تحقيق الجاسر
(الرسالة الثالثة)
الوفا بما يجب لحضرة المصطفى
مخ ۹۳
تأليف: علي بن عبد الله الحسني السمهودي بسم الله الرحمن الرحيم ...الحمد لله الذي شرع لعباده تعظيم أهل وداده، وجعل الغاية من ذلك لحبيبه وصفيه بانفراده، المبعوث من خير بلاده، المفضل مثواه في معاشه ومعاده، أحمده أن جعل تربته الشريقة أسمى البقاع وفضلها على عامة الأرض بالإجماع، ولله در القائل:
جزم الجميع بأن خير الأرض ما قد حاط ذات المصطفى وحواها
ونعم لقد صدقوا بسكانها علت كالنفس حين زكت زكى مأواها
مخ ۹۵
صلى الله على هذا النبي الكريم سيدنا محمد وعلى آله وصحابته صلاة دائمه يضوع عرفها بتربته، ويضيء عرفها لقلوب أمته، وسلم وشرف وعظم، وبعد: فيقول العبد الذليل الواثق بجود الجليل علي بن عبد الله بن أحمد الحسيني الشافعي السمهودي، نزيل الحبيبة المحبة، سقاه الله كاسات المحبة، لما نزلت طابة بجوار من شرف الله جنابه، تولع خاطري، وولع ناظري، بالوقوف على أخبار دار الهجرة الشريفة، والروضة المنيفة، والحجرة المؤسسة الحاوية القبور المقدسة، فرأيت أمرا قضيت منه عجبا وملأ القلب لهبا، وذلك أن عامة تواريخ المدينة الشريفة التي وقفت عليها تواطأت على أن المسجد الشريف النبوي لما احترق سنة أربع وخمسين وستمائة سقط من سقفه ما كان على أعلى الحجرة المقدسة فوقع على سقف بيت النبي صلى الله عليه وسلم فوقعا جميعا على القبور المقدسة، ثم لما ابتدأوا بالعمارة قصدوا إزالة ماوقع على القبور المقدسة فلم يجسروا على ذلك وتركوه على ما هو عليه، كما ستأتي الإشارة إليه، ثم كاتبوا الخليفة في هذا الأمر فلم يرد منه جواب لاشتغاله بأمر التتار، ثم قتل عقيب ذلك وطوى بساط الخلافة بعده من هنالك، كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى، فتأملت في ذلك مدة مديدة، سائلا الله تعالى أن يمنحني توفيقه وتسديده، فظهر لي أن بقاء ما سقط من الهدم بذلك المحل العظيم، من الخطأ الجسيم، وأنه خلاف الصواب، وما تشهد به السنة والكتاب، مع منافاته لما مضى عليه السلف من ذوي الألباب فنبهت على ذلك في كتابي الموسوم ب (دفع التعرض والإنكار، لبسط روضة المختار) وبسطت القول في ذلك بعض البسط، فاستخرت الله تعالى في إيراد ذلك ما حضرني من الزيادات بتأليف، راجيا من الله تعالى أن يكون سببا في تنظيف ذلك المحل الشريف، ورتبته على ثلاثة أبواب وخاتمة، سائلا من الله تعالى حسن الخاتمة.
الباب الأول فيما ذكره المؤرخون في سبب الحريق المذكور وكيفيته وما اتفق بسببه وبيان عدم إزالة ما أصاب المحل الجليل المقدار، وما أبدوه في ذلك من الأعذار، وذكر إعادة سقف المسجد وكيفية ما حصل على ما يحاذي الحجرة الشريفة، والطابق الذي يتوصل منه إليها بالقبة المنيفة وغير ذلك مما يتعلق بها
الباب الثاني في بيان وجوب إزالة ما أصاب ذلك المحل المقدس بالدليل الواضح، والاستشهاد عليه بفعل السلف الصالح، والكلام على حياة الأنبياء، صلوات الله وسلامهم عليهم في قبورهم.
الباب الثالث في بيان حال جماعة سكان المدينة الشريفة في ذلك الزمان، وما خصت به تلك الجماعة لجرمها من ظهور النيران، التي لم يسمع بمثلها، ليبطل التمسك بفعلها، وبسط ما اتفق ببغداد ليظهر عذر أهلها.
الخاتمة
...في أمور أخرى يتعين التنبيه عليها تتعلق بالمسجد الشريف، ومصلى العيد المنيف، وسميته (الوفا بما يجب لحضرة المصطفى) صلى الله وسلم عليه، وجعله سببا لاتخاذ اليد البيضاء لديه.
مخ ۹۶
الباب الأول
اعلم وفقني الله وإياك أن من أرخ بعد حريق المسجد الشريف كالعلامة جمال الدين المطري والعلامة بدر الدين بن فرحون والعلامة زين الدين المراغي والعلامة مجد الدين الشيرازي وغيرهم قد قالوا وبعضهم يزيد على بعض في اللفظ دون المعنى الذي نحن بصدده، وقد جمعت بين أطراف كلامهم: احترق المسجد الشريف النبوي ليلة الجمعة أول شهر رمضان من سنة أربع وخمسين وستمائة في أول الليل وكان ابتداء حرقه من زاويته الغربية من الشمال وسبب ذلك كما ذكره أكثرهم أن أبا بكر بن أوحد الفراش أحد القوام بالمسجد الشريف دخل إلى حاصل المسجد هناك ومعه نار فغفل عنها إلى أن علقت في بعض الآلات التي كانت في الحاصل وأعجزه طفيها ثم احترق الفراش المذكور والحاصل وجميع ما فيه وقد ألف العلامة القطب القسطلاني في ذلك وفي النار العظيمة التي ظهرت بالمدينة الشريفة في ذلك كتابا سماه (عروة التوثيق في النار والحريق) وذكر فيه بدائع من حكم الله تعالى في حدوث ذلك ونبه فيه على ما يوافق ما قدمناه عن المؤرخين في سبب الحريق فقال: كتب إلي الصادق في الخبر وشافهني من شاهد الأثر؛ أن السبب في حريق المسجد الشريف دخول أحد قومة المسجد في المخزن الذي في الجانب الغربي من آخر باب المسجد لاستخراج قناديل لمنائر المسجد، فاستخرج منها ما احتاج إليه ثم ترك الضوء الذي كان في يده على قفص من أقفاص القناديل وفيه مشاق فاشتعل فيه، وبادر لأن يطفيه، فغلبه وعلق بحصر وبسط وأقفاص وقصب كان في المخزن ثم تزايد الالتهاب وتضاعف إلى أن علا إلى سقف المسجد.
