اورګانون جدید
الأورجانون الجديد: إرشادات صادقة في تفسير الطبيعة
ژانرونه
إهداء
تصدير
1 - شذرات في تفسير الطبيعة وفي مملكة الإنسان1
2 - شذرات في تفسير الطبيعة أو في مملكة الإنسان
إهداء
تصدير
1 - شذرات في تفسير الطبيعة وفي مملكة الإنسان1
2 - شذرات في تفسير الطبيعة أو في مملكة الإنسان
الأورجانون الجديد
الأورجانون الجديد
ناپیژندل شوی مخ
إرشادات
صادقة في تفسير الطبيعة
تأليف
فرانسيس بيكون
ترجمة
عادل مصطفى
إهداء
إلى شباب الثورة المصرية
ثمة لحظات في تاريخ الأمم كأن الزمن فيها يقفز ولا يمشي.
لحظات انتقال بين قديم استنفد نفسه وجديد يريد أن يولد وأن يتملص من الوأد.
ناپیژندل شوی مخ
لحظات «بيكونية» تهيب بالعقول الشريفة أن تنفض عنها أوهام الماضي، وألا تتمادى في تجريب المجرب، وألا تعرف للفكر الميت إلا كرامة واحدة، الدفن.
التقدم البشري كله يمكن أن يرد إلى هذه اللحظات الفذة التي تطفر فيها العقول الجسورة؛ لكي تخرج من كهفها الآسن، وتتلقى إبر النور، ولا تجعل بينها وبين الطبيعة وسطاء يدعون وصلا بليلى، ولا بينها وبين الواقع حجبا من الكتب المغبرة التي تنقل السل ولا تنقل الحقيقة.
فإلى هذه العقول الفتية الباسلة أقدم لهم إمامهم فرنسيس بيكون في هذا النص الشهير من عيون الفكر الغربي.
عادل مصطفى
17 / 3 / 2012
تصدير
أولئك الذين تصدوا للإفتاء في شأن الطبيعة وكأن أمرها محسوم ومفروغ منه - سواء كان ذلك عن ثقة ساذجة بالنفس أو عن تقعر أكاديمي - أولئك قد ألحقوا بالفلسفة وبالعلوم أشد الضرر، لقد نجحوا في خنق البحث وإغلاق باب التساؤل بقدر نجاحهم في نشر رأيهم وكسب الآخرين إليه، ولم تؤت جهودهم ذاتها من شيء يعوض ما جنت أيديهم بإخماد جهود غيرهم وإفسادها، أما أولئك الذين اتخذوا اتجاها معاكسا وقالوا باستحالة معرفة أي شيء، سواء عقدوا هذا الرأي من جراء بغضهم لقدامى السوفسطائيين أو من جراء تردد العقل أو حتى من فرط المعرفة، فمن المؤكد أنهم قدموا لذلك أسبابا لا يستهان بها، إلا أنهم لم يصدروا في رأيهم من مقدمات صحيحة، ولم ينتهوا إلى استنتاجات منصفة، فقد جرفهم الحماس والتكلف بعيدا عن كل حدود الاعتدال والقصد. أما اليونانيون الأقدم (الذين ضاعت كتاباتهم) فقد اتخذوا موقفا أكثر حصافة بين هذين الطرفين - بين التوقح الدوجماطيقي واليأس الارتيابي ... بين التجرؤ بالإفتاء في كل شيء واليأس من معرفة أي شيء - وبرغم شكواهم الكثيرة المريرة من مصاعب البحث وغموض الأشياء فقد ظلوا قابضين على الجمر
1
مواصلين مسعاهم ومشتبكين مع الطبيعة، وقد ارتأوا، فيما يبدو، أن أفضل طريقة لحسم هذه المسألة ذاتها - مسألة إمكان المعرفة - هي المحاولة لا المجادلة، غير أنهم هم أيضا اتكئوا على قوة أفهامهم وحدها، فلم يبتنوا قواعد محددة، وعولوا في كل شيء على حدة الذهن وعلى النشاط العقلي الدائب والمتصل.
