كانت الليلة ناجحة نجاحا باهرا؛ فالمدعوون يملئون المسرح وليس الجمهور، والمدعو فرح دائما؛ لأنه تفلت إلى المسرح مجانا؛ فهو كثير التصفيق. ولم يدر المصفقون ماذا صنعوه بتصفيقهم هذا لبهجت. لقد جن به الجنون وراح يجوب الطرقات ماشيا، تاركا سيارته أمام المسرح. لقد حقق الأمل الأكبر في حياته ولقد أصبح ممثلا.
وفي الليلة التالية عرف المخرج وعرف الممثلان الكبيران أن المسرحية فشلت. ولم يدرك بهجت هذه الحقيقة إلا في اليوم الخامس، حين تقلص المدعوون وأصبحت الصالة لا تحوي إلا المشترين. لم يفكر في خسارته المادية ولكنه أحس أن أمله بعيد، وأنه ما زال بينه وبين هذا الأمل مدى بعيد، كان هذا أمله الوحيد بعد سوسن وقد ضاع أيضا.
أدرك هذه الحقيقة على رغم مقالات النقاد، التي أمطرته بوابل من المديح والتمجيد.
كان قبل تجربته يظن أن أقلام النقاد هي رأي الجماهير، ثم روعته الصالة الخاوية التي تمثلت له هوة من الفراغ واليأس، وأدرك أن النقاد جمهور مستقل بذاته، لا صلة بينه وبين الجمهور الذي يصنع النجوم. إن هذا الجمهور يحكم بلا حيثيات، ويصدر حكمه في قسوة واضحة بلا رحمة، وبلا محاولة للتلطف في التعبير أو إبداء الرأي. إنه ببساطة لا يشتري التذكرة؛ وبهذا التوقف عن الشراء يصدر الحكم.
حاول الصحفي ذكري لطيف: ليست التجربة الأولى هي كل شيء. - بل هي كل شيء إذا لم أعرف العيب حتى أصححه. - الرواية أرفع من مستوى الجمهور. - إن عدم إقبال الجمهور لا يعطينا الحق أن نشتمه. لقد أقبل على روايات أعلى مستوى مما قدمت. - مسألة حظ. - حجة عاجز. لماذا يخدم الحظ غيري ولا يخدمني، وقد هيأت له كل الفرص ليمشي في ركابي؟ - الحظ لا يسأله أحد. - ألا تجرب مرة ثانية؟ - أوأدري فيم أخطأت في الأولى؟
ولم يجد ذكري شيئا يقوله، ورن جرس التليفون في بيت بهجت. - آلو، من؟ - أنا سهام. - سهام سامي؟ - هل تعرف غيرها؟! - أهلا. - ماذا تفعل الليلة؟ - أمثل. - أقصد بعد التمثيل. - أنام. - بل لا تنم. - خير؟ - أريدك أن تتعشى عندي. - أمرك.
وسألته أمه عما تريده منه سهام فأخبرها. - ما المناسبة؟ - لا أدري، يبدو أنها تريدني في شيء مهم. - وماذا بينك وبينها؟ - زملاء. - هل أصبحت مثلها؟ - على كل حال هي تعمل عندي الآن. - ليست هذه لغة فنون ولكنها لغة صاحب مال. - يبدو أن هذه هي الحقيقة. - فلماذا لا تقتنع بها؟ - حين أتأكد سأقتنع. - أتريد أن تتأكد؟ - لقد علمني الفقر كثيرا. - مثل ماذا؟ - مثل أن أواجه الحقيقة مهما تكن مرة. - فواجهها. - حين أراها بعيني سأواجهها. - ألم ترها؟ - ليس بعد. - سأتركك حتى تراها. - لو كنت رحبت بفكرة أن أكون ممثلا يوم عرضتها عليك أيام الفقر، لأخذت رأيك اليوم بلا أي تفكير، ولكنك لو رأيت نفسك يومذاك وإلى أي حد ذعرت، لعلمت أنني على حق حين أرفض رأيك، أو على الأقل أتحفظ في الأخذ به. - أرجو أن أكون مخطئة وتكون محقا.
وفي العشاء وجد بهجت نفسه مع سهام سامي وأحمد فؤاد، ووجد معهم ثالثا يعرفه بالشهرة ولم يكن قد التقى به قبل ذلك؛ إنه سالم خليل المخرج السينمائي.
