204

اوستوره او ميراث

الأسطورة والتراث

ژانرونه

112

أما من جهتنا، فإن كاتب هذا الجزء من التوراة، يبدو من الكتاب المتأخرين بعض الشيء، الذين عاشوا في كنف الدولة المركزية، وربما الأسر البابلي على الأرجح، بينما كان يتوق لحياة البداوة الأصيلة في العبرانيين، التي تنفر من المركزية والاستقرار، وربما رأى أن دولة «سليمان» لم تجن للعبرانيين سوى الخراب والأسر وانعدام الحريات، فالمركزية تعني حكما واحدا بيد ملك واحد، يتمكن من إنجاز المشاريع الضخمة ومواجهات الطوارئ الملحة، وفيها يتم تقسيم العمل بالعمل الأفضل للإنجازات الكبرى، وهو ما يتضح في كلام الكاتب التوراتي «هو ذا شعب واحد، ولسان واحد لجميعهم، وهذا ابتداؤهم العمل.» بينما كان الكاتب يحتفظ في ذاكرته بالأيام الأولى إبان البداوة ومشتركاتها البدائية، ومجالس الحكم الديمقراطية فيها، التي تسع أكثر من حاكم لأكثر من قبيلة، وكما كان لمجالس الأرض شيخ زعيم، كان لمجالس السماء رب زعيم، فكان في السماء كما كان في الأرض مجلس، يمثله اعتقاد الكاتب الحازم وهو يتحدث بلسان الرب الزعيم لأعضاء مشتركة: «هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم»!

عن ابن كنعان

في بدء المنتهى لدراستنا التي طال سردها، وإن قصرت عن بلوغ كل المبتغى لإيفاء الملوك الأربعة حقهم من البحث والدرس، يحسن بنا أن نقرر للقارئ معلومة لها أهميتها حول الملك الذي لم يزل قيد بحثنا «النمروذ بن كنعان»، وهو أن «نمروذ» الكتاب المقدس يختلف إلى حد بعيد عنه في تراثنا الإسلامي، فلم يرد بشأنه في التوراة سوى نص صغير لا يقارن بما جاء حوله من زيادات ومتراكمات في كتب الأخبار الإسلامية، والنص في كلماته المعدودة بلا زيادة ولا نقصان يقول: «وكوش «ابن حام بن نوح» ولد نمروذ الذي ابتدأ يكون جبارا في الأرض، الذي كان جبار صيد أمام الرب؛ لذلك يقال: كنمرود جبار صيد أمام الرب. وكان ابتداء مملكته بابل وأورك وكلنه في أرض شنعار» (التكوين، 10)، ولا شيء آخر عن «نمرود» بطول الكتاب وعرضه، رغم ميل الكتاب للإطناب والإسهاب والتكرار إلى حد الإملال؛ مما قد يشير إلى أنه ليس ثمة علاقة بالمرة بين هذا «النمرود» وبين «نمروذنا» الفضائي الذي ملك العالم وقتلته بعوضة! لكن إخباريينا لا يتركون لنا فرصة هذا الاحتمال بإصرارهم المتواتر على إفهامنا أنه «النمرود» التوراتي نفسه.

ابن كنعان؟!

وضمن ذلك التقرير - وحتى نستوفيه - لا مندوحة من إحاطة قارئنا علما أنه ليس هناك علاقة البتة بين «نمرود» التوراة وبين برج بابل، كما أنه لا علاقة له البتة بالنبي «إبراهيم عليه السلام»، فرواية الكتاب المقدس تذهب بزمن برج بابل إلى عصر يبعد أجيالا عديدة عن عصر النبي «إبراهيم»، فتبلبل الألسن بعد انهيار برج باب إيل أو باب الإله، أمر حدث في فجر الإنسانية، وليس فيه أي دور يؤديه «النمرود» كبطل يمثل دور الشرير، وليس فيه دور للنبي «إبراهيم عليه السلام» كرمز للخير، وحسب شجرة النسب والسلسال الإبراهيمية الواردة بسفر التكوين، التي وافق عليها الرواة المسلمون ونسخوها بحرفيتها، نجد أنه بين عهد «نمرود بن كوش» حسب النسب التوراتي، وبين عهد خليل الله، عشرة أجيال كاملة، فإبراهيم هو ابن تارح بن ناحور بن سروج بن رعو بن فالج بن عابر بن أرفكشارد بن سام بن نوح، وسام هو عم كنعان؛ لأنه أخو أبيه حام، وكنعان في الإسلاميات هو والد النمرود، فأين هذا من ذاك؟ حتى إذا افترضنا جدلا صدق ذلك التنسيب، وهو افتراض غير علمي، ثم افترضنا أن كلا من هؤلاء النفر في السلسال النبوي قد أنجب ولده وله من العمر عشرون عاما، فإننا نحتاج إلى قرنين من الزمان لنصل من «نمرود» إلى «إبراهيم».

