** بعض آثار المؤلف رضوان الله تعالى عليه
1 رسالتان فى الارث ونفقة الزوجة. طبعتا فى مجلد بقم
2 المكاسب المحرمة ورسالة الخمس. طبعتا فى مجلد بقم
3 و4 كتاب البيع. طبع فى مجلدين بقم
5 كتاب الخيارات. طبع فى مجلد بقم
6 و7 كتاب الطهارة. طبع فى مجلدين بقم
8 الحاشية على درر الاصول. طبعت مع الدرر بقم
9 الحاشية على عروة الوثقى. طبعت بقم
10 هذا الكتاب مع مجلده الثانى.
مخ ۳
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين
«المقدمة الاولى
في حال الوضع وتقسيمه»
لا إشكال في أن الألفاظ قبل الوضع لا ارتباط بينها وبين المعاني وبه يوجد الربط والعلاقة ، وهل هذه العلاقة نظير علاقة الزوجية والملكية قابلة للجعل الابتدائي ، فكما ينجعل الزوجية والملكية بقول : زوجت وملكت بقصد الإنشاء ، كذلك ينجعل هذه العلاقة بين اللفظ والمعنى بقول : وضعت ، أو قول : هذا اسمه حسن بقصد الإنشاء؟.
الظاهر إمكان ذلك كما في ذينك البابين ، وتكون لهذه العلاقة آثار ، فكما أن من آثار الملكية والزوجية إباحة التصرفات والأفعال الخاصة ، كذلك من آثار هذه العلاقة أنه متى سمع اللفظ عن الواضع أو من يتبعه فعهدوه على تصور أصل المعنى يحكم بأنه أي اللاحظ تصور هذا المعنى في ذهنه وقصد بهذا اللفظ إلقاؤه في ذهن المخاطب ، هذا.
مخ ۵
كما أنه من الممكن أيضا بمكان أن يختار الواضع في مقام الوضع طريقة اخرى وهي أن يتعهد ويلتزم أنه متى أراد تفهيم هذا المعنى تلفظ بهذه الكلمة ، فإنه حينئذ نظير سائر الالتزامات ، كالالتزام بأنه متى أراد الشاي يتنحنح ، فإنه يوجب حكم السامع كلما سمع منه التنحنح بأنه أراد الشاي.
فكذا يوجب في المقام الحكم بأنه أراد تفهيم المعنى المذكور ، والذي يطلب بالوضع ويكون ثمرة له هذا المعنى ، أعني إسناد المخاطب الإرادة إلى المتكلم وإلا فانتقاش المعنى التصوري ، فلا يختص بالوضع ، بل يحصل بقول : وضعت هذه الكلمة لهذا المعنى ، فإنه يوجب تذكر المسامع متى سمع اللفظة وخطور المعنى بباله.
ثم الكاشف عن هذا التعهد قد يكون تصريح الواضع ، وقد يكون كثرة استعماله اللفظ ونصبه القرينة على إرادة الخاص.
وقد حاول شيخنا الاستاد دام علاه انحصار الطريق في الثاني ببيان أن الانتقاش ليس ثمرة الوضع كما عرفت ، وإسناد الإرادة أيضا ما لم يكن تعهد كيف يجوز ، وإذا لم يكن الأثر متمشيا من نفس ذات العمل أعني قول : وضعت بقصد الإنشاء الخالي عن التعهد فلا يمكن أن يقال : فعله بقصد ترتب هذه النتيجة عليه يوجب ترتبها ، فإن غاية الشيء لا بد من ترتبها على نفسه مع قطع النظر عن قصد القاصد إياه لأجل تلك الغاية.
وهذا بخلاف التعهد ، فإن ترتب المتعهد به على الشيء المتعهد عند حصوله أمر واقع بحكم الوجدان هذا.
ولكن استشكل عليه بعض حضار مجلس بحثه الشريف بأنه كما أن الزوجية لها آثار عرفا وشرعا ، كذلك علاقة اللفظ والمعنى أيضا لها آثار وهي الحكم بترتب الإرادة عند التلفظ، فجعل المنشأ موجب لترتب هذا الأثر عليه قهرا.
مخ ۶
«في تقسيم الواضع»
ثم إن الملحوظ حال الوضع قد يكون معنى عاما ، وقد يكون معنى خاصا وعلى كل تقدير قد يكون الموضوع له نفس ذلك المعنى العام أو الخاص ، وقد يكون أمرا آخر صار ذلك المعنى آلة وواسطة للحاظه ، فالأول يسمى بالوضع العام والموضوع له العام ، والثانى بالوضع الخاص والموضوع له الخاص ، والثالث بالوضع العام والموضوع له الخاص ، والرابع بالوضع الخاص والموضوع له العام.
لا إشكال في الأولين ، وأما الثالث فقد ... المحقق الخراساني قدسسره كون العام وجها ومرآتا للأفراد ، بحيث يلاحظ المتكلم الجزئيات بنفس ملاحظة العام لا أن يكون هنا لحاظ آخر متعلق بالجزئيات متعقب للحاظ العام ، وقد منع منه شيخنا الاستاد دام علاه في مجلس بحثه الشريف مستدلا بأن العام مغاير للأفراد في عالم الذهن والتحليل وإن كانا متحدين في عالم الخارج.
