م، قد رأى فيها ما يوحي بالإيمان بتناسخ الأرواح أو بالفكر الأفلاطوني.»
الفارق بين التعبيرين شاسع؛ فالعبارة الثانية تنتفع بالمقالات والتبريرات المستندة إلى آراء الثقات، وهي وإن كانت تخلص إلى النتيجة نفسها، فإنها تنسب تلك النتيجة إلى «قارئ» القصيدة في زمن محدد، وهو تحرز شائع في الأسلوب الإنجليزي، لكنه لا يمنع من التعميم؛ فليس معنى إحساس القارئ بذلك الإيحاء عام 1807م هو أن القارئ لن يشعر به في عام 1968م، وإن كان التعبير يوحي بالتحرز، وغني عن البيان أن جميع العبارات التي سبقت هذه النتيجة تتضمن أساليب الاحتمال والشك مثل «قد تفهم حرفيا» و«قد تكون أسلوبا جديدا» و«إذا كان .. فربما كان ذلك لأنه» وهو مما يوحي بأن الكاتب يتوخى الحذر، ولا يريد إطلاق الأحكام، وإن كان في النهاية يقول ما يريد أن يقوله!
وإلى جانب ذلك كان أسلوب التعديل ينتفع كما قلت بتعديل الأبنية واستخدام تفاوت النبرة عن طريق بناء العبارات التي توحي بأنها ذات أهمية ثانوية (subordination)
وهو ما لا يظهر في الترجمة العربية لعدم ولوعنا بهذا اللون من الأبنية، وقد ناقشت ذلك فيما بعد في كتبي عن الترجمة، ولا أظن أن المجال يتسع هنا للإفاضة في هذه الأساليب الإنجليزية المتخصصة.
استغرق العمل في رسالة الماجستير فترة أطول مما قدرت لها، وفرحت أنها تحولت من
M. A.
إلى
M. Phil.
فالدرجة الأخيرة «درجة بحثية»
research degree
ولكنها ما تزال تسمى الماجستير بالعربية، ولا تعترف الجامعات العربية بالفرق بين الأولى التي يمكن الحصول عليها بكورسات وامتحان وبين الأخيرة، فكان لا بد من التسجيل للدكتوراه. وكنت في مطلع عام 1969م قد أحكمت صنعة الترجمة إحكاما، ولم يعد العمل في كافرشام يستغرق إلا وقتا محدودا، وكنت أقضي عطلة نهاية الأسبوع فيها خارج لندن، ونهاد تجهد نفسها كل الإجهاد لإعداد الأبحاث المطلوبة منها، وكان أساتذتها سعداء بها كل السعادة.
وكنت عندما أعود إلى المنزل يوم الإثنين، أحاول تعويض غيابي بالخروج مع نهاد، وكثيرا ما كانت مناقشاتنا تدور حول بحوثها، وقراءاتها، وأحيانا كنت أصحبها في القطار إلى الجامعة، ونخرج بعد مقابلة الأستاذ للنزهة قبل العودة إلى لندن، ولكن يوم الأربعاء كان يوم المسرح، وكنا نخرج في الواحدة ظهرا فنركب المترو حتى محطة هولبورن ثم نسير حتى مسرح أولدويتش مثلا، أو إلى محطة واترلو (Waterloo)
ثم نسير إلى المسرح القومي (في الأولد فيك) (Old Vic) ، ولن أنسى يوم أن تأخرنا أو تأخر بنا القطار دقائق معدودة فأخذنا نجري جريا حتى وصلنا في الموعد (الثانية والنصف ظهرا) ونحن نلهث ولم نكد نجلس حتى بدأ العرض!
3
وفي يوم السبت 19 يوليو عام 1969م جاء الدكتور رشاد رشدي لزيارة لندن، وكان قد حصل على منحة من المجلس البريطاني لزيارة بعض المعالم الثقافية في إنجلترا، فقابلناه أنا ونهاد وفرحنا به، كما قابله عبد اللطيف الجمال، واستأجر غرفة في منطقة جلوستر رود
Gloucester Road
في وسط البلد، ثم لحق به عبد المنعم سليم الكاتب المشهور، وكنا نتجول أنا ورشدي في أرجاء لندن وهو يقص علينا طرفا من ذكرياته، وكان يدهش من اختفائي في عطلة نهاية الأسبوع في كافرشام، وعندما علم أنني سوف أسجل للدكتوراه في مطلع العام الجديد عرض علي العودة إلى مصر، ووعد بأن يساعدني في الحصول عليها بسرعة، ولكنني رفضت؛ فالحياة في إنجلترا لم تكن مجرد تمهيد لشغل منصب ما في مصر (علمي أو ثقافي)، بل وسيلة للنهل من معين لغوي وثقافي لا ينضب.
وذات يوم صحبته لشراء زوج من الأحذية، فقابلنا فتاة من كليتنا تدعى جون مالوي
Joan Malloy ، وكان اسمها الأصلي كورديليا مثل اسم ابنة الملك لير في مسرحية شيكسبير الشهيرة، وعرفته بها وعرفتها به، ولم أكن قابلتها منذ سنوات طويلة، وتحديدا منذ يوليو 1966م؛ إذ كان من عادتنا أن نتناقش في الفكر الاجتماعي ربما لأنها تدرس علم النفس وتجري تجارب بحثها على الكهنة، وكانت تتردد بانتظام على الكنائس لإجراء المقابلات معهم، وتمكنت من تسجيل شرائط صوتية طويلة لأحاديثهم، وكانت تستعين بالكمبيوتر - الذي كان في مهده - في تحليل نتائجها، وكانت تحدثني كثيرا عن شاب يدعى ألكسندر يدين بالكاثوليكية؛ ومن ثم فقد أقسم قسم الامتناع عن الزواج طيلة حياته، وبألا يقرب المرأة، ولكنه كان يبدو لها «مادة» صالحة للتجارب، فهو قوي البنية فارع الطول، وشعره أحمر وعيناه سوداوان ثاقبتان، مما جعلها تحدس أنه من أصل أيرلندي، وكانت كثيرا ما تتحدث عن قوة نفاذ عينيه، وتسرد التفاصيل الدقيقة عن صوته الدافئ، وكان يبدو أنها كانت مولعة به، وهي بيضاء عيونها سوداء، وذات طول غير عادي، وكانت تقول إن شكلها يختلف عن الشكل الإنجليزي التقليدي الذي يوصف بأنه مثل ثمرة الكمثرى؛ فهي ضخمة الصدر نحيلة العجز، وكان الزملاء يضحكون منها، وكانت سوزان الأمريكية تقول لها إن هذا هراء؛ فالإنجليز في رأيها شعب هجين
hybrid (ولو أنها استعملت كلمة يقتصر الإنجليز على استعمالها في وصف الكلاب
mongrel
مما أغضب جون).
وخرجنا أنا ورشاد رشدي وجون إلى الطريق دون أن يشتري أحد شيئا، وفجأة قال رشدي بلهجة إنجليزية تحاكي لهجة أبناء الذوات: «دعيني أدعوك إلى العشاء.» ورحبت جون فورا، ولم أدهش لذلك؛ فالإنجليز يرحبون بكل ما من شأنه توفير النقود، وقد يكون التعبير: «دعني أشتر لك عشاء.» ولو قالها رشدي للاقت القبول، وشعرت أن وجودي قد يفسد خطط «أبو الرشد»، فتذرعت بحجة واهية ولكنه أصر على أن أصحبهما، وما إن جلسنا في المطعم الإيطالي الذي اختارته حتى تفرع الحديث وتشعب، ولم أشأ أن أترك رشدي يحكي عن أمجاده في مصر؛ فهذا مما لا يقال على مائدة العشاء، فسألتها عن أخبار ألكسندر، فانطلقت تحكي أخبار السنوات الماضية .
قالت جون: «كانت علاقتي به محكوما عليها بالفشل منذ البداية (
doomed ) ويبدو أنني أسرفت في لقاءاتي معه، وفي طرح أسئلتي والاستماع إلى إجاباته، ويبدو أنني كنت مدفوعة بدافع لم أستطع حتى الآن تحديد كنهه، فأبحت له أن يعرف عني ما يزيد على ما يطلبه كاهن الاعتراف، وربما تماديت في ذلك جسديا (ماديا؟
physically ) فأفصح لي عن حقائق لم تكن تخطر ببالي، وبدأ يتصرف بتصرفات غريبة، أو قل إنني وجدتها غريبة من كاهن نذر على نفسه البعد عن المرأة، فسألته سؤالا مباشرا عن علاقته بالشماس (deacon)
الذي كنت كثيرا أراه يحوم حولنا أثناء حديثنا في الخلوة، فقال لي إنك فتاة بارعة الذكاء .. كيف عرفت وجود علاقة؟ ونحيت المسألة بلا اكتراث حتى لا أقطع سيل حديثه فجعل يقسم أغلظ الأيمان أنه وإن كان يعينه في قضاء وطره إلا أنه لم يعشق سواي، وأنه منذ أن عرفني قد نبذ صغار الشمامسة (
sextons and sacristans ) من ذوي الجمال الأخاذ، وسألته صادقة: هل لي أن أسجل ذلك في المذكرات الخاصة ببحثي؟ فتلعثم وقال إنه حائر لا يدري ما يصنع، وقررت آنذاك أن أمتنع عن زيارته خوفا عليه.»
وتمهلت جون وهي ترشف قدح النبيذ الإيطالي الأحمر، ونظرت إلى الشجرة التي تتدلى أغصانها فوق الشرفة التي نجلس فيها كأنما تبحث عن الكلمات الصحيحة، ثم قالت في تؤدة: «أظنها قصة معروفة لكم أيها الأدباء، ولكنها كانت جديدة علي كل الجدة؛ إذ أخذ ألكسندر يتردد علي بانتظام، وأستطيع الآن بما تتيحه القدرة على التذكر من إصدار الأحكام الصائبة (
with the benefit of hindsight ) أن أقول إنني كنت أحبه ولم أكن أريد له ذلك المصير المؤلم.» وصمتت فقلت لها أستحثها: «هل ترك الكنيسة؟» فقالت «بل أصيب بصدمة عصبية أدت إلى انهياره النفسي، ونقلوه بعد شهور معدودة إلى مستشفى الأمراض النفسية؛ حيث كان يصاب أحيانا بوجوم واكتئاب يمنعه من الكلام أياما، وأحيانا بهياج يستلزم استخدام القوة للسيطرة عليه.»
وكان رشدي صامتا طوال الوقت، ثم نطق أخيرا فسألها: «أما يزال هناك؟» فردت على الفور: «لا، بل انتحر المسكين! وكان من الحالات التي سجلتها في الرسالة، فكانت من دراسات الحالة (case studies)
التي أعجبت المشرف، بل إنه طلب إدراج صورة ألكسندر في الرسالة، ووافقت، وسوف تطبع الرسالة قريبا.»
ونظرت في ساعتي حتى أنبه الحضور إلى أن الوقت قد تأخر، وأن علي أن أعود إلى نهاد، فسمحا لي بالانصراف، وعندما قابلت رشدي بعد ذلك كان يتحاشى ذكر جون مالوي تحاشيا مطلقا، ولم أشأ أن أسأله عما حدث بعد رحيلي، احتراما لصمته.
ولم يكن لي أن أقابل جون مالوي بعد ذلك مطلقا، خصوصا بعد انتقالنا إلى ردنج، ولكن قصتها ظلت مخطوطة في المفكرة، وكنت كلما قرأتها أتساءل عما تراه قد حدث لها مع آخرين، وكنت كثيرا ما أتطلع إلى الكتب الجديدة لعلي أرى رسالتها المطبوعة، ولكنني لم أوفق في ذلك أيضا، وعندما قصصت القصة على نهاد قالت لي: «إنها عقدة نفسية متحركة!» وعندما عدت إلى مصر بعد سنوات وتعمدت ذكر اسمها في سياق حديث عابر لرشاد رشدي لم يعلق، وحول وجهه عني (عامدا؟) كأنما ليتحاشى الإشارة إليها.
وكانت نهاد مشغولة آنذاك بكتابة بحث عن كوميديا المسرح الإنجليزي، بعد نجاحها في كتابة بحث مطول عن جوزيف كونراد، وكانت تتردد أثناء الصيف على رودني هيلمان، الذي كان يتولى الإشراف على هذا البحث، وكانت تقص علي أنباء زميلاتها مثل «نولا» الكندية، وبداية انشغالها بالبحث في المسرح، وأعتقد أن تلك هي بداية غرامها بالمسرح الذي يزداد اشتعالا على مر الأيام.
وفي أكتوبر حصلت نهاد على الدرجة، وإن كان موعد حفل تسليم الشهادة هو ديسمبر 1969م، وكنت أنا قد اتفقت مع كريستوفر سالفسن
Salvessen
وهو مدرس (محاضر) في جامعة ردنج ومؤلف كتاب شهير عن وردزورث هو
The Landscape of Memory
على تسجيل الدكتوراه اعتبارا من يناير 1970م؛ أي بعد انتهاء نهاد من الماجستير، وحتى أكون قريبا من محل العمل، واتفقت أنا ونهاد على الانتقال إلى ردنج؛ فلقد أحبت الريف وأصبحت تكره الزحام في المدينة، كما كانت تتطلع إلى العودة إلى العمل بعد الانتهاء من الدراسة. وكان سالفسن اسكتلنديا لطيف المعشر، وافق على الموضوع والعنوان، ووافق رئيس القسم جوردون المتخصص في ييتس (
W. B. Yeats
الشاعر الأيرلندي المشهور) ولم يعد أمامنا في أكتوبر سوى البحث عن مكان للإقامة في أحضان الطبيعة خارج لندن.
4
ووجدنا شقة خالية وغير مؤثثة للإيجار في مجموعة من المساكن الجديدة التي أقامتها إحدى الشركات العقارية في شارع داربي
Darby Road
الذي لا يبعد عن محل العمل إلا ميلا واحدا، ولا عن وسط قرية كافرشام إلا بضع مئات من الأمتار، ولكن المساكن كلها مقامة وسط الطبيعة الخلابة، وتحيط بها مساحات خضراء شاسعة، ويصطف الدوح على جنباتها، وكانت الطرق إما مرصوفة أو معبدة بالزلط، وعلى الجوانب مجار لمياه الأمطار تؤدي إلى خزانات أرضية حتى لا تتجمع في برك أو تنصرف إلى مجرى نهر التيمز
Thames
القريب من القرية، وكان هناك كل ما نحتاجه من الأثاث؛ منضدة تصلح مكتبا، وسرير، وبعض الكراسي، إلى جانب أدوات المطبخ (التي نقلناها معنا من لندن) واشترينا ثلاجة جديدة بنحو خمسين جنيها ما تزال تعمل عند أحد معارفنا (منذ نوفمبر عام 1969م) وكانت إيطالية الصنع ماركة إنديسيت (Indesit) ، كما ذهبت إلى أحد المزادات فاشتريت جهاز طهو (موقد وفرن) يعمل بالغاز الطبيعي بجنيهين وكان في حالة ممتازة، وقد أعطيته عند رحيلي لصديق فلسطيني يدعى دهام العطاونة، وما يزال يعمل، كما اشتريت من المزاد خزانة ذات أدراج بجنيهين، ومرآة كبيرة بجنيهين (تركناهما) ومرآة مستطيلة لا تزال لدينا بخمسة جنيهات، وباعني زميل عراقي درسوار
Sideboard (Dressoir)
ومنضدة وكرسيين وسجادة (كلها بأربعة عشر جنيها) وما يزال الدرسوار لدينا، وكانت الشقة لا تحتاج إلى تدفئة خاصة؛ فبالمنزل تدفئة مركزية، وكان الإيجار الشهري 26 جنيها.
واستقر بنا المقام في جو هادئ بل وشاعري، وسجلنا اسمينا عند أقرب طبيبة تابعة لهيئة الصحة الوطنية
National Health Service (مثل التأمين الصحي لدينا) واسمها مونيكا لاتو
Monica Latto
وكانت من اسكتلندا هي وزوجها، (وفي أوائل السبعينيات أهداها زوجها سيارة حمراء بمناسبة العيد الخمسيني لزواجهما، وفي عام 1997م قامت نهاد وابنتي سارة بزيارتها وكانت ما تزال في قيد الحياة) وكان خريف عام 1969م ذا جمال مذهل، وكانت نزهاتنا أنا ونهاد بمثابة نزهات في الحدائق؛ فحيثما يممت أشجار وبساتين، ولكل منزل حديقة أمامية وأخرى خلفية ، وكانت زيارتنا للندن تقتصر على الذهاب إلى المسرح، ولم تلبث مكتبتنا الخاصة أن امتلأت بالكتب، واشتريت جهاز تسجيل ضخما بالتقسيط، وجهاز تليفزيون أبيض وأسود؛ فالألوان لم تأت إلى التليفزيون إلا عام 1970م، وقنعنا به، وكنا نسعد بالبرامج الوثائقية في القناة الثانية لل
B B C
وبالأفلام التي تعلمنا منها الكثير، ولم يعد كشكول مصطلحات اللغة الإنجليزية يكفي التعبيرات الجديدة، فاشترينا كشكولا جديدا، وأهم شيء هو أننا لم يكن لدينا تليفون!
وبدأت أتردد على الكلية لمقابلة المشرف على الدكتوراه، وكان على النقيض من المشرف القديم تماما، كان شابا وكان الأول هرما، وكان بشوشا متواضعا وكان الأول يتصنع الابتسام فحسب، ولم أكن أتصور أن الطابع الاسكتلندي يختلف عن الطابع الإنجليزي إلى هذا الحد، وكان وجودي في بلدة الجامعة يتيح لي أن أمكث طول اليوم في المكتبة حتى يحين موعد العمل في المساء فأذهب وأترجم ما قدر لي أن أترجم ثم أعود، وقد أقص على نهاد طرفا مما ترجمته أو أناقشها في دلالة بعض الأحداث، وأذكر أننا كنا، ذات يوم من أيام رمضان، قد اتفقنا على إعداد طعام إفطار خاص، وبينما أنا أستعد للذهاب إلى المنزل، إذ جاء المشرف ليخبرني أن الرئيس بومدين قد ألقى خطابا ويريدني أن أترجمه، فقلت له إنني على موعد للإفطار مع زوجتي، فقال لي: «تفضل .. مع السلامة!» همس: «هل تحب أن تسهر سهرة رمضانية في ترجمة الخطاب؟» وضحكت وانصرفت. كان اسمه محمود سامي، وكان تركيا من قبرص يحسده الإنجليزي على نقاء لغته وجمال نطقه، وهو يكتب اسمه «ميموت» لا «محمود»، ولكن سامي لا خلاف عليها!
كان العمل بالترجمة - كما سبق أن قلت - بالغ التنوع؛ فقد يطلب من المترجم ترجمة نصية كاملة لخطاب سياسي؛ فالإنجليز لا يقتنعون بالترجمات المحلية التي تنقلها وكالات أنباء الشرق الأوسط مثلا، أو إعداد مقتطفات من حديث مطول، أو تلخيص تعليق أذاعته إحدى الإذاعات العربية، وكانت معظم المحطات العربية تسمع بوضوح في إنجلترا، كما كان الإنجليز يهتمون بما تذيعه إذاعة موسكو العربية، ويدخل ذلك في باب دراسة الرأي العام وتأثير الإذاعة فيه، وهو لا شك نشاط إعلامي وكل نشاط إعلامي له جانبه السياسي، ولكن جانب السرية منفي تماما عنه؛ فما تذيعه إذاعة ما، هو ما تريد له أن يعلن لا أن يخفى، وهي تريد للأخبار التي تذيعها أن تعرف وتعلن لا أن تكتم وتخفى؛ ومن ثم لم أكن أرى في عملي إلا مساهمة في ترجمة المادة المذاعة بالصورة التي أحب أن تصل بها إلى الأجانب، وكان البرنامج العام من إذاعة القاهرة لا يصل بوضوح إلى لندن، بخلاف صوت العرب، وكانت الأخبار متشابهة، بل إن صوت العرب سبق البرنامج العام يوم 7 أكتوبر 1973م في إذاعة البلاغ العسكري الذي يلخص نتائج العبور العظيم في اليوم السابق في الخامسة والنصف صباحا بتوقيت لندن، وحين ترجمته وأذاعته ال
B B C
نقلا عن راديو القاهرة - وقالت ذلك - كان سبقا إذاعيا؛ أي إن للمسألة جانبا إخباريا محضا كان يقنعني بسلامة الغرض من هذه الترجمة.
ولكن - إلى جانب الفائدة اللغوية - كان هناك جانب مهم هو الوعي بما يدور في العالم العربي، خصوصا في الجناح الغربي من الوطن العربي، وهي المحطات التي لا نكاد نتابعها في مصر، فازداد وعيي بقضايا دول المغرب العربي، وأذكر أننا يوم أول سبتمبر عام 1969م، وكان يوم الإثنين، ويوم عطلة تسمى عطلة البنوك
Bank Holiday
كنا في رحلة تابعة لنادي الطلاب العرب خارج لندن، فوجدنا صحف المساء تقول إن انقلابا حدث في ليبيا، وعندما عدنا إلى لندن سمعنا أنباء الثورة وسمعنا عن قائدها الأول سعد الدين أبو شويرب، قبل أن نسمع عن معمر القذافي، وفي آخر الأسبوع عندما ذهبت للعمل وجدت أوراقا ملفوفة، قيل لي إنها وكالة الأنباء الليبية باللغة العربية، وانهمكت في ترجمة ما بها فأحطت بمعلومات تزيد ألف مرة عما نقلته الصحف الإنجليزية. وتغير اسم الوكالة فيما بعد إلى وكالة أنباء الثورة العربية وتغير اختصار اسمها بالإنجليزية من
LNA
إلى
ARNA
وكان أهم «زبون» لما أترجمه هو مكتب الأخبار
News Bureau
الذي كان يرسل ما أترجمه بالتلكس إلى غرفة الأخبار الرئيسية في لندن لإذاعته مع ذكر مصدره.
إحدى رحلات نادي الطلبة العربي إلى الريف، ويبدو في الصورة إبراهيم فوزي ومحمد مصطفى رضوان وصلاح الغباشي وشاهيناز ونهاد ونجاة وسامي أبو طالب ومحمد نوح.
كما كنت أستفيد من الاطلاع على أخبار العالم؛ إذ كان يطلب من العاملين بالترجمة وبالتحرير أن يقرءوا أنباء اليوم والأمس حتى يعرفوا ما هو جديد، وحتى لا يترجموا «أخبارا» قديمة ظانين أنها جديدة؛ فالصحف لا تنشر كل شيء، وقد مكنني ذلك من متابعة وجهة النظر العربية والمصرية خصوصا عندما بدأت حرب الاستنزاف في صيف 1969م وبدأ المصريون يثبتون صلابتهم في التصدي للغطرسة الإسرائيلية، وكان الارتباط بإذاعة الوطن بمثابة الإبقاء على الحبل السري الذي انقطع لدى الكثيرين؛ فمعظم المصريين والعرب في الغربة لا يقرءون ولا يسمعون إلا ما تنقله وسائل الإعلام الغربية، وفي يونيو 1969م كنت قد أتممت عام التدريب وأصبحت ترجماتي موثوقا بها، ومنحوني ما يسمى «التثبيت» في الوظيفة
establishment
فانتقلت إلى مكتب الأخبار، وصرت المرجع في الأخبار المصرية، وكثيرا ما كنت أرفض الأنباء التي قد تسيء إلينا، مهما يكن من صحتها الظاهرية، محتجا بعدم دقتها، وأصبح رئيس قسم الأخبار الإنجليزي يثق بي، ورغم وجود مصري آخر معي هو عبد اللطيف الجمال في قسم الترجمة فعندما كان يقول «المصري» كان الجميع يعرفون أنه يعنيني. وكان في القسم بعض العرب من الأقطار الأخرى، وكثيرا ما كان النقاش الذي يصل إلى درجة الخلاف يدب بيننا باعتباري ممثلا للموقف المصري والمؤمن بمشروعية كفاحنا، وكان الإنجليز يحترمون ذلك، ولا يتعدون حدود العمل المهني والرسمي في معاملاتهم معي؛ فالآخرون متزوجون من أجنبيات وتحولوا على مر الأيام إلى صور باهتة (شاحبة؟)؛ لا هي عربية ولا إنجليزية، وكان شرينجهام - رئيس قسم الإنتاج - ذو الزوجة المصرية يعرف ذلك، وكان يعرفه رئيس الأخبار كلها!
وما إن حل عام 1970م حتى كانت نهاد قد نجحت في اختبار أمناء المكتبة - وهي مكتبة الأخبار بنفس المبنى - وبدأت العمل معي، غير أنها كانت تعمل في المواعيد العادية، وأنا أعمل وفقا لمتطلبات الأخبار في ورديات بعضها مسائي وبعضها صباحي، فكنا نذهب أحيانا إلى العمل معا ونعود معا، وأحيانا لم نكن نلتقي إلا في فترات الغداء في المبنى نفسه، وأحيانا كنت أصادفها عائدة إلى المنزل وأنا على وشك بداية الوردية.
5
وكان عام 1970م عام الصداقة الجديدة التي نشأت بيني وبين توم هيتون، وهو إنجليزي نشأ وترعرع في اليمن أثناء وجود والده مع القوات البريطانية في عدن، وكان يعرف اللغة العربية ويفهمها قراءة وكتابة، ولكنه لا يتحدث بها بطلاقة، وعندما تخرج في كلية المعلمين انتدب مفتشا (موجها) للغة الإنجليزية في اليمن أيضا، وكان ما يزال في مقتبل العمر، فنشأت بينه وبين رجال التعليم فيما كان يسمى باليمن الجنوبي أو جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية صداقة عميقة، رغم أنه كان يحمل جنسية رجال الاحتلال ويمثل الاستعمار ويرمز له في أعينهم، وكان نموذجا للتناقض بين مثل الإمبراطورية القديمة ونظرة «بريطانيا الجزيرة» (الدولة الأوروبية ذات السلطة المحدودة) منذ عام 1956م، وكان من الطبيعي أن نختلف حول كل شيء، سياسيا لما ذكرته من أسباب، واجتماعيا لأنه طلق زوجته الإيرانية وأرسل ابنه منها معها للتعلم في أمريكا، وأصبح يعيش مع امرأة تدعى جاكلين (وندعوها نحن جاكي) دون زواج، كان يتخبط في حياته بين الغرب والشرق، فهو لا يؤمن بالزواج؛ لأنه يرى فيه «مؤسسة اجتماعية» فاشلة، تتطلب من المشاركين فيها تنازلات متوالية دون أن تقدم لهم أية مزايا في مقابلها، وكان يردد دائما ما يعتبره مثله الأعلى وهو أن يعيش الإنسان لذاته لا لشخص آخر، فإذا لجأت أنا إلى طرح الحجج المعارضة قال لي “appease appease and you’re crushed!”
أي الإنسان يسعد غيره حتى يتحطم، ويبدو - والله أعلم - أن زوجته الإيرانية كانت ذات شخصية قوية فكان يضطر إلى إرضائها على حساب رغباته حتى انفصلا وأخذت الغلام وسافرت إلى أمريكا. أما علاقته بجاكي فتسمى
cohabitation
أي الحياة معا دون زواج، وكان يفضل ذلك النظام على الزواج؛ لأن الزوج أو الزوجة فيه لا يتعرضان لضغط «المؤسسة» وتبعاتها المالية، ويتوهمان (في رأيي) أنهما أحرار. ولا داعي للإفاضة في رأيي هنا، فقد قلته ذات مرة لعلي النشار، المهندس العبقري الذي تزوج إنجليزية وهاجر معها إلى أمريكا؛ إذ قلت له: «إنني أدعو لكل من أحبه أن يرزقه الله زوجة مثل نهاد.» وكان رده أن الاستثناءات لا يقاس عليها!
عندما التحق توم هيتون بقسم الترجمة كان يواجه صعابا كثيرة في فهم اللغة العربية، وكان يلجأ إلي حتى أشرح له، كما كان يكتب إنجليزية غير نقية، وغير سلسلة، وكان مرد ذلك في رأيي إلى طول عمله بالتعليم؛ فتعليم اللغة الإنجليزية يورث المرء قدرا كبيرا من التزمت فيما يتصور أنه صحيح أو خطأ، بل ويحد من النماذج اللغوية التي يتصور فيها الصحة، مما يقطع الأسباب بينه وبين اللغة الحية على ألسنة الناس وفي الصحف، وكان يدهش للسلاسة التي أكتب بها تلك اللغة، خصوصا حين اطلع على الفصل الأول من رسالة الدكتوراه وحديثي عن تنوع الأساليب الشعرية بتنوع الأنواع الشعرية في أواخر القرن الثامن عشر. وكانت هيلاري وايز المتخصصة في علم اللغة ومؤلفة كتاب «النحو التحويلي للعربية المصرية» ما تزال تجمع المادة عن العامية، وتتصل بي أنا ونهاد حتى نزودها بالمعلومات التي تريدها عن تلك «اللغة» (أو عن ذلك المستوى اللغوي) وأذكر أنها زارتنا ذات يوم في المنزل، فاطلعت على تحليلي للأساليب المذكورة وعجبت كيف يتسنى لي أن أقيم تلك الفروق بين أسلوب السرد مثلا وأسلوب الوصف وأسلوب التأمل، واقترحت علي أن أستعين بالكمبيوتر في الإحصاءات فقلت لها إنني أتصدى للنصوص الحية، لا لعدد من الكلمات التي تحصى وتعد، فقالت ولكنك تحصي الصفات وتصنفها وتحصي الأفعال والتراكيب وتصنفها، فجعلت أشرح لها كيف أفعل ذلك من داخل النص لا من خارجه، ولكنها أصرت على أهمية الكمبيوتر في ذلك الجهد، وهو ما لا أسيغه حتى الآن.
وفي يونيو كنت قد كتبت الفصل الثاني في صورته الأولى، وكنت كشأني دائما طموحا لا أغفل أدق التفاصيل (وكان أستاذي السابق رحمه الله يقول لي إنك تبغي الكمال فيما لا كمال فيه) وما إن حل أول يوليو حتى وصلنا خطاب من الدكتور نوح الذي كان قد انتقل إلى إدنبره مع أسرته يدعونا إلى زيارته، وكانت فرصة ذهبية لقضاء أيام عطلة في شمال إنجلترا وفي اسكتلندا، فأخذنا الأتوبيس السياحي أنا ونهاد الذي يغادر محطة فكتوريا في الثامنة مساء ويصل إلى إدنبره في الفجر، وغلب النعاس نهاد في أول الطريق، ثم استيقظت في نحو الثالثة وهي تقول لي (وقد غفوت من اهتزاز الأتوبيس): انظر الجبال وألوان الشفق في حي البحيرات! كان مشهدا يخلب اللب، وأفاق معظم الركاب وأخذوا يشهقون للجمال المذهل، وبعد ساعة تقريبا وصلنا إلى إدنبره، وضوء الصباح يتسلل من وراء الجبال، ولم تلبث الشمس أن طلعت، فذهبنا إلى منزل الدكتور نوح، وكان قد استأجر منزلا كاملا، فأيقظنا أهل الدار، وأوصلتنا «فتان» زوجته إلى غرفتنا (إذ أصروا على استضافتنا لديهم) فنمنا ساعة أو ساعتين، ثم صحونا في نحو التاسعة لنبدأ اليوم الجديد!
في رحلة إلى الجنوب عام 1973م.
وسمعنا ونحن نشرب الشاي الدكتور نوح يقول لزوجته هل أتى الدكتور حامد باللحم؟ وردت عليه ردا لم أسمعه، ثم جاءت الفتاتان راندا ورحاب مع خالد الصغير ليسلموا علينا، وطبعا سألته عن موضوع حامد! كان حامد يدرس الطب في إدنبره، وينطبق عليه تماما قول طه حسين في الأيام: «قضى عشرين سنة لم يظفر بالدرجة ولم يستيئس من الظفر بها.» وكان قد اكتشف أن العرب والمصريين يحبون الكوارع و«لحمة الرأس» والسقط، فصار يعمد في الصباح الباكر إلى السلخانة؛ حيث يقابل صديقا باكستانيا يذبح الحيوانات بالطريقة الإسلامية، فيزوده بهذه الأشياء مقابل قروش زهيدة، ثم يمر بها على بيوت العرب والمصريين لتوزيعها عليهم، بأسعار «معقولة»، وتدريجيا أصبح يأتيهم باللحم كذلك مقطعا بالطريقة الشرقية، فراجت تجارته، واشترى منزلا، لكنه لم ينس أبدا دراسة الطب، فإذا قال له أحدهم: «عد إلى مصر.» غضب غضبا شديدا وقال: كيف أعود دون الدكتوراه؟
وبعد نزهة في ربوع إدنبره عدنا إلى المنزل لنستمع إلى أخبار حرب الاستنزاف، وكانت تلك أيام إسقاط الطائرات الفانتوم الإسرائيلية، وكان الدكتور نوح لديه راديو رائع نسمع فيه مصر بوضوح، وكانت أجهزة الإعلام البريطانية تشير إلى إسقاط هذه الطائرات بنسبة الفضل لا إلى مهارة المصريين بل إلى عظمة الأسلحة السوفيتية، وكنا نغتاظ مما يقوله المذيع مثلا من أن «الصواريخ السوفيتية أسقطت الطائرات الإسرائيلية» وهو لا يقول «السوفيتية الصنع» ولا «الطائرات الأمريكية» كأنما كان الاتحاد السوفيتي هو الذي يتصدى لإسرائيل! ومع ذلك فقد كان العرب جميعا جذلين مستبشرين، وبعد السياحة في اسكتلندا بدأنا جولة في حي البحيرات، وزرنا كوكرماوث
Cockermouth
مسقط رأس وردزورث، وكنت أنطق اسم البلدة النطق الشائع في جنوب إنجلترا؛ أي بإدغام الميم والثاء، ولكن أهل البلدة كانوا ينطقون الاسم «ماوث» (بمعنى مصب، وهي اللاحقة التي تدخل على أسماء الأنهار) فعجبت لذلك، ثم ذهبنا إلى كيزيك
Keswick
وسرنا على الأقدام (مثل الشاعر) حول بحيرة صغيرة محيطها 11 ميلا قطعناها في ثلاث ساعات، ثم زرنا بحيرة وندرمير
Windermere ، ووقفنا تحت جبل سكيدو
Skiddow
الذي يذكره الشاعر كثيرا، وأخيرا ركبنا الحافلة وعدنا إلى لندن، متوقفين بكبرى المدن الإنجليزية في طريقنا.
