شدة تشبع الناس بالعقيدة الدينية، وشدة انتصارهم لها، إلى حد أنهم كانوا يحاربون كل من يغضب رجال الدين أو يعتدي عليهم.
رابعا:
معرفة الفقهاء كيف يستثمرون ذلك النفوذ الديني العظيم، وكيف ينتهزون فرصة تشبع الجمهور بالعقيدة الدينية، وتفانيه في حمايتها، في إنقاذ ما تسوله لهم نفوسهم من الرغبات، وفي تحويله إلى حيث شاءت لهم أهواؤهم، وقد شاهدتم كيف أنهم استطاعوا أن يهددوا السلطان نفسه.
خامسا:
أن مسألة الدين في الأندلس كانت غيرها في الشرق، بل إنهما كانتا على النقيض، فبينما كنت ترى المذاهب العديدة والنحل المختلفة سائدة في المشرق، إذ تشاهد عكس ذلك تماما في الأندلس، فلم تكن لترى هنا إلا مذهبا واحدا قد هيمن على كل أهلها تقريبا، ذلك هو المذهب السني الذي لم يشذ عنه إلا بعض أفراد غاية في الندرة، ممن مالوا إلى مذهبي المعتزلة والظاهرية.
سادسا:
أن تعصب الناس لمذهب مالك ومغالاتهم في الانتصار له قد وصل إلى حد الجنون، فقد رأيتم أن افتتانهم بهذا المذهب وتهوسهم في الولوع بكتاب الموطأ، وصلا بهم - كما يقول ذلك العالم الذي استشهد به نيكلسون - إلى حد أنهم كانوا لا يعرفون إلا القرآن والموطأ، بل لقد بلغ جنونهم بالموطأ أكثر من ذلك، فقد حكى لنا بعض المؤرخين أن تعصبهم للموطأ أنساهم النظر في القرآن والأحاديث.
فأما عن النقط الأربعة الأولى فلا أدل عليها مما سرده نيكلسون عن «الحكم» هذا، وعن موقفه إزاء الفقهاء؛ فقد رأيتم من حكايته جرأة الفقهاء في استعمال نفوذهم على العامة بإغرائهم إياهم حتى على مهاجمة قصر الملك، ومحاولة قتله، وقد كادوا يفعلون لولا حسن حظه، ولولا أن أغاثه جنوده الذين داهموهم، وشتتوا شملهم. ولعل أول ما يسترعي النظر في هذه الحكاية - التي سردها عن الحكم - هو قوله عنه: «وقد أنجاه من مأزقه الحرج الذي كان فيه برودته وجيشه المدرب.» والحق أن الحكم قد بلغ من رزانته، وثبات جأشه في هذا المأزق، أن داعب خادمه بتلك الجملة التي سقناها لكم في محاضرتنا السابقة، فقد أمره أن يأتيه بزجاجة الغالية ليتطيب بها وقت أن كان الجمهور يحاصر قصره ويحاول اغتياله، فلما أبطأ الخادم أعاد عليه السؤال ثانية، فقال له خادمه: «يا سيدي أهذا وقت الغالية؟» فأجابه: «ويلك يا ابن الفاعلة! بم يعرف رأسي من رءوس العامة إذا قطع، إن لم يكن مضمخا بالغالية؟» ولقد سمعنا حكايات عديدة عن رزانة بعض الناس، وعن ثبات جأشهم وبرودتهم في ساعة الخطر المميت، فلم نر - فيما رأيناه - مداعبة أغرب من هذه المداعبة، ولا رباطة جأش وصلت إلى أكثر من هذا الحد. شاهدتم شدة ازدياد نفوذ الفقهاء في ذلك العصر، ولكن لا يفوتنا أن نقول إن هذا النفوذ العظيم الذي شاهدتموه لم يكن ليقاس بما وصل إليه نفوذهم وسلطانهم في الأندلس - وقت انحطاط الدولة وتقهقرها - فلقد كان نفوذهم يتعاظم كلما ازدادت الدولة في الانحطاط، وقد كان ذلك