ولا يخفى أن الوضع أيضا بإزاء الموجود في الذهن ، وصورة الزيد عند التعرية عن كلا الوجودين وعن العدم مغاير مع صورة الإنسان كذلك ، وحينئذ كيف يمكن لحاظ أحد المتباينين بلحاظ المباين الآخر ، وهل هذا إلا الخلف في بينونتهما؟
فالحق أن يقال : إن للجزئيات ملاحظتين : الاولى ملاحظة صورة الزيد بتفصيليتها ، والاخرى ملاحظتها ، لكن ببركة مفهوم الإنسان ، بمعنى أنا نجعل الإنسان معيارا وضابطا ، بأن نلاحظه بما هو هذا المفهوم ثم نشير إلى كل ما هو فرد ومصداق مندرج تحت هذا المفهوم ، فحينئذ قد لاحظنا الزيد والعمرو والبكر إلى آخر الأفراد ، لكن بوجه إجمالي ليس هو مفهوم الإنسان ، بل هو كل ما هو مندرج تحت هذا المفهوم.
مخ ۷
وعلى هذا فمثل ذلك متأت في جانب الجزئي والخاص أيضا ، فإنه يقال : إن العام تارة تلاحظ تفصيلا واخرى تلاحظ بوجه إجمالي ، مثل أن نرى شخصا ولم نفهم ما نوعه المندرج هو تحته ، بحيث لو رأينا فردا آخر نحكم بأنه جزئي لذلك النوع أيضا ، ولكن نعلم إجمالا أن له نوعا ، فنضع اللفظ بإزاء ذلك النوع ، فصار آلة المعرفة هو الخاص ، والموضوع له هو العام.
وكذلك لو رأينا شبحا من البعيد ولم نعلم أنه إنسان أو بقر أو جاموس أو غير ذلك ، فحينئذ عند تجريده عن الخصوصيات الفردية ، يحصل عندنا صورة إجمالية هو ما يكون نوعا لهذا ، فالتجريد في مثل الزيد والعمر واشباههما من الأفراد المعلومة النوع يوجب ملاحظة النوع تفصيلا ، وفي مثل الشبح والجزئي الغير المعلوم نوعه يوجب ملاحظته إجمالا ، وليس آلة المعرفة لذلك النوع إلا الجزئي ، كما كان آلة المعرفة للجزئي في الفرض السابق هو الكل ، أعنى ما هو فرد لهذا.
ثم على فرض القول بأن العام في الفرض السابق وجه ومرآة للأفراد نقول بإمكان مثله في هذا الفرض أيضا ؛ فإن جهة وجهية العام للأفراد ليس إلا الاتحاد الخارجي ، وهو مشترك في ما بين الطرفين ، فكما يمكن جعل ذلك المتحد مرآتا لهذا المتحد ، بملاك الاتحاد ، كذلك يمكن العكس أيضا بعين تلك الجهة ، وعدم إمكان انفكاك المقسم عن القسم والطبيعي عن أفراده ، وعلى هذا فالحق إمكان كلا القسمين الأخيرين ، كما قواه الميرزا الرشتي طاب ثراه ، وإن أنكره عليه المحقق الخراساني طاب ثراه في الكفاية.
ثم نقول : إن المعنى الحرفي ما يكون نحو تعقله في الذهن نحو تحقق العرض في الخارج ، فالعرض لو تلبس بالوجود الخارجي فلا محالة يكون وبال الغير وكلا عليه ومتكيا عليه وطفيلا له ، ويكون هذا الغير متخصصا به ، فالقيام في الخارج صار كلا على
مخ ۸
زيد وطفيلا له والزيد صار ذا تخصص به حيث إنه ليس راكعا وجالسا وساجدا ونائما وغير ذلك بل قائم ، وليس حاله حال الأجزاء الذهنية ، فإن كل واحد منها منحاز عن كل واحد من أجزاء الجسم ، لكن لشدة الامتزاج يشتبه الأمر على الحاسة ، فيرى الأول كأنه كل على الثاني.
وأما أن العرض والمحل وجودان أو وجود واحد ، فنقول : لا شك أن العرض ليس وجودا ضعيفا كان حملا على وجود قوى كالشخص العاجز عن المشى الراكب على ظهر القادر عليه ، وبعبارة أخرى نحو احتياج العرض بالمحل ليس نحو احتياج الجسم بالحيز ، ومن هنا يمكن الخدشة في تعريفه بقولهم ؛ إن العرض وجود في الموضوع ، بل العرض كيف وطور لوجود المحل فهما وإن كانا عند العقل شيئين ، لكن في الخارج أحاط بهما وجود واحد ، نظير ماء الحوض ، فإنه عند العقل ينحل إلى أشياء متكثرة ، لكن أحاط بها في الخارج وجود واحد ومرتبة خاصة من الوجود.
والحاصل أن العرض أمر له النفس الأمرية والواقعية والصدق والكذب وإن لم يكن له وجود على حدة.
فان قلت : ما الفرق بين النفس الأمرية والوجود؟
قلت : النفس الامرية شىء نقول به من باب ضيق الخناق في الموارد التي لا مسرح فيها للوجود كما فى الإمكان والامتناع.
