قبل أن يدعو بها بأكثر من ألف عام إذا كان هو المقدوني، وإذا لم يكن المقدوني، وكان مقدما على «أرسطو» بمدة عظيمة، فإن ذلك يلقي بنا ألفا أخرى إلى الوراء، أو يزيد، كما أن إسلامه يعني وفق المنطق الإسلامي أن يكون «ذو القرنين» نبيا، إذ ينسحق الزمان بكل آناته في لحظة، ويستدير التاريخ عكس حركته الطبيعية ليصبح كل من سلف من أنبياء - على اختلافهم واختلاف ظروفهم واختلاف مجتمعاتهم وبنياتها، واختلاف قضية كل منهم ومنهجه وطريقته - مجرد لحظة في الزمن المحمدي، وباستدارة التاريخ دورة كاملة، تبدأ ثم تنتهي عند نبي الإسلام
صلى الله عليه وسلم ، يصبح جميع الأنبياء أتباعا له مؤمنين بدعوته، ويبيت هو البدء والمنتهى في عالم النبوة، كما أصبح الإله تعالى هو الأول والآخر في عالم الربوبية، وعليه فإن «ابن تيمية» يعني بذلك أن «ذا القرنين» كان واحدا من الأنبياء الكرام، عليهم جميعا الصلاة والسلام، ومثلهم فهو من أتباع نبي الإسلام
صلى الله عليه وسلم ، الذي سبق الجميع وكان غرة من نور في جبين «آدم»، حملتها أصلاب الطاهرين، ومن أجله، وتمهيدا لدعوته، كانت نبوات ورسالات جميع السالفين!
والملحوظة الثانية:
تتمثل في أمرين مؤكدين عند شيخ فقهاء السنة «ابن تيمية»: الأمر الأول أن «ذا القرنين» هو الذي بنى سد يأجوج ومأجوج، والثاني هو أن «الإسكندر» لم يصل إلى بلاد يأجوج ومأجوج، ويقدم على ذلك براهين، أهمها: أنه لم يرد في الوثائق التاريخية عن «الإسكندر المقدوني» ما يفيد بوصوله إلى مكان أو سد أو أمة تحمل هذا الاسم، لكن أن يكون هناك سد أو مكان أو قوم بهذا الاسم وأن «ذا القرنين» وصلهما، فهو عند «ابن تيمية» من المسلمات التي لا ينالها شك؛ لثبوته بالدليل النقلي في كتاب الله الكريم.
أما الملحوظة الثالثة:
فهي أنه - حتى اليوم - لم يعرف بعد ماذا قصد القرآن الكريم بأمة يأجوج ومأجوج، ولا أين موضعهم، ولا أين ذلك السد على الكوكب الأرضي، والآراء في ذلك بها خلف كبير، لكن «ابن تيمية» الذي أفحم كل المناطقة بمنطقه، يجزم - اعتقادا - بكونها مواضع موجودة بل ومعلومة يقينا، لكنها معلومة في الوحي الذي يعرفها جيدا ويعرف أن «ذا القرنين» وصلها. كما أنه معلوم في علم التاريخ القاصر، الذي يجهل هذه المواضع، أن «الإسكندر المقدوني» لم يصل تلك المواضع التي يعلمها الله الذي هو فوق العالمين، لكن الذي لا يماري فيه مكابر، أن «ابن تيمية» نفسه لم يكن لديه أدنى علم بموقع هذه الأمة وسدها. واكتفى بأن يعلمها الله، وآمن بوجودها كما قرر القرآن الكريم، وأن هذه الأمة وسدها مقرونان بذي القرنين في القرآن، لكنها غير مقرونة بالمقدوني؛ لأنه لو كان وصلها لعرفها علم الجغرافيا وعلم التاريخ وكشف عن أمرها، وهو أمر يحمل دلالة قصور علم الإنسان الغر المفتون؛ ومن ثم فلا مناص - حسب منطق الرد على المنطقيين - من الاعتراف بتواضع، أن «الإسكندر المقدوني» «لم يصل لهذا ولا وصل إلى السد»، وهذا دليل كاف على محدودية رحلته ومحدودية علمه بالذات، ذلك العلم الذي تلقاه عن «أرسطو» الفيلسوف، إذا ما قارناه بعلم «ذي القرنين» الذي علمه الله وآتاه الأسباب، وأرشده إلى أماكن لا تعرفها الإنسانية على كوكبها حتى اليوم، وربما لن تعرفها أبدا وفق منطق الرد على المنطقيين.
أما لماذا لقب القرآن الكريم هذا الفاتح العظيم بلقب «ذي القرنين»، فهو أمر لم يسلم بدوره من خلاف، فيذكر «المسعودي»: «أنه سمي بذي القرنين لبلوغه أطراف الأرض، وأن الملك الموكل بجبل قاف سماه بهذا الاسم.» ثم يضيف: «... رضي الله عنه.»
59
ويشرح «ابن كثير» فيقول: «واختلفوا في السبب الذي سمي به «ذا القرنين»، فقيل: لأنه كان في رأسه شبه القرنين، قال «وهب بن منبه»: كان له قرنان من نحاس في رأسه، وهذا ضعيف، وقال بعض أهل الكتاب: لأنه ملك الفرس والروم، وقيل: لأنه بلغ قرني الشمس شرقا وغربا وملك ما بينهما من الأرض ...
ناپیژندل شوی مخ