وتبقى تساؤلات تنبني على مناقشة النص، وأول ما يرد منها على الذهن هو: لماذا عقد التراث الإسلامي تلك الصلة بين «النمروذ بن كنعان» رغم أنه في التوراة ابن كوش، وبين النبي «إبراهيم عليه السلام»، رغم أن الآيات الكريمة لم تذكر أبدا اسم الملك الذي حاج «إبراهيم»؟

السؤال مهم، لكن إجابته خطيرة ونتائجها أخطر، خاصة إذا أضفنا إليه التساؤل الآخر وهو: لماذا الإشارة الدائمة للنمروذ بأنه «ابن كنعان» خاصة وبالذات؟ ذلك تأكيد المقدس العبري على أنه «ابن كوش»، ولا شك أن إخباريينا الأفاضل قد طالعوه وعاينوه تماما، بدليل ما نسخوه من الكتاب المقدس نسخا، وهذا الإصرار على أن «نمروذ بن كنعان» يلحقه فورا تساؤل آخر وربما ليس أخيرا هو: لماذا احتسب رواتنا أن صاحب برج بابل هو «ابن كنعان» بالتحديد، رغم عدم النص عليه قرآنيا، ورغم أن مصدرهم الإسرائيلي بدوره لم يقل ذلك؟ الإجابة تضيف للرصيد مزيدا من الاعتوار، فهل كان الأمر مجرد خلط لحابل بنابل في قراءة الكتاب المقدس؟ أم كان هناك قصد؟ وإذا كان ثمة قصد فإلام كان؟ سبق لنا في الدراسات المتقدمة أن أشرنا للإجابة، ولا بأس هنا من الإيضاح مرة أخرى. «ملعون كنعان، عبد العبيد يكون لإخوته.» وصاحب هذا الدعاء اللعان هو النبي «نوح عليه السلام» بالتوراة، وإذا أخذنا مؤقتا بالسبب الظاهر وراء هذه اللعنة، فإننا نجده فيما حكاه الكتاب المقدس عن نوح وأولاده بعد هبوطهم من السفينة، إذ يقول: «وابتدأ نوح يكون فلاحا، وغرس كرما وشرب من الخمر، فسكر وتعرى داخل خبائه، فأبصر حام أبو كنعان عورة أبيه وأخبر أخويه خارجا، فأخذ سام ويافث الرداء ووضعاه على أكتفها ومشيا إلى الوراء، وسترا عورة أبيهما ووجهاهما إلى الوراء، فلم يبصرا عورة أبيها، فلما استيقظ نوح من خمره علم بما فعل به ابنه الصغير، فقال: ملعون كنعان، عبد العبيد يكون لإخوته، وقال مبارك الرب إله سام، وليكن كنعان عبدا لهم» (التكوين، 9).

والعجيب في أمر هذا المقدس العبري، أن النبي يسكر ويتعرى ثم يلقي باللائمة على من شدهته أحواله. أما الأعجب فهو أن الذي أبصر عورته هو ولده «حام»، ومع ذلك قام يصب اللعنة فوق رأس حفيده الصغير «كنعان بن حام»، الذي لم يحضر المشاهدة، ولم يعاين الأمر كما عاينه أبوه، وربما كان أوانها طفلا لا يدرك ما يرى حتى لو رأى، وينتهز المقدس العبري الفرصة المواتية لهول الأمر وعظمته، فيصب البركات بلسان النبي «نوح» على رأس ولده «سام» أبي العبرانيين ليعدل في القسمة، فذاك نال اللعنات، وهذا نال البركات، والعدل بقدر ومقدار.

والشيخ «الصدوق القمي» أحد حجج الشيعة، يؤكد من جهته أسبابا أخرى لهذه اللعنة، إذ لم يكتف «حام» برؤية العورة إنما وقف يضحك ويعريها كلما غطاها «سام»، وهو ما جاء في قوله: «وكان يوما في السفينة نائما، فهبت ريح فكشفت عن عورته فضحك حام ويافث، فزجرهما سام عليه السلام ونهاهما عن الضحك. وكان كلما غطى شيئا تكشفه الريح، كشفه حام ويافث، فانتبه نوح عليه السلام ورآهم وهم يضحكون، فقال: ما هذا؟ فأخبره سام بما كان؛ فرفع نوح عليه السلام يده إلى السماء يدعو ويقول: اللهم غير ماء صلب حام حتى لا يولد له إلا السودان، اللهم غير ماء صلب يافث، فغير الله ماء صلبهما، فجميع السودان حيث كانوا من حام، وجميع الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج والصين من يافث حيث كانوا، وجميع البيض سواهم من سام، قال نوح (عليه السلام) لحام ويافث: جعل الله ذريتكما خولا لذرية سام إلى يوم القيامة ... وسمة البر في ذرية سام ظاهرة ما بقيت الدنيا.»

ناپیژندل شوی مخ