قال عتبة: هو ذاك.
وأضمر أبو جهل في نفسه ما أضمر، وادخر الله لعمار من الكرامة ما ادخر؛ فقد اتصلت فتنة عمار ما أقام بمكة، وافتن أبو جهل في هذه الفتنة حتى جعلها أحاديث. وأول ما قدر من ذلك أن يحفظ على عمار حياته وحريته فلا يأتي على نفسه ولا يلقيه في غيابات السجن، وإنما يجعله لمحمد وأصحابه نكالا، يفتنه كلما أحس الحاجة إلى أن يفتنه، ويعذبه كلما أحس الشوق إلى أن يشهد مشهد العذاب، وكأنه حالف الشيطان على أن يوفي عمارا من العذاب ما لم يستطع أن يصب على أبويه، وأن يظفر منه بما لم يظفر به من ياسر وسمية، فيضطره إلى أن يذكر آلهته بخير وأن ينال من محمد
صلى الله عليه وسلم ، وأعانه الشيطان على ذلك كله، وأعانه عليه قوم آخرون من سفهاء قريش، فترك عمارا آمنا معافى في نفسه وبدنه ودينه، لم ينله بأذى، ولم يعرض له بسوء، حتى استراح عمار من محنته، وظن أنه قد أمن الفتنة، فكان يغدو على دار الأرقم بن أبي الأرقم، فيسمع من النبي ويتحدث إليه، ثم يروح إلى داره وقد اتخذ فيها ما لم يتخذه مسلم قبله في داره، اتخذ فيها مسجدا يعبد الله فيه أكثر الليل، حتى أنزل الله في ذلك قرآنا:
أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب
فيما تحدث به ابن عباس.
ولكن أصحاب النبي يجتمعون ذات يوم في دار الأرقم بن أبي الأرقم حتى إذا ارتفع الضحى افتقدوا عمارا بينهم فلم يجدوه، فإذا ذكروا ذلك أنبأهم النبي
صلى الله عليه وسلم
بأن عمارا يعذب في الله. ثم يمر النبي بعد أن يتقدم النهار بمكان في بطحاء مكة فيرى أبا جهل وقد عاد في عمار سيرته الأولى: نار مؤججة، وماء مجتمع في نطع من الأدم، وعمار قد ألقي بينهما، وجعل السفهاء من قريش ينوشونه بالرماح ويحرقونه بالنار، وعمار صابر صامت يذكر الله في قلبه ويكف لسانه عن القول، فإذا رأى النبي ذلك قال: «يا نار كوني بردا وسلاما على عمار كما كنت بردا وسلاما على إبراهيم.» وقد سلط أبو جهل من النار على عمار أثناء فتنته الطويلة له ما كان خليقا أن يأتي على نفسه، ولكن الله يقول لعباده:
ادعوني أستجب لكم ، وقد دعاه في عمار أحب عباده إليه وأرضاهم عنده، ولله حكمة بالغة، ولكل أجل كتاب.
وقد احتمل عمار من ذلك العذاب ما يطيقه الرجال وما لا يطيقونه، حتى إذا جنحت الشمس لمغربها كف عنه العذاب ورد إلى داره، وأمهله أبو جهل بعد ذلك أياما طوالا حتى ظن عمار أنه لن يفتن مرة أخرى، ولكن أبا جهل لم يمهله إلا ليشتد عليه في الفتنة ويضاعف له العذاب.
ناپیژندل شوی مخ