وفي أواخر يوليو توقفت حرب الاستنزاف، بعد أن أعلن عبد الناصر في خطاب عيد الثورة قبول مصر لمبادرة روجرز وزير الخارجية الأمريكي، الذي كان يتوسط لعقد اتفاق سلام بين العرب وإسرائيل؛ بحيث يسري وقف إطلاق النار اعتبارا من 7 أغسطس، وكان السد العالي قد اكتمل قبل عيد الثورة بيومين، فتفاءلنا بهذه الأنباء الطيبة، ولكن الصراع بين الفلسطينيين وحكومة الأردن تصاعد بعد ذلك، بعد أن رفض المجلس الوطني الفلسطيني مبادرة السلام، يوم 28 أغسطس، وبدأ القتال بين الفلسطينيين والأردنيين يوم 7 سبتمبر (أيلول الأسود) وقام الفلسطينيون باختطاف طائرتين؛ إحداهما بريطانية وكانت متجهة إلى نيويورك، وأطلقوا سراح الرهائن ثم فجروا الطائرة، مما جعل أجهزة الإعلام البريطانية لا تتحدث إلا عن «الإرهاب» بتحيز واضح ومزعج، ولما اشتدت حدة القتال أمر الملك حسين الدبابات بالنزول إلى شوارع عمان، فانسحب رجال منظمة التحرير الفلسطينية وبسطوا سيطرتهم على المدن الواقعة في شمال الأردن، وكانت الأنباء تقض مضاجع العرب في كل مكان، فتدخل عبد الناصر في أواخر سبتمبر، ودعا إلى عقد مؤتمر قمة عربية في القاهرة، وتوجت جهوده بإحلال السلم بين الجانبين يوم 26 سبتمبر، وبدأ رحيل الزعماء العرب، وبعد توديع أمير الكويت يوم 28، أصيب بنوبة قلبية لم تمهله.
كان ذلك يوم الإثنين، وكنت أغفو دقائق قبل استئناف القراءة، وكانت نهاد تسمع أخبار التليفزيون حين صاحت صيحة ارتجت لها أرجاء المنزل، فهببت من غفوتي أسألها ما الخبر، وعندما علمت لم يكن في أيدينا سوى البكاء. وقالت نهاد: «لا بد أن أعود إلى مصر، ما الذي سيحدث الآن؟» وقامت فارتدت ملابس الخروج وارتديت ملابسي وخرجنا نسير في الطرقات، كمن يهيم على وجهه حائرا لا يدري أين تقوده قدماه، لم نكن نتوقف ولا ننظر إلى ما حولنا، ولم نكن نتبادل أي كلمات مهما تكن؛ فالحزن العظيم لا يعبر عنه سوى الصمت، وكان الليل قد حط وأظلمت الحوانيت وأغلقت الأبواب، ومررنا بحانة كان عهدي بها صاخبة متلألئة فخيل إلي أن الحزن يرين بأثقاله عليها، وعبرنا النهر ووصلنا إلى محطة القطار، وكانت الساعة قد جاوزت العاشرة مساء، وعندما سمعنا هدير القطار وقفت نهاد وقالت: «لو كان يستطيع أن يحملني الآن إلى مصر!» ثم قفلنا راجعين فلم ندخل إلى المنزل إلا بعد منتصف الليل وقد بلغ بنا الإرهاق مبلغه.
كان موعدي يوم الثلاثاء 29 / 9 مع المشرف لأسمع رأيه في الفصل الثاني، فذهبت متثاقلا لا أكاد أحس بالرغبة في لقائه، وعندما دخلت غرفته في الثانية تماما رحب بي وكان قد فتح الفصل أمامه، ثم قال: «أراك اشتققت لنفسك منهجا خاصا في تناول الأسلوب.» وكان مثل هذا التعليق يوحي بالاعتراض ولكنني قبل أن أفتح فمي قال: «ولكنك أحسنت استخدامه.» ثم تصفح الفصل وتوقف عند كلمة مركبة كتبتها وهي
highly-rated
وقال: «هل تعرف أن هذا التعبير أمريكي؟» وكانت لهجته حادة، فأنكرت أنني كنت أعلم ذلك، فأشار إلى معجم ضخم مفتوح أمامه وقال لي: «تفضل! اقرأ هذا الباب!» وقلت له إن تغييرها ممكن فقال ببسمة صافية: حذار من هذه «المطبات»! ولم يلبث أن قال: ولماذا تستخدم تعبيرا مثل
severe objurgations
والبدائل السهلة متوافرة؟ فاعتذرت من جديد، وفجأة قال لي: يبدو أن العرب قد صدموا لوفاة عبد الناصر! وشرحت له الموقف فأبدى تفهمه، وسلمني الفصل وقال لي: هل ستسافر إذن إلى مصر؟ فقلت له لا ولكن زوجتي ستسافر، وانصرفت.
6
وفي يوم الخميس الأول من أكتوبر سافرت نهاد إلى لندن لحضور الجنازة الرمزية التي صاحبت جنازة عبد الناصر في القاهرة، وكانت ترتدي ثياب الحداد وتلبس نظارة سوداء حتى لا يرى أحد آثار البكاء، وقصت علي قصص الأحزان الرهيبة التي أعرب عنها العرب وغير العرب من المتعاطفين معنا وكان من بينهم فتاة إنجليزية متزوجة من عراقي، وكانت تبكي عبد الناصر بكاء الحبيبة لحبيبها، وكان طابور الناعين غير مسبوق، فكأنما كانت مظاهرة إيمان بما كان الراحل يرمز له، لا مجرد تعبير عن الحب والصدمة. وبدأت نهاد في اتخاذ إجراءات العودة إلى مصر لرؤية ما جرى لها بعد رحيل القائد والأب الروحي، فذهبنا إلى المكتب الثقافي يوم الجمعة للحصول على خطاب إلى شركة مصر للطيران حتى يمنحنا تخفيضا، ولكن الزحام على الشركة كان غريبا، ولم تكن هناك أي أماكن خالية قبل ديسمبر، فقنعنا بذلك، وحجزنا التذكرة وعدنا.
وعندما عدت وجدت خطابا من خالي عبد الحليم (التاجر) يقول لي فيه إنه في لندن وإن معه ضيفا هو رئيس مجلس إدارة الشركة التي أصبح خالي مستشارا فنيا فيها بعد «تأميم» تجارته، وإنه يتوقع أن يراني، فذهبت إليه صباح السبت، وبادرني قائلا: من ترى سيخلف عبد الناصر؟ وقلت إن نائب رئيس الجمهورية هو أنور السادات، فقال: «لا لا .. السادات ما ينفعش.» ولم أشأ أن أناقشه في السياسة؛ فالواضح أنه كان يريدني في «مأمورية» خاصة، واتضح أنها كانت تتعلق بالترجمة بين رئيس الشركة وبين بعض الشركات الإنجليزية التي كان يريد شراء بعض المستلزمات منها (الكيمياويات وأدوات المعامل)، وأكد لي خالي رحمه الله ألا أفصح عن تفاصيل المفاوضات، وأن أكتم الأمر؛ فذلك الشخص مهم وعلى علاقة خاصة بالكثيرين من «الكبار»، وفعلا لم أفتح فمي بكلمة عما دار حتى هذه اللحظة، وسوف أبقي اسمه سرا حتى بعد ثلاثين عاما، وبعد أن توفي، رحمه الله.
عندما اصطحبت الزائر الكبير يوم الثلاثاء التالي (6 / 10) إلى أول شركة قال لي بلهجة من اعتاد الأمر والنهي: «سوف أكافئك ماليا على عملك، ولكن لا تقل لخالك.» ولم أعقب. وفي مكتب رئيس الشركة الإنجليزي دارت أولى المفاوضات التي لم تستغرق إلا ساعة أو بعض ساعة، وكانت تتلخص في أن تقوم الشركة الإنجليزية بتوريد كميات كبيرة من مادة كيميائية معينة إلى الشركة المصرية بسعر سبق الاتفاق عليه، وأن تحول الشركة المصرية الثمن إلى البنك الذي حددته الشركة الأجنبية حالما يتأكد الخبراء من مطابقة الشحنة للمواصفات المطلوبة، على أن تحول الشركة الإنجليزية العمولة الخاصة برئيس مجلس الإدارة إلى بنك حدده الزائر الكبير في ألمانيا. لم تكن هناك أي صعوبة في الترجمة، وكان الحوار سهلا وميسرا، وعجبت من ضرورة الزيارة إذا كان الاتفاق قد تم سلفا عن طريق الخطابات، وكنت أترجم ما يسمى بالترجمة التتبعية
consecutive
أي إنني كنت أدون ما يقال باختصار، ثم أترجمه ترجمة دقيقة، وسرعان ما اتضح لي السبب الحقيقي للزيارة؛ إذ إن الزائر الكبير كان يريد أن يرفع نسبة العمولة من 5٪ إلى 10٪، وعندما ترجمت هذا الجزء من الحوار اعترض التاجر البريطاني وقال: ولكننا اعتدنا دفع 5٪ فقط إلى جميع زملائك، فرد الزائر الكبير قائلا: وهل كانوا يمنحونك التسهيلات التي سوف أمنحها لك؟ وتساءل التاجر الإنجليزي عن نوع هذه التسهيلات، فأخرج الزائر الكبير ورقة من جيبه وقال لي: ترجم! وكانت الورقة تقول (وهي مكتوبة بخط اليد): إن الشركة المصرية تقبل أن يكون تركيز المحلول الكيماوي أقل من التركيز المعتاد، وهو مما لا يدرج في قائمة المواصفات، مما يوفر للشركة نسبة كبيرة من التكاليف، كما أن ذلك سوف يسمح بتعبئة المحاليل في زجاجات بلاستيك وهي أرخص كثيرا من العبوات الزجاجية المعهودة. وبدت الدهشة على وجه التاجر وبدا عليه التردد، وراجعني فيما قلت علني أكون قد أخطأت، ولكنني أكدت له ما ورد في الورقة، فقال لي: آسف! لا بد أن أتكلم في التليفون. واختفى.
ومكثنا صامتين ننتظر والزائر الكبير يؤكد ضرورة عدم الإفصاح لخالي عما دار في هذه الجلسة، وقد أجبته إلى ما طلب، وعندما عاد التاجر الإنجليزي قال : لا بأس! ولكن أرجو المرور غدا لتوقيع عقد جديد بحضور المحامي، فابتسم الزائر الكبير وقال فليكن. ونهضنا فقال الآن نذهب إلى شركة أخرى.
وتكرر ما حدث مع التاجر الإنجليزي الأول غير أن الزائر الكبير طلب رفع النسبة إلى 7٪ فقط، وعجبت في نفسي، واتضح من الحوار أنه قد دبر ما يلي: الصفقة كانت توريد ميكروسكوبات، وهذه تصنع وفقا للطلب
by order
وقد يستغرق تصنيعها شهورا أو عاما كاملا، وقد اتفق رئيس مجلس الإدارة (الزائر الكبير) مع أعضاء المجلس على صرف الثمن كله (full disbursement)
حالما تصل أول دفعة من الصفقة، مما يتيح للمال أن يوضع في البنك ويدر أرباحا قدرها نسبة 6٪، تذهب نسبة 3٪ منها إلى التاجر، مطروحا منها 1٪ لقاء الدفعة الأولى، و2٪ تضاف إلى عمولة رئيس مجلس الإدارة، ومثلما فعل الأول قام التاجر بإجراء اتصال تليفوني (لعله بالمحامي) ثم عاد ليعلن موافقته. وخرجنا على أن نمر في اليوم التالي لتوقيع عقد جديد.
وسألته ونحن في الطريق إن كان تخفيض نسبة التركيز في المحلول سوف يؤثر على فاعليته فضحك وقال: «إطلاقا! لا تكن ساذجا مثل خالك! هذه المحاليل لا تستخدم في الصناعة، ولكنها تستخدم في المختبرات المدرسية، ونحن نوردها للمدارس والجامعات فقط! فهل تتصور أن المدرسة سوف تعرف قوة تركيز المحلول؟ ولو عرفت فهل يؤثر ذلك في شيء؟ لسوف يذيب الحامض ما يوضع فيه مهما كان تركيزه! لا تكن حنبليا!» وضحكت حتى أخفف من توتر الموقف، ثم عدت أقول ضاحكا حتى لا أغضبه: «كان عندنا مدرس اسمه شكري ديمتري يستطيع معرفة قوة تركيز المحلول!» وأطلق ضحكة مجلجلة ونحن في قطار المترو، ثم قال: «وفيه كام شكري ديمتري في مصر؟» ثم همس لي: «وحتى لو عرف المدرس ذلك، فسوف نناقشه ونشكك في نتائجه، فإذا أصر أرسلنا له زجاجة أخرى من زجاجات ألمانيا الشرقية!»
وعندما قابلت خالي سألني عن المفاوضات وهل كللت بالنجاح فأكدت له أن الزائر الكبير قد أبرم اتفاقياته بنجاح وربما لن يحتاج إلي في اليوم التالي، ولكنه اتصل به تليفونيا فقال له إنه يريدني لمهمة أخرى ، فذهبت إليه يوم الأربعاء، فقدم لي ورقة مالية بخمسة جنيهات، فقلت له إنني لا أتقاضى أجرا على ذلك، وإن شئت فإن أجري اليومي في الترجمة 18 جنيها! فضحك وقال: «أنت لا تعرف مدى نفوذي وسلطتي في مصر.» فأسرعت أقول: فاعتبر خدماتي هدية مني إليك! وقال في اللحظة نفسها: «هدية مقبولة!» ثم تواعدنا على اللقاء في اليوم التالي، وقابلني هاشا باشا وقال: «أنتم ناس طيبون، وأنا أساعد خالك؛ لأنه ب «يعرف ربنا» رغم ما أعلمه عنه من علاقة مع التجار الألمان، ولكنني ساندته وحميته من بطش عامر.» وانطلقنا فوقعنا العقدين ، ثم رحل الزائر الكبير مع خالي إلى ألمانيا أولا ثم إلى مصر، وعندما عدت إلى نهاد لم أشأ أن أعكر صفو أحزانها على وفاة عبد الناصر، ولم أشأ أن أقول لها ما يحدث في القطاع العام، وإن كان في أعماقي صوت داخلي يهتف: أين أنت يا عبد الناصر حتى أقص عليك ما رأيته وما سمعته؟! رحم الله عبد الناصر.
وشغلت نهاد في الخريف بالاستعداد للسفر، وكان يبدو لي أنها كانت تريد أن تطمئن إلى أن مصر ما تزال حية ترزق بعد وفاة عائلها، أما أنا فشغلت بترجمة خطابات السادات في عطلة نهاية الأسبوع، وبدراسة مسرح القرن الثامن عشر في إنجلترا ساعات طويلة كل يوم في مكتبة الكلية، تمهيدا لكتابة الفصل الثالث عن مسرحية «سكان الحدود»
The Borderers
التي كنت أراها شيكسبيرية المذاق، ولا تكاد تنتمي إلى القرن الثامن عشر إطلاقا!
وسافرت نهاد، وعندما عادت كانت قد شفيت تماما من الحزن، بعد أن ذاقت الأمرين في محاولة استخراج تأشيرة الخروج من المجمع، وكانت تتردد عليه يوميا حتى يسمحوا لها بالسفر، ولولا جهود الأستاذ صليحة والدها رحمه الله ما خرجت ثانية من مصر. لكن تلميحاتها هذه المرة كانت واضحة؛ فالكل في مصر يتساءل عن عدم إنجابنا للأطفال، وكان لسان حالها يقول «أريد طفلا!» وكذلك كان لسان حالي أيضا!
7
لا شك أن السنوات الأربع التي عشناها معا دون أطفال قد قربت بيننا كثيرا فكانت نهاد لي نعم الصديق، وكانت قراءة الكتب معا والذهاب إلى المسرح معا من الظواهر الفريدة بين الدارسين المتزوجين هنا، ولأختم هذا الفصل بحادثة ما تزال تختزنها ذاكرة نهاد «الانتقائية» (
eclectic ) وإن كنت غير واثق من أسس اختياراتها.
حدث في صباح يوم أحد، وكنا نقرأ معا صحف نهاية الأسبوع أن دق أحدهم الباب فقمت إليه فإذا برجل وامرأة طاعنين في السن يلقيان علي تحية الصباح، ثم سألاني: أنتم مؤمنون بالله؟ فخفت أن يكونا من «شهود يهوه» وهي طائفة يرميها الناس بالخبل، فأسرعت أقول نحن مسلمون! فابتسم الرجل وقال: إذن تؤمنون بالله. وتقدم للدخول مع المرأة! لم أستطع منعهما ونهضت نهاد فرحبت بهما وصنعت لهما الشاي، وما إن جلسا حتى انطلق كل منهما يتحدث بإسهاب عن الفرق الدينة التي بلغ عددها - فيما قالا - 250 فرقة وطائفة، وحدست ما يرميان إليه؛ فمن المؤكد أنهم سيقولان إنها جميعا ضالة، وإنهما ينتميان إلى الفرقة الناجية، بل وسوف يدعواننا إليها. وصح ما توقعته وإن كانا قد استغرقا وقتا طويلا في التمهيد للدعوة. أما ما يعتبرانه الفرقة الناجية فهي المورمونية، أو طائفة الملاك مورمون، وسوف ألخص فيما يلي ما قالاه؛ إذ أفادني فيما بعد، دون أن أدري، في فهم أحد التيارات الرئيسية في الفكر الغربي وهو التيار الديني.
بدأ العجوزان الحديث بانتقاد أخلاق أهل العصر، والقطع بأن مرد ذلك كله إلى نضوب معين الحياة الروحية لدى الجميع؛ لأن الدين تحول إلى مؤسسات بشرية، تخضع لأهواء المفسرين، وقد تنحرف هذه المؤسسات حتى لو صدق القائمون عليها؛ لأنهم بشر وشيمة البشر الخطأ، والدين في رأيهما نبع متجدد ولا يجب أبدا أن يقول أحد بانقطاع الوحي؛ فالله الذي خلق العالم لم يتركه في أيدي الكهنة بل يوحي دائما إلى كل روح بالرؤى التي تساعدها على إدراك جلالته وعظمته، والإسلام في رأيهما شاهد على ذلك؛ فالمسلم يتوجه إلى ربه بالصلاة وحده، ويتحمل وحده أوزاره، ويثاب على فعاله أو يعاقب، مهتديا بضميره وبالروح التي هي قبس من روح الله.
وبدأ الضيفان في دعوتنا إلى تأمل المورمونية التي تقول إن الروح إذا نمت وترعرعت أصبحت إلها؛ ولذلك فإنهما يؤمنان بأن في أعماقنا آلهة كثيرة هي الأرواح التي تدفعنا إلى فعل الخير وتصرفنا عن ارتكاب الشرور، ودعيانا إلى تأمل تعاليم الملاك مورمون وهي التي يضمها سفر مورمون الذي ترجمه (القديس) جوزيف سميث في أمريكا في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وتعاليمه لا تتناقض في رأيهما مع الإسلام؛ فهي تدعو إلى تعدد الزوجات، وتعدد وجهات النظر، وقالا إن الخلاف والاختلاف من سمات البشر؛ ولذلك فالدين الحقيقي لا بد أن يسمح بذلك وهذا هو ما تدعو إليه المورمونية ، ونظرت في ساعتي ثم نهضت إيذانا بانتهاء الزيارة فنهضا وانصرفا!
وكان لدينا في العمل شاب أمريكي يدعى «ألان» (ولا أعرف له اسما آخر) أشيع عنه أنه مورموني، فسألته عما سمعته من العجوزين فقص علي القصة بالتفصيل، قبل أن أقرأ عنها بعد عشر سنوات في قصص شرلوك هومز (هولمز) التي كتبها السير آرثر كونان دويل
Doyle
البريطاني، وموجزها أن في الولايات المتحدة مؤسسة كنسية تسمى كنيسة القديسين المتأخرين
Church of Latter-Day Saints
تؤمن بأن هناك سفرا يسمى سفر مورمون
Book of Mormon
تعتبره تلك الكنيسة من أسفار الكتاب المقدس وإن كان لم «ينزل» إلا في القرن التاسع عشر على رجل يدعى جوزيف سميث فترجمه في عام 1930م، ونشره في بالميرا
(تقابل تدمر العربية) بولاية نيويورك في العام نفسه، وقيل إن الكتاب المذكور مترجم عن اليونانية القديمة، وقيل عن العبرية، وقيل عن غيرها، ولكن إثبات ذلك محال؛ لأن تلك النصوص المزعومة قد فقدت، والكتاب يقص قصة هجرة مجموعة من اليهود (العبرانيين) إلى أمريكا، من القدس، في عام 600 قبل الميلاد، بقيادة نبي يدعى «ليحي»
Lehi ، ثم انقسم المهاجرون إلى طائفتين؛ الأولى هي اللامنيون
Lamanites
الذين نسوا عقائدهم وأصبحوا من الهمج والبرابرة، ومن نسلهم انحدر الهنود الحمر الذين وجدهم كريستوفر كولومبس في أمريكا، والثانية هي النفيتيون
Nephites
الذين أخذوا بأسباب الحضارة وبنوا المدن العظيمة، وأصبحت لهم ثقافتهم الخاصة، وتركوا آثارا رائعة، ولكن اللامانيين كانوا لهم بالمرصاد فلم يكفوا عن محاربتهم حتى قضوا عليهم في عام 400 الميلادي تقريبا، ولكن الكتاب المذكور يقول إنهم قد استقوا تعاليم المسيحية الحقة عن يسوع بعد رفعه إلى السماء، وكتبها نبيهم مورمون على ألواح من الذهب الخالص، إلى جانب تاريخ الطائفة بطبيعة الحال، وتركها مورمون لابنه موروني الذي أضاف كتابات أخرى إليها ودفنها في الأرض حيث مكثت 1400 سنة، حتى كتب لها أن ترى النور من جديد على يدي موروني نفسه الذي بعث من مرقده وكان يتخذ صورة ملاك حينا وصورة نبي حينا آخر، فأسلمها إلى جوزيف سميث الذي سارع بترجمتها قبل أن تختفي إلى الأبد.
وسألت روجر كولمان (الكاثوليكي) عن رأيه في هذا الكلام فضحك وقال إن كل ما يعرفه هو أن المورمونيين لا يشربون الخمر ولا يأكلون لحم الخنزير! وسألت آخرين من البروتستانت فقالوا لي إنهم يعتبرون المورمونيين كفارا، وكنت في المكتبة أنظر أصل القصة حين خطر لي أن أسأل أحد الأمريكيين؛ ففي أمريكا ما لا يقل عن خمسة ملايين من أتباع هذه الطائفة، وسألت عن زميلة لنا من أمريكا تدعى إليزابيث فقالت لي السكرتيرة: «آه! المورمونية؟» فقلت في نفسي: «يا محاسن الصدف!» وسعيت إليها حتى قابلتها، وكأنما كانت تتوقع مني الهجوم على العقيدة؛ إذ بادرتني قائلة: «ليس صحيحا أن العقيدة مستوحاة من رواية القس سولومون سبولدينج، وليس صحيحا أنها من ابتكار جوزيف سميث، فهذه من تخرصات أعدائنا الذين وطنوا النفس على الكفر والإلحاد!».
وأكدت لها أنني لم أقرأ تلك الرواية، وأن كل همي هو أن أعرف المزيد عن العقيدة لا أن أطعن فيها أو أدرس تاريخها، وعندما شعرت أنني صادق صحبتني إلى الكافيتريا حيث اشترى كل منا فنجان شاي وشرعت تقول: «مذهبنا الراهن مذهب روحي، وهو يفرض على الفرد مسئولية روحية يتخطى بها تكاليف (بمعنى طقوس) الكنيسة، وأكبر دليل على ذلك تجاوزنا للنظم الكنسية التي تقوم على اعتبار الجسد دنسا، وما دامت الروح طاهرة فلا بد أن يكون مسكنها طاهرا، والطهارة في مفهومنا تعتمد على الماء؛ فالتعميد يجري بغمر الجسد في الماء، والاستحمام من وسائل التطهير المؤكدة، ونحن نفضل المأكولات الطاهرة مثل الفواكه والخضر، ومعظمنا نباتيون، ولا نشرب الخمر؛ لأنه يغير من الفطرة وكل ما يلوث الفطرة أو يدنسها فهو نجس، ونحن نؤمن بالخير الذي يتجلى في الحرية والإنجاب والتواصل؛ ولذلك نؤمن بتعدد «رفقاء المضجع» استجابة للفطرة ونبذا للحرمان وتحقيقا للإشباع الروحي.»
وأسهبت إليزابيث وأطالت، فأدركت أن شيوع المذهب دليل على جاذبية خاصة فشكرتها، ولكنني عندما أردت الانصراف قالت لي: «إذا أردت أن تعرف المزيد فارجع إلى الأستاذ ماثيوز الذي يعتبر حجة في تاريخنا.» وقد فعلت ذلك في نفس اليوم، فقال لي دهشا: «ومتى كان المسلم مهتما بالمورمون؟ لا بد أنه التعطش للمعرفة!» ولكن ما قاله كان مذهلا! قال ماثيوز إن المورمونيين يشككون في صحة ترجمة الكتاب المقدس، وإن سفر مورمون الذي يزعم جوزيف سميث أنه ترجمه عن أصل مفقود لا يمكن أن يكون كتابا مقدسا؛ فهو «محاكاة شعرية» لأسفار العهد القديم ويقوم على فكرة «الدائرة»؛ أي إن التاريخ يسير في دوائر، فالناس تنزع إلى الخير في أول الزمان ومن ثم تحيا في رغد من العيش، ثم تنزع إلى الشر فيصيبها البؤس والهلاك، ثم تتوب فيعود العيش الرغد وهكذا، وأما الكتابان اللذان يزعم جوزيف سميث أنه اكتشفهما وهما كتاب إبراهيم وكتاب موسى وأدرجهما في كتاب له لم يستكمل تأليفه، (واسمه لؤلؤة غالية الثمن) (Pear of Great Price) ؛ فقد اكتشف العلماء منذ أعوام قليلة أنهما منقولان عن كتاب الموتى الذي وضعه قدماء المصريين، وكانت بعض أجزائه المترجمة بعد اكتشافه وحل رموز اللغة المصرية القديمة قد نشرت في أوروبا في أواخر عهد سميث، ولا أدل على ذلك من البردية التي صورها سميث (أو من خلفه) ووضعها في صدر كتابه إذ أكد الخبراء أنها تزوير في تزوير، وأن ما بها لا يعدو أن يكون ترجمة حرفية عن الترجمة الفرنسية للشعائر الجنائزية المصرية، وقد أعيد اكتشاف البردية المصرية التي تتضمنها في متحف متروبوليتان للفن بنيويورك عام 1966م، وقام الخبراء بمضاهاة ما جاء فيها بالبردية التي يزعم سميث أنها البردية الأصلية.
أما أخطر ما نبهني إليه ماثيوز في هذا كله فهو ما لم يفصح عنه الزائران المسنان، ولا ألان، ولا إليزابيث، ألا وهو أن «الطهارة» التي كانت تتحدث عنها تنطبق أيضا على لون الجلد، فلم يذكر لي ألان، ولا وجدت في المراجع التي أوصاني بقراءتها، ما يدل على أن اللامانيين كانوا من ذوي الجلد الداكن؛ ولذلك فقد دفعهم «الخبث» بمعنى الحطة المتأصلة في فطرتهم إلى التمرد والهمجية، في حين اتجه النفيتيون ل «كرم» متأصل في لونهم الأبيض إلى بناء الحضارة والتمدن، وإذا كانت الدورة (الدائرة) الأولى قد كتبت الغلبة للشر فانتصر الهنود الحمر على ذوي البشرة البيضاء (الطاهرة ) فلقد أتت الدورة الثانية بالنصر لأصحابه، وأصبح الخير ظافرا في ولاية «أوتاه» (Utah)
الأمريكية، ثم ساد القارة كلها، حتى «تلوث» أخيرا بسبب الهجرة من أفريقيا!
وعندما فرغت من تأمل هذه الحقائق اتجهت إلى كتاب في التاريخ يؤكد نظرة الأستاذ المتخصص والموضوعي، وعندما قرأت بعد عودتي إلى مصر بعدة سنوات أن السلطات الكنسية العليا سمحت للملونين (بمعنى غير ذوي البشرة البيضاء) بأن يشغلوا بعض المناصب الكهنوتية فيما أصبح يسمى بحركة إعادة تنظيم الكنيسة عام 1978م، ذكرت ما نبهني إليه ماثيوز وتأكدت لي صحته من كتب التاريخ (لا أسفار المورمون). وفهمت أيضا سر إلغاء تعدد الزوجات (والأزواج) عندما تذكرت ما قالته إليزابيث عرضا من أن والدتها يهودية، وكان المفروض من ثم أن تكون يهودية، ولكنها فضلت حرية الروح، واعتنقت المورمونية، فأنجبت من زوجها المورموني أطفالا تحرروا من لون أمها الداكن، فتخلصوا من الرابطة «الشرقية».
وعندما قصصت ذلك كله على نهاد بعد عودتها أبدت دهشتها، ثم قالت مقولة ما تزال ترددها عندما أقص عليها قصصي: «إنت بتهتم بحاجات غريبة!»
الفصل السادس
سارة
1
قضيت شهرا أو شهرين أتنقل بين نصوص دراما القرن الثامن عشر، حتى تمكنت من تحديد النوع الأدبي الذي تنتمي إليه مسرحية «سكان الحدود» مع مقارنتها بمسرحيات روبرت سذي وكولريدج مثل الندم وسقوط روبيسبير ومسرحية اللصوص للكاتب الألماني شيلر التي أثرت في الشعراء الإنجليز، وانتهزت فرصة انشغال الإنجليز باحتفالات عيد الميلاد ورأس السنة فانغمست في الكتابة، ثم وصلني خطاب من نهاد تحدد لي فيه موعد عودتها فاستقبلتها في المطار ولم تكن تتحدث في طريق العودة إلى لندن هذه المرة إلا عن الموظفين في مصر وتعذر مغادرة البلد، رغم أن عبد الناصر رحمه الله كان قد بدأ يسمح بالهجرة لمن يريد، وجاءت معها بصحيفة الأهرام وفيها قرأت أن عدد الذين هاجروا من مصر عام 1968م بلغ 33 ألفا، وارتفع الرقم إلى 90 ألفا عام 1969م، ولم يكن أحد يدري عدد من سافروا أو هاجروا عام 1970م (ربما لأن الإحصاءات لم تكن قد اكتملت) ومعنى ذلك على أي حال هو أنه أصبح من الممكن مغادرة مصر.
وناقشتني نهاد مناقشة صريحة في موضوع الإنجاب؛ فهي على مشارف الخامسة والعشرين والأطباء ينصحون بعدم التأخر عن هذا السن، وكان أهل مصر قد تساءلوا ولا شك عن سر المنع؛ ومن ثم اتفقنا في يناير 1971م على ألا نتعمد المنع؛ فنحن نسكن شقة تسمح بوجود الأطفال، ولن يعترض أحد على وجودهم، بعد التشتت والتنقل في لندن، وقصت علي نهاد تفاصيل الأحوال في مصر، خصوصا على المستوى الشخصي، فعلمت أن فاروق عبد الوهاب سافر أخيرا إلى أمريكا بعد حصوله على الماجستير من مصر، وأن سمير سرحان وعبد العزيز حمودة أصبحا مدرسين في القسم، وأن سمير يكتب النقد المسرحي في «صباح الخير»، وحكت لي أخبار زواج (أو إعلان زواج) رشاد رشدي، وكان يخفي زواجه من السيدة ثريا أثناء وجودنا في مصر، وعندما تم الطلاق بينه وبين الدكتورة لطيفة الزيات وصلني منه خطاب قصير يقول إنه طلقها بناء على رغبتها. كما علمت كيف توالى على رئاسة تحرير مجلة المسرح صلاح عبد الصبور وعبد القادر القط قبل أن يتوقف صدورها؛ فالبلد رسميا في حالة حرب، والشعار الرسمي الآن هو الكفاح من أجل «إزالة آثار العدوان».
وحكت لي نهاد عن ولادة حاتم أكبر أبناء سمير سرحان يوم 5 يناير 1971م، وكيف زارت سميتها نهاد جاد في المستشفى، وحملت الطفل الجميل وقبلته، وقلت لها إننا نتمنى طفلة، وقالت ليتنا نرزق حقا بطفلة، وفي مارس أكد لها الطبيب أنها حامل ، وحدد لها أواسط ديسمبر موعدا للولادة، ولا أذكر من كان أول من اقترح تسمية الطفلة (إن كان المولود أنثى) بسارة، ولكننا لم نكن نختلف حول ذلك الاسم الجميل، وفي أبريل زارني أخي مصطفى (الدكتور مصطفى الآن) الذي كان في طريق عودته من موسكو إلى القاهرة، وأذكر حادثة طريفة تؤكد ما ذهبت إليه من اختلاف بين الثقافتين العربية والأوروبية.
كنا في القطار عائدين من لندن إلى ردنج حين وجدنا في المقصورة قبالتنا فتاتين إنجليزيتين تتحدثان بلهجة سكان الريف في مقاطعة باركشير
Berkshire (وتنطق في الجنوب إما بارك شر أو بارك شير واختصارها باركس) وهمس لي أخي ولم يكن قد بلغ الثامنة والعشرين بعد، إن أهم ما يميز الإنجليزيات عن الروسيات هو الرشاقة، بل كان إذا رأى امرأة ضخمة مربعة في لندن قال إنها روسية! وفهمت أنه بهر برشاقة الفتاتين، في حين أنني كنت معتادا على هذا الشكل، فلم أجد فيه ما يستلفت النظر، وأحسست أنه يريد تزجية الوقت بالحديث معهما، فقلت لهما باللهجة الجنوبية «المثقفة» إن أخي وصل لتوه من موسكو وهو يدهش لرشاقة الإنجليزيات! فضحكت إحداهما وقالت: «ولكن وزني زاد رطلين منذ أن بدأت العمل في هنتلي أند بلمرز (Huntley and Palmers) (وهو مصنع للبسكوت يطالع القادم من لندن إلى ردنج بمبانيه الضخمة).» ومن ثم بدأنا الحوار عن البسكوت؛ إذ أكدت الثانية أنها لم «تسمن» إلا بعد أن تزوجت، وقالت ضاحكة: «ولكن جودي
Judy (أي صاحبتها) لديها استعداد وراثي للسمنة.» وقالت لمصطفى: «لو رأيت والدتها لظننت أنها روسية!» وضحكنا، ثم قلت لهما إن المصريين يفضلون الجسم الممتلئ واللون الأسمر (كذبا) فأسرعت تقول: «جودي ليست شقراء فهي تصبغ شعرها.» فردت جودي: «بل هو لونه الطبيعي.» واستمر الحوار الضاحك حتى وصلنا إلى مشارف ردنج، ولاحت مباني مصنع البسكوت، فأشرت إليه وقلت للأولى: «العودة إلى العمل؟» فقالت: «لا لا! إنه يوم عطلة لي.» وأومأت إلى صاحبتها فقالت جودي: «لا! لم تعد تعمل بعد أن تزوجت!» وعندما غادرنا القطار تبادلنا الوداع وانصرفنا.