مخ ۹۷
وذكر الحافظ الذهبي في (العبر) أن حرقه كان من مسرجه القوام ثم دبت النار في السقف بسرعة آخذة قبلة وأعجلت الناس عن إطفائها بعد أن نزل أمير المدينة فلم يقدروا على قطعها، وما كان إلا أقل من القليل حتى استولى الحريق على جميع سقف المسجد الشريف واحترق جميعه حتى لم يبق خشبة واحدة.
قال القطب القسطلاني: وتلف جميع ما احتوى عليه المسجد الشريف من المنبر الشريف النبوي والأبواب والخزائن والشبابيك والمقاصير والصناديق وما اشتملت عليه من كتب وكسوة الحجرة وكان عليها أحد عشر ستارة.
ثم ذكر القطب لذلك حكما كثيرة وأسرارا عظيمة.
قالوا: ولم يسلم سوى القبة التي أحدثها الناصر لدين الله لحفظ ذخائر الحرم مثل المصحف الكريم العثماني وعدة صناديق كبار متقدمة التاريخ صنعت بعد الثلاثمائة وهي باقية إلى اليوم، وذلك لكون القبة المذكورة بوسط صحن المسجد وبركة المصحف الشريف العثماني ثم بقيت سواري المسجد قائمة كأنها جذوع النخل إذا هبت الريح تتمايل، وذاب الرصاص من بعض الأساطين فسقطت، ووقف السقف الذي كان على أعلى الحجرة المقدسة على سقف بيت النبي صلى الله عليه وسلم فوقعا جميعا في الحجرة الشريفة وعلى القبور المقدسة وبقي على حاله.
وعبارة الذهبي: فوقع بعض سقف الحجرة وكل ذلك قبل أن ينام الناس. واتفقوا كلهم على أن ما سقط باق على حاله. وقد روينا ذلك بالإسناد عنهم وأولهم المطري، وقد أدرك جماعة ممن أدرك الحريق وآخرهم الشيخ زين الدين المراغي، وقد أدركت جماعة ممن أدركه وروى عنه منهم ولده الشيخ الإمام محدث الحرم الشريف أبو الفرج، وقد ذكروا كلهم أنه لم يتفق بعد ماذكره الشيخ زين الدين وغيره تعرض لذلك إلى يومنا هذا.
... قال المؤرخون وأصبح الناس يوم الجمعة فعزلوا موضعا للصلاة وكتب بذلك للخليفة المستعصم بالله أبي أحمد عبد الله بن المستنصر بالله أبي جعفر المنصور فبعث الصناع والآلات مع الموسم، وابتدى في العمارة سنة خمس وخمسين وستمائة.
مخ ۹۸
...قال المطري وغيره فلما شرعوا في العمارة قصدوا إزالة ماوقع من ذلك على القبور المقدسة فلم يجسر أحد على ذلك، واتفق رأي الأمير منيف بن شيحة الحسيني أمير المدينة الشريفة مع أكابر أهل الحرم من المجاورين والخدام أن يطالع الأمير المستعصم بذلك ليفعل مايراه ففعلوا وانتظروا الجواب فلم يصل إليهم جواب لاشتغال الخليفة وأهل دولته بأمر التتار واستيلائهم على أعمال بغداد في تلك السنة فتركوه على ما كان عليه، ولم ينزل أحد إليه وعبارة الشيخ جمال الدين المطري: فتركوا الردم على ما كان عليه ولم ينزل أحد هناك ولم يتعرضوا له ولا حركوه.
وعبارة العلامة مجد الدين الشيرازي: فتركوا الردم على ما كان عليه ولم يجسر أحد على التعرض لهذه العظيمة التي دون مرامها تزل الأقدام، ولا يتأتى من كل أحد بادىء بدء الدخول فيه والإقدام غير أنهم عمروا سقفا فوق ذلك على رؤوس السواري التي حول الحجرة الشريفة وأوصلوا ذلك بتسقيف ما حوله إلى الحائط الشرقي وباب جبريل المعروف قديما بباب عثمان، وإلى الحائط القبلي والمنبر الشريف من جهة الروضة وكان الحائط المخمس الذي بناه عمر بن عبد العزيز دائر الحجرة الشريفة بين سواري المسجد التي عمروا السقف عليها لم يبلغ به السقف الأعلى يعني سقف المسجد بل جعله دون السقف بمقدار أربعة أذرع وأدار عليه شباكا من خشب في دوران الحائط ليتصل بسقف المسجد فأعادوا ذلك الشباك من الحائط المذكور إلى السقف.
مخ ۹۹
قال العلامة مجد الدين وغيره: وهذا الشباك ظاهر لمن تأمله من تحت الكسوة التي على الحائط المذكور على دوران الحائط جميعه، وكل ذلك في سنة خمس وخمسين، ثم كانت وقعة التتار ودخولهم بغداد وقتل الخليفة المستعصم في محرم سنة ست وخمسين على ما سيأتي بسطه، ثم وصلت الآلات من مصر فعمروا بها، وكان المتولى عليها الملك المنصور نور الدين ابن الملك المعز أيبك الصالحي ووصل أيضا من الملك المظفر شمس الدين يوسف صاحب اليمن آلات وأخشاب فعملوا إلى باب السلام المعروف قديما بباب مروان بن الحكم.