قال أحمد: عدم نجاح تجربة المسرح يجعلنا نبحث عن الطريق السليم. - وما هو؟ - ما رأيك في الإنتاج السينمائي؟ - لا خبرة لي فيه. - ولم تكن لك خبرة بالمسرح. - لقد أخذت أحسن العناصر التي تعمل في المسرح. - وستختار أحسن العناصر التي تعمل في السينما. - لم أنجح في التجربة الأولى. - وقد تنجح في التجربة الجديدة. - هل عندك قصة؟ - سالم خليل هو الذي اختارها. - هي قصة لكاتب معروف لم يسقط له عمل قبل اليوم. - هل أنت واثق منها؟ - أستاذ بهجت، إن لي اسما لا بد أن أحافظ عليه. - هل معك القصة؟ - معي. - أقرؤها. - إذا شئت؛ فأنت رجل مثقف وتستطيع أن تحكم. - لم أستطع أن أصل في المرة السابقة. - كم من فشل أعقبه نجاح. - أستاذ سالم، أتعرف لماذا قدمت هذه المسرحية؟ - حبا للفن. - أنا أريد أن أمثل، لا أريد مالا فعندي ما يكفيني، ولكنني أريد أن أمثل. - وهذا وحده سبب معقول. - وأحب المسرح. - لعلمك إذا نجحت في السينما تستطيع أن تنتقل إلى المسرح. - آخذ الطريق من آخره. - المهم أن تصل. - أجرب. ولكن هل رأيت المسرحية؟ - نعم، نعم. - لماذا فشلت؟ - لا أدري، كثيرا ما تكون الأعمال جيدة ولا تنجح. - لا شك فيها. - وأنت يا أستاذ أحمد؟ - فعلا . - وأنت يا سهام؟ - ألم تلاحظ أنني لم أتكلم من أول الليلة؟ - لاحظت. - فاسمح لي إذن أن أكمل الليلة بالأحلام. - ألا تخبريني على الأقل برأيك في موهبتي؟ - لو قلت رأيي لقلت كل شيء، إن لي معك كلاما آخر. - أمرك. - متى ستقرأ الرواية؟ - سأتصل بك في مدى يومين. - أحمد يعرف كيف يجيء بي؛ فهو يمثل معي الآن، حين تنتهي من القراءة قل له وأنا تحت أمرك. - وهو كذلك.
ليس يدري لماذا فكر وهو في السيارة في قصة حبه الكبيرة، إنها تلح عليه، منذ اللحظة الأولى التي عرف فيها سوسن، منذ هما يتقدمان معا للجامعة، وهي بجمالها الهادئ القوي تقف عاجزة، لا تدري ماذا تفعل وكأنما توسمت أن تجد عنده عونا، وقام عنها بالإجراءات. لقد كانت في طريقها إلى كلية الحقوق مثله، وتعارفا وأحبها حبا عنيفا جارفا، حتى لقد قرر فجأة: لا بد أن أتركك. - المفروض ألا أسألك لماذا؛ فتركك لي امتهان وسؤالي إمعان في هذا الامتهان؛ ولهذا فأنا أسالك: لماذا؟ - لأنني أكبرك وأحبك وأحبك. - تخاف من المستقبل. - فقر وضياع وذل وهوان، وأنظر إليك فأجد أنك ليس لهذا خلقت. - أنت في السنة الثانية من كلية الحقوق، ومن يدري ماذا سيحدث حتى نتخرج بعد سنتين. - أما ما سيحدث لي فلا شك فيه، وأما ما يحدث لك فإن أمره إذن سيكون بلا شك خيرا من حياتك إذا ما ارتبطت بي. - ومن يدريك؟ - طبائع الأشياء. - ألا يكفي أن تحبني وأن ... أحبك؟ - يكفي لو كنا سنؤلف قصة لا بيتا. - وماذا تريد مني؟ - إذا جاءك خاطب فلا ترفضي. - هذا أمر؟ - هذا انتحار. - ومن أنبأك أنني أقبل لك هذا؟ - لا بد أن تقبليه، أرجوك. - وتلح أيضا؟! - سعادتك عندي تستحق هذا الإلحاح. - كلام عجيب لم أسمع مثله من قبل! - لأنك عرفت الحب من كتاب سخفاء يكتبون القصص ولا يكتبون الحياة. - لهذا السخف تحب أن تعيش؟ - ولكن الحياة لا تحب أن تعيش به. - لو لم أكن أدري مقدار حبي لك الذي يجعلني أثق بمقدار حبك لي، لظننت أنك تريد أن تتخلص مني. - سوسن، الحياة التي تنتظرني شاقة، والعبء فيها ثقيل إذا تزوجتك. - سأعمل ولن أكون عبئا عليك. - إنك تستحقين خيرا من هذا. - لماذا تضحي أنت ولا أضحي أنا؟! - ولو كنت أستطيع الزواج بعد تخرجي لضحينا معا ولكن لا أستطيع. - وفيم العجلة؟ - ستكون حياتي جحيما وأنا أعرف أنك تنتظرين موعدا لا أدري متى إنجازه. - لقد جاءني الخاطب. - ورفضته؟ - أنا رفضته. - ولكن أباك لم يبلغه الرفض. - لم يبلغه؛ فهو معجب به. - أغني هو؟ - وهل ينظر أبي إلى غير هذا؟ - اقبليه. - هل أنت واثق؟
ناپیژندل شوی مخ