ودهش مصطفى لأننا تحادثنا ببساطة وانصرفنا ببساطة ؛ أي دون معرفة سابقة ودون وعد بمعرفة لاحقة! وهذه من الفروق الأساسية بين الثقافتين، وللقارئ أن يدرك مدى دهشتي أنا عندما عدت إلى مصر بعد عشر سنوات فوجدت اختلاف «العلامات» واضحا جليا؛ فالإنجليزية حين تبتسم فإنها لا تعبر ببسمتها عن الدعوة للحديث أو التواصل، وهي تبتسم بطريقة تلقائية لا تعبر عن رضى أو سعادة، وما أكثر المصريين الذين فسروا البسمات تفسيرا مصريا! وأذكر أن أحدهم استجاب للبسمة استجابة مصرية فقالت له الفتاة: «هل من خدمة أؤديها لك؟» وتملكه الحرج ولم يعرف ماذا يقول ف «اخترع» قصة لكي يبرر سوء فهمه للبسمة. وللقارئ أن يدرك دهشتي أيضا حين وجدت أن التجهم في مصر هو القاعدة، وكان علي أن أعيد تفسير «العلامات» - والبسمة إحداها، وغيرها كثير.
واكتمل الفصل الثالث من الرسالة في أول يوليو فقدمته للمشرف، ولم يعترض هذه المرة على شيء بل اقترح أن أعمد بعد انتهائي من الدكتوراه إلى نشر النص الأول للمسرحية في مقابل النص المعدل (إذ قام الشاعر بتعديله وتغيير أسماء الأبطال) ولكن الحياة في مصر ابتلعتني وإن كنت نشرت مخطوطا آخر للشاعر، ولكنني أستبق الأحداث هنا؛ فالمهم أنني قد استعدت توازني وأصبحت أعتاد الجمع بين الدراسة في المكتبة في أيام الأسبوع وبين العمل بالترجمة في نهاية الأسبوع!
وفي يوم السبت 10 يوليو خرجنا أنا ونهاد لنرى إحدى المسرحيات في لندن، وقابلنا في قطار العودة زميلة لها في العمل تدعى جون بولارد
Joan Pollard
كانت تمتاز عن الجميع بذاكرتها القوية وذكائها الحاد، وتفوق كل العاملين في المكتبة في معرفتها باللغات الأوروبية، ولم تكن متزوجة بل كان لها صديق بولندي تحادثه باللغة البولندية، وعندما وصلنا كان والدها في انتظارها بسيارته لتوصيلها إلى المنزل، وعرضت علينا توصيلنا؛ إذ كانت الساعة قد تجاوزت الحادية عشرة والنصف مساء، وكانت جون غير جميلة وممتلئة الجسم، والسيجارة لا تفارق فمها، وكانت مشهورة بأنها ذات رائحة غير زكية؛ فحاسة الشم ضعيفة لديها وهي مثل الكثيرين من الإنجليز غير مولعة بالاستحمام، وفي السيارة سألت والدها، وكان المسئول عن الاستقبال اللاسلكي لوكالات الأنباء الأجنبية بكل اللغات، سألته عن الأخبار فقال دون أي اهتمام: «طلبوا منا تلقي وكالة الأنباء المغربية «ماب»
Maroc Arab
بسبب الانقلاب الذي وقع في المغرب!» انقلاب في المغرب؟ واستزدته فلم يزد، وما إن وصلت إلى المنزل حتى أدرت مؤشر الراديو الرائع الذي كنت اشتريته وهو من ماركة «هاكر» (وما يزال لدي) على صوت العرب، وسمعت أخبار القاهرة (موجز الثانية بعد منتصف الليل، الثانية عشرة في إنجلترا) فقال المذيع: «هناك أنباء متضاربة عن وقوع انقلاب في المغرب، وتقول وكالات الأنباء ...» فعلمت أن الانقلاب قد فشل.
وفي السابعة صباحا كنت أول من يدخل المبنى، فقالت المشرفة وكان اسمها مسز هوايت: «كنت أعلم أنك سمعت النبأ!» وعلى الفور بدأنا الاستماع إلى إذاعة الرباط، فإذا بالموسيقى العسكرية، والمذيع يقول: «سوف يتحدث الملك الحسن الثاني إلى الشعب بعد قليل.» وقلت في نفسي: «هذه أخبار غير متوقعة يوم الأحد، وسوف يكون سبقا صحفيا.» وأحضرت الآلة الكاتبة، وما إن بدأ الملك الحسن حديثه (رحمه الله) حتى انطلقت في الترجمة، فأرسلت الأخبار الموجزة أولا لإذاعتها في نشرات الصباح نقلا عن مصدرها الأصلي
from the horse’s mouth
ثم ترجمت الخطاب كله. وتابعنا بعد ذلك تفاصيل المحاولة الفاشلة، وإعدام المشاركين فيها يوم 13 يوليو، ولم أكن أعمل في ذلك يوم (الثلاثاء) ولكن الله قدر لي أن أعمل في الأسبوع التالي؛ إذ كنت في لندن طول اليوم، وعندما عدت وجدت رسالة تقول: وقع انقلاب في السودان ونريدك للترجمة! واتصلت تليفونيا بالعمل فقيل لي إن علي أن أقضي نوبة ليلية؛ أي من الثانية عشرة حتى الصباح، وعندما وصلت قال لي المشرف:
you’re in clover
يعني «يا بختك يا عم!» فسألته أن يشرح ما يعني فقال إن إذاعة أم درمان انقطعت عن الإرسال ولا توجد مادة للترجمة. وما العمل؟ فقال لي هامسا: «هذا كلام غير رسمي.
off the record
اذهب فنم في غرفة التليفزيون حتى تعود الإذاعة إلى الإرسال، وسوف يوقظك المهندس!» وعملت بنصيحته. وفي الرابعة صباحا كانت المفاجأة!
لقد اعترض القذافي الطائرة التي كانت تقل زعماء الانقلاب الشيوعي (هاشم العطا وعبد الخالق محجوب وغيرهم) وأرغمها على الهبوط في ليبيا، فكان أن تمكنت القوات الموالية لجعفر النميري الرئيس السوداني آنذاك من إحباط الانقلاب، وسرعان ما عاد إلى السلطة، وأعلنت إذاعة أم درمان أنه سيوجه خطابا إلى الأمة (مزيد من الترجمة)، وفي يوليو 23 يوليو أعدم أربعة من زعماء الانقلاب! عيد ثورتنا! وخطاب آخر للسادات .. مزيد من الترجمة!
خطاب آخر؟ أين الخطاب الأول؟ كان ذلك يوم الجمعة 14 مايو فيما يسمى بثورة التصحيح. وكانت ترجمته عسيرة؛ فهو يستخدم تعبيرات عامية، ويتحدث لغة لم نعتدها في الترجمة السياسية: «عايزين يهبشوا رئيس الجمهورية» (
to get at ... ) «اتنين لواءات بوليس قلت أحطهم في السجن.» وكانت الأزمة قد بدأت يوم الثلاثاء حين استقال شعراوي جمعة وزير الداخلية، وتصاعدت حتى تغير شكل الحكومة تماما، لكنني كنت في المكتبة ولم أطلع على التفاصيل إلا من الصحيفة في صبيحة يوم الأربعاء، وقرأت المزيد يوم الخميس ثم بدأت الترجمة يوم 14 واستمرت ليوم 15 مايو 1971م!
أما خطاب يوليو فكان تقليديا، ولم تكن فيه صعوبات، وعندما عدت إلى المنزل وجدت خطابا من سمير سرحان يقول إنه قادم مع زوجته نهاد جاد إلى لندن في الشهر القادم! وحجزت لهما غرفة كبيرة في بيت الطلاب القديم (جنيه واحد في الليلة) فالطلاب يتركون البيت في الصيف والإنجليز يؤجرون الغرف الخالية لمعارف الطلاب أو الطلاب السابقين بأسعار زهيدة، وجاء سمير ونهاد إلى لندن وقضينا معهما أياما سعيدة، فذهبنا إلى المسرح وشاهدنا مسرحية أيام زمان
Old Times
لهارولد بنتر، وغيرها، وذهبنا إلى برايتون، المدينة الساحلية الجميلة، وكانت نهاد زوجتي قد بدا عليها الحمل، ولكنها كانت تتنقل معنا أينما ذهبنا، وعندما رحلا أحسسنا أن الصيف قد انقضى.
وفي سبتمبر كانت عزة صليحة أخت نهاد قد أتت إلى لندن وفقا لنظام العمل لتعلم الإنجليزية، وكانت تقيم مع أسرة في لندن، لكنها لم تكن مستريحة، وبعد شهر تقريبا جاءت للإقامة معنا فكانت نسمة بليلة من مصر، خصوصا ونهاد توشك أن تضع المولود، وتوثقت علاقتنا وأحسسنا بأن آلام الغربة قد زالت أو كادت. وكانت عزة قد تخرجت في قسم اللغة الإنجليزية بجامعة عين شمس، وأعتقد أننا قمنا آنذاك بأول محاولة لتصنيف الكتب لدينا وإن لم تكتمل. وكانت نهاد تتردد بانتظام على عيادة الحوامل
prenatal clinic
وأخبرها الأطباء أن وليدها معكوس الوضع؛ أي إن رأسه ليست «تحت» حتى تخرج أولا، وقالوا إنهم لا بد أن ينتظروا حتى الشهر الثامن (نوفمبر) فربما يعتدل الوليد من تلقاء ذاته، وإلا اضطروا إلى إجراء عملية، فهذا الوضع (
breech presentation ) يتسبب في عسر الولادة وله أخطاره. وفي أوائل الشهر التاسع قرر الأطباء إجراء عملية قيصرية، فدخلت نهاد مستشفى باركشير الملكي ، وبعد محاولات عديدة لتوليدها دون عملية، قرر الأطباء إجراء العملية يوم 9 ديسمبر 1971م، وبلغني وأنا في المستشفى نبأ ولادة الطفلة، فذهبت لأطمئن على نهاد، فوجدتها تفيق من المخدر ثم تعود للنوم، فقلت لها لقد رزقنا ببنت - هل نسميها «أمل»؟ ورفضت، فعدت إلى المنزل وأبلغت عزة بالنبأ السعيد. وكانت عزة هي التي حسمت موضوع تسمية المولود، فأصبحت تدعوها سارة، غير عابئة بأية اقتراحات قد نقدمها.
ومكثت نهاد أسبوعا في المستشفى - وهي من أحسن مستشفيات إنجلترا - وتتمتع بالرعاية الصحية الكاملة، وتعلمت إرضاع الطفلة، ودربتها الممرضات على كل شيء، وطبعا دون أن نتكلف بنسا واحدا، وكانت غرفة نهاد في المستشفى تشبه غرف الفنادق الفاخرة، ولن أغفر لنفسي أنني كنت أفرض عليها قراءة الروايات التي أحبها، وكنت أيامها مولعا بجورج أورويل فقرأت جميع أعماله، وما زالت نهاد تعاتبني على إصراري أن تقرأ ما قرأت آنذاك.
وعدنا إلى المنزل في منتصف ديسمبر تقريبا، وكانت عزة بمثابة أم ثانية لسارة، وكان لاحتفالات عيد الميلاد ورأس السنة مذاق فريد في ذلك العام. لقد أصبحت لي أسرة، وكلمة
family
قد تعني الأولاد فحسب بالإنجليزية.
ووصلني خطاب من هيئة الشئون الاجتماعية التابعة للمجلس المحلي بالمدينة، وأنا لا أحب التعامل مع الحكومة أبدا في أي مكان، وقد تكون التعقيدات البيروقراطية التي ورثناها من الإنجليز (أو ما يسمى بالروتين
red tape ) قد أورثتني نفورا من أي تعامل مع الموظفين، وكنت حين يصلني خطاب دون طابع بريد أستريب به وأخشى أن أفضه، وأنا لا أرحب حتى الآن بمثل هذه الخطابات المرسلة في مظاريف مصنوعة من ورق غليظ ذي لون بني، حتى لو كان يحمل لي نبأ سارا؛ ولذلك أسرعت لمقابلة الموظفة في الموعد المحدد، وبدأت تسألني أسئلة غريبة عن ظروف زواجي، وفي أي «مسجد» عقد القران، وبعد أن أبديت من الصبر ما استطعت أن أبديه سألت إحداهما (وكانتا فتاتين في مقتبل العمر، الأولى هي التي تسأل والثانية تسجل ما يقال) عن السبب في ذلك كله، فقالت إننا نخشى أن تكون تزوجتها رغم أنفها؛ فكثير من الأغراب (المسلمين) يفعلون ذلك، وخصوصا من باكستان. وأكدت لها أن زوجتي تزوجتني طائعة مختارة، وأن مصر تختلف عن باكستان في ذلك، وبدا عليهما الاقتناع، فقالت «الرئيسة»: إذن نكتب لك الشيك! شيك؟ نعم. هدية من البلدية للطفلة وقيمتها 25 جنيها! وعدت إلى نهاد أزف إليها النبأ السعيد، وفي أعماقنا تتردد المقولات المصرية التقليدية من أن الطفلة رزقها واسع.
2
أصبحت سارة محور حياتنا، وكانت نهاد تتبع إرشادات الدكتور سبوك في كتابه المشهور «رعاية الطفل والرضيع»، ولم نلبث أن شعرنا بأن الشقة لم تعد كافية، فقدمنا طلبا لاستئجار منزل مستقل في نفس الموقع، وفعلا انتقلنا إلى المنزل رقم 21، وكانت تستأجره زميلة لنا وتقيم فيه مع زوجها كبير المهندسين في العمل، وكان كلاهما قد تقدمت به السن، ولكنها كانت تحافظ على رشاقتها أو قل إنها كانت محتفظة بقوامها
well-preserved ، وكانت تقيم علاقة حميمة مع شخص من أوروبا الشرقية، وزوجها يعاني من التجاهل ويشكو للأصدقاء، ثم أشفقت على حاله امرأة من زميلات زوجته اسمها بتي
Betty ، وكانت تتميز بالمرح والبسمة الدائمة، مما كان يخفي عيوب الهرم، فالعطار لا يصلح ما أفسده الدهر، ولكن المرح يخفيه، وكثيرا ما كنت أعجب للغضون التي تكسو ملامحها ثم لا تكسبها مظهر المسنين! ووجد الزوج المهجور أنيسا شفيقا في تلك المرأة، فكانا يختفيان في فسحة الظهيرة، ثم يظهران وقد توردت الخدود وانبسطت الأسارير، وسرعان ما استقال كل منهما من العمل واختفيا إلى الأبد.
وأذكر أنني كنت أشاهد المنزل مع مستأجرته السابقة قبل الموافقة على الانتقال إليه، وبعد الاتفاق عرضت توصيلي إلى العمل بسيارتها فوافقت وقالت لي ونحن في بعض الطريق: هل تعلم أن «بتي» قد استقالت فقلت لها: «خسارة!» (
) فقالت “Is it?”
فتساءلت عما تعني فأوضحت
Is it a
فقلت لها إن بتي سيدة ظريفة ( “such a nice girl” ) فقالت لي كأنما لتفضي إلي بسر لا يعرفه أحد: “It is my belief that it was her who took away my husband.”
أي إنها تعتقد أنها هي التي «اختطفت» زوجها، ولم أشأ أن أشير إلى ذلك الشخص (وكان من تشيكوسلوفاكيا) الذي كانت تصاحبه علنا، فغمغمت وتظاهرت بالدهشة، فعادت تقول: «الرجال يصابون بالجنون بعد الخمسين، ويتوقعون من الزوجة أن تظل أما لهم حتى في شيخوختهم.»
وعندما وصلنا وتم الاتفاق أبلغت نهاد، ثم اتصلت بالمشرف على المساكن
caretaker
وهو السيد بنديلو
Bendelow
كي نبدأ الانتقال، وبعد يوم واحد حضر سائق يعمل في محل عملنا واسمه ديريك وإن كنا نناديه بلقب جنجر
Ginger ؛ لأنه أحمر الشعر، والاسم يعني (الزنجبيل) (الجنزبيل بالعامية) وبدأنا تحميل السيارة بالكتب مثلما حملناها عند الرحيل من لندن، ثم بقطع الأثاث مفردة، وتم الانتقال في يوم واحد، وكانت عزة نعم المعين في هذا الجهد، وما لبث التليفون أن رن، وكان المتحدث فتاة من شركة التليفونات تسألني إذا كنت أريد إدراج اسمي في دليل التليفونات المحلي فلم أعترض، واشترينا غسالة ملابس أوتوماتيكية ماركة إنديسيت الإيطالية، توفيرا لجهد غسيل اللفف، وما تزال الغسالة موجودة لدى بعض أفراد الأسرة حتى اليوم!
كان للمنزل حديقة خلفية بها شجيرات ورود، وحديقة أمامية تقتصر على مساحة مزروعة بالكلأ، وكان الحفاظ على هندام الحديقة يقتضي شراء آلة لقطع الحشيش، فاشتريتها بثلاثة جنيهات، وكانت يدوية؛ أي يدفعها الإنسان دفعا لتقص ما طال من الحشائش، وقد حلت الآن محلها آلات ذوات محركات كهربائية. وكانت الحدائق الخلفية للمنازل متجاورة لا يفصل بينها سوى سور من النباتات المنخفضة (نحو متر واحد) فكان الجيران يتبادلون التحية عبر السور، ولما انقضت إجازة الوضع عادت نهاد إلى العمل، ولكنها لم تستطع الجمع بين العمل ورعاية سارة، فاستقالت، وأصبحت أنفق وقتي بين الدراسة والعمل - ورعاية الطفلة!
كانت أهم الأحداث السياسية التي فوجئ بها العالم ما يسمى بالانفراج الدولي
detente ؛ إذ دخلت الصين الأمم المتحدة، والتقى زعماء أمريكا والاتحاد السوفييتي، وبدا أن التوازن الذي كان قائما في الحرب الباردة بين المعسكرين (الشرقي والغربي) قد يختل، فإذا اتفقت الدولتان العظميان على شيء أصبح من المتعذر على الدول الأخرى أن تعارضه، مما كان ينذر بعواقب «مجهولة» في أفضل الحالات، و«وخيمة» في أسوئها، وكانت سياسة مصر تتجه إلى اكتساب التأييد الأوروبي، خصوصا دول غرب أوروبا ذات النفوذ والثراء، وكانت أنباء زيارة نيكسون، رئيس الولايات المتحدة آنذاك، للصين في فبراير ثم اجتماعه مع بريجينيف، الرئيس السوفييتي في مايو 1972م من الأنباء التي هزت العالم، وإن كان الهدف الواضح هو محاولة إنهاء حرب فيتنام بأي طريقة، بعد أن اتضح أن التورط الأمريكي قد تجاوز الحدود «المسموح بها» وأن الخسائر في الأرواح أصبحت تقض مضاجع المواطنين العاديين.
وفي غمرة انشغالنا بترجمة ردود الفعل العربية وقع في آخر مايو حادث كانت له عواقب «إعلامية» كبيرة؛ إذ قام ثلاثة من اليابانيين المسلحين بإطلاق النار في مطار اللد الدولي في تل أبيب على المسافرين والمستقبلين في المطار فقتلوا 25 شخصا وجرحوا 72 آخرين، وذلك بمجرد هبوط المسلحين من طائرة تابعة لشركة إير فرانس، وقتل أحد المسلحين، وانتحر الثاني، وقبض على الثالث وكان اسمه «كوزو أوكا موتو» وقال إنه ينتمي لجيش النجم الأحمر، وهي منظمة يسارية يابانية تناصر الفدائيين العرب. أما ردود الفعل فكانت متناقضة؛ إذ قالت منظمة التحرير الفلسطينية إنها مسئولة عن الحادثة، وقال الياباني في محاكمته التي استمرت حتى 17 يوليو (وحكم عليه بالسجن عشر سنوات) إنه يمثل ضمير العالم الذي أقلقه الوفاق الدولي، وشغلت الصحف بالحديث عن الإرهاب العربي، وجعل حزب المحافظين الذي كان قد تولى السلطة قبل ذلك بعام يتحدث عن مغبة تأييد من «يلوثون أيديهم بدماء الأبرياء» كأنما كان اليابانيون عربا!
3
كان من الواضح أن حياتي لم تكن تسير في الطريق الذي رسم لها؛ إذ أصبح لي مجتمع كامل من الأصدقاء والمعارف، في الجامعة والعمل، وبدأت أتذوق لطائف اللغة الإنجليزية التي ألتقطها بشغف من أفواه هؤلاء وهؤلاء، كما اكتسبت عادة ما زلت أمارسها وهي إرهاف السمع لما يدور حولي من أحاديث، حتى ولو كانت عابرة - في الأتوبيس أو في الدكاكين أو في الطريق العام - استكناها لدلالة هذا التعبير أو ذاك، وأصبح من مصادر متعتي أن أسير ساعة أو بعض ساعة بعد الخروج من الكلية أو من العمل، فأتأمل الطبيعة من حولي، وأرقب الناس والأشياء، وقد أتجول في الأسواق، ثم أقفل راجعا راكبا.
كانت الحاسة الأولى هي حاسة السمع؛ إذ اكتسبت من الحياة الإنجليزية تحاشي «البحلقة» (الحملقة؟
staring ) التي تعتبر عيبا اجتماعيا شائنا، فكانت عيني تلمح الأشخاص أو الشخص بسرعة وتستوعب التفاصيل، ثم تتابع أذني الحوار أو الحديث المتقطع، وكان أقرب منهل لهذه الأحاديث الدكاكين الصغيرة؛ حيث تأتي العجائز اللائي يعانين من الوحدة للحديث بعضهن مع بعض، أو لمخاطبة البائع والحديث معه في شتى شئون الحياة، وكنت أتظاهر بالانشغال بانتقاء حبات الطماطم مثلا وأذني تتابع ما يدور؛ فالريف في إنجلترا ذو إيقاع هادئ، ويسمح بالوقوف والتأمل والاستماع.
وكثيرا ما كنت أستغرق أثناء تلك الجولات في تأمل ما قرأت واسترجاع ما فهمته؛ إذ كنت أحيانا أعاني مما كان عبد اللطيف الجمال يعاني منه، ألا وهو تشتت الأفكار بسبب تنوع مصادرها وعدم تناغمها؛ فالذي يقرأ في موضوع واحد يستطيع التركيز وتنسيق الأفكار، أما الذي لا يقف عند حدود البحث الذي كلف نفسه به، فهو يحتاج إلى فترات يلم فيها شعث أفكاره، بل ويلم شتات نفسه أيضا.
كنت أتصور أنني أستطيع أن أنتهي من الرسالة في الصيف، ولكن الفصل الرابع يدور حول أساليب المواويل الغربية (البالادات) وكان يقتضي البحث ساعات طويلة في المكتبة، خصوصا في غرفة الكتب المخزونة (
stack room )؛ حيث توجد بعض النصوص الأصلية، وبعض الطبعات القديمة التي أصبحت ذات قيمة تاريخية لندرتها ولم يكن يسمح لأحد بالاطلاع عليها إلا بعد إذن خاص، ولا يسمح بتصوير أي صفحات منها إلا بترخيص، وعلى ألا تتجاوز الصفحات فصلا واحدا، وكانت آلة التصوير (زيروكس) اختراعا جديدا وتكاليفه باهظة.
وفي أوائل يونيو 1972م وصلني خطاب من إدارة البعثات يقول إن مصر قد أوقفت صرف مرتبي؛ لأنني استوفيت الحد الأقصى للبعثة وهو سبع سنوات، وكان معنى ذلك هو الارتباك الشديد في أحوالي المالية؛ فأنا لا أقتصد في الإنفاق ولا أدخر شيئا من دخلي (وهذا معيب في إنجلترا) بل أنفق كل ما يأتيني سواء أكان ذلك في شراء الكتب أو شرائط الموسيقى أو في الذهاب إلى المسرح، وقررت أن أذهب إلى لندن لمخاطبة رئيس المكتب في الموضوع، فذهبت في الصباح الباكر، وما إن دخلت المكتب حتى سمعت صوتا مألوفا يناديني، والتفت فوجدت وجها مصريا يطالعني ببسمة، وخيل إلي أنه أحد أقاربي، لولا أنه ناداني بعناني! وعندما اقتربت تسمرت في مكاني: كان «عبده»! وبعد الترحيب وبعد التغلب على الدهشة الصاعقة، صحبته إلى الطابق الأول حيث قابلت رئيس المكتب، وتأكد لي استحالة مد البعثة؛ ومن ثم هبطنا وخرجنا معا حتى دون أن أسأله إن كان قد انتهى مما جاء من أجله، وعند ناصية كيرزون (Curzon)
ستريت وجدنا مقهى دخلناه دون كلام وجئنا بالقهوة، وانخرطنا في الحديث حتى نسينا الزمن!
كانت قصتي قصيرة وكان يعرفها، ولكن قصته كانت طويلة، وكنت أتلهف على سماعها! وعندما بدأ الحديث كان يفترض أنني أعرف الخطوط الرئيسية على الأقل، فكان يشير إلى بعض الأسماء والأماكن متوقعا مني الاستجابة، ولكنني قد ابتعدت تماما عن عالمه، فألححت عليه أن يبدأ من حيث توقفنا؛ أي منذ ما يقرب من ست سنوات! فقال «عبده»: «رحلت كاثلين في أغسطس (1966م)، وقضيت شهر سبتمبر كله وحيدا أحاول أن أعتاد الوحدة والوحشة، وآمل في كل يوم أن أراها عائدة إلى الكلية؛ فكانت ما تزال مسجلة للدكتوراه، ولكن الشهور مضت دون أن ألمح لها أثرا، ولم أتقدم تقدما يذكر في دراستي؛ إذ وجدت أنني قد تغيرت في أعماقي وأصبحت أريد كاثلين بأي طريقة! وصادقت بعض الفتيات في تلك الآونة، ولكن صورة حبيبتي كانت ماثلة دائما أمام عيني، وعندما سألت عنك وعرفت أنك تزوجت من مصرية قررت ألا أرهقك بمتاعبي، وأدرك المشرف أنني أمر بمحنة؛ فقد انتهى زملائي من الدكتوراه وتركوا الكلية، لكنني لم أكن قد انتهيت حتى من الجانب العملي الذي قد يأتي لي بالنتائج اللازمة للرسالة! وقال لي ذات يوم إنه يريد أن يراني، فذهبت إليه وسمعت منه بلهجة الإنجليز العملية ما يشبه الحكم بالإعدام! إذ نظر إلي طويلا وقال: «أنا قلق عليك.» (I’m worried about you)
وكدت أنهار لكنني تماسكت وقلت له إن لدي هموما مؤقتة، وهي عابرة ولا شك، إلى آخر ذلك الكلام، دون أن يبدو عليه أدنى اقتناع، وبعد مناقشة تفصيلية للعمل الذي كنت أقوم به قال لي: «إنك تحتاج إلى راحة. هل استشرت طبيبا نفسيا؟» تخيل! لقد ظن أنني مختل ولا أقول مجنونا! ربما بدا له أنني أعاني من اكتئاب أو من انهيار نفسي ولكن كيف يسألني هذا السؤال؟! على أي حال لم يلبث أن ابتسم وقال: «اذهب إلى مصر لزيارة الأسرة حتى يهدأ بالك! لا تتردد في الذهاب، وهذا خطاب كتبته إلى مدير مكتب البعثات، سلمه له وسوف يسمح لك بالإجازة!» وتناولت الخطاب ووضعته في جيبي وخرجت.
كنا في أواخر مايو 1967م، وأنت تذكر ما حدث بعدها للمصريين جميعا، أما ما حدث لي أنا فأغرب من الخيال! لم أذهب طبعا إلى مكتب البعثات، وظللت أحتفظ بالخطاب في جيبي أسبوعا، ثم سألت عنك فقيل لي إنك مريض، فسألت كل يوم حتى تأكد لي أنك شفيت، فقررت أن أزورك يوم 10 يونيو، للحديث في السياسة وغيرها، وكنت أريدك أن تقول لي ما أفعل بالخطاب؛ لأنني كنت ما أزال أفكر في الذهاب إلى مصر، ولو لزيارة عابرة، بعد أن تلبد ذهني تماما، وفي الصباح مر علي سامي الكاشف ليطمئن علي فقلت له ما أفكر فيه، وأريته الخطاب، فإذا به يفضه، ويقدم إلي ورقة - إلى جانب الخطاب الرسمي - بل قل مجرد قصاصة عليها عنوان كاثلين وأرقام تليفوناتها! كنت أعرف أن سامي الكاشف يعرف القصة تماما هو وإبراهيم الدويني كما قلت لك، فلم أعر لذلك أهمية لكنني كنت أرتعد أمام الاحتمالات الكثيرة؛ ترى هل أعطتها عمدا للمشرف أم نسيها المشرف في ثنايا الرسالة؟ وهل يعرف المشرف القصة؟ وقلت في نفسي: «يا داهية دقي!»
لن أطيل عليك فقد اتضح أن المشرف بريء، وأن القصاصة لم تكن في المظروف، بل أتى بها سامي من إبراهيم الذي قال إنه عرف من زميلة لها عنوانها وأرقام تليفوناتها، ولكنني كنت أجهل ذلك، وكنت أصدق كل ما يقوله سامي، فأحسست بغمامة أمام عيني، وأن الأرض تميد بي، فاقترح سامي أن نتصل بكاثي ونسألها، وكنت رغم الفرحة الغامرة أرتعد في أعماقي مما أسمعه عن مصير من يخدع فتاة أو من يعدها بالزواج ثم يخلف وعده؛ فعقوبة إخلاف الوعد
breach of promise
رهيبة، وربما لن تقف في حالة الأجانب عند مجرد «الترحيل» من إنجلترا، بل ربما صدر حكم يتضمن الغرامة والحبس أو إحدى هاتين العقوبتين كما يقولون! وسألت سامي ضارعا: ماذا علي أن أفعل مع المشرف؟ فضحك ضحكا شديدا وصارحني بالحقيقة، ثم تركني وخرج!
وعلمت فيما بعد أنه أتى خصوصا لإعطائي تلك المعلومات، وكانت لعبة دس الورقة مع الخطاب دعابة من دعاباته، ولكنني كنت ما أزال منهارا؛ فالوطن في محنة وأنا في محنة، لكنني تغلبت على مخاوفي واتصلت بالرقم الذي وجدته مطبوعا على الورقة، فردت علي فتاة رقيقة الصوت تسألني عما أريد، فقلت لها هل كاثلين موجودة؟ فقالت لي انتظر لحظة، وبعد ثوان سمعت صوت كاثي! ولم أعرف ماذا أقول، ولكن ربنا يلهمنا في هذه الحالات، فقلت لها اسمي، وعجبت من ردها العملي المفزع «أي خدمة؟ أنا الآن مشغولة، كلمني فيما بعد .. باي باي.» معقول؟ وبعد ساعة كنت في القطار المتجه إلى سري
Surrey
ولم تمض ساعة حتى كنت أطرق باب المصنع!
لن أزعجك بالتفاصيل ولكننا تزوجنا بعد أسبوع، وقررت أن يكون زواجا مدنيا؛ فهي تتصور أنني مسلم، وجواز السفر لا ينص على دين حامله، وهي لا تستبعد أن يكون اسمي القبطي من أسماء المسلمين، أو هكذا كنت أظن! إذ لم تكن تنقضي مراسم الزواج حتى قالت: «نريد أن نحتفل بزواجنا في كنيسة البلدة!» ووجمت فضحكت، وقالت: «لقد كنت أتابع أخبارك منذ رحيلي يوما بيوم، وعندما عرفت الحقيقة بدأت العمل!» وقضينا ليلة الزفاف في المنزل الذي اشتراه والدها لنا، وكنت أحس أنني قد انتقلت إلى عالم آخر؛ فالبلدة ريفية جميلة، ولا تستغرق المسافة أكثر من نصف ساعة بالقطار (لوسط لندن) ومصنع والدها ضخم وشاسع، وبه سيارات وشاحنات ومركبات منوعة، وعمال وعاملات وموظفون وموظفات - شيء رائع!
ولكن أروع ما في ذلك كله كانت كاثلين نفسها، لم أكن أتصور أن في الدنيا نساء بهذا الوصف، كانت تعاملني وما تزال كأنني محور الوجود، كأنني مركز الكون بل وسر الحياة. أرجوك لا تضحك يا عناني فأنا جاد، وقد تعلمت في هذه السنوات القليلة معنى الزواج الحقيقي، معنى الصفاء والتفاهم في كل شيء، ولأضرب لك مثلا واحدا على ذلك.
كانت كاثلين منذ أن تزوجنا تعاملني معاملة من يخشى أن يضيع صاحبه من يده، فأحسست كأنني جوهرة ثمينة، وكانت تقول لي دائما إنني حر في أن أتركها في أي وقت إذا أردت، وكانت تقول لي حذار أن تتجاهل عملك في الدكتوراه، وإذا كنت تريد العودة إلى لندن فسأعود معك، وإذا قررت أن ترجع إلى مصر فسوف أرجع معك، وأعيش بالمستوى الذي تريده. ألا تظن أنني أستطيع أن أحصل على عمل مثل بقية النساء العاملات في مصر؟ وكانت كاثلين جادة في كل شيء، فلم يحدث أن كذبت علي أو تظاهرت بغير الواقع. أما المثل الذي أريد أن أضربه لك فهو علاقتها مع أحد أصدقاء الصبا، وكنت قد اكتشفت هذه العلاقة بعد نحو عام من زواجنا ووجدت الدم الصعيدي يغلي في عروقي، وعندما خلدت إلى الصمت أولا حزنا وكمدا عند اكتشافي الأمر وجدتها تهرع إلي وتسرد القصة من البداية إلى النهاية، بكل التفاصيل التي لا أجرؤ حتى على البوح بها إليك، وبما لا تستطيع الأفلام السينمائية تصويره!
كانت مثل الذي يعترف للكاهن بالخطية، رغم أنها لم تخطئ، ولكن منبع إحساسها بالذنب هو أنها لم تفصح عن تلك القصة، وأغفلتها تماما، وعندما قلت لها ذلك قالت إنها لم تتعمد إخفاءها لكن ذلك «الولد » كان قد خرج من حياتها إلى الأبد، ولم يعد له من الوجود ما يقتضي ذكره، على عكس علاقتها مع النيجيري، فقد قصتها علي منذ البداية؛ لأنه كان أول من يدخل جنتها.