ثم عزل صاحب مصر المذكور في ذي القعدة سنة سبع وخمسين واستقر الملك المظفر سيف الدين قطز المعزي ثم قتل قبل استكمال سنة وكان العمل في المسجد في تلك السنة من باب السلام إلى باب الرحمة المعروف قديما بباب عاتكه ابنة عبد الله.
ثم تولى مصر والشام في عام ثمان وخمسين الملك الظاهر ركن الدين الصالحي البندقداري فحصل منه اهتمام بتمام عمارة الحرم في سنة اثنين وستين فجهز الأخشاب والحديد والرصاص ومن الصناع ثلاثة وخمسين صانعا وما يمونهم وأنفق عليهم قبل سفرهم وأرسل معهم الأمير جمال الدين محسن الصالحي وغيره، ثم صار يمدهم بما يحتاجون إليه من الآلات والنفقات، فعمل ما بقي من سطح المسجد الشريف من باب الرحمة إلى شمال المسجد إلى باب النساء المعروف قديما بباب ريطة ابنة أبي العباس السفاح، وكما سقف المسجد على ما كان عليه قبل الحريق وهو سقف فوق سقف ولم يزل على ذلك إلى أوائل دولة الملك الناصر محمد بن قلاوون الصالحي رحمه الله، فجدد السقف الشرقي والغربي في سنتي خمس وست وسبعماية وجعلا سقفا واحدا بنسبة السقف الشمالي فإنه جعل في عمارة الظاهر كذلك.
مخ ۱۰۰
وفي سنة تسع وعشرين وسبعماية أمر السلطان الملك الناصر محمد المذكور بزيادة رواقين من مؤخر السقف القبلي فاتسع سقفه بهما وعم نفعهما، ثم حصل فيه خلل فجددهما الملك الأشرف برسباي في ذي القعدة سنة إحدى وثمانين وثمان مائة على يد مقبل القديدي من مال جوالي قبرس على ما أخبرني به بعض مشايخ الحرم، ورأيته مكتوبا كذلك بالرخامة التي بظاهر العقود من السقف القبلي مما يلي رحبة المسجد الشريف وهو سقف واحد، وجدد أيضا شيئا من السقف الشامي مما يلي المنارة السنجارية، ثم حصل خلل في سقف الروضة الشريفة في دولة الملك الظاهر جقمق فجدد ذلك في سنة ثلاث وخمسين وثمان ماية وقبلها على يد الأمير برد بك التاجي المعمار وغيره.
وأما القبة التي في الحجرة الشريفة فعملت في أيام الملك المنصور قلاوون الصالحي سنة ثمان وسبعين وستمائة، وهي مربعة من أسفلها، مثمنة من أعلاها بأخشاب أقيمت وسمر عليها ألواح من خشب ومن فوقها ألواح الرصاص، ولم يكن قبل ذلك في الحجرة الشريفة قبة لا قبل حريق المسجد ولا بعده بل كان حول حجرة النبي صلى الله عليه وسلم في السقف حظيرا مقدار نصف قامة مبنيا بالآجر تمييزا للحجرة الشريفة، ولما عملت القبة المذكورة جعلوا مكان الحظير المذكور شباكا من خشب وتحته أيضا بين السقفين ألواح قد سمر بعضها إلى بعض، وسمر عليها ثوب مشمع، وفيها طابق مقفل إذا فتح كان النزول منه إلى ما بين حائط بيت النبي صلى الله عليه وسلم وبين الحايز الذي بناه عمر بن عبد العزيز وذلك على منوال الطابق الذي كان قبل الحريق، وقد جددت القبة المذكورة في أيام الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاوون فاختلت الألواح الرصاص عن وضعها فخشوا من كثرة الأمطار، فجددت وأحكمت في أيام الملك الأشرف شعبان بن حسين بن محمد في سنة خمس وستين وسبعمائة.
وفي كلام الأقشهري في (روضته) مايقتضي أن بين جدار النبي صلى الله عليه وسلم وبين جدار عمر بن عبد العزيز جدار آخر فإنه نقل عن أبي غسان أنه قال: سمعت غير واحد من أهل العلم يزعم أن عمر بنى البيت غير بنائه الذي كان عليه، وسمعت من يقول: بنى على بيت النبي صلى الله عليه وسلم فدور القبر ثلاثة أجدر: جدار بيت النبي صلى الله عليه وسلم وجدار البيت الذي يزعم أنه بنى عليه وجدار الحظار الظاهر، وهو خلاف ما صرح به المؤرخون قالوا: وإنما جعل عمر بن عبد العزيز بنيان الحائط المذكور على خمس زوايا لئلا يستقيم لأحد استقبال القبر الشريف بالصلاة لتحذيره صلى الله عليه وسلم من ذلك.
مخ ۱۰۱
قال أبو غسان: وإنما جعل مزورا كراهة أن يشبه الكعبة فيكون مربعا وأن يتخذ قبلة وهو بناء عجيب لا يكاد يتأتى تصويره لاختلاف مقادير زواياه وانحرافها. وأما تأزيره بالرخام فحدث في خلافة المتوكل أمر إسحق بن سلمة وكان على عمارة الحرمين من قبله أن يؤزر بالرخام ففعل ثم في خلافة المقتفي سنة ثمان وأربعين وخمسماية جدده الجواد جمال الدين وزير بني زنكي وجعل الرخام قامة وبسطة، وهو اليوم كذلك.