فكذا المعنى الحرفي أيضا كل على المعنى الاسمى وطفيل له في كيفية تعقله في الذهن وهو يكون متخصصا في الذهن بالمعنى الحرفي. والحق أنه يتصور العموم في معنى الحروف وضعا واستعمالا كما يتصور في معاني ألفاظ المصادر التي بمعناها بلا فرق. وتوضيحة : أنه لا شك أن الجوامع كلها منتزعة عن الخارجيات ، ولا شك أن السير الخارجى من البصرة مثلا إذا حللته وجزيته بنظر العقل حصل عندك ثلاثة أشياء :
مخ ۹
الأول السير ، والثاني البصرة ، والثالث خصوصيته كون السير مبتدأ من البصرة ، وهذا الثالث يمكن لحاظه بنحوين :
الأول أن يلحظ ويتعقل مستقلا ومن حيث هو على عكسه في الخارج ، إذ هو فى الخارج عاجز محتاج إلى المتعلق وهو السير مندك فيه ، وفي الذهن تام مستغن عن غيره بحيث يكون لحاظ المتعلق معه وضع شيء فى جنبه.
الثاني أن يلحظ على طبق وجوده الخارجى حذو النعل بالنعل فكما أنه في الخارج محتاج إلى المتعلق وموجود ببركة وجوده ، فكذا يتعقل في الذهن محتاجا إلى متعلق خاص وببركة تعقله ، ولا شك أن هذا أعنى كونه محتاجا في التعقل إلى المتعلق الخاص لا يوجب أن يكون لهذا المتعلق الخاص دخلا في حقيقته ومعناه أصلا بل هو مقدمة لتعقله خارج عن حقيقته.
ألا ترى أن مفهوم الضرب لكونه عرضا يفتقر في الوجود الخارجي إلى شخص زيد مثلا ، ومع ذلك لا يكون لزيد في معناه دخل أصلا ، فإذا لا فرق بين الملحوظين بهذين اللحاظين إلا في مجرد كيفية اللحاظ ، حيث إنه في الأول بنحو الاستقلال على عكس الخارج ، وفي الثاني بنحو العجز والافتقار على طبقه ، ولا يعقل أن معنى واحد بمجرد أن يختلف كيفية لحاظه يختلف حاله في الجزئية والكلية.
فكما أن الملحوظ بالنحو الأول كلي جامع للابتداءات الخارجية العاجزة ، فكذا الملحوظ بالنحو الثاني أيضا كلى جامع لتلك الأفراد بعينها من دون أن يكون دائرته أضيق من الأول أصلا. غاية الأمر أن الأول جامع مستقل للأفراد العاجزة والثاني جامع عاجز للافراد والعاجزة.
إذا عرفت ذلك ، فنقول : وضع لفظ «الابتداء» للجامع بالنحو الأول ولفظة «من» للجامع بالنحو الثانى ، وإذا فلا فرق بينهما في عموم الوضع والموضوع له.
مخ ۱۰
نعم بينهما فرق في كيفية الوضع ، ففي الأول لما يمكن الإشارة إلى نفس المعنى فلهذا لا يحتاج في مقام الوضع إلى الوجه ، بل يشار إلى نفسه ، وفي الثاني لما لم يمكن الإشارة الى نفس المعنى ، ضرورة منافاة الإشارة لما هو عليه من وصف العجز والافتقار ، فلهذا لا بد أن ينتزع منه في مقام الوضع إجمال ويجعل هذا الإجمال وجها له وعبارة عنه ، بحيث يكون الفرق بينه وبين الجامع الذي هو الموضوع له بالإجمال والتفصيل.
وذلك كمفهوم الابتداء المحتاج في التعقل إلى المتعلق. ولا يلزم اتفاق الحاكي والمحكي في جميع الجهات. فيمكن أن يكون الأول معنى اسميا والثاني معنى حرفيا كما في المقام ، كما يمكن أن يكون الأول كليا والثاني جزئيا كما فى مفهوم لفظ الجزئى ومحكيه.
وحينئذ فإن أريد من الخصوصية في معنى «من» خصوصيته بالنسبة إلى معنى لفظ الابتداء فقد عرفت أنهما مفهومان متباينان ، حيث إن الأول مستقل باللحاظ ، والثاني مفتقر فيه إلى الغير ، وإن أريد الخصوصية بالنسبة إلى مقسم القسمين وهو المعنى المجرد عن الكيفيتين الذي لم يوضع له لفظ فهى غير مختصة بمعنى «من» لجريانها فى معنى لفظ «الابتداء» أيضا ، ضرورة أخصية القسم عن المقسم. وأما بالنسبة إلى الخارج فقد عرفت تصادقهما على طائفة واحدة من الخارجيات.
فان قلت : كيف وقد استعمل لفظة «من» في قولك : «سرت من البصرة» في الابتداء الخاص بإضافته إلى السير الخاص.
قلت : لا شك أن المستعمل فيه للفظة «من» في جميع الموارد معنى واحد كلى ، وهو ما وضعه الواضع له ، وهو أصل الابتداء العاجز ، ومن لوازم هذا المعنى أنك أى معنى فعل أو شبهه قربت منه وركبت معه يتقيد به وتصير خصوصية طارئة عليه ،
مخ ۱۱
لكن قد عرفت أن هذا المعنى المتعلق لا ربط له بحقيقة معنى «من» وله دال أخر فكل من الدوال قد استعمل في معناه الموضوع له ، فمادة سرت قد استعملت في مفهوم السير وهيئته في الاتحاد الخارجي ولفظة «من» في مطلق المبدئية العاجزة ، والخصوصية إنما حصلت من تركب هذه المعاني ، كما أن لفظ «الرقبة» في قولك : رقبة مؤمنة قد استعملت في مطلق الرقبة ، والمؤمنة في مطلق المؤمنة ، والخصوصية إنما حصلت من انضمامها.
