وقد اتخذ أغلب الباحثين من مسألة القرابين أحد موقفين:
موقف يرى أن القربان في بداية أمره اقتصر على ثمار النبات، ثم رأى الإنسان - زيادة في تملق آلهته - أن يذبح لها من ماشيته، بحسبان اللحم أعلى من النبات رتبة، ولما لم يكن متيسرا له أن يحمل قربانه ليذبحه عند عروش الآلهة، فقد عمد إلى ذبحه ثم حرقه لتتصاعد مادته دخانا، تشمه الآلهة فتهدأ نفوسها، وزيادة في المغالاة، وإثباتا لخلوص ضميره لآلهته، تحول نحو الدماء البشرية، فأسال بعض دمائه - بجروح مقصودة - على مذابح الآلهة، تقربا وفداء لنفسه ولأولاده وممتلكاته، ثم تحول الأمر إلى ما يشبه النذور، فكان يذبح واحدا من أبنائه لآلهته، إن هي استجابت لرجائه في أمر يرجوه، أو دفعا لشر محتمل الحدوث.
وموقف آخر يرى عكس ذلك تماما، مسايرة لسنة تطور العقل البشري الارتقائية؛ إذ يذهب إلى أن البداية كانت بالضحايا البشرية، عندما كان الإنسان لا يزال يصارع بدائيته الوحشية، وبالتدريج الارتقائي في تطور العقل تحول نحو الحيوان يستبدله بالإنسان؛ ليقدمه لآلهته مذبوحا أو محروقا فداء لنفسه أو للقبيلة أو الموطن، وأحيانا اكتفى بتقديم النبات في حال احتياجه للحيوان.
لكننا نرى أن العقل البشري في تطوره، لم يكن خاضعا - كبقية مظاهر الطبيعة - للسنن والنواميس الفيزيائية البحتة، وإنما لعوامل أخرى كثيرة، لعل أهمها الوسط البيئي والظروف الاجتماعية، بشعابها السياسية والاقتصادية، فلم يسر على وتيرة واحدة في خط ارتقائي صاعد باستمرار، نعم، نحن لا نشك في أن تطوره كان متصاعدا، لكنه كان تصاعدا لولبيا تتخلله العثرات والطفرات والكبوات، وكذلك مسيرة القربان، كانت أحيانا تصعد، فيقتصر القربان على رمز نباتي أو حيواني، وأحيانا تهبط فيبذل الإنسان دمه ودم أبنائه.
فقد تجد في أقدم المراحل التاريخية من ذبحوا أباهم قربانا - فيما يزعم «سيجموند فرويد» - وبعدها تجد - منذ حوالي خمسة آلاف عام فقط - تلك الترتيلة السومرية التي أوردها «ديورانت»،
1
وتقول: «الضأن فداء للحم الآدميين، به افتدى الإنسان حياته.» وبعدها بحوالي ثلاثة آلاف عام، نجد «عبد المطلب بن هاشم» ينذر ابنه «عبد الله» ليقدم قربانا على مذبح آلهته.
وفي قصة التكوين التوراتية، التي دونت قبل أربعة قرون من ميلاد «المسيح» نجد «قابيل» يكتفي في قربانه لإلهه بأبكار فاكهته وأثمارها،
2
وقريبا من القرن الرابع قبل الميلاد، نجد النبي اليهودي «أرميا» يقرر: أن اليهود «قد بنوا مرتفعات للبعل ليحرقوا أولادهم بالنار، محرقات للبعل»،
ناپیژندل شوی مخ