وأما الدرابزين الخشب الدائر على الحجرة الشريفة حول الجدار المذكور فأحدثه السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس، وذلك أنه لما حج سنة سبع وستين وستمائة أراد ذلك فقاس ما حول الحجرة بيده وقدره بحبال وحملها معه وعمل الدرابزين وأرسله في سنة ثمان وستين وأداره عليها وعمل ثلاثة أبواب: قبليا وشرقيا وغربيا، ونصبه بين الأساطين التي تلي الحجرة الشريفة إلا من ناحية الشام فإنه زاد فيه إلى متهجد النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم أحدث للمقصورة المذكورة باب رابع من جهة الشمال في رحبة المسجد وبأعلاه سقف لطيف له رفرف يحيط به بارز في الرحبة وذلك عند زيادة الرواقين المتقدم ذكرهما.
وقد أحدث هذا الباب وأمامه من جهة رحبة المسجد سقف لطيف أيضا نحو ستة أذرع وهو دون سقف المسجد، وجعل له رفرف يمنع الشمس وبسط تحته الرخام الملون نسبة الرخام الذي داخل الدرابزين المذكور حول حايز عمر بن عبد العزيز بالأرض، وذلك في دولة الملك الظاهر جقمق على يد الأمير برد بك التاجي المعمار سنة ثلاث وخمسين وثمان ماية.
من نبه على أول حدوثه.
...قال المراغي: اعلم أن الذي عمله الملك الظاهر من الدرابزين نحو القامتين، فلما كان في سنة أربع وتسعين وستماية زاد عليه الملك العادل زين الدين كتبغا شباكا دائرا عليه ورفعه حتى وصل بسقف المسجد الشريف وأبوابها بأبواب الحجرة وما يعلق بسقفها من القناديل الذهب وغيره بقناديل الحجرة.
مخ ۱۰۲
...وفي كلام ابن فرحون ما يقتضي أنه عمل إلى جانب هذا الدرابزين مقصورة في الجهة الغربية ثم أزيلت، ولفظه: وقد تساهل من كان قبلنا فزادوا على الحجرة الشريفة مقصورة كبيرة عملت وقاية من الشمس إذا غربت فكانت بدعة وضلالة يصلي فيها الشيعة لأنها قطعت الصفوف، واتسمت بمن ذكر من الصنوف، وندم على ذلك واضعها، ولقد كنت أسمع بعضهم يقف على بابها ويؤذن بأعلى صوته، حي على خير العمل.
وكانت مواطن تدريسهم وخلوة علمائهم، حتى قيض الله لها من سعى فيها فأصبحت ليلة متخلعة أبوابها، مقوضة أخشابها، متصلة صفوفها، وأدخل بعضها في الحجرة الشريفة، يعني ما اشتمل عليه الدرابزين المذكور، وجعل فيها الباب الشامي، وكان ذلك مع زيادة الرواقين الذين زادهما الملك الناصر، وهذه المقصورة كانت فيما يلي أسطوانة الوفود، وفي طرفها الرواقين المتقدم ذكرهما مما يلي الحجرة الشريفة كما ذكره لي بعض أشياخ المدينة نقلا عمن أدركه، ولا ذكر لهذه المقصورة في كلام أحد ممن وقفت عليه من المؤرخين سوى ما قدمته عن ابن فرحون.
وقد اقتصر العلامة المطري في وصف الدرابزين المذكور على ما فعله الملك الظاهر أن ما فعله تعظيما للحجرة الشريفة، فحجر طائفة من الروضة المقدسة مما يلي بيت النبي صلى الله عليه وسلم ومنع الصلاة فيها مع ما ثبت من فضلها وفضل الصلاة فيها، فلو عكس ما حجره وجعله خلف بيت النبي صلى الله عليه وسلم من الناحية الشرقية وألصق الدرابزين بالحجرة مما يلي الروضة لكان أخف، إذ الناحية الشرقية ليست من الروضة ولا من المسجد المشار إليه، بل مما زيد في المسجد في أيام الوليد.
قال: ولم يبلغني أن أحدا من أهل العلم والصلاح ممن حضر ولا ممن رآه بعض تحجيره أنكر ذلك أو تفطن له وألقى له بالا، وهذا من أهم ما ينظر فيه. انتهى.
مخ ۱۰۳
... وقال العلامة مجد الدين الشيرازي عقب فنقل ذلك : والذي ذكره موجه أن أحد الأبواب مفتوح دائما لمن قصد الدخول والزيارة، فيمكن من أراد الصلاة الدخول والوقوف مع الصف الأول في الروضة.
ولا يخفى أن في تقريب الدرابزين من الحجرة إخراجا للبناء عن وضعه اللائق أيضا فيه تضييق عظيم على الزائرين لا سيما عند زحام الموسم، فإنه مع هذا الاتساع يختنق المكان بالخلق، فكيف لو ضيق بحيث يتصل الدرابزين بجدار الحجرة لا يقال أنه كان يتسع من جهة الشرق للزائرين لأن الناس إنما يقصدون هذه الجهة لكون الرأس الشريف هناك، وليكون الابتداء بالتسليم على النبي صلى الله عليه وسلم دون أن يتخطوا الشيخين رضي الله عنهما، فتأمل ذلك فإنه صحيح، وهذه الكيفية لا مزيد عليها في الحسن ولم يتعطل شيء من الروضة بسبب ذلك بل بسبب كسل المصلين، وقد رأيت جماعة من الخدام يصلون داخل الدرابزين في أيام الجمعات، انتهى.