فإن قلت : موضوعية الجامع المحكي لمفهوم الابتداء المحتاج في التعقل إلى المتعلق هو موضوعية الفرد الخاص الموجود في قولك : «سرت من البصرة» على أن يكون القيد خارجا والتقيد داخلا لصدق ذلك العنوان عليه واتحاده معه.
قلت : حكم الموضوعية لا تسرى من الجامع إلى أفراده ، ألا ترى أن مفهوم الحيوان الناطق موضوع له للفظ الإنسان مع عدم كون أفراده كذلك.
فإن قلت : إن التبادر يقضى بأن معنى «من» هو خصوصيات الابتداء.
قلت : من المعلوم بالوجدان أن معنى «من» لا يتفاوت بتفاوت التراكيب ، وأنه معنى كلى ، وإن كنت شاكا في ذلك فاخبرنى عن كلمة «من» فى قولك : «من البصرة سرت» قبل التلفظ بلفظ «البصرة» هل تفيد معنى عند العرف أو لا؟ وإن أفاد فهل هو إلا مطلق المبدئية العاجزة الناقصة؟
الشبهة الثانية : إنه لا شك أن المعاني الحرفية آلات للحاظ حال متعلقاتها ولازم ذلك كونها مقيدة باللحاظ ، وهو الوجود الذهني ومأخوذيته في حقيقتها ، والماهية إذا أخذت مع الوجود ذهنيا كان أو خارجيا تصير جزئيا حقيقيا فمعنى «من» مثلا على هذا يتعدد بتعدد اللحاظ ، ولو كان متعلقه فيهما شيئا واحدا ضرورة تعدد المقيد بما هو مقيد بتعدد قيده.
مخ ۱۲
الجواب : أنه لا شك أن المفاهيم لا ظرف لها واقعا سوى الذهن ، ضرورة أنه ليس لنا علم وراء عالم الذهن ، والخارج يكون هو عالم المفاهيم ، ولا شك أن الذهني بما هو ذهني مباين للخارجي ، فلا ينطبق عليه ، فصدق المفاهيم على الخارجيات لا يمكن إلا بعد تعريتها عن الوجود الذهني وإلغاء هذا الوصف عنها ، كما هو الحال فيها في النظرة الاولى ، فإن الناظر بهذه النظرة لا يلتفت إلى جهة كونها في ذهنه ، بل يتخيلها أشياء أجنبية غير مرتبطة بعالمى الذهن والخارج ، ويشير إليها ويعبر عن هذا العالم الذي يتخيل في النظرة الاولى بظرف التقرر وإنما يلتفت إلى ذلك شخص آخر يطلع على حاله أو هو بعد انصرافه عن هذه النظرة وتلبسه بالنظرة الثانية.
فالمفاهيم مع كونها واقعا متصفة بالوجود الذهني إذا صرف النظر عن هذه الصفة الكائنة فيها واقعا ينطبق على الخارجيات ، وكما لا بد من تعرية المفاهيم عن هذه الصفة كذلك لا بد من تعريتها عن صفاتها الخاصة بوجودها الذهني الغير الكائنة فيها في الخارج كصفة التجريد أعنى كون المفهوم معرى عن جميع الخصوصيات الخارجية بحيث بقى وحده ومنفردا ، فإن من المعلوم أن المفهوم لا يتلبس بهذه الصفة في الخارج وإنما يتلبس به في الذهن ، ولهذا لو لوحظ معها يباين الخارجيات ، فالمفاهيم مع كونها واقعا بهذه الصفات إذا صرف النظر عن هذه الصفات الكائنة فيها واقعا ينطبق على الخارجيات.
فانقدح بذلك أن مفهوم «من» مثلا كسائر المفاهيم بلا فرق فى أنه بعد التعرية المذكورة يصير كليا صادقا على الكثيرين ، مع أن واقعه موجود ذهني ، فحاله في ذلك حال مفهوم لفظ «الابتداء» بعينه بل ابتلاء الثاني أشد من الأول بالذهن ، حيث إنه على ما عرفت متصف في الذهن بوصف الاستقلال المضاد لما فى الخارج من وصف الاندكاك والافتقار ، فهو مضافا إلى التجريد عن الوجود الذهني يحتاج
مخ ۱۳
إلى التجريد عن هذه الصفة أيضا حتى ينطبق على الخارجيات. وأما مفهوم «من» فهو مشابه للخارج فى وصف الاندكاك ، فلا يحتاج إلى أزيد من التجريد عن الوجود الذهنى.
هذا كله هو الكلام فيما كان من المعاني الحرفية من قبيل التصوريات واما الكلام فيما كان منها من قبيل الانشائيات.
فاعلم أن الطلب مثلا كلما وجد في الخارج فلا محالة يكون محفوفا بالخصوصيات كخصوصية الزمان الخاص والمكان الخاص والمتعلق والطالب الخاص والمطلوب منه الخاص إلى غير ذلك ، ولا شك أن شيئا من هذه الخصوصيات لا دخل له فى حقيقة الطلب أصلا فهيئة الأمر موضوعة لحقيقة وجود الطلب فقط والخصوصيات التي يتلبس الطلب بها فى الخارج خارجة عن معناها.
توضيح ذلك أن الطبيعة منفكة عن الخصوصيات الفردية لا يوجد فى الخارج أبدا فهي مقرونة فى الخارج أبدا بتلك الخصوصيات ولا شك أن حال تلك الخصوصيات حال أصل الطبيعة فى عدم دخل شيء من الوجود والعدم فى حقيقتها ، ولهذا يصح زيد موجود وزيد معدوم مثلا ، فالوجود إذا أضيف إلى الطبيعة فى الخارج فلا محالة يكون له إضافتان إضافة إلى اصل الطبيعة وإضافة إلى الخصوصيات الفردية ففيما نحن فيه قد الغي جهة إضافته إلى الخصوصيات ووضع اللفظ له بلحاظ اضافته إلى اصل الطبيعة ، فنقول : إن وجود اصل الطلب بل كل طبيعة كلي صادق على الكثيرين.
