وهناك أوراق أخرى لا طائل تحتها.
ثم تلفن الغازي إلى عصمت أن يحضر حالا. وفي بضع دقائق كان عصمت باشا عند مصطفى باشا، فاستقبله هذا متهللا وأدخله إلى مكتبه، ثم بسط له الوثائق العظيمة الشأن. فجعل عصمت يطلع على الأوراق واحدة واحدة ويتأملها، حتى انتهى منها كلها. فنظر إلى مصطفى باشا باسما، فقال هذا له: ماذا رأيت يا عصمت؟
فتبرم عصمت. ثم قال: أتصور وأنا أقرأ هذه الأوراق أني أطلع على ألاعيب صبيان المدارس. لا أقدر أن أتصور أن هذه الرسائل يكتبها أمراء، إلا إذا كانوا ممازحين.
فقال مصطفى باشا هازئا: وهل كنت تنتظر أن هؤلاء الأمراء أكبر عقلا من غلمان المدارس؟! - لكني لا أقدر أن أستنتج من هذه الرسائل شكل مشروع أو خطة لثورة. لا أدري ارتباطا تاما بين رسائل الأمراء والدعوة. - يلوح لي أنهم غيروا شكل الموضوع بعد اجتماعهم بالدوقة. فكان المشروع في أول الأمر شكل مؤتمر سلمي وبعد المفاوضة صار شكل مؤامرة.
فتململ عصمت وقال: ما زلت أرى أن هذه المؤامرة مؤامرة أولاد. - عجبا! ألا ترى أنهم يعتمدون فيها على قوات أجنبية؟ لاحظ قول ناظم في رسالته: «أرجو أن تستوثقي من نية النبلاء الذين أخبرتنا عن قصدهم!» فلا ريب أنه يعني نبلاء أجانب. ثم لاحظ أن بين أوراقها رسائل من أجانب تفيد عن حركات ثورية. - أي نعم، لاحظت كل ذلك. ولكني لم أزل أشعر أنه ليس في هذه الرسائل روح ثورة ولا روح مؤامرة. وأستغرب أن حبر هذه الرسائل المختلف الألوان يشبه كتابة أقلام الرصاص الملونة. لاحظ اللون البنفسجي في رسالة نظيم فما هو معروف إن كان حبرا أو قلم رصاص. ما قولك بهذه الخطوط والإمضاءات؟ هل هي صحيحة؟
فقال مصطفى: وعندي رسالة من البرنس عبد الكريم كان قد كتبها لي يوصيني بشخص بصفة أنه صديق لي. فقابلتها برسالته فلم أجد فرقا في الخط. - وهل تظن أن جميع الإمضاءات صحيحة قياسا على إمضاء هذه الرسالة؟ - كذا أعتقد. ولا أرى وجها للشبهة في هذه الإمضاءات يا عصمت. - ورأيك الآن؟ - رأيي القبض على هؤلاء الأمراء والتحقيق معهم حتى نثبت تهمة المؤامرة عليهم. - وهبها لم تثبت. - عجبا يا عصمت! هل نعجز عن إثباتها! - لا، لا نعجز عن إثباتها. ولا نعجز عن إعدام الأمراء بلا محاكمة أيضا.
فتبرم مصطفى باشا وقال: لا أعني أننا نستبد ونظلم. - لا تستطيع أن تظلم لئلا تفقد قوة الجمهور، لا تقدر أن تظل قابضا على عنان الشعب إلا ما دمت مقنعا إياه بأنك تقول الحق وتفعل الحق وتؤيد الحق، ولو بالإفك والحيلة. - نعم. نعم. ولهذا إذا ظهر من التحقيق أن الشبهة ضعيفة نثبتها بأي الطرق ونحكم عليهم بالإعدام. ثم نبدل هذا الحكم بالنفي وبذلك نكسب عطف الجمهور.
فتململ عصمت وفكر برهة، ثم قال: وهب أن التحقيق أثبت لك أن هذه الأوراق كلها إفك وزور وبهتان، وثبتت براءة هؤلاء الأمراء ثبوتا تاما.
فتمرمر مصطفى باشا وقال: عجبا! يستحيل أن تثبت براءتهم. أمس رماني بعض صنائعهم بقنبلة لو انفجرت لأطارتني هباء منثورا. لقد ندمت على كتمان خبرها. - يمكنك أن تذيع خبرها بعد أن يعترف ذلك الجاني بأسباب ارتكاب جنايته. ولكن هب أنه ثبت عدم وجود علاقة بينه وبين مؤامرة الأمراء. - لا بد أن تظهر علاقة كهذه يا باشا. نحن لا نعرف لنا أعداء في الشعب. إن أعداءنا في الأسرة العثمانية وبعض الذين لا يزالون يشدون إزرها من الرجعيين. فأنا واثق أن هذا الجاني متى أفرغ جراب معلوماته رأينا بينها بريق سعايات الأمراء والخليفة عبد المجيد والسلطان وحيد الدين وغيرهما بلا محالة. فلذلك لا يرتاح رأس الجمهورية إلا بقطع رأس الأفعى. فرأيي أن نبادر بالقبض على هؤلاء الأمراء.
فهز عصمت باشا رأسه وقال: أما أنا فلست من هذا الرأي، بل رأيي أن نحقق سرا حتى تتوفر عندنا الأدلة والبراهين، فنظهر هذه الأوراق لتعزيز التهمة.
ناپیژندل شوی مخ