قلت: وما ذكره صحيح بالنسبة إلى زمنه، فإن الباب المذكور كان مفتوحا في سائر الأوقات، لكن حدث بعد ذلك غلق الأبواب كلها دائما، بحيث لا يصل أحد من عامة الناس إلى الدخول لا لزيارة ولا لصلاة سوى بعض الخدام والفراشين عند الإسراج فقط، وبعض من يزورون من ذوي الجاه، وتحقق بسبب ذلك تعطيل تلك البقعة، والسبب في ذلك أن قاضي القضاه بالشام نجم الدين ابن حجي لما حج رأى ازدحام الناس بذلك المحل قيل: ورؤي شيء من الخرق الملوثة بالنجاسة ملقاة هناك، فأفتى بغلق تلك الأبواب كلها وأمر به، ورأى أن ذلك تعظيما وخالفه في ذلك شيخ الإسلام فقيه العصر شرف الدين المناوي قدس الله روحه، فأفتى بفتحها.
مخ ۱۰۴
وأخبرني شيخ المحدثين بالحرم الشريف النبوي ناصر الدين أبو الفرج ابن الشيخ زين الدين المراغي وغيره أن حج قاضي القضاه ابن حجي كان في سنة اثنين وعشرين وثمانماية وأنه أفتى بذلك لما ورد المدينة الشريفة صحبة الحاج الشامي ذاهبا إلى مكة المشرفة، وكان شيخ الإسلام ولي الدين العراقي قد حج في تلك السنة أيضا، فلما قدم المدينة صحبة الحاج المصري سأل عن ذلك فأفتى بالفتح، وأنه لما أفتى به استمر، وكان خدام الحرم الشريف يميلون لذلك ويقصدونه، فلما رجع قاضي القضاه نجم الدين صحبة الحاج الشامي بلغه ذلك فتناول شيخ الإسلام العراقي بكلمات، ثم استمر الفتح إلى أن ولي قاضي القضاة نجم الدين المشار إليه ديوان الإنشاءات استنجز مراسيم السلطان بالأمر بالغلق سنة ثمان وعشرين على ما أخبرني به شيخ المحدثين المذكور فاستمر ذلك إلى اليوم، وكان شيخنا شرف الدين المشار إليه يصوب ما أفتى به شيخنا شيخ الإسلام ولي الدين المشار إليه ويقول: لا شك أن ذلك المحل من المسجد، فإن كان وجود النجاسة فيه مقتضيا لتعطيله وصيانته بالغلق فليغلق المسجد بأجمعه، فإن الحكم في كل واحد من حيث وجوب صونه عن النجاسة، وأما الوضع الذي يقرب من المحل الشريف فعلى تقدير اختصاصه بمزيد فقد حصل صيانته بما بناه عمر بن عبد العزيز من الحايز، مع أن السنة أن يقف الزائر على نحو أربعة أذرع من المحل الشريف، وقد قالوا: أن بين الحايز المذكور وبين الحجرة الشريفة فضاء وللحايز المذكور عرض أيضا، وربما قيل أن بينهما جدار آخر.
قلت: ووقوع النجاسة هناك في غاية الندور فأنا بحمد الله تعالى عدة سنين بالمسجد الشريف فلم نرى فيه شيئا من ذلك لا في الموسم ولا في غيره، بل هو معظم مصان غاية الصيانة، مع أنه قد ورد أن الكلاب كانت تقبل وتدبر في مسجده صلى الله عليه وسلم ولم يقتضي ذلك تعطيله بالغلق في شيء من الأوقات، فالواجب فتح هذه الأبواب أو بعضها وتمكين الزائرين والمصلين من تلك البقعة، وهذا ظاهر متعين والله أعلم.
مخ ۱۰۵
...اعلم وفقني الله وإياك أنه لما وقفت على ما تضمنه كلامهم السابق في أمر حريق المسجد وترك ما سقط من الهدم على ذلك من المحل المنيف وبقائه إلى يومنا هذا كاد أن ينفطر قلبي ويطير لبي لما وقع من التقصير الجسيم، وبعد تنظيف ذلك المحل العظيم، الذي أوجب الله تعالى تعظيمه، وتوقيره وتكريمه، وجعله أشرف الأماكن كما ساكنه أشرف ساكن، بإجماع هذه الأمة كما نقله الأئمة، كالقاضي عياض وابن عساكر، وحققه السبكي وغيره كما ذكرناه في الأصل وستأتي الإشارة إليه، حتى صرح ابن عساكر وغيره بتفضيله على الكعبة الشريفة.
...وعبارة العلامة تاج الدين الفاكهاني في كتابه (البدر المنير) قالوا: لا خلاف أن البقعة التي ضمت أعضاء النبي صلى الله عليه وسلم أفضل بقاع الأرض على الإطلاق حتى موضع الكعبة المعظمة ثم قال: وأقول أنا، وأفضل بقاع السموات أيضا ولم أر من تعرض لذلك، والذي أعتقده أن ذلك لو عرض على علماء الأمة لم يختلفوا فيه، وقد جاء أن السموات تشرفت بمواطئ قدميه، صلى الله عليه وسلم، بل لو قال قائل أن جميع بقاع الأرض أفضل من بقاع السماء لشرفها بكون النبي صلى الله عليه وسلم حالا فيها لم يبعد، بل هو عندي الظاهر المتعين، انتهى.
...قلت: وما بحثه في تفضيل الأرض على السماء مصرح به.
قال العلامة ابن العماد في كتاب (كشف الأسرار): وأما تفضيل السماء على الأرض فقد اختلفوا فيه. قال الشيخ جلال الدين إمام الفاضلية: والأكثرون على تفضيل الأرض لأن الأنبياء خلقوا منها وعبدوا الله فيها ودفنوا فيها.