توضيحه ان تعدد أفراد طبيعة واحدة كما لا يكون من قبل تخالفها فى العوارض الشخصية ضرورة أن فرض تشاكلها فى جميع تلك العوارض لا يوجب رفع التعدد عما بينها، كذلك لا يكون من قبل وجود أصل تلك الطبيعة ؛ اذ لو فرض
مخ ۱۴
عدم بقاء شيء سوى وجود أصل تلك الطبيعة بلا زيادة شيء عليه لما كان تعدد فى البين بالبديهة وإنما هذا التعدد من قبل أمر آخر لا يعلمه الا الله تعالى ، فوجود أصل الطبيعة أمر وحداني لا يقبل التعدد ويقبل الصدق على الكثيرين ولفظة «هذا» مثلا موضوعة لحقيقة وجود الإشارة إلى المفرد المذكر ، لكن حيث إن الإشارة تقتضى مقطعا خاصا معينا ذهنيا أو خارجيا فلهذا تقع الإشارة بهذا إلى المفرد المذكر الخاص أبدا ، لا ان يكون للخصوصيات دخل فى معني هذا بحيث لو امكن الإشارة الى كلى المفرد المذكر بكليته لكانت معنى هذا.
وبالجملة فالشبهة في جزئية هذه المعانى هى ان المعانى الانشائية وجودات خارجيه والوجود الخارجى لا يكون إلا جزئيا ، والجواب أن الوجدان شاهد قطعي بأن الوجودات الخارجية بينها قدر مشترك وهو صرف الوجود ، وليست أشياء متباينة بالكنه ، لا جامع لها أصلا بحيث كان اطلاق لفظ الوجود عليها اطلاقا للفظ المشترك علي معانيه ، وهذا الجامع معروض للكثرة فى قولنا : الخبز كثير والماء كثير مثلا ، ضرورة أن كل فرد فرد لا يكون معروضا له ، وكذا مجموع الأفراد ، ومن المعلوم أن هذا الوصف له نفس أمرية ويكون صدقا فى مورد وكذبا فى آخر.
وايضا لو علمت إجمالا بوجود زيد أو عمرو فكل منهما مشكوك الوجود ، فلو لم يكن بينهما جامع الوجود فما يكون متعلق عملك ، ولا شك أن كل طلب خارجى له خصوصيات خارجة عن حقيقته ، والمدعى أنه يمكن أن يلغي الواضع تلك الخصوصيات وينظر إلى نفس الطلب المجرد ويضع الهيئة للطلب المجرد ، وهذا المفهوم أعنى صرف الوجود يشترك مع الماهية في أن كلا منهما جامع ينتزعه العقل من الخارجيات ويجرده عن الخصوصية ويكون وضع اللفظ بإزائهما في حال التجريد ، ويفارقها فى أن الخارج ظرف لوجود الماهية وظرف لنفس الوجود لا
مخ ۱۵
لوجوده وإلا تسلسل ، وفي أن الماهية لكونها معراتا عن الوجود بقسميه ، والعدم تحصل وتوجد فى الذهن ، والوجود ليس ظرفه إلا الخارج وإلا انقلب الذهن خارجا ، وإنما يمكن تعقل صورة الوجود في مقام أخذ الجامع من الوجودات الخارجية.
فان قلت : إذا كان وجود الطلب أو النداء أو الاشارة موضوعا له للألفاظ الخاصة في حال التجريد ، والمفروض أن المفهوم فى حال التجريد يباين الخارجيات فيلزم أن لا تكون الخارجيات موضوعا لها ، وهو خلاف الفرض.
قلت : وصف التجريد ثابت واقعا غير ملحوظ حين الوضع.
فان قلت : لم لا يتسرى من الجامع وصف كونه موضوعا له إلى الفرد.
قلت : من الأعراض ما يعرض على المحل بدون توسيط الذهن ، فان كان معروضه الجامع يتسرى منه إلى الفرد لاتحاده معه بحيث لا ميز بينهما أصلا ، وذلك كما فى حرارة النار ، فصار الفرد الخارجى من النار حارا لاتحاد الجامع معه ، ومنها ما يعرض على الجامع بتوسيط الذهن وهو لا يتسرى إلى الفرد ، وسره أن الجامع إنما يكون معروضا له في الذهن في حال التجريد ، وهو فى هذا الحال مباين للفرد ومحسوب معه اثنين ، ولهذا يصح حمله عليه ، ومقتضي الاثنينية فقدان كل ما وجده الآخر وذلك كما في اختصاص وصف الموضوعية فى قولك «زيد انسان» بزيد ، والمحمولية بالانسان ومن المعلوم أن منشائه ليس إلا اثنينيتهما وكذا وصف الكلية ، ومن ذلك كون الجامع موضوعا له للفظ.
