وكان معنى الضحية ولم يزل معنى الفدية التي يفتدي بها الإنسان أو المجتمع أو الوطن، وتحمل أيضا معنى التضحية الاختيارية بالذات، من أجل سلامة الجماعة كلها، وفي هذه الحال، يتحول عمل الفادي في نظر الناس بعد موته إلى قمة الأعمال سموا وقدسية، حتى إن تضحيته في كافة الأديان تقريبا، ترفع عنه كل الخطايا، حتى تصل قداسته حد الملائكية. ويطلق على عمله في هذه الحال «استشهاد»، بمعنى الموت أمام الجميع وهم شهود يستشهد بهم على مجد عمله وفدائه. وإذا كان هذا يحدث اليوم، فلا نتعجب من أفراد العشيرة البدائية، وهم يحتمون وراء الذكر الأب القوي، من أحد ضواري الصحراء، أو من نازلة طبيعية قاسية، فيموت أمام أعين الجميع وهم شهود على مجد عمله وقدس فدائيته، فيرفعونه بعد موته إلى رتبة الألوهية الغيبية (مع ملاحظة دور الأحلام في تأكيد هذا المعنى، والفزع الطفولي في حلم يسترجع ذكرى فداء الأب واستشهاده)، ولكن لأن الغيب مسألة غير واضحة المعالم، فقد تمثل البدائيون السلف الراحل في طواطم أنفع الحيوانات، وما أنفع الخروف والتيس للراعي! ذاك الطوطم الذي ظل يحظى بالإكرام والتبجيل، حتى موعد ذكرى استشهاده، فكان أن اجتمع الأبناء حول جسده المذبوح في خروفه الطوطمي، تذكرة لهم بآلام استشهاده، ثم يأكلونه ليحتووه في البطون والحنايا والحشايا، ويستمدون من جسده القدسي مددا وقوة، ويحتوونه داخل أنفسهم وأرواحهم، فهو فيهم وهم فيه (بتعبير المسيح آنف الذكر).
وإلا، لماذا الحزن والبكاء في موسم استشهاد الآلهة؟ ولماذا لطم الخدود وشق الجيوب الذي كان يمارس حزنا على «تموز» و«أدونيس» و«بعل» و«آتيس» و«ميثهرا» و«المسيح» و«الحسين»؟ وهل يتفق هذا الحزن الهائل مع تفسير «فرويد» أنه ذكرى انتصار الأبناء على الأب القاسي؟ ثم لماذا يصل الحزن إلى حد تجريح الأبدان إن لم يكن مشاركة للأب الشهيد في ألمه، واصطناعا لألم ناتج عن عدم مشاركته بطولته ومصيره ؟ ثم لماذا يسمى الفطير القرباني، الذي يقدم في ذكرى موت «المسيح» مرسوما عليه «المسيح» أو صليبه (رمزا لآلام استشهاده) الذي كان يؤكل قبل ذلك في الفسح، لماذا يسمى خبز الحزن
sad bread ؟ أو لماذا يتمادى الحزن ويتحول إلى هستيريا تصل إلى حد إخصاء المؤمن نفسه في مواسم استشهاد آلهة الهلال الخصيب، إذا لم يكن ذلك محاولة متأخرة للاعتراف لهذا الأب بأنه الوحيد الذي يستحق شرف الرجولة، وأن من عداه لا يستحق أن يحمل شرف رجولة لم يشارك بها الشهيد مجد استشهاده؟ ثم لماذا يلقب كل آلهة الخصيب التي سادت مع السيادة الرعوية بلقب «الشهيد»؟ ولماذا تقول الأساطير رغم تباعد المسافات بين هذه الآلهة: إن كلا منهم مات ميتة عنيفة على أنياب وحش بري بالذات؟
حقيقة لا أرى ذلك كله متفقا أو متسقا إلا مع رؤيتي، وإذا كان من غير المنطقي أن تتكرر حادثة قتل الأب على يد أبنائه كما ذهب «فرويد»، فإنه من المنطقي أن تتكرر حادثة استشهاد الأب فداء لعشيرته، باختلاف المكان والزمان، وفوق هذا كله فإن نظريتي تتسق مع آخر الديانات الفدائية الكبرى (المسيحية)، التي اعتقدت في ألوهية المسيح، ذاك الإنسان الذي أعاد إنجيل «متى» أصل نسبه إلى بيت الملكين «داود» وابنه «سليمان»،
67
فكان ملكا منتظرا لليهود يمسح بالزيت المقدس مسيحا، ثم يقودهم ويحررهم من الاستعمار الروماني، لكنه استشهد على الصليب، فاستحق الألوهية؛ لأنه في الاعتقاد المسيحي قد أسلم نفسه للصليب بإرادته فداء لكل الشعب، وإن الإيمان به، وأكل لحمه وشرب دمه ممثلا في خروفه الطوطمي في الفصح، يرفع كل الخطايا عن البشر، خاصة أن عرش ملك اليهود المنتظر كان يسمى عرش «يهوه» إله اليهود؛ لذلك كان المسيح ملكا وإلها.