وقد روى أبو هريرة مرفوعا أن غلظ كل أرض سبعماية سنة وأن غلظ كل سماء خمسماية سنة، رواه أحمد في المسند، انتهى
مخ ۱۰۶
فمن فضل الأرض على السماء لا يشك في تفضيل تلك البقعة الشريفة على السماء، ومن خالف في ذلك فالظاهر أنه يستثني تلك البقعة سيما إذا قلنا بما قاله ابن عبد السلام من أن الأماكن والأزمان متساوية من حيث ذاتها وإنما يفضلان بما يقع فيهما لا بصفات قائمة بهما. قال: ويرجع التفضيل إلى ما ينيل الله العباد منهما من كرمه، انتهى فقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل عليه من الرحمة والرضوان والملائكة وله عند الله تعالى من المحبة ولساكنه ما تقصر العقول عن إدراكه وليس ذلك لمكان غيره كما قال السبكي، قال: وكيف لايكون أفضل وإن لم يكن محل عمل لنا لأنه ليس مسجدا لإله حكم بل هو مستحق للنبي صلى الله عليه وسلم، وأيضا فالأعمال مضاعفة فيه باعتبار أن النبي صلى الله عليه وسلم حي وأعماله مضاعفة أكثر من كل أحد.
قال السبكي: ومن فهم هذا الشرح لما ذكره القاضي من التفصيل باعتبارين، أحدهما: ما قيل أن كل أحد يدفن بالموضع الذي خلقه منه.
والثاني: تنزل الرحمة والبركات عليه وإقبال الله، ولو سلم أن الفضل ليس للمكان ذاته ولكن لأجل ما حل فيه صلى الله عليه وسلم، انتهى.
... قلت: ولك أن تستدل على ذلك أيضا بأن القبر الشريف أفضل من رياض الجنة كما أتى وقد قال صلى الله عليه وسلم (لقاب قوس أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها) والله أعلم.
وبالجملة فأنا لا أشك في وجوب إزالة ما أصاب ذلك المحل الشريف من الهدم، ولعمري أني أود لو أزلته بجفوني، ونظفته بماء عيوني، بل بسويداء قلبي العليل، ولكن ليس إلى ذلك سبيل، وكيف وقد أوجب الله تعالى علينا المبالغة في تعظيمه صلى الله عليه وسلم وتوقيره، كم جاءت به الآيات الناصة، العامة والخاصة، قال الله تعالى: (لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه)، قال أئمة المفسرين: تعزروه بجلوه وبالغوا في تعظيمه وانصروه وأعينوه.
وقال تعالى: (ومن يعظم حرمات الله فهو خير له)، وقال تعالى: (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) والنبي صلى الله عليه وسلم أعظم شعائر الله، وقال تعالى: (يا أيها الذين أمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول) الآية.
وقال تعالى: (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا) الآية.
وقد صرحت الآيات أيضا بإلزام الأنبياء قاطبة التعظيم له صلى الله عليه وسلم جملة وتفصيلا.
مخ ۱۰۷
...وجاء في حديث ذكر الشيخ مجد الدين الشيرازي أن إسناده على شرط الشيخين عن ابن عباس رضي الله عنهما: أوحى الله تعالى إلى عيسى بن مريم: يا عيسى بن مريم آمن بمحمد ومر من أدركه من أمتك أن يؤمنوا به فلولا محمد ما خلقت آدم ولولا محمد ما خلقت الجنة والنار ولقد خلقت العرش على الماء فاضطرب فكتبت عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله فسكن.
ووجوب المبالغة في تعظيمه صلى الله عليه وسلم وتوقيره غني عن البيان، ولم يختلف فيه قط اثنان، وكانت الصحابة رضي الله عنهم أعظم الناس في هذا الباب والفائزين بقصب السبق فيه من بين سائر ذوي الألباب.
وفي الحديث الصحيح أن عروة بن مسعود لما رجع في عام القضية إلى قريش وقد رأى حال الصحابة في تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا معشر قريش، إني قد جئت كسرى في ملكه وقيصر في ملكه والنجاشي في ملكه، وإني والله ما رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم محمدا أصحابه.
والأحاديث في هذا الباب أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تذكر، وما أشرت إليه لا ينكر وقد ذكر أن أبا أيوب الأنصاري أنزل النبي صلى الله عليه وسلم في سفل داره أولا ثم سأله في الصعود استعظاما له، فقال صلى الله عليه وسلم: (في السفل أرفق بنا وبمن يغشانا)، فقال: لا والله لا أمشي فوقك أبدا قيل: إنما سأله ذلك لما انكسر الحب فتقاطر الماء عليه، فسأله فصعد حينئذ والحب بضم الحاء المهملة: الخابية.
...وعبارة الحافظ ابن النجار: كان صلى الله عليه وسلم: قد نزل في سفل بيت أبي أيوب وذكر أبو أيوب أنه أمسى بعمد فوق رأس النبي صلى الله عليه وسلم فلم يزل ساهرا حتى أصبح فأتاه فقال: يا رسول الله إني أخشى أن أكون ظلمت نفسي إن أمسيت فوق رأسك، فقال صلى الله عليه وسلم: (السفل أرفق بنا وبمن يغشنا) فلم يزل أبو أيوب يتضرع إليه حتى انتقل إلى العلو
مخ ۱۰۸
وقد درج السلف والخلف على ذلك فأوجبوا للنبي صلى الله عليه وسلم التعظيم البالغ الذي لا مرمى وراءه ولا غاية بعده حتى قال بعض العلماء: من قال أن زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسخ وأراد به عيبه قتل من غير استتابة.
وقد أفتى علماء الأندلس بقتل من سماه في مناظرته يتيما وختن حيدرة، وقال العلماء أنه يجب من الأدب معه صلى الله عليه وسلم بعد وفاته كل مايجب معه قبلها وقال أبو إبراهيم إسحاق التجيبي: واجب على كل مؤمن ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أو ذكر عنده أن يخضع ويخشع ويتوقر ويسكن من حركته ويأخذ في هيبته وإجلاله بما كان يأخذ به نفسه لو كان بين يديه.