وبالجملة فكل عرض كان عارضا على الجامع علي تقدير التجريد فهو لا يتسرى إلى الفرد لمكان البينونة بينهما ، وما فى الكفاية موافق لما ذكرنا فى المدعى وهو كون كل من الوضع والموضوع له والمستعمل فيه عاما ، إلا أن توجيهه علي ما
مخ ۱۶
يوجد منها هو أن كلمة «من» مثلا موضوعة لعين ما وضع له لفظ الابتداء والوضع مقدمة للاستعمال والاستعمال متأخر رتبة عن الوضع وعبارة عن تعقل المعني مع التلفظ فالواضع قد اشترط بعد وضع «من » أن لا يستعمل في معناه إلا بتعقله آلة للغير ، وفي لفظ الابتداء أن لا يستعمل في معناه إلا بتعقله مستقلا ، فاللحاظ التبعي أو الاستقلالي كيفية للاستعمال أجنبي عن المعني.
وأما علي ما ذكرنا فهما موضوعان لمفهومين متباينين ، وتعدد المفهوم إنما هو بتعدده في التعقل في الذهن ، وهذا سالم عما يرد علي الأول من أنا نتبع الواضع في أصل الوضع ولا نتبعه في الشرط.
ثم إن في الكفاية بعد هذا بلا فصل كلاما حاصله ، أن حال الإخبارية والإنشائية حال اللحاظ الاستقلالي والتبعي في كونهما من كيفيات الاستعمال فتكونان متأخرتين رتبة عن ذات المعني ، فالمعني المستعمل فيه في القضيتين الإخبارية والإنشائية متحد إما من حيث شخص المفهوم وذلك فيما اذا اتحد المواد كما في اضرب وأطلب منك الضرب ، حيث إن الموضوع له فيهما هو مفهوم الطلب إلا أنه اشترط في وضع الثاني أن يكون الاستعمال بطور قصد الحكاية عن ثبوت المعني في موطنه ، وفي وضع الأول أن يكون بنحو قصد التحقق والوقوع ، وإما من حيث سنخه أعنى الكلية والعموم ، وذلك فيما إذا اختلفت المواد كما في زيد قائم ، واضرب ، حيث إن الموضوع له فيهما عام وهو مفهوم قيام زيد في الاول ومفهوم طلب الضرب فى الثاني ، والشرط كالسابق.
وكيف كان فهذا مشتمل على دعاو ثلاثة في كل منها إشكال ، الاولى : أن حيث الإخبارية والإنشائية خارجتان عن ذات المعنى ومتأخرتان رتبة عنه ، والثانية : أن الخبر عبارة عن الحكاية عن ثبوت المعنى في موطنه وهو إما الخارج كما في زيد
مخ ۱۷
قائم وأمثاله وإما الذهن كما في «اطلب» و «اعلم» الإخباريين وأمثالهما ، الثالثة : أن المعاني الإنشائية يوجد ويتحقق باللفظ مع القصد.
أما الإشكال في الاولى فهو أنه لا شك أن مواد مفردات القضايا الخبرية كل واحد منها دال على سهمه من المعنى ، فلو كانت الحكاية عن ثبوت المعنى خارجة عن ذات المعنى بقي الهيئة بلا معنى ، والحال أن لها وضعا نوعيا باتفاق القائل المذكور ، مثلا في قولنا : أطلب منك الضرب مفادات أربعة ، مفاد مادة الطلب ، ومفاد ضمير المتكلم ، ومفاد منك، ومفاد الضرب ، وكل من هذه الألفاظ تدل على مفاده ، وليس هنا شيء آخر غير الحكاية المذكورة حتى يكون هو مفاد الهيئة.
وأما الاشكال في الثانية فهو أن مجرد الحكاية عن ثبوت المعنى في موطنه ليس فارقا بين الجمل الخبرية وغيرها من النسب الناقصة ؛ ضرورة أن زيد قائم وزيد القائم مشتركان في الحكاية عن ثبوت القيام لزيد ؛ بداهة أن الثاني ليس مهملا وبلا معنى ، ولا زيادة للأول عليه لا لفظا ولا معنى.
أما الإشكال فى الثالثة فهو أنه لا سنخية بين اللفظ والمعنى قبل الوضع بحسب الذات حتى يكون علة له ، وإنما شأن اللفظ أن يكون كاشفا وأمارة للمعنى بحسب تعهد الواضع ، والعلية أمر واقعي لا يقبل الجعل ، نعم بالنسبة إلى العنوان الثانوي للحكاية وهو إلقاء المعنى في ذهن السامع يكون اللفظ موجدا وعلة.
والحق أن في نفس المتكلم بالقضية الخبرية تجزما وهو عبارة عن عقد القلب والبناء على تحقق النسبة بين محمول القضية وموضوعها وهو أمر غير الاعتقاد ويجتمع مع الشك والقطع بالخلاف ، والرابطة أعني الهيئة في العربية و (است ونيست) في الفارسية موضوعة أمارة على هذه الحالة النفسانية ، وهذا هو المراد بقيد التمام الذي هو الفارق بين القضايا الخبرية والنسب الناقصة ، حيث إن المتكلم بالقضية
مخ ۱۸
الخبرية زيادة على إلقاء الموضوع والمحمول والنسبة قد جعل نفسه أيضا في قيد السامع ، فيستريح السامع من جهته ويتتبع بنفسه الخارج ؛ فإن وجده مطابقا لقوله صدقه ويتخلص هو من قيده ، وإن وجده مخالفا له كذبه ويقع هو في قيد ملامته ، وهذا بخلاف النسب الناقصة ؛ فإن المتكلم بها في راحة وليس في قيد ولو بأن قال : الزيد المتحقق الثابت قيامه في الخارج بلا شك ولا شبهة ؛ إذ له أن يقول بعد ذلك : ليس بموجود.