أكبر مساعد على توالي انحطاط الدولة وتقهقرها. ولقد كانت وطأة التعصب للدين والانتصار للعقيدة تخف حين يقبض على ناصية الدولة ملك قوي؛ كالحكم الثاني مثلا الذي استطاع حماية الفلاسفة ورجال العلم وأحرار المفكرين من عنت العامة والمتنطعين في الدين - كما سترون ذلك في حينه - فسترون أنه أطلق حرية التفكير للناس، وأن العلوم قد وصلت في عصره إلى أقصى مدى، وأن الآداب أزهرت، وأن حرية الفكر وصلت إلى حد عظيم جدا، وأنه أخذ يناصر المفكرين، وأن الحرية الدينية لم تصل في عصر ما إلى مثل ما وصلت إليه في زمنه، سترون كل ذلك في حينه، ولكنكم سترون أيضا أن الحرية الدينية - رغم ما وصلت إليه في ذلك الزمن - لم تصل حتى في عهد هذا الملك العظيم إلى ما وصلت إليه في عهد المأمون الخليفة العباسي. بقي علينا أن نتكلم عن النقطتين الخامسة والسادسة فنقول: «إن وصول المذهب المالكي إلى حد أن أنساهم القرآن نفسه، وإلى حد أنهم كانوا لا يطيقون رؤية أي مذهب آخر، وإلى حد أنهم كانوا يطردون أي متمذهب بسواه، وإلى حد أنهم أحرقوا كتب الغزالي حين وصلت الأندلس - كما سترون فيما بعد - وإلى حد أنهم كانوا لا يطيقون النظر في كتاب فلسفة!» نقول: «إن وصول المذهب المالكي إلى هذا الحد، كان بلا شك نذير سوء بما سنسمعه من المدهشات والغرائب التي حصلت وقت انحطاط الدولة، وسنورد أهمها في حينه.»
قلنا إن العقيدة الدينية تمكنت من نفوس المسلمين في إسبانيا، وإن الفقهاء تعهدوا غراسها وإنمائها وفق ما يشتهون، وإنهم أولوا النصوص الدينية والآي القرآنية على حسب رغباتهم، فماذا نشأ عن ذلك؟ نشأ عن ذلك أن الجمهور - فيما بعد - وقف عقبة كأداء في سبيل كل من حاول البحث بحرية فكر، فكان لا يتردد في رجم كل من سمع عنه الاشتغال بعلوم الفلسفة متى رأى ما ينكره عليه، بل لقد وصل نفوذ الفقهاء وسيطرة العامة إلى حد أن كان الملك إذا حاول استرضاء الرعية تقدم إلى واحد من مشهوري الفقهاء وفوض إليه الأمر في حرق كل ما يراه في مكتبته منها، يفعل ذلك بعد أن يكون قد احتاط ووضع أهمها في مكان لا يهتدي إليه الفقيه، وكان الجمهور يحارب الآراء الحرة من غير أن يفهم شيئا عن حقيقتها، وآية ذلك أنه كان يخلط الفلسفة بالتنجيم، فكان يطلق على كل من حاول البحث بحرية فكر، اسم المشتغل بالفلسفة والتنجيم، وكان الفقهاء يحاربون الآراء الحرة والمذاهب الفلسفية لأسباب عديدة، قد يكون أهمها أن أغلبهم كان يخشى على نفوذه إذا انطلقت الأفكار من عقالها وتحررت العقول من ربقة التقليد، وإذ كانوا قد استمدوا ذلك النفوذ العظيم من سيطرتهم الدينية؛ فقد أيقنوا أن سلطانهم الديني باق على الجمهور ما دام جاهلا، وعرفوا أنه إذا استنار أدرك ما في أقوالهم من التناقض والإغراق، وفي ذلك القضاء على نفوذهم، وكأنهم كانوا يرون رأي أبي العلاء في قوله:
الدين متجر ميت فلذاك لا
ناپیژندل شوی مخ