ولعل موقفنا - من الأستاذ الباحث رغم جهده الواضح حقا - نابع من إصرارنا على التزام البحث لأصول المنهج العلمي، بعيدا عن التلاعب بالألفاظ والابتسار، والقفز فوق الأحداث، والانتقائية، والتفسير على الهوى للتيسير في الوصول، والتعصب غير العلمي للعنصر، فجاء جهد المؤلف المشكور كالعهن المنفوش، ولأن هذا أمر يحتاج إلى قول آخر ربما في موضع آخر غير مقامنا هذا، فقد آثرنا الإشارة إليه للتنويه، حتى لا يحيلنا قارئ مجتهد إليه ويحسبنا عنه غافلين، وربما غفلنا عن القول الآخر في الموضع الآخر إن آثر المؤلف السلامة وجنبنا الملامة. وإن المعتاد على التعامل مع كتبنا التراثية، لن يرى في تنسيب «ذي القرنين » عربيا أية غرابة، حيث اعتاد كتابنا - السالفون عافاهم الله - تعريب كل ما يصادفهم، وإرجاعه عنصريا للعنصر العربي، وإن لم يتمكنوا من ذلك، ومع مبدأ أضعف الإيمان، يرجعونه طائفيا إلى عقيدة الإسلام؛ فيحال البطل إلى أي ولد من أبناء نوح حلا للإشكال، وفي ذلك ضمان ولو بعيد لإدراجه ضمن المسلمين عبر إسلام نوح عليه السلام.
ومثال لذلك أن نقرأ اسم فرعون مصر في عهد النبي «إبراهيم عليه السلام» «سنان بن الأشل بن علوان» «من عائلة علوان»! وفرعون «يوسف عليه السلام»: «الريان بن الوليد بن الليث»، أو ربما «الأقرع بن الجدع الجدعاني»، مما لا يمتنع معه أن يكون فرعون «موسى» ليس واحدا ممن أعلمنا بهم التاريخ احتمالا، مثل «تحتمس الثالث» أو «رمسيس الثاني» أو «مرنبتاح» أو «حور محب»؛ لأنه في تراثنا هو «الوليد بن مصعب بن الهلوات»،
71
ومن هنا فلا بأس إن قالوا: إن «ذا القرنين» كان «صعبا» أو «ذا كرب».
وإذ لم يكن العرب بمعزل عن الحضارات الكبرى السالفة، أو الحضارات التي عاصروها، خاصة مع صفتهم كبدو مرتحلين دوما على أطراف الوديان الخصيبة، ومع صفتهم كعمالة رخيصة في المناجم الحدودية لإمبراطوريات الأوان، ومع امتهانهم التجارة القومسيونية في قرون ما قبل الإسلام، فقد أدى ذلك بالعربي إلى الاطلاع على شئون تلك الحضارات ومعتقداتها، لكن الفارق الثقافي الهائل، أفسح مساحة أخرى هائلة للخيال العربي؛ ليسد تلك الفجوة، ويعيد الاتزان المفقود، مع الانبهار بشيء مثل حدائق بابل المعلقة، أو أمام أهرامات مصر، أو قصور فارس، أو سور الصين. فما كان للبدوي في تفرقه القبلي، أن يتصور إمكان قيام أفراد من جنس البشر بإقامة مثل تلك الإنجازات الضخمة، بالقدرات الإنسانية وحدها؛ لذلك، وحتى يتقبل الجاهليون ما شهدوه أو سمعوه، قاموا يملئون الفجوة النفسية والهوة الثقافية بردم من المعجزات؛ ومن ثم لم تكن شخصية كشخصية «الإسكندر»، بإنجازاته خلال عمر قصير وزمن قياسي، لتفلت من صياغة بدوية، فكان أن صاغوا حوله الكثير، حتى ذكر «الدميري» اعتقاد العرب أن رجلا كالإسكندر لا بد كان مؤيدا من قوة عليا ؛ لذلك قالوا: إن أمه وإن كانت آدمية، فإن أباه كان أحد كبار الملائكة المكرمين، ويبدو - فيما يزعم «الدميري» - أن هذا الأثر قد استمر إلى ما بعد الإسلام، فيقول: إن عمر بن الخطاب سمع رجلا ينادي: يا ذا القرنين، فقال: «أفرغتم من أسماء الأنبياء، حتى ارتفعتم لأسماء الملائكة؟»
72
وسنرى لاحقا إلى أي حد تأثرت كتب التراث بالمأثورات الجاهلية، لكن ما نظنه لم يعد خافيا على قارئنا، أننا نذهب تماما إلى كون «ذي القرنين»، الذي سأل عنه «النضر بن الحارث» و«عقبة بن أبي معيط»، والذي أجابهما عنه التنزيل الحكيم، ليس شخصا آخر غير «الإسكندر» المقدوني، القائد اليوناني. وهو ما سنحاول إقامة الدليل عليه، رغم ما يثيره الشيعي «الجزائري»، والسني «ابن تيمية» من غبار، مع تغاضينا بالطبع عن وصف «ابن كثير» لمثل موقفنا بالغباء وعدم معرفة حقائق الأمور.
واستبعادا لصفة الغباء، وحتى لا يدخل جهدنا ضمن ما وصفه ابن كثير بأنه «خطأ كبير، وفساد عريض طويل»، فسنتابع الأمر مع الوحي الرباني الصادق صدق رب العالمين، وما عقب به أهل السلف والصحابة وأصحاب السير والأخبار، فيما بقي عن المؤمن الثاني «ذي القرنين» من أخبار.
من المغرب إلى المشرق
يفسر «فريد وجدي» الآيات حول «ذي القرنين» بقوله: «إن الله مكنه في الأرض، وأطلق يده حرة فيها، ومنحه كل الوسائل والأسباب للوصول إلى غايته، وكانت الغاية الأولى هي الوصول إلى مغرب الشمس، ولما وصلها وجدها تغرب في عين حمئة، أي ذات طين أسود حارة.» ويتطوع «الجزائري» بجمع موجز الأمر من كتب التراث، فيقول: «إن مكان غروب الشمس هذا، هو آخر العمار من الأرض وكان في طريقه يدعو الأمم لعبادة الله ... وكان إذا مر بقرية زأر فيها كالأسد المغضب، فينبعث من قرنيه بروق ورعود وظلمات وصواعق تهلك من يخالفه ... ولما وصل إلى العين التي تغرب فيها الشمس وجدها تغرب فيها، ومعها سبعون ألف ملك يجرونها بسلاسل الحديد والكلاليب، يجرونها إلى البحر من قطر الأرض الأيمن، كما تجر السفينة على ظهر الماء! أما أين هذه العين التي تبيت فيها الشمس ليلها، ففي الأثر المنسوب للإمام علي رضي الله عنه «تغرب الشمس في عين حمئة، دون المدينة مما يلي المغرب مباشرة ...»» ويتطوع الجزائري موضحا اسم المدينة التي مما يلي المغرب، حتى تستكمل المشهدية الهائلة، بأمانة وإصرار يحسد عليهما، فيقول: «... مما يلي المغرب مباشرة، يعني جابلقا.»
ناپیژندل شوی مخ