ثم كما أن الاعتقاد طريق للواقع وحكاية عنه لمن ظفر به بوسيلة من يعتقده كذلك هذا التجزم الذي كشف عنه الرابطة أيضا حاك عن شيئين ، الأول أن اعتقاد المخبر على طبق خبره ، والثاني أن الواقع كذلك ، واسناد الكذب إلى المنافقين في قوله تعالى : ( والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ) باعتبار الحكاية عن الاعتقاد لا الواقع.
وهذا مراد من قال بأن أجزاء القضية أربعة وجعل الرابع هو الوقوع في القضية المثبتة واللاوقوع في القضية المنفية ؛ فإن من الظاهر أن الوقوع واللاوقوع الخارجيين غير قابلين لجزئية القضية ، فالمراد هو التجزم بالوقوع أو باللاوقوع ، ومن قال بأنها ثلاثة أراد أن التجزم كيفية للنسبة لا أن منها نسبة ثم تعلق بها جزم ، فليس هنا شيئان ، بل شيء واحد وهو النسبة التجزمية الوقوعية أو اللاوقوعية.
والفرق بين مفردات القضية الخبرية وهيئتها أن الاولى موضوعة أمارة للذات المقررة المعراة عن الوجود والعدم ، والثانية موضوعة أمارة لهذه الحالة الموجودة فعلا في النفس بحيث لو لم يكن موجودة حين التكلم كان الرابط مهملة وغير مستعملة في معنى أصلا ، كما أنه لو كانت موجودة حين التكلم بالنسبة الناقصة كانت موضوعة في غير محله ، نظير إرادة المعنى الإنشائي حين التكلم بالخبر.
وأما الإنشاءات فهي مشتركة مع الإخبار في أنها ليست موجدة للمعنى ، ولكنها
مخ ۱۹
تحكي عن حالة موجودة في النفس فعلا ، والفرق بينهما أن هذه الحالة حكاية عن ثبوت نسبة قضيتها في الاخبار ولا يكون حكاية عن ثبوت نسبة قضيتها مع إمكان أن يكون حكاية عن شيء آخر في الإنشاءات ، مثلا هيئة اضرب أمارة على الإرادة النفسانية ، وهذه الإرادة ليس سنخها الحكاية عن ثبوت نسبة الضرب إلى المخاطب في الخارج كالتحريم في قولنا : ضربت ، بل سنخها العلية والاقتضاء لحصول هذه النسبة ، ضرورة أن الإرادة الآمرية مع انقياد العبد وتمكنه علة تامة لحصول الفعل في الخارج ، نعم يكون حكاية عن ثبوت المنفعة في الضرب مثلا ، فلو كان المتكلم بصيغة الأمر غير مريد للفعل كانت الصيغة مهملة غير مستعملة في معنى أصلا.
دفع إشكال : الإرادة عبارة عن البناء القلبى على وقوع الفعل منه إن كان فاعليا أو من غيره إن كان آمريا وهو أمر غير العلم بالصلاح والنفع وغير الحب بالفعل ، نعم يحصل عن هذين أحيانا ؛ فلهذا لا يمتنع ايجاد الإرادة كما هو لازم من عرفها بالعلم ، بل يمكن كالتحريم ، ويجتمع مع عدم محبوبية المراد.
فاعلم أنه كما قد تكون الإرادة موجودة من جهة المبادي الموجودة ، في المتعلق كأن يعلم بوجود المصلحة في الفعل الفلاني ولا يكون له مزاحم فيحصل الحب والشوق والميل إليه في النفس ، فينتهي هذا الميل إلى عقد القلب على إيقاع هذا الفعل في الخارج الذي يعبر عنه بالعزم والإرادة ، كذلك قد يوجد لأجل المبادي الموجودة في نفسها ، فيكون حالها حال الفعل الخارجي ، فكما أنه يوجد من جهة المبادي الموجودة في نفسه فكذا هذه.
والدليل على ذلك أنه لو قيل لأحد : امش من هذا المكان إلى المكان الفلاني بالإرادة اعطك عشرة آلاف دنانير بحيث لو صدر منك المشي بلا إرادة لم أعطك ، و
مخ ۲۰
علم بصدقه في هذا القول ، وفرض أن هذا الفعل لا مزاحم لصدوره من المخاطب أصلا ، فلا شك أنه يحدث بذلك في نفس المخاطب ميل تام إلى هذا الفعل ، أعني : المشي بالإرادة ، فهل هو حينئذ يتأسف عجزه عن الإتيان وفوت تلك المنفعة الكبيرة ، أو يبادر بالإتيان ويدركها؟ الوجدان قاطع بالثانى.
وأيضا لا شك أن إتمام الصلاة ليس أثرا لإقامة العشرة بل للعزم عليها سواء اقيم أم لا، ولا ريب أن المسافر قد يتفق أنه لا يكون له من الإقامة منفعة أصلا ، بل لمحض إتمام الصلاة يعزم على الإقامة ..
فإن قلت : فكيف الحال لو كان نفس الفعل مبغوضا بمبغوضية أشد من محبوبية نفس الإرادة؟.
قلت : مفروضنا صورة اجتماع المبادي في نفس الإرادة ، ومن جملتها عدم المزاحم ، والمبغوضية المذكورة مزاحم ، فالآمر بالأوامر الامتحانية يوجد في نفسه عقد القلب على إيقاع الفعل من الغير ويدرك نتيجته ، ضرورة أن الارادة الآمرية ليست بأقوى من الإرادة الفاعلية غاية الأمر أنه لو كان الفعل مبغوضا له يمنع من وجوده في الخارج.