ولم يتغير سلوك كاثلين مطلقا - لا قبل ذلك ولا بعده - وما تزال تحافظ على أسلوبها الرائع في تصحيح أخطائي اللغوية، فهي تتعمد تكرار ما قلته بعد تصويبه حتى تفتح عيني على الخطأ، مهما يكن الخطأ تافها - سواء في النطق أو النحو أو اختيار الألفاظ. وإذا كنت أرسم لك صورة زوجة مثالية، مدفوعا بحبي لها، فالحقيقة أن الطابع المثالي كان طابع الزواج لا المرأة؛ فالمثالية هنا هي التوافق بل والتقارب إلى حد التطابق في النظر والإحساس والفكر، وكنت أشعر أنها تبذل في ذلك جهدا كبيرا، وكثيرا ما كانت تعبر عن مشاعري الدفينة بلغتها حين نرى فتاة جميلة أو شابا وسيما، وكثيرا ما كنا نتبادل الأسرار همسا فيما يخصنا وحدنا، وأهم من ذلك كله أنني كنت لا أشعر لوالديها بوجود في حياتنا، وكانت كثيرا ما تقول لي: لماذا لا تدعو أفراد أسرتك لزيارتنا؟ أو تلح علي أن أكتب إليهم خطابات أطمئنهم فيها على أحوالي، وكنت أكذب عليها وأزعم أنني فعلت ذلك وأفعله، وهي لا تكذبني أبدا مهما قلت. تصور ماذا يقول هؤلاء الصعايدة لو شاهدوا حماتي وهي تضع المساحيق والأصباغ أو ترتدي الشورت والميني جيب!»
وكنت على اهتمامي بما أسمع، أشتاق إلى معرفة موقفه الدراسي، وموقف أهله في مصر؛ فالموجز الذي رويته في صفحات استغرق منه ساعات، ونهضنا نسير في الهايد بارك وهو يكثر من استخدام اللغة الإنجليزية، ويتحدث بطلاقة حين يروي حادثا وقع بين الإنجليز، مما أدهشني حقا، ولكنني كنت أعرف أن المصري حين يضطر إلى اكتساب اللغة لن يتفوق عليه أحد! وأما الذي هزني هزا في ذلك الحديث فهو اللمسة الشاعرية التي كان يضفيها على الأشياء، فكان أحيانا يقول: شوف يا عناني أنت في ردنج وأنا في جيلفورد (Guildford) .. وبيننا طريق من الأشجار لكننا لا نسير فيه ولا نلتقي! وعندما وصلنا إلى «ماربل آرتش» (Marble Arch)
وهو أول شارع أوكسفورد أوقفته وطرحت عليه السؤال المباشر فأجاب: «الدكتوراه الدكتوراه! هذا هو جنون المصريين! الجميع يريد شهادة، لكنني أنجز في بحوثي ما يفوق ألف دكتوراه! إننا نعمل في مشروعات رائعة تتصل مباشرة بالسوق وبما يحتاج إليه الناس، ونشعر بالفائدة مباشرة، فلا يوجد ما هو أمتع من الإنتاج!»
وقلت مستدركا: «والمكسب المادي؟» فقال: «طبعا!» وأشار بيده إلى إحدى الصيدليات من سلسلة
Bootes
وقال: «ما أجمل أن تعرف أن إنتاجك يباع هنا!» ثم دخلنا مطعم «فورتي» (Forte)
الذي كان قد فتح أبوابه لتوه، وجلسنا لتناول السلاطة، وأحس بما أريد أن أسأله فقال (دون سؤال): «لم يحصل أينا على الدكتوراه! لم نشعر بأننا في حاجة إليها، وكتابة الرسالة لعبة سخيفة؛ فالنتائج يمكن إجمالها في صفحتين، والباقي تفاصيل يعرفها كل إنسان، ووصف للتجارب أو للتجربة دون داع؛ أي «حشو ورق وخلاص»!»
سارة تطعم البط في البحيرة في ردنج.
كان الحديث ممتعا فأنساني ما جئت من أجله، بل أنساني أن أسأله ما كان يفعل في مكتب البعثات، وعندما سألته قال دون اكتراث: كنت أسدد القسط! وفهمت منه أنهم طالبوه عندما أعلن عن رغبته في عدم العودة بأن يدفع تكاليف البعثة، فاتصل بأحد المحامين الذي رفع دعوى على وزارة التعليم العالي، وكانت القضية ما تزال معلقة (أي لم يصدر فيها حكم نهائي) لكن تجديد جواز السفر كان يشترط الموافقة على دفع النفقات فاتفق مع الوزارة، من باب إظهار حسن النوايا، على تقسيط المبلغ، وبدأ في سداده. (وقد علمت فيما بعد أنه كسب القضية وإن لم يسترد الأقساط - بعد).
وبعد الغداء سرنا حتى لانكاستر جيت (Lancaster Gate)
في شارع بيزووتر (Bayswater)
المحاذي للهايد بارك (Hyde Park) ، وكان قد «تسلطن» فأخذ يقص علي مزايا الريف الإنجليزي، وجمال الإنجليزيات، وخلوهن من العقد (وكان يعني بها قواعد السلوك الشرقية للفتيات - خصوصا لديهم في الصعيد). وأسرف في الحديث عن محاسن بنات الريف حتى بدأ الشك يخامرني فسألته على حذر: «لكن أنت طبعا لا ...» وقال ببساطة: «أنا «لا» إيه؟ أنا - رغم زواجي الناجح - لا أدعي القداسة! نحن بشر يا عم عناني! وكاثي تحبني مهما يكن من أمر!» وتحدثنا عن أطفالهما فقال إنهما أنجبا غلاما وفتاة وهما في المدرسة الآن (أو روضة الأطفال - لا أذكر). وعندما تشعب الحديث سألته عن موقف أسرته فقال لي دون اكتراث: لقد أدرت ظهري للشرق! ولن تصدق ما أعيش فيه من سعادة حتى تزورني!
وأخذت القطار عائدا إلى ردنج، بعد أن تبادلنا العناوين وأرقام التليفونات، وكان اليوم يوم عمل لي فذهبت إلى المنزل للاطمئنان على سارة ونهاد، وخرجت على الفور، وأجلت حكاية «الحدوتة» لنهاد لليوم التالي. كانت قصة «عبده» قصة الكثيرين الذين أداروا ظهورهم للشرق، وعلمت فيما بعد أن أسرته حاولت الاتصال به مرات عديدة فلم توفق، فكأنما تعمد أن يقطع كل ما كان يربطه بالماضي، وقد زرته عام 1981م، وعام 1987م، وكنت كل مرة أعجب ببراعة طفليه وقدرتهما على فهم اللغة العربية؛ إذ إن «عبده»، رغم استغراقه في الحياة الإنجليزية، «لا يشعر بكيانه» كما يقول إلا عندما يتحدث العربية، وهو يصحب ابنه في حله وترحاله، وكان ابنه في عام 1987م يدرس الطب وأمامه كما يقول سنوات طويلة، ويتحدث العربية بلكنة إنجليزية بعض الشيء، لكنها صحيحة كل الصحة، وقد حدثته آنذاك عن فرص العمل الذي قد يقتضي استخدام العربية.
4
كانت قصة عبده لا تختلف عن قصص الآخرين إلا في أنني عاصرتها وكنت شاهدا على أحداثها؛ ولذلك فعندما أتأمل العلاقة بينه وبين زوجته، وهذه المسافة الشاسعة التي تفصلني عنه زمنا ومكانا، أتخيل أنه «أحمد قادوم» آخر، زميلي الرشيدي الذي ذهب إلى نبراسكا ليدرس المبيدات الحشرية فتزوج أمريكية واستقر به المقام وانقطعت أخباره تماما عن أسرته، أو «وديع» آخر، أو «أحمد حسن» آخر، وغيرهم عشرات ممن أعرفهم، وقد يكون هناك المئات الذين لا أعرفهم؛ إذ جاء في تقرير إدارة البعثات الذي نشر في أوائل السبعينيات أن 40٪ فقط من المبعوثين للدراسة في الخارج يعودون إلى الوطن، والقضايا التي ترفعها الإدارة نادرا ما تحسم، بل إن التهديد بسحب الجنسية لم يعد من الأسلحة الماضية بعد أن صدر قانون يعتبر ذلك «غير دستوري» فيما سمعت، وعندما كنا في لوس أنجيليس عام 1981م، قال لي الدكتور شبايك (أمين عام اتحاد الجالية المصرية هناك) إن ولاية كاليفورنيا وحدها يقيم فيها ربع مليون مصري، وعندما أبديت تشككي في الرقم أخرج لي كتابا ضخما يضم الأسماء والعناوين، وأنا أعرف منهم واحدا على الأقل هو إبراهيم كيرة - الشاعر وزميل الصبا في مدرسة الأورمان - الذي يقيم في سان فرانسيسكو بصفة دائمة.
إذا أطلقنا على حياة المصري خارج مصر صفة الحياة في الغربة فلن نكون على صواب؛ فالمصري يحمل مصر في قلبه ووجدانه مهما ابتعد عنها، ولا أعتبر أن الدكتور شندي الذي زرناه في منزله على ساحل المحيط الهادي (أنا وسمير سرحان ولويس عوض وصلاح عبد الصبور) عام 1981م يعيش في غربة؛ فمنزله قطعة من مصر، وأحاديثنا كانت تدور عن مصر، وأنا أضرب المثال بأمريكا بسبب بعدها، أما من يعيشون في إنجلترا فهم يحسون بأنهم أقرب إلى مصر بأكثر مما نتصور، وقد شغلني مفهوم الغربة في تلك الأيام؛ لأننا - أنا ونهاد - لم نشك يوما ما في أننا سنعود إلى مصر، ولم يكن التوقف عن الإنتاج الأدبي يقلقني، بل لم يكن يقلقني التأخر في كتابة الرسالة، أو حتى انقطاع مرتب البعثة؛ لأنني كنت أستمتع بما أقرأ، وبما أرى، وبمن أقابل وأحادث، وكان العمل يقتضي مني إهمال الدراسة أياما متوالية، فأنغمس في متابعة أحداث العالم، وأصبحت أجد متعة فيما تتمتع به صياغتي للترجمة من تقدير، لكنني كنت في أعماقي أتأمل فكرة الغربة - ماذا لو اشترينا منزلا؟ لا .. لم تكن نهاد تقبل ذلك أبدا؛ فشراء المنزل معناه ترسيخ جذورنا - ماديا على الأقل - في تربة أجنبية، وهو ما لم تكن ترضاه مطلقا. لقد كانت نهاد بحق - كما قال عزت أبو هندية - صمام الأمان.
وتوالت أحداث صيف 1972م مسرعة لاهثة؛ إذ أمر السادات بطرد الخبراء السوفييت من مصر في 18 يوليو، وظهر كبير المعلقين العسكريين للإذاعة البريطانية على شاشة التليفزيون ليتحدث بثقة عن انهيار «مصداقية» الجيش المصري، وكان اسم المعلق جم بيدالف
Jim Biddulf
وكرهته من أعماقي؛ إذ كان يمثل العنجهية البريطانية وروح الاستعمار القديم، وتوالت ردود الأفعال، فأجرى التليفزيون في الشبكة التجارية تحقيقا مع موشى ديان وزير الدفاع الإسرائيلي، الذي قال إن إسرائيل تستطيع احتلال العالم العربي كله في ساعات، وسأله المذيع: «والمغرب؟» فضحك ديان وقال: المغرب بعيدة! فعاد المذيع يسأله: «والسودان؟» فقال ديان: «وماذا نفعل بالسودان؟»
كانت التعليقات مفزعة، وجاءت في الوقت الذي كنا نتسلى فيه ببطولة العالم للشطرنج بين روبرت (بوبي) فيشر الأمريكي وبوريس سباسكي (الروسي)، وكان سباسكي قد فاز في أول دور، وانسحب فيشر في الدور الثاني، ثم توالت انتصارات فيشر وجعل المعلقون يتحدثون عن براعة أبطال العالم في لعبة الشطرنج - من اليهود! ولم يكن ذلك الجانب قد خطر لي من قبل؛ فالواقع أن نسبة كبيرة منهم من اليهود، ولكن ذلك لا يمكن الاستناد إليه في التدليل على عبقرية خاصة. وكان من الواضح أن ذلك الصيف ما يزال يحمل في أطوائه الكثير، ومن الغريب أن تلتصق في ذاكرتي كلمة وردت في خطاب السادات، وحمدت الله على أنني لم يكن علي أن أتولى ترجمتها؛ إذ ألقاه يوم الثلاثاء وهو يوم دراسة لي في المكتبة، وهي كلمة «وقفة مع الصديق»! الصحف البريطانية ترجمتها (نقلا عن زملائي بالتأكيد) على أنها
pause
أي «لحظة توقف»، وما تزال جميع الترجمات الرسمية وغير الرسمية للخطاب تتضمن هذه اللفظة، ولكنني كنت أراها غير دقيقة ثم لا أرى عنها بديلا مقنعا! فماذا كان يعني بالوقفة؟ هل كلمة
stand
بمعناها المجازي تفي بالغرض؟ إنها ملائمة وحدها، ولكنها لن تناسب السياق لأنك لا تستطيع أن تقول
to make a stand
وتتبعها بتعبير
with a friend
وإلا كان المعنى هو العكس تماما! فإذا أبدلت
with
بحرف يفيد الضدية كان المعنى أقوى من المطلوب (
against
مثلا)؛ ولذلك تراني ما أفتأ أذكرها، وأستعرض البدائل مثل
stand up to
التي تعني يتصدى لشيء ما، وأضيق ذرعا بالصعوبة فأحاول النسيان!
سارة تطعم البط في بحيرة في ردنج.
وفي أغسطس وقعت محاولة انقلاب أخرى في المغرب؛ إذ هاجمت قوة من سلاح الطيران من قاعدة القنيطرة طائرة الملك الحسن الثاني لكنها لم تصبه بسوء، وتمكنت القوات الموالية للملك من قمع التمرد الذي كان يقوده الرائد قويرة قائد القاعدة الجوية، وتحدث الجميع آنذاك عن استحالة المساس بالملك (أي إنه محجب بالعامية المصرية). ولما كانت الحادثة قد وقعت في عطلة نهاية الأسبوع فقد انشغلت بترجمة أخبارها، ولم نكد نفيق من الصدمة حتى جاءتنا أنباء قتل 11 من الرياضيين الإسرائيليين في ميونيخ بألمانيا، أثناء الألعاب الأولمبية، وسرعان ما انقضت أجهزة الإعلام العالمية على العرب ، ووصمتهم بالإرهاب، وأصبحت الصحف تتصيد الأنباء التي تسيء إلى سمعة العرب بصفة خاصة، وبلغ من تحملها أن أبرزت حوادث السرقات في المحلات التجارية
shop-lifting
والتي كانت الإيرانيات يرتكبنها على أنها أحداث عربية! كانت الصحافة تدين الشرق كله، بينما كان السادات يقول في خطاباته إن عام 1972م سيكون «عام الحسم» وهي كلمة عسيرة الترجمة، ترجمت على أنها
year of decision ) والصحافة تتندر بما يقول، والموقف مدلهم.
وفجأة تلقت عزة أخت نهاد خطابا من والدها يقول لها فيه إن خطاب التعيين في الحكومة قد جاءها وإنها لا بد أن تحضر لاستلام العمل، فسافرت وتركتنا وحدنا، وكان على نهاد أن تتحمل كل شيء لرعاية سارة وشئون المنزل، ويبدو أنني بدأت أشعر بالضيق من الحال التي لا تبدو لها نهاية - سواء على المستوى العام أم المستوى الخاص - ولاحظت نهاد ما أنا فيه من توتر، وتحملته وعانت منه، حتى وصلني ذات يوم خطاب من إدارة الجامعة ونحن على أبواب العام الدراسي تعرض علي فيه المشاركة في التدريس بقسم اللغة الإنجليزية بالقطعة (الساعة بأجر قدره 2,8 جنيه) ففرحنا؛ لأن ذلك سوف يساهم في تفريج الأزمة المالية، وبدأت العمل فورا، وكنت أعلم أن المشرف هو الذي رشحني لهذه المهمة.
كان عدد طلاب الفصل (أو
tutorial ) سبعة، وكانت مهمتي هي أن أشرف على تعليمهم مناهج النقد الرومانسي الذي كنت درسته في الماجستير، وكان المتبع هو أن أبدأ بمقدمة عامة عن الناقد الذي سندرسه (تشارلز لام مثلا أو وليم هازلت) ثم أكلف كلا منهم بقراءة أحد النصوص وكتابة تلخيص وعرض له، وكانت هذه «المقالات» (essays)
تترك لي في خانة الخطابات الخاصة بي في الكلية، فأجمعها وأصححها، وأرصد درجاتها في دفتر خاص معي، ثم آتي بها في المرة التالية، بعد أسبوع أو أسبوعين، فأناقشها معهم، وأنبه كلا منهم إلى أخطائه. وكان من متعي التي لم أفصح عنها حتى اليوم أن أصحح الأخطاء اللغوية، كأنما لأنتقم لنفسي من تصحيح المحررين لأخطائي في بداية عملي بالترجمة، أو لأثبت أنني أعرف الإنجليزية خيرا منهم. وأنا أثبت ذلك الآن مدركا أنه خطأ (ولا أقول نقيصة) فالطلاب طلاب، وهم يخطئون ويتعلمون، وكان الأجدر بي وقد تخطيت الثالثة والثلاثين أن أتخلى عن تلك المتع الصبيانية، أو دلائل الإحساس بالنقص، ولكنني أحيانا ما ألتمس العذر لنفسي؛ فأنا غريب أتعلم لغة غريبة، وما أطول ما عانيت من معاملة الإنجليز لي باعتباري غريبا!
وفي أكتوبر 1972 (لا أذكر اليوم) أعلنت إذاعة الكويت نبأ رفع سعر برميل البترول سبعين سنتا أي من 1,55 دولار إلى 2,25 دولار، وترجمت الخبر وأرسلته إلى مكتب الأخبار لإذاعته، وما إن أذيع حتى هاجت الدنيا وماجت؛ إذ اتهمني المشرف بأنني أخطأت سماع النبأ، فلا يعقل أن يرتفع السعر بما يقارب النصف! وأكدت له أن ذلك هو ما قاله المذيع، فقال أريد أن أسمع، وكان يزعم المعرفة بالعربية، فسمع الخبر وصاح «ألم أقل لك؟ إنه يقول سبعة عشر!» وسمعته من جديد «سبعين» - وقلت له ماذا سمعت؟ قال بالعربية «سبعين» - وأنت لم تسمع النون الأخيرة يا مستر عناني، وهناك فرق بين
Seventy
و
Seventeen
وضحكت فغضب، فقلت له هذا هو القاموس، ففتحه وتأكد له خطؤه ومضى.
كان العمل بالتدريس عبئا جديدا، فتوقف عملي في الرسالة تماما، وبدأت في شتاء ذلك العام أشعر بالحيرة التامة؛ إذ كنت كمن يسير بقوة القصور الذاتي، وفي يناير 1973م قالت نهاد إن هذا الوضع لا يمكن أن يستمر. ولا بد لنا من وقفة!
5
كانت الشهور الأولى من عام 1973م شهور توتر مستمر، لم تقتصر آثاره على العلاقة بيني وبين نهاد، بل امتدت لتؤثر في علاقة كل منا بالعالم الخارجي. كانت نهاد تبذل نفسها في رعاية سارة، وكان إخلاصها نادرا وفريدا، وكنت أعجز عن إدراك معنى الأمومة في الغربة وبسبب الانقطاع عن حياة الأسرة المصرية، ولكنني أقول الآن إنني مهما عرفت عن الأمومة، ومهما تواصلت بحياة الأسرة المصرية، فلن أجد مثالا لإخلاص نهاد المطلق، وقرأت آنذاك دراسة عن الفرق بين الرجل والمرأة، تقول إن المرأة كائن أسمى من الرجل؛ لأنها تستطيع أن تعطي من ذاتها لغيرها، فهي تعطي للجنين دمها وغذاءها، وتعطي الوليد حبها الخالص الذي لا «غرض» فيه، ولا يمكن أن يكون له «غرض»؛ فهي تكسر الأنانية المركبة في نفس الرجل والتي تدفعه إلى المنافسة والغلبة والنصر (أو إلى طلب النصر فحسب) أي إنها بالفطرة «تخرج» من ذاتها إلى «الآخر»، وذلك ما لا يستطيعه الرجل في الأحوال العادية.
لم أكن أستطيع أن أدرك ذلك؛ لأنني كنت مشغولا بالعمل في عدة أماكن فأنا سعيد بالتدريس في الجامعة، وبالترجمة، وبكتابة الرسالة، وإن لم أكن أكتب شيئا الآن. وكانت الشهور الأولى من عام 1973م شهور توتر مستمر كما قلت، وكانت تصلنا أنباء مصر فتزيدنا غما وهما، فقالت نهاد إنها يجب أن ترحل إلى مصر حتى تهيئ لي الجو اللازم للكتابة؛ فلقد طال بعدنا عن مصر فأمعن في الطول. كنت أحس أن العام المنصرم عام ضائع، وأن العمل الإضافي، على أهميته، قد سلبني الوقت الذي كان ينبغي أن أقضيه في الدرس؛ ومن ثم لم أعترض، وتصورت أن أنتهي من الرسالة في أواخر العام.
وسافرت نهاد وسارة إلى القاهرة في 15 أغسطس 1973م، فأحسست بالوحشة القاتلة، ولكنني كنت قد استقلت من العمل بالترجمة والعمل بالتدريس جميعا، وقررت التفرغ للكتابة حتى أنتهي من ذلك الكابوس. وكنت قد بدأت أعاني من طنين في الأذنين فذهبت إلى المستشفى وأجريت لي الفحوصات اللازمة، وقال لي الدكتور إن جيوبي الأنفية ملتهبة ويجب أن تعالج بالكي، وقال لي سوف نرسل لك إخطارا بالموعد. وكان يوم الكشف على جيوبي الأنفية غريبا؛ فبعد أن وضع الطبيب المخدر في أنفي (قطعة من القطن في كل فتحة) جلست في الصالة، ولكنني ما إن جلست حتى غبت عن الوعي ووقعت مغشيا علي، وأفقت على يد قوية سمراء تحملني؛ إذ كانت الممرضة زنجية ضخمة كأنها عملاقة، ووجدتني أمام الطبيب وإلى جواره شاب قصير، أسمر الوجه وعيناه خضراوان، حادثني بالعربية وقال إن اسمه زكي (لا أذكر الاسم الآخر) وقال إنه من مصر، ثم فهمت من الطبيب الكندي أنني أصبت بالإغماء؛ لأن لدي حساسية ضد الكوكايين، ولا يعاني من هذه الحساسية إلا واحد في المليون؛ ومن ثم أتوا لي بفنجان من القهوة القوية، وجلست نحو نصف ساعة حتى استطعت أن أقف على قدمي وخرجت. ولدى الباب قابلت ويني دارتر
Winny Darter
زميلة نهاد في المكتبة، فأقبلت علي دهشة متسائلة، فأخبرتها الخبر، فقالت دعني ألعب دور الممرضة! وصاحبتني حتى باب المستشفى وافترقنا.
وقررت عدم إجراء العملية، وإن كنت أعجب ممن يتعاطون الكوكايين بأنواعه - ماذا لو كانوا يعانون من الحساسية؟! وبدأت الالتزام بالجدول الزمني الذي وضعته لنفسي، فلم ينقض أغسطس حتى اكتمل الفصل الرابع، وأرسلته إلى المشرف الذي كان قد سافر إلى أمريكا للتدريس فصلا دراسيا كاملا في جامعة بنسيلفانيا
، وعكفت على الفصل الخامس طوال سبتمبر، وكنت قد كلفت نهاد باستئجار شقة والبحث عن عمل لها حتى أنتهي من الدكتوراه وأعود، وكنت قد أعطيتها 600 جنيه للنفقات العامة، وكان المتفق عليه أن نقضي الصيف (ما بقي منه) مع والدي ووالدتي؛ لأن حسن أخي كان قد سافر بعد تعيينه ملحقا دبلوماسيا، والشقة واسعة، ولكن نهاد لم تمكث معهما إلا أسبوعين وانتقلت في سبتمبر إلى منزل أسرتها في شبرا، وكنا نتراسل بانتظام، وفي يوم السبت 6 أكتوبر 1973م وصلتني برقية تقول: «أحتاج للمال بصورة عاجلة، المبلغ كله أنفق في الشقة.» (Need money urgently stop all money spent on flat)
وعجبت من هذا الإسراف. كيف تنفق 600 جنيه في شقة؟ وذهبت إلى السوق لإصلاح المكنسة الكهربائية، وعدت فاتصلت تليفونيا بالدكتور نوح؛ لأنه كان سيسافر إلى مصر بعد أيام، وقلت له إنني أريد توصيل بعض المال إلى نهاد فرحب، وكان يقيم في شمال إنجلترا، وبعد المحادثة عدت إلى العمل، وكانت الساعة قد قاربت الواحدة (بتوقيت لندن).
ولم أكد أبدأ الكتابة حتى رن جرس التليفون، وكان المتحدث هو المشرف في قسم الأخبار يوم السبت، وكان من تشيكوسلوفاكيا ويدعى سبوليار
Spoliar
وسألته ما الخبر؟ فقال بلهجة مطمئنة: “There may be nothing in it, but an Arial battle has taken place over the Gulf of Suez. Two Israeli planes have been shot down.”
أي «ربما لا يكون الأمر مهما، ولكن معركة جوية وقعت فوق خليج السويس وأسقطت طائرتان إسرائيليتان.»
وسألته ثانيا ماذا يريد، فقال «لا شيء .. أردتك أن تعلم وحسب.» فأفهمته أننا في رمضان، والناس صائمون ولا داعي لتصورات من التي يحبها مكتب الأخبار! وضحك ووضع السماعة.
ولم تمض دقائق حتى رن التليفون من جديد. وكان المتحدث هو نفسه. ولكنه كان واثق النبرة هذه المرة؛ فبعد أن لخص لي الأنباء قال بثقة: «إننا ننتظر البلاغ العسكري الثالث.» البلاغ العسكري؟ وقلت له دون تردد: «أرسل السيارة من فضلك - سوف آتي حالا.» وضحك قائلا: كنت أعرف. لقد أرسلتها منذ دقائق!
ووضعت السماعة وجريت إلى الباب، وعندما فتحته كان ديريك (جنجر) السائق في سيارته الفوكسهول يدخن! وفي لمح البرق كنت في مكتب الأخبار، ولم أجد من العرب سوى عراقي يدعى ربيع الطائي يضع السماعات على أذنه ويحاول الاستماع إلى إذاعة القاهرة؛ ومن ثم جلست إلى المنضدة الممدودة، وأحضرت السماعات، وجلسنا في انتظار الأخبار.
الفصل السابع
تحولات
1
عندما توالت البلاغات العسكرية، وكنت أترجم كلا منها فور مجيئه، أيقنت أن المسألة ليست مسألة اشتباك فوق خليج السويس (عند الزعفرانة والعين السخنة) بل هي الحرب، وإن كان ذهني لا يستطيع تقبل النغمة الهادئة لمذيعي صوت العرب، ولم نكن نستطيع سماعولم يتغير سلوك كاثلين مطلقا سواها من الإذاعات، وكان اليهود الذين يعملون معنا في عطلة؛ فهو «يوم كيبور» أو عيد الغفران لديهم، وعندما حل موعد الإفطار خرجت إلى الحديقة أتأمل غروب الشمس، وقد اعتدت منذ الطفولة أن أقرأ بصوت مسموع آيات القرآن:
قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير * تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب (26، 27) صدق الله العظيم.
وسمعني أحدهم وأنا أتمتم بهذه الآيات فاقترب مني وسألني: هل تصلي؟ وشرحت له معنى الآيات فقال لي: «ما أعمق إيمانكم أيها المصريون! أراهن أن اليهود يصلون الآن أيضا.» وابتسم ومضى. وعدت إلى الراديو لأستمع إلى القرآن، ثم حل الليل، وجئنا بالشاي من البوفيه وجلسنا نرشفه صامتين وإذا بأحد المحررين، وكان اسمه كارل ليمان (Karl Lehman) ، يدخل المكتب ممتقع الوجه، ويبدو أنه كان يتحين الفرصة للحديث معي في «الموضوع»، فبادأته أنا بالحديث مرحبا، فتقدم بخطى متثاقلة وقال: «هذه الدبابات الأربعمائة .. كيف تعبر قناة السويس؟» وقلت له: «ربما على كوبري عائم
pontoon bridge .» لكنه قال: «محال! لا يمكن للكوبري العائم أن يتحمل ثقل الدبابة!» ولم أعلق. فعاد يقول: «هذه دعاية ولا شك! ولكنها ستكون وبالا عليكم! إذا حدث ونقلتم الدبابات فسوف تخسرونها!» وابتسمت بسمة مصطنعة وأنا ألتزم الصمت؛ إذ تأكد لي ما شاع عن وجود ثلاثة من اليهود في مكتب الأخبار، ومدى نفوذهم على ضآلة عددهم، وخشيت أن يتدخل في العمل فلم أجادله، وتظاهرت بالانشغال بما أسمعه في راديو القاهرة، وحولت وجهي عنه فانصرف.
وفي نحو الحادية عشرة وصل روجر كولمان
Roger Coleman
وهو مشرف النوبة الليلية، وكان من أقرب العاملين إلى قلبي؛ فهو ضحوك ولا يسمح لأي شيء بأن ينزع البسمة عن شفتيه، وكان قصيرا أصلع يلبس نظارة طبية سميكة، وكانت زوجته كاثوليكية لا تؤمن بتنظيم الأسرة، فأنجبا ثمانية أطفال، واضطر روجر إلى شراء سيارة ضخمة من نوع لاندروفر حتى يستطيع نقل الأسرة كلها فيها إذا اقتضى الأمر، ولم يكن يشكو من تكاليف الحياة وأعباء الأسرة، فالدولة تتكفل بالعلاج والتعليم مجانا، وكان يقول لي إنه استحدث مذهب «الملبس التعاوني» (cooperative clothing)
ومعناه أن يلبس الأطفال بعضهم ملابس بعض، بحيث لا تثبت الملكية المطلقة لأي قطعة من الملابس لطفل دون سواه! والواقع أنه كان يعطي الصغير ملابس الكبير، ويحرص على توحيد الزي حتى لا يغار أحد من صاحبه، وكثيرا ما كنت أراه يسير وقد أمسك بأيدي ثلاثة أو أربعة من الصغار على الأقل!
وعندما انتهى روجر من قراءة أنباء اليوم جاءني ضاحكا وقال: «أراهن أن ساليفان وهايمان (Sullivan & Hayman)
سوف يحضران الليلة أيضا.» وكان قد لمح ليمان خارجا، وأضاف في نبرات شبه جادة أنه يظن أن «القلق يعتصرهم على أبناء دينهم في سيناء!» ورسمت نفس البسمة المصطنعة على شفتي ولم أعقب. كان قلبي يموج بمشاعر يصعب وصفها؛ إذ أصبحت وحدي ممثلا لانفجار غضب العرب بعد أن صبروا ست سنوات، وكنت أعلم أن غضب «الأعداء» سوف ينصب على رأسي، لكن فرحتي بعبور القناة كان غامرا؛ ومن ثم تطوعت للبقاء طول الليل أتتبع الأخبار، وفرح روجر، وقال: «اعتبر نفسك في مصر، وأنك تسهر مع الأسرة في رمضان!»
واستمعت إلى سهرة الراديو الرمضانية ثم إلى قرآن الفجر وأذان الفجر وصلاة الفجر وتصورت أن الجميع سوف يعودون الآن إلى المنزل في مصر، ولكنني لم أرفع السماعة عن أذني، وفي الخامسة والنصف (السابعة والنصف بتوقيت القاهرة) صدر البلاغ العسكري الذي يلخص أحداث اليوم السابق، وحالما سمعت التنويه عنه في موجز الأنباء أحضرت الآلة الكاتبة، وبدأت العمل، وربما كان ذلك أسرع نص ترجمته في حياتي! وأعددت الخبر وأرسلته إلى المذيع في الاستوديو في لندن مباشرة (في مبنى الإذاعة الرئيسي -
Broadcasting house ) وطلبت من المهندس أن يدير مؤشر جهازه للاستماع إلى الإذاعة العالمية لهيئة الإذاعة البريطانية (BBC World Service)
فلا شك أنها ستكون أول من يذيع النبأ، وفعلا أذيع النبأ كاملا كما كتبته بالحرف في نشرة السادسة صباحا، وإن كان المذيع قد تلعثم في العبارة الأولى، فالخبر يقول: «يقول راديو القاهرة ...» والإنجليزية تقبل الإضافة بعكس موقع الكلمتين أو باستخدام حرف الإضافة
of ، وهو الذي يفضله الكلاسيكيون المتحذلقون والمتشبهون بهم، وكان النص الذي كتبته يقول: “According to Cairo Radio ...”
ولم يعجب المذيع ذلك فأراد أن يقول:
the radio of Cairo
فقال
the Cairo of radio
مما جر عليه اللوم، ولم يجد ما يعتذر به سوى أنه كان لم يفق تماما من نومه!
وعندما طلع النهار أتى الجميع، وعدت إلى المنزل لأنال قسطا من الراحة، لكنني كنت أشعر أن راديو القاهرة (صوت العرب) قد أصبح أمانة في عنقي، فنمت ساعاتي الأربع، ثم انطلقت وحدي إلى مكتب الأخبار، ووضعت السماعة على رأسي، والتصقت براديو القاهرة، وأمامي الآلة الكاتبة جاهزة، وتوالت البلاغات العسكرية ثم التعليقات والمقابلات الصحفية، وأنا ثابت في مكاني أسمع وأترجم، والعالم يسمع ويدهش، حتى كان اليوم الرابع للحرب - يوم النصر الحاسم في سيناء وأسر القائد الإسرائيلي «عساف ياجوري».
وتحول العالم كله! كانت الصحف تلتزم الحذر في نشر تفاصيل الحرب حتى تلك اللحظة، وكان المعلقون السياسيون يقولون صراحة إنهم لا يصدقون ما يحدث، ولكن تدمير اللواء المدرع الإسرائيلي في سيناء محا شكوك المتشككين، وظهر أحد المحللين العسكريين في نشرة السادسة مساء في التليفزيون ليتحدث عن الجسر الجوي الذي أقامته أمريكا اعتبارا من مساء يوم 6 أكتوبر، وقال إن شحنة من الدبابات الأمريكية نزلت عند العريش وقال أحد شهود العيان إنها «صف رائع من الدروع» - حرفيا.
An impressive array of armour.
ثم عرض فيلم تليفزيوني عن الحرب من داخل سيناء، صوره المصور من وراء الخطوط الإسرائيلية، ولن أنسى ما حييت صورة الطائرتين المصريتين اللتين كانتا تطيران على الارتفاع الصفري
flying at zero altitude
وهو أدنى ارتفاع يمكن أن تطير عليه الطائرة دون أن تصطدم بالأرض، وقال المعلن إن سيناء مفتوحة أمام الطيران المصري، وإن المصريين فدائيون يجازفون بأرواحهم حين يطيرون على هذا الارتفاع؛ فأقل خطأ يجعل الطائرة ترتطم بالأرض، ولكن ذلك الارتفاع يجعلهم بمأمن من الإصابة بأي أسلحة أرضية. ودارت الطائرتان أمام عيوننا - رغم عدم وضوح الصورة - ثم ارتفعتا فجأة في الهواء كأنما بفعل السحر واختفيتا ثم لمحنا عند الأفق آثار الانفجار الذي أحدثته القنابل التي ألقيتاها.
