وأنفق صهيب زهرة شبابه تاجرا لعبد الله بن جدعان، يثمر ماله وينشر تجارته، فيبعد بها طورا في أرض النجاشي وطورا في أرض قيصر وتارة في أرض كسرى، حتى أصبح عبد الله بن جدعان أكثر قريش مالا وأوسعها ثراء وأعظمها عطاء وأسخاها يدا، وحتى قصد إليه الشعراء يبيعونه الثناء بالمال الكثير.
وكان عبد الله بن جدعان كلما سمع ثناء الناس عليه وأرضاه ذلك قال لصهيب: وإنما لك شطر هذا الثناء، فأنت الذي أتاح لي أسبابه ويسر لي وسائله. وكان عبد الله بن جدعان ربما سأل صهيبا بين حين وحين: ألا يزال لك في أرضنا هذه أرب؟
فيجيب صهيب: أرب، أي أرب!
يقول عبد الله بن جدعان: فهل تبينت أربك
95
يا صهيب؟
فيقول صهيب: لو تبينته لما أخفيته عليك. •••
وأدرك الموت عبد الله بن جدعان ذات يوم، وخلصت لصهيب نفسه كلها، وكثر ماله، وكان خليقا إن شاء أن يتحول إلى أرض قيصر حيث نشأ، أو إلى أرض كسرى في العراق حيث ولد، ولكنه أقام بمكة لا يبرحها، وجعل يثمر ماله مقتصدا في هذا التثمير، لا يغدو في التجارة ولا يبعد في الأرض، وجعل يحيي سنة عبد الله بن جدعان؛ فيطعم الجائع ويغني العائل ويعين المحتاج . وجعلت قريش تطمئن إليه وتثق به وتأنس إلى حديثه ذاك الذي لا يكاد يبين، حتى أصبح ذات يوم، فسمع قريشا تتحدث في أنديتها عن دار الأرقم بن أبي الأرقم، ومن كان يجتمع فيها من الناس حول محمد بن عبد الله، وما كان يتلى فيها من القرآن، وما كان يدار فيها من الحديث، فيحس صهيب في نفسه كأن أربه ذاك الذي رافقه منذ آخر الصبا وأول الشباب إلى آخر الشباب وأول الكهولة، قد جعل يدنو منه قليلا قليلا، وقد أخذت نفسه تنازعه إلى دار الأرقم بن أبي الأرقم، فيصدها ويردها ويستمسك بالبقايا
96
على ما كان بينه وبين سادة قريش من المودة والإلف، ولكن شوقه إلى دار الأرقم بن أبي الأرقم يملأ عليه يقظة النهار ونوم الليل، حتى أصبح ذات يوم وقد أخذ نفسه بما تكره، وخرج من داره يريد أن يمضي إلى المسجد، ولكنه يمضي ويمضي، ثم لا يبلغ المسجد، وإنما يجد نفسه أما دار الأرقم، ويرى غير بعيد منه عمار بن ياسر، فيكون بينهما ما قدمت من حديث، ويدخلان ويستمعان ويسلمان ويقيمان مع أصحابهما، حتى إذا أقبل المساء خرجوا جميعا مستخفين.
ناپیژندل شوی مخ