قال القاضي عياض عقب ذلك: وهذه كانت سيرة سلفنا الصالح وأئمتنا الماضين.
وذكر ابن بشكوال أن مالكا كان لايستعمل مستمليا، فلما كثر الناس عليه قيل له: لو جعلت مستمليا يسمع الناس فقال: قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي) والنبي صلى الله عليه وسلم حرمته واحدة حيا أو ميتا، أي فترك رفع الصوت بالحديث لكونه كان بحضرته صلى الله عليه وسلم.
مخ ۱۰۹
قال القاضي عياض: كان مالك إذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم يتغير لونه وينحني حتى ذلكعلى جلسائه، فقيل له يوما في ذلك فقال: لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم على ما ترون، لقد كنت أرى محمد بن المنكدر وكان سيد القراء لا يكاد تسأله عن حديث أبدا إلا بكى حتى ترحمه ولقد كنت أرى جعفر بن محمد وكان كثير الدعابة والتبسم فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم عنده إنسان فينظر إلى لونه كأنه ينزف منه الدم وقد جف هيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولقد كنت آتي صفوان وكان من المتعبدين المجتهدين فإذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فلا يزال يبكي حتى تقوم الناس عنه ويتركونه وفي (شعب الإيمان) للبيهقي عن مالك وكنا ندخل على أبوب السختياني فإذا ذكر له حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى حتى نرحمه فهذا حال العلماء رحمهم الله تعالى في الأدب والتعظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا ومن إعظامه وإكباره إعظام جميع أسبابه وإكرام مشاهده وأمكنته ومعاهده وما لمسه صلى الله عليه وسلم بشيء من جسده وقد أفتى الإمام مالك رحمه الله فيمن قال: تربة المدينة ردية بأن يضرب ثلاثين درة وأمر بحبسه وكان له قدر، وقال: ما أحوجه إلى ضرب عنقه، تربة دفن فيها صلى الله عليه وسلم يزعم أنها غير طيبة؟.
وروى القاضي عياض في كتابه (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) صلى الله عليه وسلم أن أمير المؤمنين أبا جعفر المنصور ناظر مالكا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد فإن الله أدب قوما فقال: (لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي) الآية ومدح قوما فقال: (إن الذين يغضون أصواتهم) الآية وذم قوما فقال: (إن الذين ينادونك من وراء الحجرات) الآية وإن حرمته ميتا كحرمته حيا فاستكان لها أبو جعفر وقال: يا أبا عبد الله أستقبل القبلة وأدعوا؟ أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله يوم القيامة بل استقبله واستشفع به فيشفعك تعالى قال الله تعالى (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم) الآية.
وأظن العلامة مجد الدين الشيرازي أخذ من هذا قوله: ولأنه رأى من كان بالمسجد الشريف القبر المقدس في صلاة ولا غيرها من الأحوال ويلتهم الأدب شريعة وحقيقة في الأقوال والأفعال فقد ذكر ابن السبكي في ترجمة الإمام الخبوشاني أن القاضي الفاضل وزير السلطان دخل يوما لزيارة الشافعي رضي الله عنه فوجد الشيخ يعني الخبوشاني يلقي الدرس على شيء ضيق فجلس على طرف وجنبه إلى القبر فصاح الشيخ قم، قم ظهرك إلى الإمام فقال الفاضل: إن كنت مستدبره بقالبي فأنا مستقبله بقلبي فصاح فيه أخرى وقال ما تعبد يا هذا فخرج الفاضل مدهوشا.
مخ ۱۱۰
فإذا كان ذلك فعله إلى قبر الشافعي فما ذاك لقبر سيد المرسلين ولهذا أجد في قلبي حرارة عظيمة من الصلاة على بعض الأموات بالروضة الشريفة مع جعل رجل الميت في تلك الجهة المنيفة وقد بسطت القول في ذلك في الأصل وسنشير إليه في الخاتمة وبالجملة فتعظيمه صلى الله عليه وسلم وتعظيم قبره الشريف ... من الأمور المعلومة في الدين بالضروة لكن قد يضن من لا تحقق عنده أن دخول ذلك المحل الشريف لإزالة ما قدمناه ليس من الأدب وذلك خطأ لأن المبادرة لإزالة ذلك من تمام الأدب والاحترام الواجب له صلى الله عليه وسلم علينا وهو لا يتأتى إلا بالدخول فالدخول المذكور واجب إذ ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ومن خالف في وجوب إزالة ذلك يخشى عليه الوقوع في الكفر لإخلاله بتعظيمه صلى الله عليه وسلم ولعمري لو تهدم جدار على قبر صديق لإنسان لرأى أن من الوفاء بحقه إماطة ذلك من على قبره وهذا لا يرتاب فيه أحد فكيف بقبر سيد الخلايق الذي هو مقدم في الحب على النفيس والوالد والولد والمال، ولولاه ما برحنا في ظلمات الضلال، بل لم يكن لنا وجود بحال، ثم لو كان الدخول سوء أدب لما طلب أبو بكر الصديق وعمر الفاروق رضي الله عنهما وهما أفضل هذه الأمة فهما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما مكنهما من ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم الهداة المهديون لقوله صلى الله عليه وسلم (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) هذا مع أنه ليس في الدفن هناك مصلحة تعود على المحل الشريف بل في ذلك إزعاج له بحفر التراب بالمساحي وإهالته بها ثانيا، وأيضا فلو كان الدخول لإزالة ما ذكر سوء أدب لما فعله عمر بن عبد العزيز مع جلالة قدره ولم ينكره عليه أحد، ثم تلاه في ذلك غيره من السلف ولم ينكر ذلك عليهم في زمن من الأزمان بل مدحوا به، فأما واقعة عمر بن عبد العزيز فهو ما ذكره العلامة ابن زبالة في تاريخه وهو من أقدم التواريخ، لأنه وذكر فيه أنه وضع في سنة تسع وتسعين وماية من الهجرة وتبعه ابن النجار في (الدرة الثمينة) وابن عساكر في (التحفة) ونقل ذلك أن جدار الحجرة الشريفة التي تلي موضع الجنايز يعني جهة المشرق سقط في زمن عمر بن عبد العزيز، وظهرت القبور المقدسة.