وصدرت صحف الحادي عشر من أكتوبر وهي تتحدث عن الحق العربي، وعن القضية الفلسطينية، وعن تحرير الأراضي العربية في سيناء ومرتفعات الجولان والضفة الغربية، بل والأغرب من ذلك كله أن يتحدث بعض المحللين السياسيين عن ضرورة التدخل لإنقاذ إسرائيل من الدمار؛ فلن يتوقف العرب في رأيه عند استعادة حقوقهم، وعلى إسرائيل أن تعقد فورا معاهدة سلام تضمن لها بقاءها! كنت أقرأ هذا الكلام غير مصدق! كان التحول في ذاته دليلا على ما كنت أعرفه خير المعرفة من أن العالم لا يعرف إلا لغة القوة، ولكن مظاهر التحول كانت غير متوقعة؛ فالذين كانوا يؤيدون إسرائيل لم يعدلوا عن تأييدها لكنهم أصبحوا يقولون إن القوة لم تعد الوسيلة المؤكدة لتأمين وجودها، وباتوا يدعون إلى التعقل والسلم، والذين كانوا يناصرون الحق العربي لم يتحولوا عن مناصرته لكنهم أصبحوا يقولون إن القوة هي الوسيلة الوحيدة لاستعادته، وباتوا يؤازرون الحرب! أما الذين كانوا يزعمون الحياد والموضوعية فقد أفردوا الصفحات للحديث عن تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، وكانوا ينتهون في كل مقال تقريبا إلى ضرورة نهوض الغرب بدور فعال في حل المشكلة التي تسبب فيها أصلا بإنشاء دولة إسرائيل!
وحتى يوم الثلاثاء 16 أكتوبر لم أكن أغادر مكتب الأخبار إلا للنوم ساعات معدودة، وفي صباح ذلك اليوم ألقى السادات خطابه المشهور الذي وردت فيه عبارته الذائعة «عشرة أيام مجيدة»، وقد ترجمت الخطاب مباشرة على الآلة الكاتبة، وأذكر أنني أخطأت عندما كتبت كلمة
sign
وأنا أعني
signal (عندما أعطى «الإشارة») فجاءني أحد الزملاء ليستوضح فنهرته كأنما أخطأ حين لم يحدس الصواب بنفسه، ولكنني كنت مرهقا من طول السهر، وكان الإنجليز من حولي سعداء بي، وعندما انتهيت وذهبت إلى المنزل، سمعت في الراديو ملخصا لخطاب جولدا مائير الذي أعلنت فيه عبور بعض القوات الإسرائيلية إلى الضفة الغربية للقناة من ثغرة في الجبهة المصرية، وفزعت طبعا، ولكن القضية كانت قد تحركت بما يكفي ل «عودة الروح» إلى مصر، وعودة الثقة إلى نفوس التائهين والحائرين - والكثير من اليائسين!
وبعد وقف إطلاق النار ذهبت إلى لندن لتجديد جواز السفر، وقابلت الأستاذ فوزي عبد الظاهر المستشار الثقافي، وسألني عن موعد انتهائي المرتقب من الدكتوراه، فقلت له إنني أوشكت على الانتهاء وإنني أنتظر عودة الأستاذ المشرف من أمريكا. وتجولت يومها في لندن كأنما لأستعيد ذكريات الصبا؛ إذ أحسست بعد الحرب أنني كبرت في السن، وكأن الساعات التي قضيتها في الترجمة على مدى الأسبوعين المنصرمين جعلتني شخصا آخر. وبدأت أدرك التحولات التي تصيب المصري حين يصبح قلب مصر نفسها، وعندما يتوحد الفكر والإحساس فيه، وكان أول خاطر لي أن أدعو نهاد وسارة إلى العودة!
2
زارني الدكتور نوح يوم 22 أكتوبر فسلمته النقود ليحملها إلى نهاد في مصر، ومعها خطاب ألح فيه عليهما أن يعودا، وقضيت الأسبوع الأخير من أكتوبر في إعادة ترتيب بطاقات الفصل الأخير من الرسالة، وأنا أتابع عن كثب أخبار مصر، وكل ما يجري حولنا، كأنما أصبح الاهتمام بأحداث العالم «أسلوب حياة».
وتلقيت دعوة ذات يوم إلى حفل في الجامعة، باعتباري من الأساتذة المنتدبين من الخارج، بمناسبة تدشين جناح جديد في المكتبة، وكان ضيف الشرف هو رايموند وليامز الذي أهدى الجناح مجموعة من كتبه الخاصة، فذهبت أولا للحديث مع ذلك الأستاذ وثانيا باعتباري المصري (بل العربي) الوحيد في الجامعة - وكان علي أن أضع قناعا هو قناع الرزانة والتعقل، وأن أنفض عن نفسي آثار الاهتمام بالحياة العامة والاشتغال بالترجمة والكتابة، وإن كان الإنجليز لا يهتمون بذلك القناع - وعندما زال التوتر وهدأت الأعصاب، انطلق المدعوون في الأحاديث الجانبية التي تسبق الحفلة الرسمية أو تمهد لها وكانت تنذر بتحول آخر في حياتي.
تعرفت أولا بأستاذ أستاذي وهو البروفسور باراز
Burroughs
من جامعة أوكسفورد، وبزوجته ديانا إلوين جونز
Diana Ellwyn-Jones
كاتبة قصص الأطفال المشهورة، وتطرق الحديث بيننا إلى احتراف الكتابة وضياع حقوق الكتاب، وحدثتهم عن كتاباتي للمسرح بالعربية، وكيف توقفت عن الكتابة ثماني سنوات بسبب الدكتوراه اللعينة، وبأنني أعد الأيام حتى أعود إلى القاهرة لأمارس نشاطي الأدبي، وقالت ديانا بلهجة جادة: ولماذا لا تكتب بالإنجليزية؟ وضحكت وأنكرت قدرتي على ذلك، ولكن باراز أردف قائلا: «إن كريس (يعني الأستاذ المشرف على رسالتي) يمتدح أسلوبك ويفيض في ذكر موهبتك.» وكدت أطير فرحا - بطبيعة الحال - ولكنني وضعت قناع التواضع الإنجليزي وقلت في نبرات خفيضة: «هذا كرم منه لا أستحقه.» فأسرعت ديانا تقول: «فلنحكم نحن على ذلك .. أرنا بعض كتاباتك.» ولم تتح لي فرصة الإجابة؛ لأن رايموند ويليامز دخل القاعة فالتفت الجميع وساد الصمت. وبدأت مراسم الاحتفال.
وبعد ثلاثة أيام وجدت في درج البريد الخاص بي مخطوطا لرواية من تأليف ديانا إلوين جونز (وجميع المخطوطات مكتوبة على الآلة الكاتبة بطبيعة الحال) فحملته إلى المنزل، كان مرسلا من أوكسفورد وتاريخ الإرسال صباح اليوم نفسه! وعندما فضضت المظروف وجدت في داخله رسالة تقول فيها إنها تريد أن تعرف رأيي في النص، وكان عنوان الرواية
Craven Images
أي صور بشعة، وعكفت عليها حتى انتهيت من قراءتها في نحو الثالثة صباحا؛ فقد كانت غير عادية في كل شيء. وعلى الفور كتبت تحليلا لها في نحو ثلاث صفحات وأرسلته في ظهيرة اليوم التالي (لم أنهض إلا في الضحى) إلى الكاتبة.
كان ذلك يوم الثلاثاء، وكان علي أن أعمل في الفصل الأخير من الرسالة بحيث أنتهي من تحديد تعريف «الأسلوب الرفيع الجديد» قبل عطلة نهاية الأسبوع، وقد يعجب القارئ من هذه التسمية، ولكنني سوف أوجز ما أعني فيما يلي: كنت قد اهتديت في بحثي في تطور أساليب الشعر في القرن التاسع عشر إلى أن الرومانسية أتت معها بأسلوب جديد يطمح في محاكاة الأساليب الكلاسيكية عن طريق الإسراف في استعمال المجردات - سواء كانت من المعاني المجردة (الأسماء) أو غيرها. وكان المثل الأعلى القديم للأسلوب الرفيع هو أسلوب ملتون في القرن السابع عشر، والذي كان يعتمد على بعض العناصر المعروفة مثل «جلال» الموضوع؛ أي أهميته التي ترجع إلى طابعه العام؛ أي العالمي واللازمني، ومثل «شرف» الألفاظ المنتقاة (كما يقول النقاد العرب القدامى) وتحاشي الخصوصية ودقائق التجربة الشعرية، وتجنب التفاصيل الواقعية أو المعتادة وما إلى ذلك. ولكن الرومانسيين كانوا بصفة عامة يجعلون من الفرد ومشاعره محورا للتأملات الشعرية مما يتعذر معه «الجلال» في الموضوع، وكان وردزورث ينكر شرف ألفاظ بعينها ويدعو إلى استخدام الألفاظ العادية في الشعر، كما كان كل منهم يؤكد خصوصية تجربته الشعرية، ويتكئ على التفاصيل، وكان بعضها مغرقا في الواقعية. وقد اهتديت، كما قلت، إلى أن وردزورث عندما تخطى المرحلة الثورية الأولى بدأ يطمح في محاكاة الكلاسيكيين على الرغم من جميع تلك السمات الرومانسية، وذلك عن طريق زيادة استخدام المجردات؛ ولذلك فقد أطلقت على ذلك الأسلوب اسم «الأسلوب الرفيع التجريدي» (The Grand Abstract)
وحتى يدرك القارئ مرماي سأسوق له مثالا عربيا من البارودي؛ إذ قال في إحدى قصائده المبكرة التي كان «يروض فيها الشعر» (على حد تعبير علي الجارم):
ومن تكن العلياء همة نفسه
فكل الذي يلقاه فيها محبب
فالعلياء صفة مجردة، أو اسم لشيء غير محدد، فما هو تعريف «العلا» أو العلاء أو العلياء؟ هل هو المنصب الرفيع أو الشهرة أو المال أو المجد أو كلها معا؟ وكذلك الهمة. ما هي الهمة؟ هل هي الطموح؟ هل هي الدافع الباطن على «العلياء»؟ وقس على ذلك «كل الذي يلقاه» - الصعاب والعراقيل والمعاناة (الفقر/المرض/الاضطهاد/السجن؟). المعاني كما ترى مجردة ويمكن إيراد أمثلة بالغة التنوع لكل منها، وهذا هو المثل الأعلى الكلاسيكي الذي يكفل للبيت أن يجري مجرى الأمثال والحكم.
أما الرومانسيون فقد بدءوا يميلون إلى محاكاة هذا الأسلوب بعد استقرار الاتجاه الجديد، فاتجه وردزورث في مراجعته لقصيدة المقدمة، وهي قصيدة تتميز بخصوصية التجربة - تعريفا - لأنها سيرة ذاتية، إلى الإسراف في المجردات بحيث اختلفت الطبعة المعدلة التي نشرت عام 1850م (بعد وفاة الشاعر) عن النص الأصلي الذي كتبه قبل خمس وأربعين سنة. وكانت مقارنة النص الأول بالنص المعدل من حيث الصور الشعرية هي موضوع دراستي للماجستير، أما الآن فأنا أبحث الأسلوب وأستخدم الاختلافات الأسلوبية قرائن لإثبات تطور الأساليب الشعرية من القرن الثامن عشر إلى بداية التاسع عشر ثم في غضون القرن التاسع عشر نفسه - من مرحلة الثورة الرومانسية إلى مرحلة الطموحات الكلاسيكية.
كان علي أن أنتهي من هذا التعريف، كما قلت، قبل عطلة نهاية الأسبوع، لكنني وضعت البطاقات أمامي وجعلت أتطلع إليها وقد استولى على تفكيري خاطر أوحد: لماذا لا أكتب بالإنجليزية - كتابة إبداعية؟ أنا قطعا لن أستطيع أن أجاري سلاسة أسلوب ديانا، خصوصا إسهابها في الوصف ودقة التفاصيل، فهي تصف أشياء تعرفها خيرا مني، ولكنني قد أستطيع أن أتحدث عما أعرفه وربما نجحت. وبدلا من كتابة الفصل الأخير من الرسالة («عشان نخلص») بدأت أكتب قصة قصيرة كانت حلقاتها قد اكتملت في ذهني منذ فترة، وكانت - مثل كل ما كتبته - مستمدة من الواقع الحي من حولي، وكانت طويلة بعض الشيء، ولم أنته منها إلا يوم الجمعة، فقررت أن أعرضها على ديانا وأسمع رأيها، فأعددت صورة زيروكس وأرسلتها بالبريد، وجاءني الرد في يوم الإثنين.
كان الرد موجزا وقد أرفقت ديانا به قائمة بأسماء وعناوين «وكلاء»
agents
وطلبت مني إرسال نسخة إلى أحدهم، وقالت إنها تفضل أن أتعامل مع وكيلها الذي تتعامل معه منذ سنوات فهو أكثرهم خبرة! وتساءلت ما الوكيل وما التعامل مع الوكلاء؟ كان الرد يقول لي باختصار إن موهبتي ناضجة، ولا بد من الاستمرار على أساس الاحتراف، ويحذرني من أن أرسل قصتي إلى أي مجلة، بل أن أتعامل فقط مع الوكيل! وكان لا بد أن أسأل وأتقصى فعلمت أن الوكيل هو رجل أعمال يتمتع بموهبة كبيرة في الإدارة، ويعمل في مكتبه محامون ونقاد ومحررون ومراجعون ... إلخ، والمكتب يتولى الحكم على «العمل» (القصة أو المسرحية أو القصيدة أو ديوان الشعر ... إلخ)، فإذا رأى أنه صالح تولى إبرام عقد مع الكاتب وعقد آخر مع جهة النشر، (أو مع عدة جهات نشر إذا كان الكاتب لامعا وفي هذه الحالة يسمى الكاتب
syndicated ) بحيث يقتصر تعامل الكاتب مع الوكيل، ويقتصر تعامل الناشر معه أيضا، وهناك حالات لم يقابل فيها الكاتب الجهة التي تنشر أعماله مطلقا، أو لم يقابل مندوب تلك الجهة إلا في مناسبات خاصة! وقلت في نفسي: ولم لا؟ وفعلت ما نصحت ديانا به وبدأت الانتظار الذي لم يطل إذ جاءني برجوع البريد رد يقول: «إننا تسلمنا القصة وهي حاليا قيد الفحص، وسوف تجدون طيه بعض المعلومات عن شركتنا.»
كان المكتب أي مقر «الشركة» في أوكسفورد وقرأت التفاصيل بتمعن فوجدت ما يسر القلب حقا، وحملت الخطاب إلى الكلية وطلبت مساعدة سكرتيرة رئيس القسم في فهم الموضوع فأوضحت أن الوكيل هو الوكيل القانوني الذي يتولى الحكم أولا على العمل، ثم يعهد إلى أحد المحررين ب «إعداده» للنشر (نعود للحديث عن ذلك فيما بعد)، ثم يتصل بالمجلات التي تنشر ذلك اللون من الأعمال لنشره، ونادرا ما ترفض المجلة عملا أوصى به الوكيل، بل العجيب حقا هو أن قرار النشر أصلا في يد الوكيل لا في يد رئيس التحرير، وكان هذا جديدا علي ومثيرا إلى حد بعيد، لكنني علمت فيما بعد أن ما أسميته بالوكيل هو مؤسسة كاملة، وأن النقاد الذي يحددون صلاحية العمل يتمتعون بمؤهلات فنية وعلمية عالية المستوى، وتقاريرهم لا تقبل النقض؛ فهم لا يمثلون القيم الأكاديمية التي ندرسها وندرسها في الجامعة فقط بل يضمون إليها ما يريده القراء، وما يمكن أن ينجح لو تغير الجو أو الذوق الأدبي، كما أن بعضهم يتميز بنظرة مستقبلية قادرة على استشفاف ذلك التغير ومن ثم على الدفع بالإنتاج الجديد إلى السوق! والأعجب مما ذكرت أن الكاتب لا يملك اختيار الجهة التي ستنشر عمله، وإن كان له حق الاعتراض، وقد يتمتع الكاتب بعد رسوخ قدميه بحق الاختيار ولكن ذلك لا بد أن يكون أيضا عن طريق الوكيل!
وبعد دراسة مستفيضة اتضح لي أن أساس ذلك هو التجارة؛ فقد آمن الإنجليز قبل غيرهم أن كل ما يعمله الإنسان لا بد أن يعود عليه بفائدة ما، وأقرب صور الفائدة إلى الذهن الإنجليزي العملي هو الربح المادي، بل إن الفكر التجاري يعتبر أن الشهرة أو ذيوع الصيت عامل من عوامل تحديد قيمة الإنتاج المادية؛ ولذلك فما نعتبره اليوم جديدا مثل حقوق الملكية الفكرية أو تجارة الخدمات وما إليها له جذوره في الفكر التجاري الإنجليزي. لا عمل دون أجر! هذه هي القاعدة الذهبية عندهم! هل يمكن أن أقول أيضا: لا عمل دون ربح؟ لقد شاعت هذه الأيام تعبيرات جديدة مثل «المؤسسات التي لا ترمي إلى الربح» (non-profit organizations)
وأصبحنا نصدق أن هناك بين الإنجليز من لا يرمي إلى الربح، ولكن الربح المقصود هنا هو الربح المادي في صورته المعتادة وهي النقود! أما الربح الحقيقي الذي تجنيه هذه المؤسسات فهو يأتي من طريق بالغ الالتواء، فإذا كانت المؤسسة خيرية (charity)
أي تدعو إلى الإحسان وإغاثة الملهوف (مثل منظمة أوكسفام
Oxfam ) فإنها تساهم عن طريق جمع تبرعات المحسنين وإنفاقها في وجوه الخير، في رسم صورة المجتمع الراعي الطيب، والدولة المؤمنة بالتكافل، مما يضفي الطابع الإنساني السامي على وجه إنجلترا، ويهيئ لها المزيد من المكاسب المادية في صورتها المعتادة وهي النقود!
ولا ينفي ذلك بطبيعة الحال أن «أهل الخير» يدفعون التبرعات عن «إيمان» ويقين، وأن نسبة كبيرة من «المؤمنين» يبتغون وجه الله فيما ينفقون، ولكن الطابع التجاري المتأصل في الحياة الإنجليزية يجعل الإنجليزي العادي «يحترم» المال منذ نعومة أظفاره؛ لأنه لا يرى أن النقود وسيط للمبادلة أو صكوك لحق الامتلاك بل يرى فيها رأسماله، وهي فكرة قد تحتاج إلى إيضاح.
من المبادئ الأساسية التي يلقنها الأهل للطفل مبدأ القسمة الثلاثية، (أو
The three part division ) ومعناها تقسيم الدخل إلى ثلاثة أجزاء؛ جزء ينفق على المسكن، وجزء ينفق على المعيشة (المأكل والملبس والمواصلات ... إلخ)، وجزء يدخر! ومنذ السنوات الأولى في حياة الطفل يعلمه الأهل أن يدخر قسما من مصروفه في «الحصالة»، ثم أن يتخذ لنفسه دفتر توفير في مكتب البريد أولا، ثم في البنك بعد ذلك (أو في جمعيات الإسكان
building societies )، وهكذا يميل الطفل إلى الحرص على ماله، خصوصا وأن أهله يعدونه من البداية للاستقلال؛ فحالما يبلغ السادسة عشرة يصبح عليه أن يعتمد على نفسه؛ إما بالعمل، أو المساهمة في نفقات المنزل، أو الاستقلال والحياة بعيدا عن الأسرة. أما إذا كان مجتهدا واجتاز امتحان دخول الجامعة (
Sixth form ) فهو يحصل على منحة دراسية تتضمن مصاريف التعليم (tuition fees)
وتكاليف السكنى والإقامة في أحد بيوت الطلاب (residence halls)
إلى جانب راتب شخصي
stipend (أو مصروف
pocket money ) مما يؤهل الطلاب للحياة المستقلة بعيدا عن منزل الأسرة، تمهيدا للاستقلال نهائيا بعد التخرج والعمل والزواج.
ومعنى هذه التنشئة أن الصغير يرى في المال سبيله إلى الاستقلال والحرية، وإذا كان طموحا فهو يحلم بأن يعمل بالاستثمار والتجارة مما يجعل للمال قيمة لا يراها من لا يسير في هذا الطريق (كأصحاب المهن من أطباء ومهندسين ... إلخ)، وسواء تحقق حلمه أم لا فهو ينشأ على «احترام» الادخار، مما يغرس في نفسه الحرص، وقد فسر ذلك أحدهم بأن الجو مسئول عن ذلك! ولطرافة هذه النظرة أوردها باختصار: أحرص الناس في الجزر البريطانية هم من يعيشون في أبرد الأجواء أي - اسكتلندا! فالبرد يجعل المرء منغلقا على نفسه (inward-looking)
ينشد الدفء ولا شيء يجلب الدفء مثل النقود! ولكن النظرة - كما ترى - فاسدة؛ ففي أبرد أماكن الدنيا عشت مع أكرم البشر في شمال أمريكا الشمالية!
أما الدولة فهي تشجع المحسنين على الإحسان بخصم تبرعاتهم من وعاء الضريبة، فما أيسر أن أتبرع للخير إذا كانت النقود سوف تضيع من يدي على أي حال! بل إن أحد الخبثاء نشر في مجلة
الأسبوعية مقالا يقول فيه إن التبرعات المخصومة من الوعاء الضريبي تساعد رجال الضرائب على اكتشاف الحجم الحقيقي لمكاسب المتبرع! وضرب الكاتب مثالا على ذلك بتبرع اللورد سيف صاحب سلسلة محلات ماركس آند سبنسر (Marks & Spencer)
بمبلغ 24 مليون جنيه ل «الفقراء» في إسرائيل، وهو الحد الأقصى المسموح بتحويله من إنجلترا إلى خارجها، فقال إن أرباحه المعلنة كانت 219 مليونا، وكان صافي ربحه بعد خصم الضرائب 19 مليونا؛ أي إن ما تبرع به قد خصم من مقدار الضريبة، وكان المفروض أن تكون 200 مليون فنقصت بذلك المقدار، فكأن الحكومة هي التي تبرعت لفقراء إسرائيل! وانتهى الكاتب إلى ما يلي: «ولما كان الحد الأقصى المسموح بالتبرع به من الأرباح هو 10٪ وكان مقدار التبرع هو 24 مليونا، فإن معنى ذلك أن الأرباح المعلنة (219) تقل بمقدار خمسة ملايين عن الأرباح الحقيقية. فأين ذهبت هذه الملايين؟!»
ولم يعقب أحد على ذلك المقال أو يعترض عليه، ولكننا قرأناه في الكلية، وناقشناه واستخلصنا منه ما استخلصنا!
وليس معنى ذلك، كما سبق أن ذكرت، غياب القيم الإنسانية (ومنها الثقافية والفنية) أو تضاؤلها، فهي ثابتة وعريقة، ولكنها دائما ما توضع في أطر تجارية؛ ولذلك فإن أي إعلان أو دعوة لا بد أن تتضمن التكاليف وتحددها بصورة دقيقة، وأنت عندما تدخل المقهى تدفع أولا ثمن الشاي مثلا قبل أن تشربه، فأنت تشتري طعامك قبل أن تجلس لتناوله، وعندما يدعو الإنجليزي صديقه لتناول مشروب فإنه يفعل ذلك متوقعا رد الدعوة، والشائع أن يشتري كل فرد ما سيشربه ثم يجالس صديقه مع ما اشتراه من مشروب.
كان نظام الوكلاء وما يزال أساس تعامل الكتاب والفنانين مع أجهزة النشر والأجهزة الفنية، وقد فكرت طويلا قبل أن أندفع في ذلك الطريق، خصوصا بعد أن وصلني في منتصف نوفمبر رد إيجابي من الوكيل، وكان يتضمن عرضا بتوقيع عقد لمدة ثلاث سنوات! وقرأت في ذيل الخطاب أن القصة، وكان عنوانها «الكمال» (Perfection) «قيد التحرير حاليا» فسألت توم هيتون الذي سبق أن خاض تجربة نشر كتاب له فقال إن التحرير معناه إعداد النص للنشر ولو اقتضى ذلك بعض التعديلات، وهي تعديلات قد لا تقتصر على اللغة، وهي مما يقبل به الجميع، حتى مشاهير الكتاب وأعلامهم!
3
كان التحول الثالث هو ارتفاع سعر البترول حتى وصل إلى خمسة دولارات للبرميل في نوفمبر بسبب إعلان الدول العربية استخدام سلاح البترول للضغط على إسرائيل بصورة غير مباشرة؛ فالضغط على الغرب يؤدي إلى الضغط على إسرائيل، فكان قرار تخفيض إنتاج البترول العربي بنسبة 10٪ كل شهر حتى تستجيب إسرائيل! وسرعان ما تكهرب الجو! فبعد ارتفاع سعر البترول عاد الحديث عن الفحم مصدرا بديلا للطاقة، وقام عمال مناجم الفحم بقيادة هيو سكارجيل
Hugh Scargill
بمطالبة الحكومة برفع أجورهم، وهدد العمال بالإضراب، وظهر إدوارد (تيد) هيث
Heath
رئيس الوزراء على التليفزيون وهو يهدد ويتوعد، وقال إن حكومة المحافظين لن تسمح أبدا للعمال بالضغط على الحكومة، وكانت ألفاظه الغاضبة وصوته الغليظ من العوامل التي أثارت الرأي العام ضده، وكان ذلك درسا طريفا؛ فالإنجليز يحبون الالتفاف والتفاوض والتلاعب ويكرهون المواجهة والتصادم! وهذا أيضا من صفات المجتمع التجاري! وعلى أي حال، ما إن حل ديسمبر حتى كان سعر البترول قد تضاعف من جديد، وبدأ العالم يحسد العرب على الثروة التي هبطت عليهم من السماء!
ولا أذكر المناسبة التي دعتني إلى هبوط لندن، وكان ذلك في أوائل ديسمبر، ولكنني أذكر أن البرد كان شديدا والشمس ساطعة حين انتهى بي المسير إلى مطعم الإذاعة (في
Bush House ) وعندما دخلت وجدت ما يشبه الاجتماع حول مائدة، وفيها وجوه أعرفها خير المعرفة، واطمأن قلبي حين رأيت عبد اللطيف الجمال - مصادفة غريبة! - ف «اشتريت» الغداء وذهبت إلى «الشلة».
في المنزل رقم 21 شارع داربي إلى جانب المصنوعات الخشبية (الهواية الجديدة).
ومن الحوار المتناثر فهمت القصة، قبل أن يرويها عبد اللطيف لي بالتفصيل، ماذا حدث؟ بدأت القصة منذ سنوات عديدة عندما شارك المصري - صديقنا إدجار فرج (الصعيدي الشهم) - إنجليزيا يدعى (يدعى ما يدعى، ماذا يعني الاسم - على حد قول صلاح عبد الصبور)، في إنشاء مكتب للخدمات الإعلامية (الصحفية) والترجمة. لم يكن مسموحا لإدجار فرج آنذاك (لأنه أجنبي) بممارسة الأعمال الحرة، أما ابن البلد فمن حقه بالطبع أن يمارس أي عمل يريد، وهكذا أنشئ المكتب الذي سبق لي أن أشرت إليه، وسبق للكثيرين من الدارسين أن عملوا فيه بالترجمة (بالقطعة) وكان كالواحة في قلب الصحراء حين تخلو الأيدي من النقود، وكان جميع الجالسين حول تلك المائدة ممن رووا عطشهم بنقود إدجار فرج.
كان المكتب مسجلا باسم الإنجليزي فقط (طبعا) ولكن العمل كله كان في يدي إدجار، وقد اشتهر بكفاءته وإخلاصه النادر، وكان ما يهمنا نحن هو كرمه وطيبة قلبه، فكان أخا كبيرا لجميع الدارسين المملقين، وأذكر أنني دخلت المكتب أول مرة مع عبد اللطيف الجمال، وكان المطلوب ترجمة نشرة خاصة بتشغيل سيارة جديدة من الإنجليزية إلى العربية، وتناولها عبد اللطيف ونظر فيها ثم قال: إيه القرف ده؟ يعني إيه
road-fouling ؟ فضحك إدجار وقال له: بلاش! خد انت دي (وكانت مقالا قصيرا عن الشعر الإنجليزي الحديث) فقبل وخرجنا، وعندما عدت إليه في اليوم التالي بالترجمة وضعها على المكتب وظل يتأملها حتى جاءت السكرتيرة ومعها الشيك! كان قد أمر بإصدار الشيك حتى قبل أن يقرأ ترجمتي بل قبل أن يتسلمها.
وكنا نلتقي أحيانا في نادي الإذاعة أيام عملي في كوينز هاوس ونناقش السياسة أو الشئون العامة، وكان كثيرا ما يسترسل في قصصه عن طفولته وقد طال به البعد عن مصر، فكانت تمثل لي واحة أخرى في تلك الصحراء، وربما كنت أحبه بصفة خاصة؛ لأنه كان يذكرني بأحد أقاربي وهو الرشيدي الذي كانت هوايته صيد الأفاعي!
أما شريكه في المكتب فكل معلوماتي عنه مستقاة من المرحوم الدكتور مجدي وهبة الذي ذكر لي أنه كان يعمل في المخابرات البريطانية في مصر أثناء الحرب العالمية الثانية، وأنه تمكن أثناء فترة إقامته من تعلم اللغة المصرية الدارجة، وأصبح يجيدها مثل أهلها، فهذا ما أكده لي عبد المنعم سليم، الكاتب المشهور، في لندن، ولم يقدر لي أن ألتقي به حتى الآن، وقد حدثني عنه الدكتور عز الدين إسماعيل، وقالت لي الدكتورة لبنى عبد التواب يوسف إنه كان في ضيافة والدها ذات يوم وأسهب في انتقاد اللغة الإنجليزية التي يتكلمها المصريون ويكتبونها، واختص بحديثه مجدي وهبة ولويس عوض. وقالت لبنى إنها انزعجت وقالت له لا بد أن يكون هناك لبس ما، ولكنه أعاد الكرة مما أغضب الحاضرين.
وعندما ذهب إدجار فرج في يوم الإثنين السابق إلى المكتب وجد سكرتيرة جديدة، فألقى عليها التحية واتجه إلى غرفته كالمعتاد فسألته عما يريد، فضحك وقال لها إنه ذاهب إلى مكتبه، فقالت له: أي مكتب يا سيدي؟ أنا لا أعرفك! وضحك إدجار وقال لها: أنا الذي لا أعرفك؛ فأنت جديدة وهذا مكتبي من عشرين سنة! فنهضت الفتاة واستدعت الحارس الذي تولى إخراج إدجار فرج (بالذوق) بدلا من أن يستدعي «الشرطة»!
ووقف إدجار على الباب حائرا ينظر إلى المكتب. لم يتغير شيء. اللافتة ما تزال موجودة، رقم المنزل 14 شارع شيرينجهام، والبناء المقابل لم يتغير! وفكر إدجار قليلا وانتهى إلى أنه كابوس، فقرص نفسه ليتأكد أنه يقظ، ثم حاول من جديد دخول المكتب لكن الحارس تصدى له هذه المرة من الخارج وأسمعه ما لا يحب أحد سماعه، فانصرف.
وحاول إدجار أن يعثر على شريكه طول النهار عبثا، واتصل بكل معارفهما فلم يجده في أي مكان، وقال ربما ترك لي رسالة في مكان ما، فطاف بجميع الأماكن التي تصور وجود الرسالة فيها ولكن سعيه خاب فعاد إلى المنزل وهو يحاول جاهدا تصديق ما حدث، وبعد جهد استطاع النوم، وفي الصباح اتصل تليفونيا بالمكتب (فهذا أصون للكرامة من الطرد إذا ذهب بنفسه) فردت عليه السكرتيرة، وطلب منها الحديث مع رئيس المكتب فقالت إنه لم يصل بعد، وعاود الاتصال حتى جاءه صوت غريب، وبعد مناقشة هادئة فهم إدجار فرج أن من يحادثه قد اشترى المكتب من صاحبه الإنجليزي منذ مدة، وأن الاتفاق كان أن يتسلمه بالأمس (يوم الإثنين) غداة سفر المالك الأصلي إلى الخليج؛ حيث يبدأ العمل هناك في مكان ما. وشرح إدجار فرج كل شيء للرجل على التليفون، ولكن الأخير اعتذر وقال له إنه يستطيع أن يقاضيه إذا شاء، ولكن كل أوراقه صحيحة، وموقفه القانوني لا غبار عليه.
وأصبح إدجار فرج معلقا في الهواء! كان المكتب كل حياته. والغريب أن شريكه لم يؤجر المكان بل باع الشركة (the firm)
أي المؤسسة التجارية كلها إلى ذلك الغريب! لم يكن أمام إدجار إلا أن يلجأ إلى القضاء؛ فالحق في جانبه، وسوف ينصفه القضاء، ولكن تكاليف القضية باهظة وقد تستغرق سنوات وسنوات، وفكر في أن يلجأ إلى أصدقائه المصريين يطلب المشورة (على الأقل) ولكن كرامته الصعيدية أبت عليه أن يضع نفسه في هذا الموقف، فاعتكف في منزله، ولم يطل اعتكافه إذ «طب»، عليه محمود حسين دون موعد، كعادته، وسمع القصة ولم يلبث أن استنفر الناس لذلك الاجتماع!
وقلت في نفسي: ما أسعدني إذ جئت أيضا على غير موعد لأمد يدي إلى جابر عثرات الكرام! واتفق الجميع على تقديم سلفة مبدئية لإدجار حتى تقيله من عثرته، وضربنا موعدا في اليوم التالي، وأتينا بالنقود ولكن أهم ما اتفقنا عليه كان فكرة عبقرية تفتق عنها الذهن الذي دبر عبور قناة السويس بالدبابات! جئت متأخرا إلى الموعد فوجدت أن القاعة الصغيرة في نادي الإذاعة أصبحت قاعة مصرية، وأن الفكرة التي طرحت تتلخص فيما يلي: ما دامت الشركات التي تتعامل مع المكتب لم تتعامل إلا مع إدجار وتعرفه جيدا، فهو يستطيع إذا أنشأ شركة جديدة باسمه، وقد غدا ذلك ممكنا قانونا بعد حصوله على الإقامة الدائمة، أن يعود للتعامل معها، ولا شك أن الثراء الذي هبط على العرب سوف يزيد من حجم التعامل معنا. واتفقنا أن علينا، ريثما يتحقق ذلك، أن نمتنع عن التعامل مع الشركة الجديدة (القديمة) وأن يتبرع كل منا بجهد ترجمة شيء ما للإذاعة العربية تقدم باسم إدجار فرج، وفوجئنا عند هذا الاقتراح بأصوات عربية أخرى غير مصرية تقول ونحن معكم! كان إخواننا العرب من غير المصريين قد سمعوا الخبر فجاءوا ليساندونا ، وبلغ بي التأثر مبلغه فطفرت من عيني دموع، وعندما مسحتها سمعت من يهمس لي بلهجة غير مصرية: «إيش كنت بتفكر؟ إدجار ابن غربة مثلنا!»