فإن قلت : الفائدة إنما هي في التلفظ بالأمر وإن لم يكن الإرادة النفسانية موجودة ، فهي مستغن عنها فلا حاجة إلى التكلف في إثبات وجودها.
قلت : الداعي إلى ذلك هو الفرار عن كون تلك الأوامر مهملة ؛ إذ من البعيد ذلك، والوجدان يشهد بأنها على نسق غيرها مستعملة في المعنى ، نعم يكون الأمر فيها سهلا على القول بأن الإرادة قسمان حقيقي ، واعتباري إنشائي ، والثاني تحققه باللفظ مع القصد، فهيئة الأمر مستعملة أبدا في الثاني ، لكن قد عرفت أنه لا معنى لذلك.
مخ ۲۱
ومن هنا ظهر كون الإرادة اختيارية وبطلان ما تمسكوا به على عدم اختياريته من لزوم التسلسل على تقدير اختياريته بتقريب أن الفعل الاختياري ما كان مسبوقا بالإرادة ، فلو كانت الإرادة اختيارية لزم أن تكون مسبوقة بإرادة اخرى وهي بإرادة ثالثة ، وهكذا إلى غير النهاية.
وجه البطلان أن التسلسل إنما يلزم لو لم يكن للإرادة مبدأ سوى الإرادة ، وقد عرفت أنها إما أن تكون موجودة من جهة المبادي في متعلقها ، وإما أن تكون موجودة من جهة المبادي في نفسها ، فعلى الأول فلا شك أن علتها هي تلك المبادي ، وعلى الثاني فحالها حال الفعل الخارجي ، فكما أنه معلول للإرادة فكذا هذه أيضا معلولة لإرادة ثانية وهذه الإرادة الثانية بالنسبة إلى الإرادة الاولى حالها حال الإرادات الآخر بالنسبة إلى متعلقاتها ، فكما أنها معلولة للمبادي في المتعلقات فكذا هذه أيضا معلولة للمبادي في الإرادة الاولى.
وظهر مما ذكرنا أيضا أن الإرادة التي توجد من جهة المبادي في نفسها اختيارية ؛ لأن حالها حال الفعل الخارجي بعنيه. وأما الإرادة التي توجد من المبادي في المتعلق سواء كان إرادة أم فعلا خارجيا فلازم ما ذكرنا أنها اختيارية أيضا.
بيان ذلك أن الشخص كما يكون مختارا وواليا على فعله الصادر عن إرادته ، كذلك قد يصير واليا ومختارا على فعل غيره الغير المستند إلى إرادته ، والدليل على ذلك أن مجيء زيد في الدار فعل له موجد بإرادته لا بإرادة صاحب الدار ، لكن لصاحب الدار أن يمنع من تحقق هذا الفعل بإغلاق الباب ونحوه ، وله ترك ذلك ، فالمجيء وعدم المجيء وإن كان كلاهما صادرا عن إرادة زيد لكن لصاحب الدار دخل وعلية فيهما ، فولاية الوقوع واللاوقوع ثابتة لصاحب الدار ، ولا نعني بالاختيارية إلا ذلك.
مخ ۲۲
فإن قلت : إن صاحب الدار إنما يمانع بالإرادة فهو غير خال عن الإرادة في هذا الفعل الاختياري أعني مجيء زيد وعدم مجيئه ، فحاله حال سائر الأفعال الاختيارية المسبوقة بالإرادة.
قلت : نعم لا يخلو عن الإرادة ، لكن المدعى أن المجيء وعدمه لا يستندان إلى إرادة صاحب الدار إياهما ، بل إلى إرادة زيد.
فإن قلت : مجيء زيد وعدمه ليسا باختياريين لصاحب الدار وإنما اختياريته هو ايجاد المانع وعدمه وبينهما بون بعيد.
قلت : إذا كان إيجاد المانع اختياريا له فثمرته وهو عدم المجيء أيضا اختيارية ؛ فإن المقدور بالواسطة مقدور ، وإذا كان عدم المجيء اختياريا له فوجود المجيء أيضا اختيارية ؛ إذ القدرة إنما يتعلق بالطرفين لا بطرف واحد.
فإن قلت : إن عدم المجيء ليس مسببا عن إيجاد المانع بل عن إرادة زيد إياه ، وبالجملة فالأول ليس في طول الثاني بل في عرضه.
قلت : مدعانا لا يتوقف على إثبات السببية والترتيب بينهما بل يحصل مع كونهما في عرض واحد ، والدليل على ذلك أنه لو تنازع زيد وعمرو في مكان واحد أراد كل منهما الجلوس فيه فلا شك أن زيدا لو خلى المكان لعمرو فجلس العمرو فيه يكون لزيد ولاية على هذا الجلوس ، مع أن عدم جلوسه ليس سببا له.
فنقول إذا صار محبوبية الفعل مشرفة بأن يوجد العزم والإرادة في النفس فلا شك أن الشخص متمكن من أن يمانعها من ذلك ويوجد بسرعة الإرادة المضادة في نفسه قبل أن يوجد المحبوبية إرادة الفعل فيها.
فإن قلت : إن المحبوبية علة تامة للإرادة فكيف يمكن انفكاكها عنها.
قلت : ليس المحبوبية علة تامة للإرادة بل لعدم المزاحم أيضا دخل في تحققها.
مخ ۲۳