مخ ۱۱۱
قالوا: فما رؤي بكاء أكثر من ذلك اليوم فأمر بقباطي فخيطت ثم ستر بها، وأمر ابن وردان أن يكشف عن الأساس، فبينما هو يكشف إذ رفع يده وتنحى واجما، فقام عمر بن عبد العزيز فزعا فرأى قدمين ورأى الأساس وعليهما الشعر، فقال له عبد الله بن عبيد الله بن عمر وكان حاضرا: لا يرعك فهما قدما جدك أي لأم عمر بن الخطاب رضي الله عنه ضاق البيت عنه فحفروا له في الأساس فقال عمر: يا ابن وردان غط مارأيت، ففعل، وأمر أبا حفصه مولى عائشة وناسا معه فبنوا الجدار ثم لما فرغوا من الجدار ورفعوه ودخل مزاحم مولى عمر من كوة جعلت فيه فقم ما سقط على القبر من الطين والتراب ونزع القباطي فكان عمر يتمنى أن لو كان تولى ذلك.
وفي رواية أنه قال: لأن أكون وليت ما ولي مزاحم من قم القبور أحب إلي من أن يكون لي من الدنيا كذا وكذا، وذكر مرغوبا من الدنيا.
وذكر ابن عساكر بسنده عن هشام بن عروة عن أبيه قال: لما سقط عنهم الحائط في زمان الوليد أخذوا في بنائه فبدت لهم قدم ففزعوا وظنوا أنها قدم النبي صلى الله عليه وسلم، فما وجدوا أحدا يعلم ذلك حتى قال لهم عروة: والله ماهي قدم النبي صلى الله عليه وسلم ما هي إلا قدم عمر.
قلت: وهذه رواية البخاري في صحيحه. وذكر القصة أيضا الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه كما في (العتبية) مستدلا بها على وجوب تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وحفظه، ولفظ (العتبية): قال مالك: انهدم حائط بيت الرسول صلى الله عليه وسلم الذي فيه قبره، فخرج عمر بن عبد العزيز واجتمعت رجالات قريش فأمر عمر بن عبد العزيز من اجتماعهم أمر مزاحا أن يدخل ليخرج ما كان فيه، فدخل فقم ما فيه من لبن أو طين وأصلح في القبر شيئا كان أصابه حين انهدم الحائط ثم خرج وستر القبر ثم بنى، انتهى.
مخ ۱۱۲
...قلت وقد استفدنا من كلامه أن إزالة ما انهدم كان قبل البناء وهو الظاهر لما فيه من الوفاء لما يجب البدار له من إزالة ذلك من المحل المقدس وما قدمناه من كلام ابن زبالة يقتضي أنه بعد البناء، ويجمع بينهما بأن ذلك فعل مرتين، فالأولى هي ما أصاب ذلك المحل الشريف بسبب انهدام الجدار وهي التي اقتصر على ذكره مالك رحمه الله، والثانية هي إزالة ما نشأ عن البناء من تراب وغيره ليقع الاحتياط قي تنظيف المحل الشريف وهي التي اقتصر عليها ابن زبالة.
وقال العلامة ابن رشد في (جامع بيانه) في الكلام على عبارة الإمام مالك السابقة: إنما ستر عمر القبر إكراما له وخشي لما رأى الناس قد اجتمعوا أن يدخلوا البيت فيتزاحموا على القبر فيؤذوه بالوطء لتزاحمهم عليه رغبة في التبرك به، فأمر مزاحما مولاه بالانفراد في الدخول فيه وقمه وإصلاح ما انثلم فيه بانهدام الحائط عليه وإنما ستر القبر عن الناس وبنى عليه صيانة له مخافة أن ينقل ترابه ليستشفى به، أو يتخذ مسجدا يصلى فيه، وأما ما وقع من ذلك بعد عمر بن عبد العزيز فهو ما ذكره الحافظ ابن النجار ونقله عنه من بعده من المؤرخين من أن في سنة ثمان وأربعين وخمسمائة سمع من داخل الحجرة المشرفة هده، فكان الوالي يومئذ بالمدينة المشرفة قاسم بن مهنا الحسيني، قال: وكان يفهم العلم فذكر له ذلك فقال: ينزل شخص من أهل الدين والصلاح فلم يجدوا يومئذ أمثل حالا من الشيخ عمر النشئي شيخ شيوخ الصوفية بالموصل، وكان مجاورا بالمدينة الشريفة فكلموه في ذلك عن الأمير، فاعتذر بمرض كان يحتاج معه إلى الوضوء في غالب الوقت فألزمه الأمير قاسم بالدخول فقال: أمهلوني حتى أروض نفسي فيقال أنه امتنع عن الأكل والشرب مدة وسأل الله تعالى إمساك المرض عنه بقدر ما يبصر ويخرج، فأنزلوه بالحبال من بين السقفين من الطابق المتقدم وصفه في الباب الأول فنزل بين حائط بيت النبي صلى الله عليه وسلم وبين الحائز الذي بناه عمر بن عبد العزيز ومعه شمعة ليستضيء بها، ومشى إلى باب البيت ودخل من الباب إلى القبور المقدسة، فرأى شيئا من الردم إما من السقف أو من الحيطان فأزاله وكسح ماعليها بلحيته، وكان مليح الشيبة، وأمسك الله عنه المرض بقدر مادخل وخرج وعاد إليه وجعه.
مخ ۱۱۳