وسرعان ما اندمل الجرح وعاد إدجار فرج للعمل، وظلت الحادثة بملابساتها حاجزا نفسيا يمنعني من معرفة «صاحبه» الإنجليزي، ودليلا على أننا مهما اغتربنا فسوف نظل نحمل الوطن في أعماقنا.
4
لا أذكر متى كتبت قصتي الثانية وعنوانها (
Baby ) وفيه تورية؛ فهو يعني «رضيع» أو «حبيب»، وكانت على عكس القصة الأولى تتضمن سخرية أليمة من ولع الإنجليز بالكلاب، والواضح أنني كنت أحاول أن أثبت لنفسي فيها إحاطتي التامة بالثقافة الغربية، وربما كتبتها من وجهة نظر غربية أيضا، ولكن الذي أذكره جيدا أنني كتبتها في جلسة واحدة، وبمتعة غريبة، كأنما كان شخص آخر هو الذي يكتب! كنت أعرف أن القصة ليست مجالي، ولكن «المادة القصصية» الحية كانت أحيانا تفرض نفسها علي، وعندما وصلني خطاب الوكيل وبه العقد كنت، على فرحي، أشعر بالضيق لأنه يلزمني بإنتاج لا أضمن أن أنتجه! وأبقيت الأمر سرا، ولم أوقع العقد، ولم أطلع عليه أحدا سوى سمير سرحان عندما زارني في يوليو 1975م!
وقررت أن أجمع العالمين اللذين أعيش فيهما معا، فدعوت زملاء الجامعة وزملاء مكتب الأخبار إلى عشاء في منزلنا، تكون الأطباق فيه شرقية محضة، وعلى رأسها الكباب، وكنت قد تلقيت خطابا من نهاد تقول لي فيه إنها ستعود مع سارة «على رأس السنة» أو حرفيا (
by the New Year )، فحددت يوم 19 يناير 1974م وكان يوم سبت للمأدبة، بحيث تكون احتفالا بعودة الأسرة، وعودة الأستاذ المشرف، ووداع العالمين جميعا؛ إذ كنت قدرت أن تكون مناقشة الرسالة في أوائل الفصل الدراسي الثاني، وأن نرجع جميعا إلى مصر إما في الربيع أو في أول الصيف. وأعلمت الأصدقاء بذلك وكتبت بالموعد إلى نهاد فجاءني الرد في نحو منتصف يناير بأنها لم تحصل بعد على عمل، وأنها تفضل أن تنتظر حتى تحصل على عمل، وأنها عندما قابلت الدكتورة فاطمة موسى رئيسة القسم عرضت عليها التدريس في معهد التمريض، وكتبت إليها أطلب أن تتجاهل موضوع العمل وأن تعود هي وسارة في أقرب فرصة.
واتصلت بتوم هيتون أقول له إن نهاد سوف تتأخر - وما العمل؟ فقال لي سوف أرسل إليك جاكي (وكان قد تزوجها في ديسمبر حتى يتمتع بالإعفاء الضريبي العائلي حسبما قال لي) للمساعدة في ترتيبات المأدبة. لم يكن هناك مجال للتراجع؛ فعدد المدعوين كبير، وبعضهم من معارف نهاد بل وأخص أصدقائها مثل وندي
Wendy
الأمريكية التي كانت زوجة لأحد زملائنا واسمه جون إليوت
Elliott
وصديقة لزميل آخر يدعى
Eliot
أيضا، وكنا أنا ونهاد نتندر بذلك! ومثل مارجوري التي كانت تقيم مع شاب يدعى بول، ويتنافسان على لقب «أبخل» أهل إنجلترا، ومثل جواد مطر العراقي زوج باميلا الإنجليزية، وكان يسمي نفسه جو
Joe ، وكان المعروف أنه خدع الحكومة البريطانية فزعم أنه أصغر من سنه الحقيقي بعدة سنوات حتى يظل في العمل بعد سن التقاعد، وكانت زوجته محررة في القسم الإنجليزي، وكان هو صديقا لفتاة إنجليزية التحقت مؤخرا بمكتب الأخبار (لا أذكر اسمها) وكانت تتميز بالطيبة التي نعتبرها من قبيل البلاهة في بلادنا، إلى جانب أستاذي وزوجته شارلوت، وأستاذه باراز وزوجته ديانا إلوين جونز، والدكتور فلتشر وصديقته التي كان يسميها بوبي
Booby (أي ذات الصدر الضخم) ولذلك كنت أتمنى أن تكون نهاد معنا.
وفي يوم الجمعة ذهبت إلى السوق وطلبت من الجزار مقدارا ضخما من اللحم العجالي وشرحت له أنني بصدد إعداد حفل شواء في الحديقة، فانهمك في تقطيع اللحم، وإذا بسيدة تقف إلى جواري تقول لي: هل قلت حفل شواء في الحديقة؟ فأومأت فقالت: «في يناير؟ سيموت الضيوف من البرد!» ولكنني شرحت لها أن الموقد ضخم والنار ستكون بمثابة مدفأة ، فاندفعت تقدم لي النصائح التي لم أطلبها، ولسان حالها يقول: هذا أجنبي ساذج يثق في الطقس الإنجليزي! ثم اشتريت اللوازم الخاصة بتتبيل اللحم وإعداد أنواع السلاطة الشرقية، والأرز والمكسرات التي ستخلط به بعد تحميره، إلى آخر ذلك من التوابع، وعدت محملا بهذه الأشياء فوجدت جاكي في المنزل؛ إذ كانت تعرف أين أضع مفتاح المنزل عند الخروج (لأنني كنت أتركه للخادمة «سو» التي تتولى تنظيف المنزل) ووجدت معها فتاتين من تلميذاتي السابقات هما كولينيت وماري! وقالت كولينيت، وكانت قصيرة نحيلة، إنها سمعت أنني أحتاج لمساعدة فأتت بصديقتها ماري - وهما «تحت أمر» جاكي! ولم أحاول أن أعرف مصدر تلك «المعلومات» فالثرثرة وتناقل الأخبار من فم لفم (
on the grapevine ) هي القاعدة في الريف، ولكنني حددت ما ينبغي فعله فيما يتعلق بإعداد الأثاث لاستقبال الضيوف، ثم إعداد المأكولات (إعداد الموقد ووضعه في مكان مناسب بالحديقة، وتنظيف الخضر والفاكهة وإعدادها ... إلخ). وعندما انتهى الجميع انصرفن وهن يتوقعن أن أدعوهن للمأدبة في اليوم التالي، ولكنني لم أفعل، وانتهى اليوم «على خير».
مارجوري صديقة د. نهاد صليحة.
كان الموعد في السابعة، وكانت جاكي مع توم زوجها أول من حضر، فتركنا النار تدب في الفحم، وكانت السماء ملبدة بالغيوم والمساء عاصفا، ولكن درجة الحرارة كانت فوق الصفر ولم يتساقط الثلج أو المطر، فتفاءلت، وتناوبنا التهوية على الفحم وإن لم يكن بحاجة إلى ذلك، وبدأ الضيوف يتوافدون، وبدأت رائحة الشواء الشرقي تتصاعد، وكان نظام المأدبة حرا؛ أي كان على كل ضيف أن يتقدم بنفسه لأخذ ما يريد من الطعام، وجاكي ترشدهم، وكان باب المنزل نصف مفتوح إذ كان بعض الضيوف لديهم عمل ذلك المساء (نشرة أخبار مثلا) فكانوا يذهبون بسياراتهم لقضاء العمل والعودة. وفي نحو التاسعة التأم الشمل ولكن اختلاف «العالمين» جعل الأحاديث تميل إلى أن تكون «ثنائية»؛ فالأستاذ الجامعي يسأل المذيع أو المحرر عن الأخبار التي لا يعرفها، والصحفي يسأل الأستاذ عن سياسة حزب المحافظين المعادية للجامعات وهكذا، وفجأة وجدت ديانا تناديني لتعرفني بشخص لم أره داخلا - إذ قالت بنغمة ذات دلالة: «هذا هو ريتشارد دارنيل «الوكيل!»» - وصافحته مرحبا والمصافحة عادة منقرضة عند الإنجليز، ويشار إليها بتعبير (
the rare British handshake ) وما زلت أكرهها وأحاول تجنبها (عبثا) حتى اليوم. وسمعت صوتا نسائيا لا أعرفه يقول من وراء ريتشارد: «لسنا وحوشا لهذه الدرجة يا محمد!» ونظرت فإذا بامرأة تقدم بها العمر، وتكاد لكثرة المساحيق على وجهها أن تلبس قناعا، وحدست من تعلقها بذراع ريتشارد أنها زوجته، ولكنني لم أفهم ما قالته، فسألتها في دهشة عما تعني فقالت إنها قرأت القصص التي أرسلتها إلى المكتب؛ فهي محررة أولى (كبيرة محررين؟
senior editor ) وأنها تعترض على تصويري للإنجليز في صورة «بعابع» (جمع بعبع
ogre ) أو وحوش شائهة
monsters ، وبدأنا الحوار غير المتوقع والذي استمر ساعات طويلة.
يبدو أن ديانا أدركت أنني أتردد في التعاقد مع الوكيل خوفا من المحررين الذين «يغيرون» كلمات الكاتب، بل ويتدخلون أحيانا في صلب القصة أو الرواية، فدعت ميلاني كبيرة المحررين حتى تزيل مخاوفي بنفسها، مع الوكيل (صاحب المكتب) الذي كان طاعنا في السن، ولم يكونا - على عكس ما حدست - زوجين. ودار الحديث عن مدى الحرية التي يتمتع بها المحرر في تغيير النص الأدبي وسمعت منها ما أكد مخاوفي بدلا من أن يزيلها. قالت ميلاني: «أنا أعرف تماما ما يخشاه محمد! إنه يخاف على أسلوبه مثلما فضل جوزيف كونراد أن «يستغني» عن «خدمات» المراجعين والمحررين ويخرج إلى العالم بأسلوبه الخاص الذي أصبح علما عليه! ولكن زمن كونراد قد انقضى! نحن الآن في عصر انفجار المطبوعات (publication explosion)
وتكاثر المواد المقروءة (أو مواد القراءة) إلى درجة المرض (
a plethora of reading matter ) ودور النشر مؤسسات تجارية لا بد أن تحافظ على نجاحها المالي (
viability ) وإلا أغلقت أبوابها وسادت البطالة حتى بين الكتاب؛ ولذلك فعيوننا دائما على السوق؛ الكتاب الرائج (best seller)
هو المثل الأعلى، وقد ترى من موقعك في الجامعة أن هارولد روبنسون ليس كاتبا نابها بل وربما لم يدرج في قوائم الأدب المعتمد (
the canon ) أبدا، وربما ظل مصيره مصير سومرست موم، ولكنه مصدر رزق دار النشر التي قد تجازف بنشر أعمال لكتاب جدد يعتزون بأساليبهم، وقد تخسر بعض هذه الكتب (وكانت كلمة كتاب في سياق حديثها تعني رواية) والناشر يغطي الخسارة بالربح من الكتاب الرائج؛ فهي كما ترى عملية موازنة تجارية في المقام الأول.»
وكنت أصغي باهتمام وأذني تسجل كل كلمة حتى أستطيع الرد؛ فأنا لا أومن بأن الثقافة تجارة بل رسالة، وربما كان لخلفيتي المصرية دور في هذا الموقف، ولكنني حاولت دحض حجتها من واقع منطقها نفسه، فقلت لها إذن لن يكتب لأديب ذي أسلوب متفرد أن يظهر من خلال دور النشر الحالية! وكأنما كانت تتوقع السؤال جاء ردها سريعا: «بل لا بد أن يظهر أمثال هؤلاء، ولكنهم لا بد أن يحققوا مبيعات كافية تكفل لهم البقاء بين كتابنا (تقصد المتعاقدين مع الوكيل)، أما إذا لم يحققوا هذه المبيعات فسوف يكون ذلك نذيرا بعدم تجديد العقد!»
وسألت: «وعليهم أن يكفوا عن الكتابة .. وعن النشر؟» فقالت: «نحن لا ننصح أحدا بالكف عن شيء، ولكن نقادنا يتيحون الفرصة للموهوبين فقط، وأما الأعداد الهائلة من المخطوطات التي ترد إلينا ولا تنم عن موهبة صادقة فنحن غير مسئولين عنها، ونحن لا نتدخل بالنصح والإرشاد إلا لمن نشتم لديهم قدرا معقولا من الموهبة، وهؤلاء هم الذين نتيح لهم الفرصة مرة أو مرتين، فإذا لم ينجحوا نفضنا أيدينا من المسئولية!»
وقلت بصوت خفيض: «مع أنهم موهوبون؟» فقالت: «مع أنهم موهوبون! الموهبة يا محمد ليست موهبة أسلوبية أو أدبية كما علمنا أساتذتنا في المدرسة (وكانت تقصد بالمدرسة مراحل التعليم كلها)، بل هي - من وجهة نظرنا - القدرة على الوصول إلى الناس! فإذا سألتني «من الناس؟» قلت لك لا أعرف! ولكن الناس هم القراء، هم أنت وأنا والبواب والسكرتيرة والطاهية وعامل المصعد! ستقول لي إنهم لن يتذوقوا الشعر، ولن يشتروا الدواوين، وسأقول لك إننا لهذا السبب لا ننشر الشعر!» وسألت بنفس اللهجة: «والمسرح؟» وردت: «ولا ننشر المسرح قطعا! المسرحيات تكتب للتقديم على خشبة المسرح، وهناك وكلاء متخصصون في نشر المسرحيات، وغالبا بعد تقديمها على المسرح!»
وتدخل ريتشارد ضاحكا في الحوار فقال: «لا تصدق يا محمد! فلقد نشرنا ديوانا ضم شعر المحدثين في بريطانيا!» فأسرعت ميلاني تقول: «لم أكن أنا الذي أوصيت به، وانظر ما جر علينا من متاعب مع دار النشر!» وعاد ريتشارد يقول: «إنهم يهولون المسائل؛ فلم يطبعوا إلا عشرة آلاف نسخة، ولم تكن صفقة الشعر تمثل واحدا في المائة من مجموع الأعمال (
turnover ) ولم تكن الخسائر تذكر!» وقالت ميلاني، كأنما لاستكمال العبارة: «رغم بيع النسخ كلها!»
وعدت أسأل بعد أن نهضت لإحضار فناجين القهوة التركي ووضعها على المنضدة الصغيرة، وبعد أن انضم إلينا المشرف سالفسن وزوجته: «وهل تتدخلون ل «تحرير» الشعر أيضا - أقصد إذا نشرتموه أصلا؟» ويبدو أن السؤال قد أثار أحزان أستاذي فضحك ضحكة عصبية وقال: «لا تستبعد ذلك يا محمد! إنهم يحررون كل شيء!» وقالت زوجته شارلوت: «إن كريس يحاول نشر ديوان صغير منذ عامين، ودور النشر تقول إنه أصغر مما ينبغي! (too little) » وقال ريتشارد: «لم لا تطبع منه طبعة تجريبية (pilot edition) ؟» وسألت: «تقصد طبعة محدودة؟» وقال أستاذي «قد أفعل ذلك إذا سدت جميع الأبواب في وجهي!» وقلت من باب تخفيف الجو الذي أصبح يكتسي طابع الجد: «بشرط أن تكون طبعة غير محررة! (unedited edition) » وضحكنا.
وعندما حان موعد انصراف الضيوف همست لي ديانا: «لا تصدق ميلاني! إنها لم تغير حرفا واحدا في قصتك، لكنها سترسل لك خطابا تقترح فيه تغيير العنوان!» وأثارني هذا الاقتراح - وقلت لها إن العنوان جزء لا يتجزأ من القصة، بل هو عنصر من عناصر الدلالة - فضحكت، ولوحت بيدها مودعة وخرجت هي وزوجها مع ريتشارد وميلاني قبل الجميع؛ لأنهم كانوا سيرجعون إلى أوكسفورد بالسيارة، وهي رحلة «باردة» في يناير!
ولم ينفض السامر قبل الحادية عشرة، وقد كتب لجميع الذين استمروا معي أن يعودوا إلى المنزل، بل وأن يعتادوا زيارتنا بعد رجوع نهاد، وأن يسمروا معها، مع إضافة صديقة أو صديقتين (برئاسة إدا توماس!).
وفي هدأة صباح الأحد سمعت رنين جرس الباب، وتصورت أن الغلام الذي يحضر الصحف يريدني لأمر خاص، فهبطت الدرج مسرعا، وعندما فتحته بحذر (فالبرد قارس) وجدت هاري فيلدز (Harry Fields)
أحد زملائنا المترجمين واقفا، فأسرعت بإدخاله، وأغلقت الباب. وهرعت إلى المطبخ لإعداد القهوة، وبينما أنا منهمك في إعدادها تناهت إلى سمعي صرخات من منزل هاري؛ إذ كان يقيم إلى جوارنا، وتركت المطبخ وخرجت (دون أن أكون قد أفقت تماما) لأستفسر من هاري عن سبب الصراخ، فأشار بيديه إشارات فهمت منها أنه يائس ومنهار، فتركته وذهبت إلى الحمام ووضعت رأسي تحت الدش الساخن، وارتديت ملابس الشتاء الثقيلة، ونزلت فقدمت القهوة لهاري، ونظرت بسرعة في صحف الصباح (فصحف الأحد صفحاتها كثيرة وتتطلب ساعات طويلة من القراءة ولو دون تركيز!) ثم أحضرت قهوتي وجلست ولسان حالي يقول: «اصطبحنا!»
5
ولد هاري فيلدز في مصر إبان الحرب العالمية الثانية لأب إنجليزي وأم إيطالية، ودخل مدرسة فرنسية (في منطقة قناة السويس - لا أدري أين)، فنشأ يعرف عدة لغات ويتكلمها جميعا بلهجة إيطالية! وكان يذكرني بالخواجات الذين كنت أشاهدهم في الإسكندرية والقاهرة في أوائل الخمسينيات، باستثناء هام وهو أنه كان أسمر الوجه، يميل إلى السمنة، ويستخدم يديه كثيرا أثناء الحديث، وكان طيب القلب ويحب العمل ولا يتذمر أبدا منه (وهي الصفة التي نطلق على صاحبها في مصر - بكل أسف تعبير «حمار شغل»)، وكان له طفل جميل يدعى مايكل أصيب بمرض خبيث في المخ وأجريت له عملية وشفي وإن كان مظهره قد تغير، أما زوجته فكانت مصدر الصراخ في ذلك الصباح - وقصتها مؤلمة.
كانت روزانا إيطالية قحة، لا تعرف الهمس، ولا تعرف ضبط النفس، وكانت تحب التعبير عن آرائها بصراحة يجدها الإنجليز مبعثا للحرج الشديد، وكانت لغتها الإنجليزية محدودة ومع ذلك فهي تعتبرها (
perfect ) على حد تعبيرها، وكانت تعطيني دروسا خاصة في اللغة الإيطالية (الساعة بجنيه واحد) ولكنها كانت تعاني من مرض لا أعرفه، وكانت قد ذكرت عرضا ذات يوم أنها أصيبت بمرض التهاب الغشاء السحائي (meningitis)
وشفيت منه في الماضي، وكان هاري يعتبرني صديق العائلة، ويفضي إلي بأسراره، كما كانت زوجته لا تثق في سواي، وكنا نناديها باسم مختصر هو روزا، والذي حدث ذلك الصباح وتسبب في الصراخ حادث يتكرر من حين لآخر؛ ولذلك لم يكن هاري بحاجة إلى الإفاضة فيه، وكانت إشارات يده كافية للدلالة عليه.
كان أول حادث من هذا النوع قد وقع وأنا بعد في لندن؛ إذ قطعت روزا درس الإيطالية وفاجأتني بإنجليزية مزعجة قائلة: «هل تعرف كلبة من كلاب مكتب الأخبار ترضي غرائز الكلب الذي يعيش معي؟» وأصابني الوجوم التام. لم أفهم ما تعني، أو فهمت ولم أصدق ما فهمته، فلزمت الصمت. وعادت تقول: «أرجوك اشرح له بالعربي الفصيح أنني مريضة ولم أعد أصلح.» فغمغمت غمغمة لا معنى لها سوى تغطية حرج موقفي؛ ومن ثم اندفعت تقول: «إن هاري حيوان! أنا لا أصدق أنه مصري! هل تصدق أنه يشتهيني؟ هل تصدق أنه يحاول أن (..) ...» وكان علي في ذلك اليوم أن أنصرف معتذرا بأنني لدي موعد مهم. أما ذلك الصباح، فيبدو أن هاري أعاد الكرة.
وبعد أن شربنا القهوة أشرت إلى بعض أنباء الصحف، وأهمها إضراب عمال الفحم (أو تهديدهم بالإضراب) واشتداد الأزمة بين رئيس الوزراء ورئيس نقابة العمال، ولكنه كان على غير استعداد للنقاش، وفضلت أن أقرأ الصحف في صمت، وأن أعرض عليه الصحيفة التي قرأتها حتى يلقي عليها نظرة أو يقرأ شيئا يصرف ذهنه عن صراخ الصباح، وكنا في الضحى في الحقيقة، وكان علي أن أحاول ترتيب المنزل قبل أن تأتي «سو» للتنظيف في الصباح؛ ومن ثم تركته وقمت للعمل، وانتهيت من ذلك وقلت له إنني لا بد أن أكتب أشياء معينة، فإذا شاء بقي وإن شاء رحل. وكان يريد البقاء.
وكان يمكن أن يمر يوم الأحد في هدوء، لولا أن بدأ المطر ينهمر، وكان من نوع أمطار الشتاء الخفيفة المتواصلة، وكان ذلك معناه أن أرفع بقايا الموقد من الحديقة وأن أضع كل شيء في الكوخ الخشبي الصغير المقام في آخرها والذي يستخدم لتخزين أدوات «البستنة»، فأسرعت إلى الحديقة أعمل وحدي وهو جالس لا يتحرك، ينظر في الصحف بعين زائغة وقد أخذ منه الهم مأخذه، وكانت السماء ملبدة بالغيوم وتنذر بأمطار متواصلة طوال اليوم، فقلت في نفسي هذا هو ما يصوره الروائيون للإيحاء بتجاوب الطبيعة مع مصائب البشر!
وبعد حوالي ساعة جاء مايكل (ابن هاري) ليقول لأبيه إن والدته سقطت مغشيا عليها وإنه قد استدعى سيارة الإسعاف، ولم يكد ينتهي من كلامه حتى وصلت السيارة، فأسرع هاري خارجا، واضطررت إلى الخروج معه في المطر، وكان رجال الإسعاف قد دخلوا المنزل وفحص أحدهم «روزا»، وعندما وصلنا كان يتكلم في التليفون (ربما مع المستشفى) وسرعان ما حملها اثنان منهم، وكانت قد أفاقت من الإغماء، وذهب الجميع.
فلم أستطع التركيز بعد رحيل السيارة، وفي نشرة الواحدة ظهرا سمعت أنباء الاتجاه إلى لوم الرئيس الأمريكي نيكسون
impeachment
مما يعني عزله من منصبه بتهمة التواطؤ في التجسس على مقر الحزب المنافس أثناء الحملة الانتخابية، وأنباء إضراب العمال (عمال المناجم) واتجاه رئيس الوزراء البريطاني إلى «مواجهة» العمال بقصر ساعات العمل في الأسبوع على 21 ساعة (ثلاثة أيام بدلا من خمسة)، وتوفير الطاقة الكهربائية بإطفاء أنوار الشوارع، وإغلاق البث التليفزيوني في العاشرة والنصف، وكان ذلك كله نذيرا بما أسماه المعلقون «الأيام المظلمة» القادمة، والتي كانوا يتهمون العرب بالتسبب فيها (بسبب رفع أسعار البترول).
وفي المساء اتصلت تليفونيا بهاري لأطمئن على زوجته، فقال باقتضاب إنها بخير، ورغم أن المرض (أي مرض) لا يحتمل الهزل، فقد ضحكت حين قال بالعربية المصرية: «الكلبة تمام التمام.» فقلت له بالعربية «سلامتها» فغمغم ووضع السماعة. ولم أكد أضعها وكنت واقفا أنظر من شباك المطبخ (الدور الأرضي) إلى الساحة التي تفصل بين المنازل في المنطقة السكنية، حتى رن التليفون، وعندما رفعت السماعة، كان المتحدث رجلا إنجليزيا أجش الصوت، قال إنه شاويش في البوليس، ويريدني أن أحضر لترجمة شيء ما. قلت له إذن أرسلوا سيارة، فسألني عن العنوان فأعطيته له وارتديت ملابس الخروج.
عندما دخلت مخفر الشرطة لأول مرة في حياتي وجدت مكتبا لا يختلف عن أي مكتب حكومي - موظفون، سكرتيرات، آلات كاتبة، تليفونات - ولا علاقة له بما نراه في السينما. وقفت حائرا نحو خمس ثوان، وقبل أن أتجه إلى الاستعلامات، لمحتني شرطية سوداء فجاءت باسمة وقالت أنت مستر عناني؟ فأومأت وسرت معها حتى دخلنا مكتب الشاويش، وهو الرئيس المناوب (النبطشي = النوبتجي) للمكتب يوم الأحد. وسألته: ما الخبر؟ فقال لي: عربي متهم بالاغتصاب! وقلت في نفسي «هذه هي الكارثة!» وتلفت حولي باحثا عن شكل عربي فلم أجد أحدا، واستمر الشاويش في الحديث قائلا: إننا بالطبع لم نوجه إليه التهمة بعد؛ لأننا لا نعرف ماذا يقول - وقيل لنا إنك تستطيع ترجمة ما يقول. ورحبت فأشار إلى كرسي فجلست. وأتت لي السوداء بكوب الشاي (فنجان من الشاي الساخن باللبن دون سكر).
وعندما انتهيت منه عادت فقالت لي تفضل معنا، فدخلت غرفة فيها موظف تقدمت به السن، وعندما قالت له السوداء إنني مصري تهللت أساريره وقال: «لقد خدمت في مصر في الحرب - أجمل بلد في الدنيا! تفضل!» وجلست فشرح لي الموضوع، وهو أن أحد الدارسين العرب، ويبدو أنه بدوي يغادر الصحراء لأول مرة في بعثة لدراسة الزراعة في ردنج، «احتك» بامرأة في الطريق العام، أو كما يقول طه حسين «مسها مسا غير كريم» حين دعته إلى الاحتماء من المطر تحت المظلة. وقال العجوز إنه يظن أن الشاب يعرف الإنجليزية ولكنه مصاب بنوع من الذهول ولا يستطيع الكلام، وربما إن حادثته بالعربية نطق! وشرح لي بإيجاز حرج الموقف؛ فهم في الشرطة لا يريدون إحراج الدولة التي ينتمي إليها - خصوصا في هذه الأيام - ولا يريدون التسرع بتوجيه التهمة إليه قبل الاستماع إلى أقواله كاملة عن طريق مترجم رسمي، وهمس لي وهو يميل برأسه نحوي: «والسيدة التي اتهمته قد تتنازل عن الشكوى إذا اقتنعت بوجود لبس ما.» وسألته إن كنت سأقوم بدور المترجم الفوري هنا أم في المحكمة؟ فقال بدهشة: محكمة؟ لا لا لا! سنحاول الانتهاء من المسألة الآن، ولا أعتقد أننا سنحتاج إلى المحكمة!
وضغط جرسا على المكتب فعادت السمراء إلى الظهور، فأشار إليها بيده إشارة معينة فخرجت لحظة وعادت مع شاب أشقر وسيم، منكس الرأس، نحيل وقصير، وعلى وجهه أمارات الحزن (والندم؟) فجلس قبالتي، وبدأ الموظف بسؤاله عما حدث، فكان يتكلم وأنا أترجم وهو يكتب، والسوداء واقفة لدى الباب تسمع ما يقال. لن أفصح عن اسمه الحقيقي - بطبيعة الحال - ولنطلق عليه اسم «طالب» وحسب. قال طالب: «بدأ المطر يتساقط فجأة وأنا ذاهب إلى محطة الأتوبيس، ولم يكن هناك مكان أختبئ فيه، ولم تكن معي مظلة، وبينما أنا أعبر الجسر (flyover)
وجدت امرأة تناديني للاحتماء تحت مظلتها، فترددت ثم جريت إليها، وبمجرد أن وضعت رأسي تحت المظلة حتى صاحت وصرخت وأمسكت بي، فاجتمع الناس وجاءت سيارة الشرطة في لمح البرق. أنا بريء. هي التي دعتني وكانت تبتسم، لكنني لم أفعل شيئا.»
وبعد أن اكتملت الترجمة التي أوجزتها هنا إيجازا شديدا، قال الموظف (ولم أكن أعرف حتى تلك اللحظة أنه قاضي صلح
Justice of the Peace ) هذا معقول، وأقواله لا تتناقض مع أقوال الشاكية، ثم أشار إلى السوداء فجاءت واصطحبت «طالب» إلى الخارج، وعاد القاضي للهمس فانحنى إلى الأمام حتى مست ذقنه دفتر المحضر، وقال لي: هل تعتقد في أعماقك وضميرك (
in your heart of hearts ) أنه يقول الحقيقة؟ وقلت له: لقد ترجمت لك كل كلمة بصدق وأمانة! ورد بسرعة: «طبعا طبعا، لا شك في هذا! كنت فقط أريد دعما لحدسي.» والتزمت الصمت. وبعد ثوان معدودة أحسست أنها امتدت دهرا، قال: أعتقد أننا لا يجب أن نضيع من وقتك أكثر مما ضيعنا، وسوف نتصل بك إن جد جديد. وخرجت.
كان المطر ما زال ينهمر، وإن كان من نوع الثلج الذي يذوب عندما يصل إلى الأرض، وهم يسمونه
sleet ، وكان خفيفا لدرجة أحببت معها أن أسير فيه وأحس بنقراته الخفيفة المنعشة على وجهي، وأن أعود إلى المنزل بالأتوبيس بدلا من سيارة الشرطة، وإن كانت لا تحمل علامات تدل على ذلك، وسرت أفكر في قضية اختلاط الدلالات الثقافية من جديد، أفلا يمكن أن يكون طالب قد تصور أن المرأة تدعوه إلى شيء آخر، فمد يده إلى ما لا ينبغي أن يمد يده إليه؟! أفلا يجوز أن يكون قد شاهد الإنجليز يفعلون مثل هذه الأشياء علنا في الشارع فتصور أنها مباحة؟! أفلا يجوز أن تكون السيدة قد بدرت منها بادرة «فسرها» على أنها تشجيع على المساس بخصوصيتها؟! وكيف يستطيع ذلك البدوي تفسير العلامات الثقافية التي تختلف كل الاختلاف عن علامات مجتمعه؟ وسمعت هاجسا آخر يهمس في أعماقي: أفلا يمكن أن يكون بريئا حقا وصدقا؟ ولم أدر بمرور الوقت إذ وجدتني قد وصلت إلى المنزل.
بدأت اعتبارا من يوم الاثنين الالتزام بجدول الكتابة ؛ فمن غير المعقول أن أصل إلى هذا الحد في الرسالة ثم لا أنتهي منها، وقضيت اليوم كله في المكتبة، وكنت أعود إلى المنزل مبكرا (في نحو الخامسة) فأجلس إلى الآلة الكاتبة وأواصل العمل حتى العاشرة أو الحادية عشرة، ولم يكن أحد يتصل بي؛ فالجميع يعرفون أن أسرتي في مصر، وأنني منقطع عن العالم للانتهاء من الرسالة، ولكن إغراء الكتابة كان يطل برأسه كالشيطان من حين لآخر، وكنت أقاومه ما استطعت المقاومة، حتى انتهى الأسبوع ووجدتني قد قاربت تحديد شكل الفصل الأخير، فوضعت ورقة بيضاء في الآلة الكاتبة - وجعلت أتطلع إلى المساحة البيضاء وفكرة التمثيلية التليفزيونية تتشكل في الفراغ!
وفي يوم السبت 26 يناير أشرقت الشمس فخرجت إلى «الطبيعة» العارية من الأوراق، أتأمل الأغصان التي تبرق بكساء الصقيع الباكر، والسحابات البعيدة التي تغزو السماء ذات الزرقة العميقة، أو أتأمل أوراق الشجر الذابلة التي اختلطت بالتربة، وهبطت عليها قطرات الندى التي تجمدت، ولن تنصهر إلا في العصر، ولربما تظل مجمدة طول اليوم، وكان موضوع التمثيلية قد قاربت التشكل، وكان يقوم على قصة جمال الدين كرجي باهي - وهو أفريقي مسلم من طائفة الإسماعيلية - أتى به توم هيتون من شرق أفريقيا، فأسكنه معه في المنزل الذي اشتراه، ورتب له عملا في قسم التليكس بمكتب الأخبار، وسرعان ما أتى جمال الدين بأهله وطفله الصغير، وبدأ نزوح الأقارب حتى ضاق المنزل بهم، وكان النموذج الفني في ذهني هو قصة «القناع» لوالبول، ولكنني لم أكن أدرك أنني أنسج على منوال غيري، بل كنت أفكر فحسب في موقف الفرد الذي يجد نفسه محاطا بأناس ما فتئوا يتكاثرون حتى يغلبوه على أمره، وهو يزداد حبا لهم وإيمانا بهم وفقدانا لذاته وتفرده! الفكرة نفسها هي التي عالجها هارولد بنتر في فيلم «الخادم»، ولكنني كنت أعالج هنا نماذج حية موجودة حولي!
وفي المساء اتصل بي عبد اللطيف الجمال وقال لي إنه حصل على شهادة مرضية تعفيه من العمل ثلاثة أشهر! ولم أكد أصدق - كيف؟ أقصد كيف يحصل على مثل هذه الشهادة وهو بصحة جيدة؟ سألته: هل الطبيب مصري؟ فقال بل إنجليزي ابن إنجليزي! واتضح أنه ذهب إلى رئيس وحدة الأخبار وقال إنه يعاني من انهيار نفسي ويطلب الإحالة إلى الطبيب، فحددت له الإدارة طبيبا في لندن ذهب إليه وتظاهر بأنه مريض نفسي. وقال عبد اللطيف: «والدكتور اقتنع وأعطاني الشهادة، وقال إنه سوف يرسل التقرير إلى رئيس الوحدة! معنى ذلك أنني أستطيع الانتهاء من الدكتوراه هذا العام! سأذهب غدا إلى لندن وأقيم هناك حتى أنتهي من الرسالة، وسوف أتصل بك من هناك.» والذي لا يعلمه عبد اللطيف - حتى اليوم - أن الطبيب كتب في تقريره إن عبد اللطيف كان يتظاهر بأعراض مرض معين ولكن الفحص أثبت أنه يعاني من مرض أخطر كثيرا وقد يتطلب دخوله المستشفى للعلاج، إلى جانب التفاصيل الطبية التي لا يعرفها إلا المتخصصون. وذكرت ما نشرته إحدى الصحف من أن 46٪ من أسرة المستشفيات في بريطانيا (في إنجلترا وويلز فقط في الواقع) يشغلها المرضى النفسانيون، وقد قطعت تلك القصاصة ووضعتها (ألصقتها) بالكتاب الذي كنت قرأته (وما يزال لدي) عام 1968م، وعنوانه «الطب النفسي اليوم» لمؤلفه ستافورد-كلارك. لقد نجحت الكذبة المصرية هذه المرة، وإن كان ذلك بطريقة غير مباشرة!
