43
بعضهم على بعض، ولا أن تحكم بعضهم في بعض. وإنما يمتاز الناس بالخير والمعروف والتقوى، ويسود الناس بالسلطان الذي لا يأتيهم من مولد ولا من ثراء، وإنما يأتيهم من رضا الناس عنهم وثقة الناس بهم وإيمان الناس لهم، ويحكم الناس بأمر يأتيهم من السماء قد فصل لهم الخير والشر، وبين لهم العرف والنكر، وميز لهم الحلال والحرام، لا بهذه التقاليد التي توارثوها عن آبائهم، ولا بهذه السنن التي حفظوها عن قديمهم.
بهذا كله كان الرقيق والمستضعفون في الأرض يتحدثون إذا لقي بعضهم بعضا أو خلا بعضهم إلى بعض. وبهذا كله جعل الرقيق والمستضعفون في الأرض يتسامعون، ثم يتداعون ثم يتواصون، وبهذا كله روع الملأ من قريش ذات يوم، فثار ثائره، وفار فائره، وأجمع أمره أن يطفئ هذه الجذوة قبل أن ينتشر لهبها فلا يبقي ولا يذر،
44
ونظر التاريخ ذات يوم إلى مكة فرأى فيها هذه الأحداث الصغار الكبار، وسمع فيها هذه الأحاديث التي كانت تهمس بها الأفواه وتصيح بها الضمائر والقلوب والنفوس. ورأى التاريخ فيما رأى ياسرا، ذلك الفتى قد تقدمت به وبزوجه السن، وقد مات حليفه أبو حذيفة، وقد رزق من سمية ثلاثة أبناء، قتل أحدهم في خطوب مجهولة، وبقي الآخران يعيشان كما كان أبوهما يعيش.
ويجب أن نسجل أن التاريخ لم يبحث عن ياسر ولا عن بنيه، وإنما أقبل ذات يوم على مكة؛ ليرى بعض ما يجري فيها من الأحداث، فلم يكد يبلغ المسجد حتى رأى أندية قريش هائجة مائجة تتحدث عن محمد وعن دعوته، وعمن تبعه من المستضعفين والرقيق، وقد تذكر دار الأرقم ابن أبي الأرقم التي اتخذها محمد لنفسه ولأصحابه ناديا ينشر منه دعوته هذه الرائعة المروعة، فتحول التاريخ عن هذه الأندية الصاخبة إلى دار ابن أبي الأرقم ليرى محمدا وأصحابه ويسمع منهم. ولم يكد يبلغ هذه الدار حتى رأى على بابها رجلين: أحدهما أسود طوال ترتفع قامته في السماء، والآخر أصهب ربعة،
45
وهما يتحاوران، يقول الأسود لصاحبه الأصهب: ما تصنع هنا؟
فيقول له الأصهب: وأنت ماذا تصنع؟
فيجيب الأسود: أريد أن أدخل على محمد؛ فأسمع منه وأعلم علمه.
ناپیژندل شوی مخ