مقيم بمكة ينتظر أن يأذن الله له في الخروج، واجتمعت جماعة المسلمين المهاجرين إلى إخوانهم من الأنصار في قباء، وجعلوا ينتظرون أن يقدم عليهم رسول الله، وكانوا في أثناء ذلك يقيمون الصلاة كما كانوا يقيمونها بمكة، وينظر المسلمون فإذا أقرؤهم للقرآن وأحفظهم عن النبي سالم ابن أبي حذيفة، فيقدمونه ليؤمهم
241
في الصلاة، وفيهم أعلام من المهاجرين، منهم عمر بن الخطاب الذي كان إسلامه فتحا، وهجرته نصرا، وخلافته رحمة. كما قال فيما بعد عبد الله بن مسعود.
وينظر المشركون والمنافقون من الأوس والخزرج فيرون هذه الجماعة من المهاجرين والأنصار يقدمون سالما ليؤمهم في الصلاة. فيكبرون من أمر سالم هذا بادئ الرأي، ثم لا يلبثون أن يذكروه ويعرفوه. يقول بعضهم لبعض: ألا ترون إلى هذا الرجل الذي يصلي بهذه الناجمة من أصحاب محمد من هاجر منهم إلى المدينة ومن كان من أهلها؟ إنه سالم. ألا تذكرون سالما؟! فيجهد القوم أنفسهم ليذكروه، ولكن بعضهم يعيد عليهم قصة ذلك اليهودي الذي كان يعرض على العرب واليهود صبيا حدثا لا يحسن العربية ولا يفهمها، وما هي إلا أن يسمعوا بدء هذه القصة حتى يستحضروا سائرها، وحتى يروا ذلك الصبي الذي مسه الضر، وظهر عليه البؤس، وزهد فيه العرب واليهود جميعا، واشترته ثبيتة بنت يعار، لا رغبة فيه بل عطفا عليه. ثم يقول بعضهم لبعض: لو عاش سلام بن حبير لرأى من صبيه ذاك عجبا. ثم يقول بعضهم لبعض: ألا ترون إلى هذه الناجمة من أصحاب محمد يؤمهم فارسي قد كان بالأمس عبدا؟! ثم يرد بعضهم على بعض رجع هذا الحديث، فيقول: إن لهؤلاء الناس لشأنا، إنهم يسودون العبيد، ويلغون ما بين الأحرار والرقيق من الفروق، وإنا لنرحم قريشا مما ألم بها، وإنا لنعذر قريشا مما فعلت بمحمد وأصحابه، ولو استطعنا لفتناهم كما فتنتهم قريش، ولنفيناهم عن أرضنا كما نفتهم قريش، ولكن هل إلى هذا من سبيل؟
فيقول قائلهم: هيهات! لقد آمن لهم أولو البأس والقوة من قومنا، ولكن فريقا من هؤلاء المتحدثين يسمعون، ثم ينكرون، ثم يؤثرون الصمت، ثم يخلو بعضهم إلى بعض فيستأنفون بينهم حديثا جديدا يعجبون فيه من أمر هذا الذي كان عبدا بالأمس، ثم هو يؤم الأحرار في صلاتهم اليوم. ثم يتتبعون المهاجرين فيرون فيهم نفرا غير قليل من الرقيق الذين أعتقوا، أعتقهم إسلامهم. ثم يتتبعون سيرة الأحرار الأشراف من المسلمين مع هؤلاء الذين ردت عليهم الحرية بعد أن نشئوا في الرق، فيرونها تقوم على الإخاء والعدل والنصفة والمساواة. ثم يتحدثون في ذلك إلى المسلمين من قومهم، فيقول لهم هؤلاء: إن الإسلام لا يفرق بين الحر والرقيق، ولا بين الناس إلا بالتقوى، وبما يقدمون بين أيديهم من البر والخير وعمل الصالحات. هنالك تطمح قلوبهم إلى هذه المساواة التي لم يسمعوا بها من قبل، وإلى هذا العدل الذي لم يألفوه، وإذا هم يميلون إلى الإسلام ثم يسرعون إليه، ثم يحرصون على أن يؤمهم سالم بن أبي حذيفة ذلك الذي كان عبدا بالأمس، فأصبح يؤم الأشراف من قريش ومن الأوس والخزرج حين يقومون بصلاتهم بين يدي الله.
16
بلغ النبي وصاحبه أبو بكر قباء، ونزلا فيها بين جماعة المسلمين من المهاجرين والأنصار، وقد فرح النبي بهجرته إلى المدينة، وفرحت المدينة بهجرته إليها؛ فهي في عيد متصل، والأنصار يستبقون إلى بر النبي وأصحابه من المهاجرين؛ يؤوونهم، ويقومون بحاجاتهم، ويطرفونهم بما يستطيعون أن يطرفوهم به من الطيبات. وقد تقدم النهار وصليت الظهر، وأقبل رجل من الأنصار فوضع بين يدي النبي رطبا، وجعل النبي وصاحباه أبو بكر وعمر يصيبون من هذا الرطب، وإنهم لفي ذلك وإذا شخص يرفع لهم،
242
ثم يدنو منهم، ثم يسلم عليهم، ثم يجلس إليهم، وإذا هو صهيب سابق الروم إلى الإسلام، كما قال فيه رسول الله.
وقد أقبل صهيب مجهودا مكدودا قد بلغ منه الإعياء، وكاد يأتي عليه الجوع، وقد أصابه في طريقه رمد، فهو لا يكاد يرى إلا في مشقة أي مشقة، وقد ألقى تحية إلى أصحابه، ثم ألقى نفسه على الأرض، ثم نظر فرأى الرطب فانكب عليه وجعل يأكل منه أكلا غير رفيق. يقول عمر بن الخطاب للنبي
ناپیژندل شوی مخ