وفي يوم الخميس 31 يناير كان يبدو أن الربيع قد أتى؛ فالجو صحو ودرجة الحرارة لا بأس بها؛ إذ وصلت إلى 12° ظهرا، فخرجت إلى السوق سيرا على قدمي وحينما رجعت وجدت في انتظاري مفاجأة: تكليف من الشرطة (والشرطة تابعة للمجلس المحلي) بالحضور للترجمة الفورية بعد أسبوع في محكمة الجنح، وهي نوع من المحاكم لا يوجد عندنا، وهو يحاول إنهاء القضايا السهلة أو التي لا خلاف على الأدلة فيها؛ إما بإحالتها إلى محكمة الدرجة الأولى، أو بإصدار حكم، أو بحفظ القضية. وتسمى هذه المحاكم
magistrate’s court
وهي تابعة أيضا للمجلس المحلي للمدينة، وتختلف عن محكمة الصلح التي ذكرتها من قبل في أن القاضي يحمل مؤهلا قانونيا، على خلاف قاضي الصلح الذي يعينه المجلس المحلي على أساس النزاهة والخبرة والسمعة الطيبة.
جاكي زوجة توم هيثون مع اثنين من قبيلة كينية عند زيارتهما إلى لندن عام 1972م.
وذكرت تجربة «طالب» ودعوت الله ألا تكون قضية مماثلة، وللقارئ أن يتصور مدى دهشتي عندما ذهبت في الموعد المحدد لأرى «طالب» نفسه في قفص الاتهام، وهو ليس قفصا كالذي نراه في السينما بل مجرد حاجز عادي في غرفة عادية. دخلت فحلفت على المصحف أن أراعي الله والضمير في ترجمتي، وكانت النيابة قد وجهت إليه التهمة رسميا هذه المرة، وكانت الظروف مختلفة عن المرة السابقة؛ فلم تكن الدنيا تمطر، بل كان الجو صحوا حين اقترب صاحبنا من الشاكية وحاول، فيما قيل، تقبيلها. وكانت الفتاة حاضرة. وقمت بالترجمة لمدة ساعة كاملة، عرفت فيها تفاصيل الاتهام؛ إذ يبدو أن «طالب» المذكور اقتفى أثر الفتاة ثم هجم عليها دون مقدمات مما سبب لها صدمة عصبية
trauma
فصرخت وتكرر ما حدث في المرة الأولى، ولم تستدعني الشرطة في المراحل التمهيدية للقضية؛ لأن قاضي الصلح أحال الشكوى إلى النيابة التي أمرت باحتجاز المتهم (الذي لم يكن متهما بعد) 24 ساعة، ثم وجهت إليه التهمة رسميا، ثم حبسته على ذمة القضية (
remanded in custody in connection with ... ) ولم يستغرق القاضي وقتا طويلا في نظر القضية فأصدر الحكم بترحيله من إنجلترا، وقال في «تلخيصه»
summing up
للقضية إنه أخذ في اعتباره صغر سن المعتدي، وانتماءه إلى ثقافة مختلفة، واحتمال اختلاله نفسيا، كما حكم بأن للمدعية الحق في التعويض المادي عما أصابها من صدمة، وقال إنه سيحيل القضية إلى سفارة البلد المعني حتى يتم دفع التعويض الذي تحكم به محكمة أخرى مدنية، وسيكون على طالب أن يأتي إلى الشرطة «كل يوم» لتسجيل اسمه حتى يتم الفصل في القضية المدنية!
كانت التجربة رهيبة! لقد وقع «طالب» في المحظور! وخرجت مهموما أريد أن أحكي ما حدث لأي صديق، وكنت أريد أن أعرف مصير طالب بعد ذلك، ولم أكد أخطو خطوة واحدة خارج قاعة المحكمة حتى قابلت رجلا أسمر يبدو أنه عربي، فنظرت إليه فابتسم وجاءني قائلا: «أنا من السفارة، وقد اتفقنا بالفعل على دفع التعويض الذي طلبته الشاكية، ولن تحال القضية إلى محكمة أخرى، بل ستجري التسوية خارج المحكمة؛ أي (
settlement out of court ) حتى يستطيع «طالب» العودة إلى أهله.» وسألته أسئلة كثيرة أجاب عليها بما بث الاطمئنان في قلبي، ولم يعد لدي شك في أن «طالب» سيعود إلى وطنه بسرعة.
وقد يكون من المناسب أن أختم هذا الفصل بذكر الشيكين اللذين تلقيتهما من المجلس المحلي بعد ذلك، لقاء جهودي في الترجمة، وكانت نقودا تمنيت ألا أكسبها؛ فلكم شاهدت الإنجليز يمارسون «ألعاب الحب» (love play)
في الطريق العام، ولكم شاهدت الفسوق الصريح، دون أن يلتفت أحد إليه أو يشكو منه!
الفصل الثامن
العودة
1
في نحو منتصف فبراير 1974م، وصلني خطاب من البنك يقول لي إنني مدين لهم بثلاثين جنيها، و«يستحسن» أن «ألتفت» إلى هذا الأمر وأوليه «عنايتي» في أقرب فرصة! كانت صيغة مطبوعة ترسل لكل عميل «يسحب على المكشوف» ولكنها كانت إنذارا لي بأن الإفلاس عواقبه وخيمة؛ ولذلك عدت إلى صورة العقد التي أرسلها الوكيل، ولاحظت أنه يقول في أحد بنوده إن الوكيل سوف يدفع لي عند التوقيع مبلغا معينا للإنفاق على العمل (لتغطية تكاليف التأليف) وفجأة اختفت مخاوف تغيير الأسلوب أو تعديل الصياغة الأدبية، ولاحت صورة النقود الزاهية أمام عيني، فعقدت العزم على أن أنتهي من التمثيلية التليفزيونية بأسرع وقت. وأعددت الملخص اللازم وأرسلته إلى الوكيل، فجاء الرد بالموافقة، فأتيت بالآلة الكاتبة وبدأت العمل.
وقضيت أسبوعين كاملين لا هم لي إلا الانتهاء من النص، وكان الحوار الحي مستقى من اللغة الدارجة، وأحسست بنشوة بالغة وأنا أحاكي كتاب التليفزيون، وأتعمد إثراء حواري بالتوريات اللفظية، وعندما انتهيت منها عرضتها على توم هيتون وزوجته جاكي، فأبديا إعجابا لا يشوبه أي تحفظ؛ ومن ثم أعددت صورا بالزيروكس وأرسلت الأصل إلى الوكيل، وجاءني الرد برجوع البريد، وكان يقول إنهم استلموا الأصل وسوف يرسلون إلي رأيهم حالما يقرؤها الناقد. وعندها أتيت ببطاقات الرسالة وعدت إلى العمل الذي لا يقل إبداعا عن التأليف، وإن كان يقتضي تجنب اللغة الدارجة تماما.
وفي يوم السبت 30 مارس اتصل بي توم هيتون وقال إنه سوف يسافر إلى بلانتاير
Blantyre
في ملاوي، وقد دعا صديقا له عاد من إيران لتوه، وكان يمر بأزمة نفسية، إلى العشاء، كما أن ابنه كان في زيارة لإنجلترا، وهو يدعوني إلى العشاء مع الجميع. ورحبت بالدعوة فالوحدة كانت قاتلة، ولا أعرف متى تعود نهاد وسارة. وعندما وصلت إلى منزل توم كان الجميع قد بدءوا الحديث الصاخب، فقدمني توم إلى صديقه جون فورسايت (Forsythe) ، وطلب منه أن يشرح لي ما حدث له، لكنه كان حزينا فقال «فيما بعد»، وبعد أن شرب ما شاء الله له أن يشرب بدأ يقص قصته:
كان فورسايت يعمل بالنجارة (
cabinet maker
أي نجار موبيليا) ويسمي نفسه (أستاذ صنعة) (master craftsman)
وعندما ارتفعت أسعار البترول بعد حرب أكتوبر قرأ إعلانا عن وظيفة مناسبة في طهران تدر دخلا لم يكن يحلم به، فقدم طلبا لاقى القبول وسافر في نوفمبر، وجعل يرسل إلى زوجته وطفليه ألف جنيه في الشهر، وطلب منها إنفاق مائتين وادخار الباقي حتى يعود، فسوف يساعده ذلك في عمله ولا شك. وكان فورسايت نموذجا للطبقة العاملة التقليدية في بريطانيا، وكان المفروض أن يستمر في عمله حتى الصيف، لكنه لم يحتمل الانتظار؛ إذ كان يشتاق إلى رؤية طفليه، وكانت حياة الوحشة والوحدة في إيران لا تحتمل، فقرر فجأة أن يعود إلى إنجلترا، وحصل بسهولة على إجازة لمدة أسبوعين. وكان قد وضع خطة لتحديث عمله في النجارة بشراء آلة جديدة باهظة الثمن، واتفق مع شركة من الشركات على شرائها عند عودته ودفع العربون من مدخراته التي كان يقدر أنها بلغت ثلاثة آلاف جنيه على الأقل. واتجه من المطار رأسا إلى منزله فوجد زوجته أمام المرآة تضع مساحيق الزينة وتضبط هندامها، وكانت الساعة قد جاوزت الثامنة مساء فألقى عليها تحية المساء، فردت ببرود قائلة ما معناه: «ما الذي أتى بك مبكرا؟!»
وقال فورسايت: «كان استقبالها الجاف لي صدمة كبيرة؛ فأنا أحبها. إنها امرأة رائعة. (وأخرج من جيبه صورة عرضها علي) وسألتها: أين الطفلان؟ فقالت: عند جدتهما! فقلت: والمدرسة؟ فقالت: «هي تصحبهما إلى المدرسة.» فسألتها: هل ستخرجين الآن؟ فقالت بلهجة ساخرة: وهل تظنني أتزين حتى أتطلع إلى نفسي في المرآة؟ ثم خرجت. وقضيت الليلة وحدي مهموما؛ فالدنيا ظلام والبارات تغلق أبوابها في العاشرة، ولم يعد هناك ما أستطيع أن أسلي نفسي به سوى الشراب. وشربت ونمت، وعندما صحوت لم أجد زوجتي (ولا الأطفال طبعا) فاتصلت بالمعارف والأصدقاء فلم أجد إجابة شافية، فخرجت إلى الورشة، فرحب بي الزملاء، وبعد تبادل الأخبار عن سوق العمل وأحوال التجارة وطرائف إيران سألتهم إن كانوا شاهدوا زوجتي مؤخرا هي والطفلين ففاجأني الوجوم التام. وعندما ألححت في السؤال وجدتهم يتبادلون نظرات سريعة ذات دلالة ويشيحون عني بوجوههم فحدست أن في الأمر شيئا وخفت أن يكون قد حدث لهما مكروه، فقال أحدهم: ألا يذهبان إلى المدرسة؟ فأومأت، فقال: لا بأس إذن. وبلغ بي القلق مبلغه، فاتجهت إلى المدرسة، وطلبت رؤية الطفلين، فأحضروهما، فقبلتهما وقلت لهما إنني سوف أعود في الرابعة لأصطحبهما إلى المنزل، فقال الكبير: ألا ننتظر «ديك» (Dick)
إذن؟ ولمحت الصغيرة، ولم تكن تجاوزت الثامنة تشد يد الصبي كأنما لتحذره، وأدركت بسرعة أن في الأمر سرا، فلم أزد بل قلت بثقة: لقد عاد والدك، وسوف يأتي لإحضاركما في الرابعة! وانصرفت.
وسرت إلى المنزل وأنا أقلب الأمر على وجوهه؛ إذ قد تكون زوجتي التحقت بعمل يشغلها أثناء غيابي، مما يفسر عدم وجود السيارة في الصباح، وقد يكون «ديك» زميلا في العمل تكلفه زوجتي بإحضار الأطفال، ولكن متى عادت زوجتي بالأمس ومتى خرجت فلم أشعر بها؟ لا بد أنني أسرفت في الشراب فنمت نوما يشبه الإغماء، والأرجح أن أرى «ديك» بعد قليل عندما أذهب لإحضار الطفلين، وربما أوضح لي كل شيء. وعرجت على أول بار أقابله فتناولت قدحين من البيرة الإنجليزية التي طالما اشتقت إليها في إيران، وفي الرابعة ذهبت إلى المدرسة فوجدت الجميع قد انصرفوا!
ولجأت إلى توم هيتون وجاكي - هنا - فهما أصدقائي منذ الصغر، وجاكي وأنا نشأنا في حواري نوتينج هيل جيت
Notting Hill Gate
وعرفنا شظف العيش قبل أن أثبت موهبتي في حرفة النجارة وبراعتي في تصميم الأثاث - اسألهما عني يا أستاذ! وهما اللذان نصحاني بشراء هذا المنزل المجاور لمنزلهما، والحق أنهما أزالا مخاوفي، وتطوع توم بأن يذهب بنفسه معي ليعرف ما حدث، وأين ذهبت زوجتي. ولكنني لم أكن أقوى على البحث فطلبت منه أن يتولى البحث بنفسه. وعندما عاد كنت قد نمت فلم أشاهده إلا في الصباح. وكان ما توقعت وما كنت لا أريد تصديقه؛ إذ اتخذت زوجتي لها عشيقا في غيابي، وذلك تحت سمع وبصر الجيران، ونبهت الطفلين ألا ينبسا ببنت شفة، وكان «العم» ديك هو الذي يأتي بسيارتي عصرا لإحضارهما، ويبدو أن زوجتي أشاعت أنني لن أعود أو أننا سوف ننفصل فتقبل الناس صداقتها ل «العم» ديك!
ومن ثم ذهبت إلى منزل أسرتها وقابلت والديها وقصصت عليهما ما سمعت، فقالت أمها (حماتي) ببساطة: «تقول جيرتا (الاسم المختصر لزوجته جيرترود) إنكما اتفقتما على الطلاق وعهدت إلي برعاية الأطفال، و«ديك» هو الذي يحضرهما من المدرسة كل يوم. وأنا أرى أن التقاضي باهظ التكاليف، والاتفاق على الطلاق سوف يوفر النقود!» لم أصدق ما أسمع فأنكرت كل ذلك، وقلت لها إن ابنتها خاطئة، وإن «ديك» عشيقها، فأشار والدها لي بيده قائلا: «حذار من رمي الاتهامات بغير دليل! هل تعلمت الهمجية في إيران؟» وفقدت أعصابي وقلت إنها جعلتني أضحوكة بين الجيران، وحتى لو اتفقنا على الطلاق فأنا أريد النقود التي أرسلتها إليها من إيران! وخرجت.
وفي اليوم التالي صحوت متأخرا وخرجت أسير على قدمي رغم المطر المنهمر وقد اعتزمت العثور على جيرتا بأي طريقة، ولم أكد أصل إلى ناصية الشارع حتى رأيت سيارتي واقفة، ودبت الحياة في عروقي فأسرعت إليها وإذا بزوجتي فيها مع شخص حدست أنه «ديك»، وإن لم أتبين ملامحه بسبب البعد والمطر، فبدأت أعدو نحوها، وإذا بزوجتي تدير المحرك وتندفع إلى الأمام، فعدوت حتى كدت أدركها لكنني لم أستطع، فالتقطت حجرا وضربت الزجاج به فكسرته! وكانت القضية التي قرأت عنها في الصحف وسببت لي هذه المتاعب.»
ونظرت إلى توم أستوضحه؛ فأنا لم أقرأ عن أي قضايا تخص فورسايت، فأسرع توم يقول «إنها في صحف اليوم. تفضل». كان الخبر يقول: «القاضي يحكم على الزوج الهمجي بالحبس ستة أشهر مع وقف التنفيذ.» ويتضمن الخبر التفاصيل كلها، تماما كما رواها الزوج، ويقول إن القاضي استنكر السلوك الهمجي من الزوج الغيور العائد من إيران، وقد أصدر هذا الحكم عليه حتى يجعل منه عبرة لمن يعتبر.
وقالت جاكي: «شيطانة محظوظة! وجدت في يدها أموالا لا تعرف ماذا تفعل بها فقررت أن تلهو وتلعب!» وقال ابن توم (وكان اسمه «كامل» وكان يكتبه - ويا للعجب - بالإنجليزية هكذا
Camel !): «لو كنت مكانها لفعلت نفس الشيء!» وكان وجه فورسايت يزداد امتقاعا، وأحسست أنه على وشك البكاء، فقلت له: «تستطيع أن تتزوج خيرا منها، ولا أظن أن «ديك» سوف يتزوجها، فإذا كنت ما تزال تحبها فلا تقل إن الوقت قد فات!» ونظر إلي في دهشة وقال: «أنا لست حزينا على فراق اللعينة بل على فراق الأطفال، وفراق النقود طبعا.» وكان الوقت قد تأخر فانفض الحفل وعدت إلى المنزل بمادة «قصصية» جديدة!
لم يقل لي «توم» إنه أقنع فورسايت بأن يلحق به في بلانتاير؛ فهناك ألف فرصة للعمل، وكان توم قد اكتسب من نشأته في اليمن الميل إلى بذل المساعدة لمن يحتاجها ومد يد العون دون توقع للجزاء أو للثواب، وكان دائما ما يقول إن في أعماقه دما عربيا يدفعه إلى الترحال، وقد تابعت أنباءه بعد عودتي من مصر فكان المثال الفريد للتطبع الذي يغلب الطبع، هذا إذا اعتبرنا صفات العزلة والحرص من الطباع «الغريزية» لدى الإنجليز. ولم يتردد فورسايت في الموافقة، ولم يكتب لي أن أرى أيا منهما إلا بعد عام كامل !
2
كانت كتابة التمثيلية التليفزيونية أيسر كثيرا من كتابة القصة؛ فأنت تضع تخطيطا مبدئيا يشبه السيناريو، وتتصور ما يمكن أن يدور من أحداث بعين خيالك، وبعد أن ترسم المشهد بخطوط عريضة (outline)
تكتب الحوار فقط، وهو محدود إذا قيس بالحوار المسرحي أو الإذاعي، وأذكر أنني كنت أملأ 18 صفحة فولسكاب بالحوار للتمثيلية الإذاعية التي لا تزيد عن نصف ساعة ، والآن لم أكتب سوى 25 صفحة لهذه التمثيلية التليفزيونية ومدتها ساعة كاملة. كان الفرق هو أنني في الإذاعة أخاطب الأذن أساسا ولا بد أن يكون الصوت البشري متصلا في الأسماع فهو الأساس، وما المؤثرات السمعية الأخرى من موسيقى وغير ذلك إلا عوامل مساعدة وثانوية، لا يكاد يحسب لها حساب، أما في التليفزيون فنحن نخاطب العين، وقد يكون دور المخرج في تحريك الأشخاص وتكوين المشاهد وتكوينها أهم من دور كاتب الألفاظ، والزمن المتوقع للمشاهدة، حتى دون حوار، قد يطول فيمعن في الطول، والمسرح وسط بين الإذاعة والتليفزيون؛ فالمسرحية التي تستغرق من ساعتين إلى ثلاث ساعات في التقديم على المسرح تتطلب صفحات تتراوح بين 60 و90 صفحة، بما في ذلك الإرشادات المسرحية.
وكان يوم وصول الموافقة من الوكيل يوم عيد لي، وسرعان ما وصل العقد فوقعته وأعدته بالبريد، وكان علي أن أسجل نفسي في نقابة المؤلفين (Writers’ Union) ؛ لأن اشتراكي في نقابة الصحفيين (
NUJ ) لم يكن يؤهلني للكتابة في التليفزيون، ولم يكن معي من النقود ما يكفي فطلبت التأجيل وجاءت الموافقة؛ ومن ثم بدأت أفكر في موضوع جديد لتمثيلية جديدة، واشتط بي الخيال - ترى هل أستطيع يوما ما أن أكتب للمسرح الإنجليزي؟ لن أكون أول أجنبي يدخل الساحة، ولن أكون الأخير، وأفقت من أحلامي ذات يوم على خطاب من إدارة الجامعة تسألني فيه متى أنتهي من الدكتوراه؛ لأن الحد الأقصى للتسجيل هو خمس سنوات، وسوف يكون علي إذا أردت زيادة المدة أن أدفع المصاريف الدراسية بنفسي.
أفقت - كما قلت -؛ لأن الكتابة في الغربة معناها الحياة في الغربة، وأنا رجل جذوره في مصر، وثقافة اللغة العربية تجري في جسده مجرى الدم، ونهاد وأنا لا نتصور لنا حياة خارج مصر، وعندما وصلني في أبريل خطاب نهاد الذي تقول فيه إنها ستصل هي وسارة في أوائل مايو (يوم 4 تحديدا) تأكد لي أن تلك الأحلام لا بد أن تنقشع، وربما احتجت إلى العودة إلى العمل، وهو ما فعلته اعتبارا من أول مايو، حتى لا نعيش في ظل الإفلاس.
وقضيت شهر أبريل ممزق النفس بين الكتابة الإبداعية ومحاولة «تشطيب» الرسالة، وعدت إلى العمل في مايو، وعندما وصلت نهاد وسارة، ورأيت ابنتي بعد فراق دام ثمانية أشهر، وكانت نهاد تحملها، تهلل قلبي وعاد الدفء إلى نفسي، وفي المطار دهشت سارة لبرودة الجو والنسيم الذي كان يهب عليلا حينا وعاتيا حينا آخر، وقالت بالعربية «الهوا»! وقلت لنهاد إنها تتكلم العربية! وأكدت لي أنها تعرف أكثر من هذه الكلمة!
وكانت جلسة التصافي بيننا طويلة؛ فلقد مرت نهاد بأوقات عصيبة وهي ترعى ابنتنا وحدها، وكانت رحلتها ولا شك تضحية من جانبها في سبيلي أو في سبيل الأسرة، أقصد أسرتنا الصغيرة، وكنت أعرف أنني أخطأت حينما وافقت على رحيلهما، ولكنني كنت ألتمس الأعذار لنفسي - وهي أعذار تتعلق بتكويني نفسه لا بأفعال محددة؛ فأنا لا أستطيع أن أكتم كل طاقاتي الفنية وأسخر كل جهودي للانتهاء من الرسالة مثلما يفعل طالب البعثة الملتزم، ولا أستطيع أن أمتنع عن المسرح، أو عن قراءة الصحف ومشاهدة التليفزيون والاستماع إلى الراديو، وإلى الموسيقى، أو عن الاختلاط بالناس والإحساس بحياتهم ونبضها، وبلغة الناس إلى جانب لغة الكتب، ولا أستطيع أن أمتنع عن العمل طويلا فالتدريس والترجمة يمثلان روافد لحياتي، وكل هذا ينطبق تماما على نهاد، وقد عشنا أياما صعبة، وآن لنا أن نودعها وأن نتطلع إلى المستقبل في مصر. وتمنيت من أعماقي أن تغفر لي نهاد تلك «الموافقة» على الرحيل!
3
اتفقنا أنا ونهاد على أن نجعل الشهور الباقية من عام 1974م - ريثما يتم بناء العمارة التي استأجرت لنا فيها شقة جميلة، بفضل والدها رحمه الله، وكان معهما أخي مصطفى، في مدينة المهندسين بجوار نادي الصيد المصري - شهور استعداد للعودة ، فاشترينا كل ما تصورنا أننا سنحتاج إليه، في حدود طاقتنا المالية، وكنا نتنزه حين يصفو الجو في الحديقة الرئيسية المجاورة لنهر التيمز (على مسافة بعيدة بعض الشيء من منزلنا) وكانت سارة وهي تخطو في عامها الثالث تتحدث الإنجليزية لغة أولى، والكلمات العربية المفردة متناثرة في تضاعيفها. وكنت قد اكتسبت هواية جديدة في ذلك الصيف هي صناعة الأشياء الخشبية، فلم أتردد في العمل نجارا في الحديقة بعض الوقت، وعندما علمت صديقات نهاد بنبأ عودتها أصبحن يزرنها، وكثيرا ما كنت أعود من العمل مساء لأجد مجلس السمر منعقدا، وأعتقد أن اختلافنا عنهن كان يجذبهن إلينا، ولا أقول الكرم الذي هو سمة كل العرب وكل المصريين.
وقصت الصديقات على نهاد ما دار في «الحياة» أثناء سفرها، وما إن انقضى الصيف حتى عادت نهاد إلى العمل في المكتبة معهن، وأصبحت تأخذ سارة إلى روضة الأطفال في الصباح، ثم أحضرها أنا إلى المنزل عصرا، وقد أتولى إطعامها ورعايتها حتى تعود نهاد، وأعتقد أن سارة استفادت فائدة جلى من تلك الروضة، وفي الأيام التي كنا نعمل فيها معا (أي في أيام ورديتي النهارية) كنا نخرج معا ونعود معا.
وكانت خطاباتنا المتبادلة مع أفراد الأسرة في مصر - مع ما عادت به نهاد من أخبار مفصلة - تبعث على الاطمئنان، ولكنني كنت ما أزال أحمل سري الخاص، وهو العقد الذي وقعته مع الوكيل، ونص تمثيليتي (
Invasion
أي الغزو) وذلك الحلم الجامح الذي يغريني بمواصلة الكتابة الإبداعية بالإنجليزية، وعندما عرف بذلك السر سمير سرحان (الذي كان قد رحل مع أسرته في إعارة إلى المملكة العربية السعودية) كتب لي خطابا مطولا يقول لي فيه: «هل تريد أن تترجم أعمالك فيما بعد إلى العربية أو أن تصبح كاتبا مستوردا؟» وفهمت من خطابه أنه يريدني أن أعود بأسرع ما أستطيع، وقص علي قصة إعارته، وكيف أصيب رشاد رشدي بصدمة آنذاك (أي قبل ثلاث سنوات) حين لم يقبل طلبه؛ لأنه كان قد عقد الأمل على الرحيل بعد أن بلغ سن التقاعد (وكانت ألفاظ سمير سرحان هي
he was banking on it ) ثم تغيرت الأحوال وأصبح رشاد رشدي أستاذا متفرغا، ثم عميدا لمعهد الفنون المسرحية، ثم رئيسا لأكاديمية الفنون، وكانت أنباء ذلك كله تعني الكثير لي، كما كان رشاد رشدي رئيسا لتحرير مجلة جديدة هي «الجديد»، وكنت من أوائل من كتبوا فيها عام 1972م، والآن تفرق الأصحاب في ثلاث قارات، ولا بد أن رشاد رشدي كان يشعر بالوحشة لذلك، خصوصا وأن «ابنه» الرابع فاروق عبد الوهاب رحل إلى أمريكا قبل عدة أعوام.
واكتملت الرسالة، وأصبحت أشعر أن الأيام المقبلة ستكون عصيبة؛ فربما أقرر البقاء - رغم كل شيء - والالتزام بالعقد الذي وقعته ومدة سريانه ثلاث سنوات، وربما أقرر الالتحاق بعمل آخر - وكثيرا ما كنت أقرأ الإعلانات عن الوظائف الخالية لأساتذة العربية (اللغة والأدب والثقافة) في الجامعات البريطانية. وقد حصل عبد اللطيف الجمال على إحدى هذه الوظائف فيما بعد، وإن كان الراتب أقل كثيرا من الدخل الذي تدره الترجمة؛ فالتدريس مهنة منكوبة في بريطانيا، ولا يقدم عليها إلا المثاليون، ممن يؤمنون حقا برسالة العلم والتعليم.
وعندما عادت نهاد وسارة عادت لنا الحياة الاجتماعية، فبدأنا نتبادل الزيارات مع الأستاذ المشرف وزوجته شارلوت، ثم أصبح منزلنا بسبب موقعه المتوسط بين العمل والمدينة ملتقى للمعارف والأصدقاء، وكان معظمهم يسخرون منا حين نقول إننا سوف نرجع إلى مصر؛ فهم يعتبروننا من المقيمين الذي أصبحت لهم جذورهم في هذه التربة الجديدة، وإن كانت قضية الجذور تشغلني أكثر من غيرها.
نظرت فيما كتبت، فوجدت أنني أعالج موضوعات تتعلق بحياة إنجلترا، وأنني مهما يكن موقفي أخاطب القارئ (أو السامع أو المشاهد) الأجنبي. كان قلبي مطمئنا إلى الملامح الفنية لكتاباتي، ولكن «الموضوعات» كانت تشغلني! ما دلالة ما أكتب - أو بعبارة شكري عياد «وبعدين؟» لم أكن أشعر بالوحدة بعد عودة نهاد وسارة، ولكنني كنت أشعر أنني مقبل على «وحدة» من نوع آخر حين أعود إلى مصر، ولا شك أن أول عناصرها هو اللغة! سمير سرحان يقول لي في خطاباته إن المجال مفتوح للكتابة بالعربية «وإن كان عندك أفكار اكتبها بالعربي!» وكنت أسمع الهاجس في ذهني بالإنجليزية
easier said that done - أي ما أصعب تحقيق ذلك!
وكان الهاجس له ما يبرره؛ إذ كنت ذات يوم في المطار أستقبل أو أودع أحدا (لا أذكر) حين شاهدت الدكتور شوقي ضيف يودع ابنه الطبيب المقيم في لندن، وعندما بدأنا الحديث وجدت أنني أترجم عن الإنجليزية؛ فالخواطر ترد إلى ذهني بالإنجليزية وأكاد أنخرط في حديث يشبه الترجمة الفورية، بل كنت أتعثر بحثا عن كلمة أو تعبير، وتصبب العرق من جبيني، وعندما تركت أسرة الدكتور شوقي ونزلت الدرج حياني شخص تعرف علي، وكانت التحية العربية جديدة ولم أعرف معناها؛ إذ كان ذلك الشخص من المشرفين على فريق رياضي مصري عائد بعد الانتهاء من بعض المباريات، وكانت التحايا القديمة هي «أهلا يا كابتن» أو «يا باشمهندس»، ولكن التحية الجديدة كانت يا باشا - وهي الكلمة التي كان الظرفاء يستخدمونها في «معاكسة» الحسناوات! وقلت بسرعة «أهلا وسهلا»، لكنه عندما انخرط في الحديث معي كان الواضح أنني أتلعثم وأتردد!
إذا كنت سأكتب عن حياة الإنجليز وأوجه حديثي إلى الإنجليز، فسوف أكون قد أهدرت العمر حقا! هل اختفت العربية التي تعلمتها في مدرسة المحافظة على القرآن الكريم (مدرسة الحكيمة في رشيد) والتي كتبت بها النقد والمسرح وترجمت إليها مسرحيات شيكسبير وتشيخوف ويونسكو؟ كنت واثقا أنها كامنة بصورة ما في أعماق النفس أو في طوايا العقل، وإن يكن استدعاؤها عسيرا بالغ العسر؛ لأن ردود الأفعال اليومية التي غالبا ما تتخذ صورا لفظية - شأنها في ذلك شأن المشاعر والأحاسيس والأفكار - تتشكل بلغة الحديث والفكر والعمل في الحياة اليومية، وهي الإنجليزية! كانت معظم الأفكار التي أتتني من الكتب أو من أفواه الناس تتخذ صورة اللغة الإنجليزية، وكنت أحمد الله آنذاك على أنني غير مضطر لترجمتها إلى العربية، ولكن ذلك محتوم حين أعود إلى مصر، فكيف تتحول آلة التفكير كلها من لغة إلى لغة، وشغلني الموضوع إلى الحد الذي دفعني إلى مناقشته مع مستر ويلكينز أستاذ علم اللغة، الذي أجرى بحوثه كلها أو معظمها في ثنائية اللغة، أو في التحول من لغة إلى لغة في سياق التفكير والحديث (
bilingualism & code switching ) وكانت بعض مادته مستقاة من طفليه اللذين يتحدثان الإنجليزية والفرنسية بطلاقة؛ لأن أمهما فرنسية. قال ويلكينز: «نحن نفرق في علم اللغة بين فئة المفردات الأساسية التي يكتسبها الطفل من والدته أو من يحل محلها (
surrogate mother ) وبين فئة المفردات الثانوية التي يكتسبها من التعليم سواء كان ذلك هو التعليم الرسمي أم غيره؛ فالمفردات الأساسية هي التي نعتبرها اللغة الأم وهي تشكل المادة الخام لاستجابة الطفل وتفاعله مع العالم الخارجي، وتتحكم في أساليب انفعاله؛ أي إنها جزء لا يتجزأ من عملية نموه النفسي، وعلماء النفس يعلقون عليها أهمية كبرى. فإذا نازعتها لغة أخرى في تلك السن المبكرة - وهذا هو ما حدث في حالة طفلي الصغيرين - تأخر النضج اللغوي للطفل، مثلما يتأخر النطق عند الأطفال الذين يعانون من تنازع نصفي المخ على السيادة، ولكن النضج يأتي ولا شك ويكون في هذه الحالة ثنائي اللغة - بمعنى أن الطفل يكون قادرا على التحول من إحدى اللغتين إلى الأخرى بسرعة وبتلقائية - أي دون تفكير ودون تردد، وإن كان العامل الذي يحدد اللغة المستخدمة لا يتوقف على السياق وحده، بل تشترك معه عوامل أخرى كثيرة بدأ اللغويون في دراستها مستعينين بعلم الاجتماع وعلم النفس.
أما الفئة الثانية فهي فئة مفردات الخبرات اللاحقة على المفردات الأساسية، وهي كما قلت مفردات التعليم؛ فهي أكثر دقة وتفصيلا، وأكثر رهافة ولطافة، وعادة ما تتغلب فيها إحدى اللغتين على الأخرى، حتى لو كان الذهن يستخدم اللغتين معا في التفكير! فابنتي الكبرى لا تكتب إلا الإنجليزية رغم إلمامها الكامل بالفرنسية قراءة وكتابة وحديثا، وحين تضطر إلى كتابة الفرنسية فإنها كثيرا ما تترجم عن الإنجليزية وتزعج والدتها بأسئلتها الكثيرة. وهي ذات موهبة لغوية لا شك فيها، وأعتقد أنها لو تعمقت في دراسة الفرنسية فسوف تستطيع أن تكتب كتابة إبداعية يوما ما بلغة والدتها .. إنها فتاة رائعة ...»