ومن هنا لا نندهش عند قراءة الأساطير القديمة لآلهة الفداء، أن نجد الإله «تموز» يستشهد وهو في هيئة التيس، وكذلك «بعل» الكنعانيين، وكذلك «أدونيس» الفينيقي الذي قتل على أنياب خنزير بري، وكذلك «آتيس» إله فريجيا الذي استشهد إبان صراعه مع وحش بري. وهو يتلبس هيئة التيس ! (11) تداخل القرابين والأضاحي
يبدو لنا أن الإنسان عندما بدأ يتحول بأسلافه من الطواطم إلى المظاهر الكونية، كان اهتمام المجتمع الرعوي الأبوي بما فوق (والذكر فوق الأنثى والأب فوق الأم)، خاصة مع حياته في بادية تسترشد بالقمر والنجوم ليلا مع الاتساع والرحابة في أفق لا تحده حدود. فتمثل آلهته في السماء (الهلال القمر الإله سين، ولاحظ التشابه بين قرني التيس أو الخروف وبين الهلال) وأرى أن المنطق يقود إلى تمثل الراعي لوجه أبيه الشهيد في القمر لما تحمله تضاريسه من تمثلات كثيرة، كنا نتخيل فيها ما يحلو لنا ونحن صغار، وما أشبه البدائيين بصغار اليوم، إضافة إلى أن اللفظ السامي الرعوي الدال على الغنم أو الماعز كان «سي» بإمالة السين إمالة طويلة، والتي أصبحت «شاه». والتسمية «سي» تلتقي تماما مع تسمية القمر ب «سين» ولم تزل نساؤنا المصريات إلى اليوم يسبقن اسم الزوج ب «سي» بمعنى سيدي أو ربي أو «بعلي» «فلان»!
هذا بينما تركز اهتمام المزارعين أصحاب النظام الأمومي في أمهم الأرض، وعندما رفعوها إلى السماء ليلبسوها بالظواهر الفضائية تمثلوا هذه الأم في كوكب متلألئ ذي دلال هو كوكب الزهرة، ويذهب «فرويد» إلى أن هذه الأم قد رمز لها بالقمر، إلا أني أرى في ذلك بعض الخلط. فارتباط الأنثى الأم بالقمر، جاء فيما أعتقد ليس لكونهم رأوها هي القمر ذاته أو أن رمزها في السماء هو القمر، ولكن لعدم معرفة الزراعيين البدائيين بدور الرجل في الحمل والميلاد، وربما كان اتفاق ظهور القمر - وتبدل أحواله حتى تكامله ثم اختفائه - مع إيقاعات المرأة البيولوجية، سببا في نشوء تفسير لدى البدائيين في المجتمع الأمومي. إن القمر هو الزوج الحقيقي للمرأة، كما يصح أن يكون هذا التصور قد تدعم فيما بعد باندماج المجتمعين الرعوي الأبوي والزراعي الأمومي، فزوجوا الأب الذكر «سين» إله القمر بالإلهة الأنثى الأم الكبرى، وهو ما وجدنا صداه في أسطورة «إينانا» إلهة الجنس وكوكب الزهرة السومرية، إذ جاء فيها أن القمر سين كان زوجا لها ومقابل اسمها «إبناتا = إن + آن» أي سيدة السماء، كان لقب الإله سين «نانا = نن + آن» أي ذكر السماء أو رجل السماء أو سيد السماء.
68
ناپیژندل شوی مخ