وتركت ويلكينز يتحدث بإعجاب وحب عن ابنته، ثم قاطعته لأشرح له حالتي فقال: «أنت خير من يحكم على نفاذ الإنجليزية إلى مفرداتك الأساسية ، وقد تستعين في ذلك بابنتك؛ فهي لا شك تعرف العربية أو ستعرفها عما قريب، وربما أصبحت العربية مزاحمة لمفرداتها الأساسية بالإنجليزية، ولكنك لن تتعرض أبدا لمثل هذا التنازع؛ لأنك لم تتعلم الإنجليزية إلا بعد أن تشربت العربية - وكان ذلك كما تقول في الثامنة ...»
ولكن ويلكينز لم يكن درس التنازع على مستوى اللغة الناضجة ، فهو مرتبط بطفليه، والموضوع في حالتي يتخطى مرحلة الطفولة، فإذا كانت اللغة الإنجليزية هي السائدة اليوم، فلا بد أن تسود العربية غدا، ووجدتني دون أن أدري أتأمل عملي بالترجمة وتأثيره في تكوين إحساسي باللغة الإنجليزية، والفارق بين ما كتبته في الرسالة وما أكتبه الآن في القصص والتمثيليات، وطابع الحوار بيني وبين الإنجليز من جهة، وبيني وبين نهاد من جهة أخرى، وانتهيت إلى أننا - أنا ونهاد - قد أخذنا كفايتنا من الإنجليزية، وأن الوقت قد حان للعودة النهائية!
كانت سارة قد بلغت الثالثة، وكان الإنجليز يعتبرونها «عجبة» (oddity)
فهي تلتقط من حواري أنا ونهاد كلمات المثقفين وتستخدمها في غضون لغة الأطفال في الحضانة، وكانت زميلات نهاد في العمل يعجبن لها ويدهشن منها، وكانت إحداهن تقيم بجوارنا واسمها صوفي دينر - وكانت نمسوية وتتكلم الألمانية - شقراء وسمينة، ولم تكن تكف عن التعليق على لغة سارة العجيبة! وأذكر أن محادثات فض الاشتباك بين القوات المصرية والقوات الإسرائيلية كانت قد بدأت آنذاك، وكان كيسنجر يواصل رحلاته المكوكية بين الطرفين ملوحا بأمل السلام النهائي، وما لبثت القوات الإسرائيلية أن انسحبت من المنطقة التي كانت تحتلها غربي القناة، وبدأ الحديث الجاد عن السلام، وأعلن السادات أن الانسحاب سوف يعيد حقول البترول لمصر، ويسمح بإعادة فتح قناة السويس.
4
كان عبد اللطيف الجمال قد قرر حين حصل على الإجازة المرضية أن ينتهي من كتابة الدكتوراه في غضون الشهور الثلاثة، لكنه كان مثال «الصرمحة» بين الكتب، وهو ما كان شكري عياد يحذرني أنا منه، فانقضى صيف 1974م دون أن يكتب سوى فصل واحد، وكان يتعمد التعمق في الفكر الفلسفي الألماني بحجة الغوص في تأثير الألمان في كولريدج وكيف صور ريتشاردز ذلك في كتابه عنه، وكان المشرف على رسالته هو الأستاذ نورمان جيفارز
Norman Jeffares
المتخصص في ييتس، وكان على إعجابه بعمق أفكار عبد اللطيف يريد له أن ينتهي حتى يكتب شيئا عن ييتس، ولكن عبد اللطيف كان قد استنفد ما يزيد كثيرا عن الحد الزمني المسموح به للتسجيل للدكتوراه، فألغت الجامعة تسجيله، وأرسلت له تقول إنه إذا أراد إعادة التسجيل فسوف تنظر الجامعة بعين العطف في الطلب الذي عليه أن يتقدم به، مما جعل عبد اللطيف يزهد في العمل وفي الدراسة جميعا، وعندما أعلنت منظمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة ومقرها باريس عن مسابقة امتحان للتعيين في وظيفة مترجمين تقدم وحصل على الدرجات النهائية في ورقتي اللغة الإنجليزية، لكنه تجاهل ورقة اللغة الفرنسية فلم يوفق، ونجح عبد الرشيد الصادق المحمودي وترك لندن إلى باريس.
ولم أكن أزور لندن إلا لمتابعة أخبار الأصدقاء؛ إذ كنت حريصا على معرفة من غادرها إلى مصر ومن بقي فيها، وازداد اهتمامي في شتاء 74 / 75 بأنباء مصر؛ إذ كان أخي حسن قد التحق بعمله في وزارة الخارجية، وكان آنذاك سكرتيرا ثالثا في مونروفيا (عاصمة ليبيريا) وهو الآن سفير مصر في أذربيجان، وكان أخي مصطفى قد انتقل من الهيئة العامة للسد العالي (بعد انتهاء السد وتوزيع العاملين فيها على المصالح الأخرى) إلى الهيئة العامة للتأمينات الاجتماعية، لكن طموحه جعله يلتحق بالجامعة الأمريكية للحصول على الماجستير في إدارة الأعمال، وحصل فيما بعد على الدكتوراه، وهو الآن أستاذ في إحدى الجامعات الخاصة، ولم يكن قد تزوج بعد، بخلاف حسن الذي تزوج وأنجب أميرة وعزة - وهما من التوائم غير المتطابقة! وكان والدي قد شفي من الأزمة القلبية التي كانت أصابته بالفالج، وهو بعد في أواخر الخمسينيات من عمره، وكان ماهر البطوطي قد عاد إلى مصر من إسبانيا، ومر علي في إنجلترا وقضينا معا وقتا جميلا، وزارنا في منزلنا في ردنج.
لا أذكر الكثير - وهذا من العجب العجاب - عن مطلع عام 1975م؛ فالمفكرة تقول في كل صفحة «عام العودة إن شاء الله» وتحكي عن المستقبل لا عن الحاضر أو الماضي، وكانت نهاد كشأنها حاسمة في موضوع العودة، لا تطيق التردد فيه، وكان اهتمامنا منصبا آنذاك على الضائقة المالية التي نعاني منها؛ فلدينا طفلة، والأجر الذي سأتقاضاه إن شاء الله في الجامعة محدود؛ إذ كان راتب المدرس الشهري ما يزال أربعين جنيها، زيد فيما بعد إلى ستين، وأذكر أنني عندما قدمت استقالتي سألني رئيس مكتب الأخبار عن الراتب الذي سوف أحصل عليه في مصر، فقلت: ستون جنيها. ولم يدعني أكمل العبارة فقال: وهل تكفي ستون جنيها في الأسبوع؟ وتظاهرت بالانشغال بأشياء أخرى حتى لا أصحح له العبارة!
كان حفل التخرج يعقد أربع مرات في العام، وكان المشرف يرى أن أقدم الرسالة في الشتاء حتى أحضر الحفل الخاص بفصل الربيع؛ فسنوات التسجيل الخمس قد انقضت، والرسالة اكتملت، ولم يكن يرى مبررا للتباطؤ والتلكؤ، وكان يلمح لي من وقت لآخر بأن وظائف التدريس متاحة في قسم اللغة الإنجليزية، وأشار ذات يوم إلى إعجاب مستر ويلكينز بدراستي الأسلوبية وإلى أننا تربطنا صداقة متينة، فإذا ازدهرت الدراسات اللغوية والأسلوبية فلماذا لا أكون في طليعة أنصارها؟ وكنت أستمع إلى هذه التلميحات فلا أرد الرد الشافي، لا بسبب ترددي، بل لأنني لا أريد إغلاق «أبواب المستقبل» إغلاقا تاما، فالمستقبل مجهول (تعريفا) ولا يدري أحد ما تأتي به الأيام.
توفيت أم كلثوم في مطلع فبراير (وأذكر أن الصحف المصرية تسرعت بإعلان الوفاة قبل حدوثها يوم 2 فبراير) وقرأت نعيها في صحيفة التايمز يوم الثلاثاء 4 فبراير وأنا في لندن - لا أدري ماذا كنت أفعل - لكنني أذكر أنني كنت في محطة القطار حين قرأت الخبر المفصل، فكأنما كان إيذانا بانتهاء عصر كامل، ولم تنقض أيام حتى فوجئ الجميع بانتخاب السيدة مارجريت تاتشر رئيسة لحزب المحافظين، وكانت أول رئيسة للحزب منذ إنشائه، والغريب أنها عصامية؛ إذ كانت تنحدر من أسرة فقيرة (أبوها كان بقالا) وسلكت طريق الدراسة الجامعية حتى أصبحت مدرسة للكيمياء، ثم دفعها طموحها إلى الحصول على ليسانس الحقوق، والاشتغال بالسياسة، فتولت منصب وزيرة التعليم في وزارة المحافظين الأخيرة التي خسرت الانتخابات نتيجة الصدام مع إضراب عمال الفحم في مارس 1974م، وعودة حزب العمال بقيادة هارولد ويلسون من جديد إلى الحكم رسميا يوم 11 أكتوبر في العام نفسه.
وشغل الناس بهذه السيدة فزعامتها لحزب المحافظين تعني احتمال توليها رئاسة الوزارة إذا نجح الحزب في الانتخابات في جولة مقبلة، وهذا هو ما لم يكن «المحافظون» الحقيقيون من الإنجليز يسيغونه، فبدأنا نسمع لأول مرة عن الحركة النسوية الجديدة، وهي التي كانت مقصورة حتى ذلك العهد على الأدب، وبدأ الحديث الذي ملأ الدنيا هذه الأيام عن «طبيعة» الرجل والمرأة، وطلب مني مكتب الأخبار الحضور للاطلاع على بعض الصحف العربية لمعرفة ردود الفعل العربية ولكنني قضيت اليوم كله فاحصا دون أن أجد تعليقا مهما في أي منها.
وفي يوم الثلاثاء 25 مارس كنت في المنزل، وكنت قد انتهيت لتوي من محادثة تليفونية مع أحد الأصدقاء العرب الذي كان يهنئني بعيد المولد النبوي (12 ربيع الأول)، وأثناء صعودي إلى غرفة المكتب رن التليفون من جديد، وإذا بمكتب الأخبار يقول إنهم أرسلوا السيارة؛ لأن وكالة أنباء الشرق الأوسط «أخلت كل خطوطها» استعدادا لنبأ مهم، ولا يريدون أن يسبقهم أحد إليه، فارتديت معطف المطر والقبعة الكندية وخرجت لأجد السيارة، وفي لحظات كنت أستمع إلى إذاعة الرياض؛ إذ قيل إن الملك فيصل قد قتل. وسرعان ما جاءت الأنباء المؤكدة من المصدر الأصلي عن اغتياله برصاص أحد أفراد الأسرة أثناء الاحتفال بالمولد النبوي. وبعد قليل قال الراديو إن الأمراء «اتجهوا إلى منزل الأمير خالد وبايعوه ملكا» وسرعان ما طيرت الخبر في عبارة واحدة حتى لا تسبقنا وكالات الأنباء الأخرى، وكان يقول
Khalid is new Saudi King
ثم جلست أترجم النبأ لأتعثر في كلمة «بايعوه»!
ووقفت في ضيق واضح لأنظر في المعاجم، فأسرع إلي المشرف وكان رجلا مهذبا من ليسوتو اسمه هاتون
Hutton
ليسأل عن المشكلة، فقلت له «كلمة»! فقرأ الخبر الناقص في الورقة التي كانت ما تزال في الآلة الكاتبة وسألني كأنما ليكمل العبارة لي
they proclaimed him king?
وقلت له نعم! وسرعان ما اختطف الورقة وأرسلها إلى عاملة التليكس كي تطير النبأ، لكنني عدت إلى الكلمة لأتساءل عن معنى البيعة. وفي لحظة خلتها دهرا تزاحمت في ذهني معاني البيعة والمبايعة في تاريخنا العربي، فذكرت «بيعة العقبة»، وغيرها من الأحداث التي تجعل الكلمة زاخرة بمعان لا تخرج في كلمة واحدة؛ فهي تتضمن الانتخاب وإعلان الولاء معا، إلى جانب ما يوحي ذلك كله به من وفاء وإخلاص وثقة، وأين ذلك من الكلمة المفردة التي تناقلتها وكالات الأنباء نقلا عني في ظهيرة ذلك اليوم من أيام الربيع؟ واضطررت إلى إصدار نشرة أخرى أضفت فيها تلك المعاني، ثم ذهبت إلى الكافتيريا لإحضار كوب من الشاي بعد أن أوصيت والد جون بولارد أن يأتيني بالترجمات الإنجليزية التي تبثها وكالات الأنباء العربية (أي العاملة في البلدان العربية) حتى أقارن وأوازن وأحكم، ولكن الجميع كان يردد الكلمة «المؤقتة» التي اقترحها هاتون دون الاطلاع على الكلمة العربية!
وانثنيت أفكر في مدى الاختلافات في التفكير (النابعة من اختلاف الثقافة) التي تتحكم في اختلاف صورتنا في العالم الخارجي، واختلاف صورة العالم الخارجي لدينا، وذكرت عبارة أخرى كانت قد وردت في تعليق إذاعة صوت العرب عقب اجتماع نيكسون مع بريجينيف قبل ثلاثة أعوام، وكان الذي كتبه عبد الفتاح العدوي، صديقي القديم (رحمه الله) وهي: إن الانفراج الدولي «يأخذ بخناقنا»! كنت ترجمتها آنذاك بتعبير
is at our throat
ولكن أحد زملائي المحررين اقترح أن يجعل لها رنينا جذابا وهو
throttle
وهو فعل يعني الخنق، ولا يوحي بالتنازع الذي يمسك فيه الرجل ب «خناق» غريمه، ومنها «الخناقة» بالعامية والفعل «يتخانق» المصري! وعندما اعترضت قال لي: هذه مسئوليتي. ولحسن الحظ أن الخبر لم يكتب له أن ينشر، وإن كان مكتب الأخبار كله يعتقد أن المعنى هو أن الانفراج الدولي في رأي كاتب التعليق «خانق» (suffocating) !
وقلت في نفسي إن هي إلا أيام وأعود إلى مصر، ترى هل تصبح دقة الترجمة عاملا يساهم في تصحيح صورتنا؟ إن لغة الأخبار يسيرة موطأة الأكناف؛ فقوالبها ثابتة محفوظة، أما لغة الأدب فما أشقها وأعسرها! وما بالك بلغة الثقافة العربية ذات الجذور العميقة في التاريخ والمعتقدات! لا شك أن تلك رسالة لا تقل قيمتها عن الكتابة والنقد، والصحوة العربية تقتضي صحوة لغوية لا تقتصر على أجهزة الإعلام، بل تشمل كل ما نترجمه من آدابهم وما يترجمونه من آدابنا - بل وما ينبغي أن نترجمه نحن من آدابنا!
لا، لم يعد الهدف من العودة تدريس الأدب الإنجليزي للصغار، بل القيام بما هو أهم وأفعل وأجدى وأقيم!
5
قدمت الرسالة في أبريل، بعد انتهاء موعد فصل الربيع، وحددت الجامعة لجنة الممتحنين، وكانت تضم البروفسور روجر شاروك والبروفسور ماثيوز (صديقي المتخصص في شلي) ولم يعد أمامي سوى انتظار تحديد موعد المناقشة، وسمعت في أواخر مارس أن السادات سوف يعيد فتح قناة السويس يوم 5 يونيو، وأن مكتب الأخبار يتوقع أن يلقي خطابا في هذه المناسبة، وأرسل يسألني هل ستكون معنا هنا؟ ولم أتردد. نعم؛ فلا بد من دخل إضافي يساعدني على تحمل نفقات السفر وشحن الأثاث والكتب وما إلى ذلك.
كنت أعمل جاهدا على استكمال مكتبتي حين ساقتني خطاي إلى مكتبة كبرى في لندن، وجعلت أتطلع إلى دواوين الشعراء، وإذا ببعض الكتب المعروضة تباع بتخفيضات تصل إلى 50٪، فتأملت بعضها فإذا بها - كما يقول الغلاف - ترجمات عن العبرية الحديثة؛ أي عن اللغة المستخدمة في إسرائيل، وإذا بكتابها مجهولون تدور أعمالهم عن «مثالية» الحياة في إسرائيل، و«الدرس» الذي يتعلمه الإنسان، أو ينبغي على كل إنسان أن يتعلمه من الحياة «محاصرا» بالأعداء، وكان وصف العرب بأنهم الأعداء مألوفا، لكن وصف إسرائيل بأنها «جزيرة السلم والأمان» في بحر هائج متلاطم الموج يهدد باكتساح أهلها كان سخيفا وغير شاعري بالمرة! وتساءلت في نفسي: هل يريد اليهود للعالم أن يصدق أن العرب وحوش يريدون ابتلاعهم؟ وكان السؤال الأهم: هل رد العرب على ذلك شعرا أو نثرا؟ وإذا كانت تلك الدواوين مترجمة حقا عن العبرية - وهو ما كنت أشك فيه بل وأستبعده - فهل ترجمنا نحن أدبنا حتى يرى العالم صورتنا الصادقة؟ وزاد ذلك من إيماني بأهمية الرسالة التي أصبحت أومن بضرورة النهوض بها عند عودتي إلى مصر.
وعندما خرجت من المكتبة وجدت في الشارع نفسه
Shaftsbury Avenue
المسرح الذي يحمل اسم الشارع ويعرض آخر ما كتبه آرثر ميلر، وهي مسرحية «حادثة في فيشي» وهي تحكي بصراحة قصة اضطهاد اليهود إبان الحرب العالمية الثانية، وتثير الشفقة عليهم، وتستعطف العالم وترجوه أن يمد يد المساعدة إليهم! هل هذا هو الأدب الهادف؟ هل كتب علينا إذن أن نقتصر في تناولنا للأدب على مواطن الجمال وبراعة الفن المسرحي (أو الشعري في الدواوين التي ذكرتها) بغض النظر عن الدلالة؟ هل كتب علينا أن نتجاهل تساؤل شكري عياد «وبعدين؟».
وعندما عدت إلى ردنج طالعتني أنباء الصراع في لبنان بين الفلسطينيين والميليشيات المسيحية (اليمينية) ولم أكن أعرف حقيقة ما يجري، ولم أتمكن من معرفته حتى الآن، وكنت أحيانا أعجب لما يجري وأشفق على المؤرخين الذين يقولون إنهم موضوعيون لا يبتغون إلا الحقيقة وحدها! فهل الحقيقة تقتصر على أن قتالا ما يدور في بيروت، أم تتعدى ذلك إلى الذين يتقاتلون وما هي دوافعهم والقوى التي تساندهم؟ وفي بدايات مايو كنت أدرك أن سنوات عشرا حافلة قد انقضت، وأن الطالب المصري الذي كان يتعمد عزل نفسه عن السياسة قد أصبح رغم أنفه مشغولا بها، وأن انشغاله باللغة والأدب قد دفعه دفعا إلى الانشغال بالحياة العامة، ولم أعد أقاوم رغبتي في متابعة أنباء سقوط سايجون في أيدي الشيوعيين وهزيمة الأمريكيين في حرب كلفتهم 125 ألف قتيل، ومئات الآلاف من الجرحى، وآلاف الملايين من الدولارات (30 أبريل) بعد سقوط كمبوديا (17 أبريل) وذكرت عندها تلك الأمريكية الحسناء التي قابلتها في بوفيه محطة القطار وكانت كأنما تريد من يسمع قصتها، وكيف فقدت زوجها وأخاها في فيتنام فضاقت الدنيا في عينيها، ورحلت إلى أوروبا كأنما لتبدأ حياتها من جديد، ولكن أشباح من فقدوا كانت تطاردها، وانتهى بها الأمر إلى العمل في البوفيه. وقد تخلفت عامدا يومها عن اللحاق بالقطار حتى أسمع قصتها، وأتأمل فلسفة «الرحيل» التي كانت عزاءها الأوحد؛ فهي ترى الناس دائما وهم يرحلون، وتنظر في وجه كل منهم وهي تتساءل في أعماقها : هل يعود يوما ما؟ وقلت في نفسي إنها تصلح شخصية في قصة أو مسرحية.
ولم أكن نسيت حبي للكتابة المسرحية ولكنني كنت أتساءل الآن عن قضايا تتخطى فنون الكتابة وتتعلق بالدلالة؛ فالأمريكيون الذين سيقوا دون إرادة إلى الحرب في فيتنام كانوا يتصورون أنهم يدافعون عن الحرية، فما الحرية؟ هل من الحرية إرغام أو محاولة إرغام شعب ما على تغيير نظامه الاجتماعي؟ وقرأت مقالا في صحيفة الجارديان يقول فيه كاتبه إن قول الأمريكيين بأن قوات الفيتكونج اليسارية التي تقاتلهم لا تزيد نسبتها عن 10٪ من تعداد السكان يغفل أن القوات الأمريكية لا تمثل إلا نسبة لا تكاد تذكر من الشعب الأمريكي، وأن العشرة في المائة لم تكن لتستطيع النجاح لولا مساندة 40 أو 50 في المائة من السكان، مما يعني أن الغالبية هي التي تحارب، لا العشرة في المائة فقط، بخلاف الحال في أمريكا حيث لا يساند المقاتلين إلا أقل القليل، وكلهم من أصحاب المصالح الحاكمة!
وفي مايو أعلن الرئيس الأمريكي جيرالد فورد انتهاء حرب فيتنام رسميا، ولم يهتم الكثيرون بذلك الإعلان إذ كانت الصحف البريطانية مهمومة بالتضخم الذي وصل إلى ذروته في أواخر الشهر، وكانت النسبة مذهلة وهي 25٪، وكان ذلك بطبيعة الحال نتيجة استجابة الحكومة العمالية لمطالب نقابات العمال برفع الأجور، بغض النظر عن زيادة الإنتاجية، مما أدى إلى «طبع» المزيد من النقود، فانخفض سعر صرف الجنيه الاسترليني من جديد، وارتفعت الأسعار في الأسواق، وبدأت الحملة التي أعادت - فيما بعد - حزب المحافظين إلى الحكم.
وفي يوم 5 يونيو ذهبت في الصباح الباكر إلى العمل - وكان يوم خميس - حيث ترجمت خطاب السادات في إعادة فتح القناة أمام الملاحة العالمية، ومكثت في مكتب الأخبار حتى انتهت وقائع الاحتفال، وأرسلت الأنباء المفصلة إلى الصحف والإذاعات، وعدت إلى المنزل لأجد خطابا يحدد لي موعد مناقشة الدكتوراه في 8 يوليو (يوم ثلاثاء) فأخبرت نهاد فقالت آن الأوان للرحيل، وذهبنا في اليوم التالي إلى لندن مع سارة حيث حجزنا تذكرتين لهما يوم 19 يوليو (يوم السبت)، وأرسلنا الخطابات إلى مصر بموعد عودتهما . وقضينا بقية اليوم في لندن حتى المساء، وكان الجو صحوا وفضلنا تناول الغداء في إحدى الحدائق.
وانهمكت في العمل على امتداد الشهر الباقي على مناقشة الدكتوراه، حتى يتوافر لي أكبر قدر ممكن من النقود، وتخلصت نهاد من بعض الأشياء التي لم تكن تريدها؛ إما بإهدائها إلى الأصدقاء، أو بتركها في المخزن الخاص بالمنزل، وسرعان ما انقضت الأيام، وناقشت الرسالة، وبدأنا في تدبير ما سنفعله.
كانت سارة في تلك الأيام سعيدة بالحضانة، وكانت تحب المشرفة مرجريت (nurse Margaret)
حبا شديدا وتصدق كل ما تقوله، وذكرت مرجريت لنهاد ذات يوم أنها طلبت من الأطفال أن يلعبوا في كثيب رملي صغير، وأخذت مرجريت تحفر فسألتها سارة عما تبحث عنه فقالت لها مرجريت أبحث عن الذهب! فإذا بسارة تتحمس وتشمر عن ساعد الجد بحثا عن الذهب! وكانت مرجريت تحكي لنا عن ميل سارة إلى النظام والتنظيم وعلاقتها مع الأطفال الآخرين، والصداقات التي عقدتها مع بعضهم (واستمرت حتى بعد عودتها إلى مصر) وطبعا عن لغتها «المثقفة»!
وفي نحو منتصف يوليو كنت أقف في المطبخ وأحاول إعداد طعام للغداء حين وجدت شخصا يدخل من الباب المفتوح - كان للمطبخ باب يؤدي إلى الشارع أو إلى الممرات الداخلية في المنطقة السكنية - ويلقي علي السلام بالعربية. كان سمير سرحان، وكان قد وصل من مصر لتوه، ولم يكد يحط الرحال في فندق كوبيرج بشارع بيز ووتر حتى استقل القطار وجاء إلى المكان الذي سبقت له زيارته! وقال بلهجة يتنازع فيها الجد والهزل: لقد جئت حتى أعود بك إلى مصر! وعندما عادت نهاد بدأت مناقشاتنا ومسامراتنا التي لم تتوقف حتى ذهبت لتوديع نهاد وسارة في المطار!
وشغلت بوجود سمير سرحان في لندن فكنت أذهب إليه ونقضي اليوم معا وأحيانا كنا نعود معا إلى ردنج للمبيت، وفي الصباح نذهب إلى أوكسفورد، وكان يلح علي في كل يوم أن أتصل بشركات الشحن حتى تتولى إرسال الأثاث إلى مصر، ففعلت ذلك، ودفعت للشركة خمسمائة جنيه مقابل الإعداد والشحن وما إلى ذلك، وتحدد موعد الشحن في أواخر أغسطس، ثم رحل سمير في أوائل أغسطس، ولم يقل لي إلا وأنا أودعه في المطار إن نهاد جاد - زوجته - حامل وإن موعد الولادة في سبتمبر!
وذهبت إلى لندن لحجز مكان لي في إحدى رحلات مصر للطيران فوجدتها كاملة العدد حتى منتصف سبتمبر! وكنت قلقا؛ لأن الشركة لم ترسل بعد من يأخذ أثاث الشقة، فقلت أنتظر حتى يأتوا، وما إن وصلت السيارة الضخمة في الموعد المحدد وحمل الرجال كل شيء (باستثناء أقل القليل) واطمأن قلبي، حتى ذهبت فأكدت الحجز للسفر يوم الأربعاء 17 سبتمبر - وكان ذلك في رمضان! وقال لي المشرف على المساكن إنني أستطيع إخلاء البيت في أي وقت أريد اعتبارا من أول سبتمبر دون أن يطالبني بدفع الإيجار؛ لأنه سوف يكلف أحد المقاولين بإعداده للمستأجر الجديد في أول أكتوبر، وعرض علي دهام العطاونة زميلي الفلسطيني أن أقيم عنده ابتداء من يوم 8 أو 9 سبتمبر فقبلت، وكان اشترى منزلا في قرية كافرشام، وسيارة «ميني» (أوستن)، فأعددت ثلاث حقائب وذهبت بها إلى المطار في صحبة توم هيتون الذي كان قد عاد من بلانتاير، وشحنتها جوا إلى مصر، ثم أخذت ما بقي من حقائب وأشياء إلى منزل دهام يوم 8 سبتمبر، وقضيت في صحبته أياما جميلة حتى حان موعد السفر.
كانت تلك الأيام وما تزال تبدو لي غائمة كأنما تطفو بها سحابة على وجه السماء؛ إذ أحيانا ما كنت أسير ساعة أو ساعتين في الحقول وفي المروج، أنهل من الخضرة وصفاء الجو ما لا تشبع عيناي منه أبدا، ولا يشغل فكري شيء؛ فلقد انقضت السنوات العشر وكانت حافلة بما لم أحسب له حسابا يوما ما، وكنت قد تجاهلت مفكرتي ولم أعد أسجل فيها شيئا، بل وتجاهلت الكتابة للأصدقاء والاختلاط بالناس؛ فأنا عائد إلى مصر وإلى اللغة العربية، وإلى مراتع الطفولة واليفوعة والسماء الزرقاء، وكان ذهني غير قادر على استيعاب معنى الرحيل؛ فهو معنى عسير لا يقل عسرا عن معنى الزمن، بل كان يبدو في طابعه القاطع محالا بعد أن اعتدت تحول الفصول ومعنى العودة ودورة الأيام. وأعتقد أن غرامي بتعبير دورة الزمن يرجع إلى ذلك الوعي العميق الذي اكتسبته من الحياة في الطبيعة ومعها.
قد يتوقف القارئ عند تعبير «طابعه القاطع» - وقد يكون محقا في توقفه؛ لأن الرحيل يعني الغياب، والغياب يعني الفراق الذي هو صنو الفناء، بل إن بعضنا يستخدم التعبير كناية عن الموت ، ولكن الرحيل الذي كنت بصدده كان لا يزيد في معناه عن الانتقال من مكان إلى مكان مع عدم نفي إمكان العودة، بل كان الانتقال نفسه يعني العودة إلى مكان قديم وزمان قديم، ولما كانت العودة إلى الزمن القديم محالة، فقد خيل لي أننا نلقي بمعنى الزمن القديم على المستقبل حتى نكسبه معنى، أو نزيل بعض ما يكتنفه من ظلال العماء، بحيث نشعر بدورة الزمن؛ فدورة الحياة من حولي تؤكد ذلك في الطبيعة التي يتجسد فيها إبداع الخالق المتجدد أبدا، والذي ما انفك يتجلى في دورات متعاقبة يأخذ بعضها برقاب بعض، ودورة الروح في أعماقي ما فتئت تدفع بالصور في دوائر، وما برحت تؤكد التقاء المنبع والمصب؛ فمن حيث جئنا لا بد أن نعود، وما الرحيل إلا خطوة واحدة من خطوات رحلتنا إلى الوجود المادي، ومن الوجود المادي إلى غيره من صور الوجود!
لم أكن أتصور أبدا أنني لن أرجع إلى ذلك المكان مطلقا بعد ذلك، وما أكثر ما رأيتني في الأحلام أزوره وأتحدث مع من فيه! فلقد تحول المكان في نفسي إلى واحة دائمة الخضرة، أعتادها في خيالي لأبترد من هجير حياتنا اللاهثة اللافحة، وتحولت بقعة المكان إلى بقعة زمنية - كما يقول الشاعر - وتحول كل ما فيها إلى إحساس صاف قد يخلو من الخطوط ومن الألوان، وقد يرق فيصبح لطيفا كالنسيم، لا يحمل أريجا ولا يرن بأي لحن، بل يصعد مثل الطاقة المجردة التي نعرف منها معنى الروح.
كنت في كل عام أسمع في شهر أبريل موسيقى باخ - وقطعته الشهيرة عذابات السيد المسيح كما رواها القديس متى، التي أخذ منها عبد الوهاب موسيقى «إليها» - وكنت في كل عام أهتز لسماعها وأعد نفسي بأن أحصل على الأسطوانة، وها أنا ذا أرحل دون ما أردت، وكم كنت أنتظر سماع ألحان باخ الشجية، وخاصة أنغام الأرغن التي تشبه ألحان الطبيعة التي تسبح للخالق جل وعلا، وكم دارت الأعوام وأنا أرسم لنفسي حياة مع الموسيقى والشعر! وها أنا ذا أرحل دون شيء، في جيبي جنيهات معدودة، ونهاد تقول لي إنها سافرت في سبتمبر إلى السعودية للعمل في جامعة الملك عبد العزيز في جدة، فأنا أعود إلى مصر وحدي، وبلا شيء سوى الأحلام، وما أظن أنني قد تعلمته، وأظن أنه يكفي لبداية جديدة!
وفي يوم 17 سبتمبر صحبني توم هيتون إلى المطار حيث وزنت الحقيبة فأصر موظف شركة مصر للطيران على أن أضع حقيبة يدي أيضا، وكان فيها عدد من كتبي المفضلة، فاتضح أن الوزن أكثر من المسموح به، فقال لي لا بد أن تدفع ثمانين جنيها استرلينيا، وفي استسلام تام أخرجت النقود، وأنا أقول «فليكن»، ودفعت في صمت، ويبدو أنه دهش فلم يتكلم ووضع النقود في الدرج وأعطاني بطاقة الصعود إلى الطائرة.
جلست في الطائرة إلى جوار إبراهيم الشربيني - أمين عام مجلس الشعب - وزوجته، وعندما قلت لهما إنني دفعت ثمانين جنيها انزعجا وسألاني عدة أسئلة، وقطعنا الوقت في الحديث، وعندما وصلت الطائرة في نحو منتصف الليل، أمر المضيف ركاب الدرجة السياحية أن يلزموا أماكنهم ريثما يهبط كبار المسافرين، ولمحت بينهم الدكتور عبد القادر حاتم، وصاح البعض: «كوسة! كوسة!» ولم أفهم، فسألت الأستاذ إبراهيم فقال لي إنها تعني «المحاباة»! ولم أعلق. لقد تغيرت اللغة، ولا بد من بذل جهد جديد لفهمها!
وفي المطار وجدت من يستقبلني عند باب الدخول من الطائرة، وكان أحد العسكريين الذي أرسله أحد أقاربي لمساعدتي في الخروج، وبذل الشاب جهدا حتى انتهى من ختم جواز السفر، وتفتيش الحقيبة بدقة، ثم الخروج حيث وجدت أخي مصطفى وصديق عمري أحمد السودة. لقد عدت إلى مصر!
ملحق صور
أمام المنزل رقم 21 شارع داربي عام 1973.
في الحديقة الخلفية للمنزل 21 شارع داربي شتاء عام 1973م.
عبد اللطيف الجمال في شقتنا رقم 51 شارع داربي.
أمام بحيرة وندرمير في حي البحيرات شمال إنجلترا.
أمام أحواض زهور الزنابق والأقاحي عام 1966م.
في غابات اسكتلنده.
أمام بحيرة وندرمير في حي البحيرات في شمال إنجلترا.
محمد عناني/نهاد صليحة في حديقة هايد بارك (صورة الزفاف).
في منزل شيكسبير.
سمير سرحان في الشقة رقم 51 شارع داربي.
أول صورة بعد وصول نهاد صليحة من مصر سبتمبر 1966م.
معرض الفنان أحمد سليم في لندن.
سمير سرحان ونهاد جاد في محطة القطار بعد العثور على المعطف المفقود (أغسطس 1968م).
نهاد في سوق السبت (لندن - سبتمبر 1966م).
أمام ساعة بيج بن.
هيلاري وايز صديقتنا في لندن.
سمير سرحان في لبليان بنسون هول (لندن).
سمير ونهاد صليحة ونهاد جاد في المنزل شارع بوثويل عام 1968م.
سمير سرحان ونهاد صليحة في حديقة هايد بارك.
نهاد صليحة في لندن.
سمير سرحان ونهاد جاد في مدينة برايتون 1971م.
عناني ونهاد (الحامل في سارة) وسمير في مدينة برايتون الساحلية.
نهاد والدكتور بشير إبراهيم بشير.
سمير ونهاد جاد يقرآن الصحف مع بائع الصحف.
أمام منزل الدكتور/صمويل جونسون في لندن.
على جسر ووترلو، ويبدو المسرح القومي البريطاني في أقصى الخلف، وبجانبه قاعة احتفالات الملكة إليزابيث.
على التل المطل على بحر الشمال في اسكتلنده.
محمد عناني ميدان الملكة في إدنبرة.
نهاد في رحلة إلى الجنوب.
ناپیژندل شوی مخ