إن منهجي، على الرغم من صعوبته في التطبيق، سهل في الشرح، منهجي هو أن نرسي درجات متزايدة من اليقين ... أن نستمر في الأخذ بشهادة الحواس، ونساعدها ونحصنها بنوع من التصويب، ولكن نرفض، بصفة عامة، العملية العقلية التي تتلو الإحساس، بل نفتح مسارا جديدا للعقل أكثر وثوقا يبدأ مباشرة من الإدراكات الحقيقية الأولى للحواس نفسها. كانت هذه بدون شك وجهة أولئك الذين أولوا المنطق دورا كبيرا، فمن الواضح أنهم كانوا يبحثون عن نوع من الدعم للعقل، ولا يأمنون لعملياته الطبيعية التلقائية، غير أن هذا العلاج يأتي متأخرا جدا بعد أن استفحل الداء وضاع كل شيء، وأصبح العقل من خلال عادات الحياة اليومية ومداولاتها محشوا بمذاهب فاسدة وأوهام فارغة، هنالك يسهم فن المنطق، الذي وصل للإنقاذ متأخرا وسقط في يده، يسهم في تثبيت الأخطاء لا في كشف الحقيقة،
ناپیژندل شوی مخ
2
ولا يبقى ثمة إلا أمل واحد للخلاص: وهو أن نبدأ العمل العقلي كله من جديد، ولا نترك العقل لحاله وطبيعته منذ البداية، بل نرشده في كل خطوة، وننفذ العمل كما لو كان يتم بمساعدة آليات ميكانيكية، فلو أن الناس في الأمور الميكانيكية شرعوا في العمل بأيديهم وحدها دون قوة الأدوات وعونها، مثلما يفعلون بلا تردد في الأمور الفكرية؛ إذ يركنون إلى أفهامهم وحدها، لما استطاعوا أن ينجزوا شيئا مهما بذلوا من جهد ومهما تآزروا فيه، وأود أن نتوقف لحظة عند هذا المثال لنتأمل كما لو أننا ننظر في مرآة، ولنسأل : لو أن هناك مسلة هائلة الجرم دعت الحاجة إلى نقلها (لتزيين احتفال نصر أو أي أبهة من هذا القبيل)، وأن على الناس أن تشرع في العمل بأيديها العارية، ألن يراهم أي مشاهد واع مجرد مجانين؟ ولو أنهم لجئوا إلى استدعاء مزيد من الأفراد عساهم أن يقدروا على ذلك، ألن يراهم المشاهد أكثر جنونا؟ فإذا ما راحوا عندئذ ينتقون فيستغنون عن الأيدي الأضعف ويقصرون العمل على الأقوياء الأشداء، ألن يراهم المشاهد غارقين في الجنون؟ وأخيرا، إذا لم يقنعوا بذلك فقرروا الاستعانة بفن الرياضة، واشترطوا أن يأتي كل رجالهم بأيد وأذرع وعضلات مدهونة بالزيت ومدلكة وفقا لأصول فن الرياضة، ألن يصيح المشاهد متعجبا مما يتجشمونه من أجل أن يضفوا رشدا ومنهجا على الجنون؟ غير أن هذا بالضبط هو حال الذين يمضون في أمر الفكر - بنفس الصنف من الجهد المجنون والتآزر العابث - حين يأملون خيرا من العدد ومن الإجماع أو من نبوغ الأفراد وحدة ذكائهم، وحين يحاولون باستخدام المنطق (الذي هو بمثابة نوع من الفن الرياضي) تقوية عضلات الفهم، ولكن بالرغم من كل هذه الدراسة وكل هذا الجهد، فمن البين لكل ذي نظر أنهم لا يستخدمون إلا الذهن الغفل طوال الوقت، غير أن كل عمل يدوي عظيم يستحيل أداؤه بدون أدوات ومعدات، سواء لزيادة قوة كل فرد أو لتوحيد قوى الأفراد.
بعد هذه المقدمات الضافية أخلص إلى نقطتين أود أن أوجه إليهما عناية الناس فلا يغفل عنهما أحد؛ الأولى: إنه من حسن الطالع فيما أرى، والذي يزيل النقمة والامتعاض، أنني لا أمس الوقار الواجب للقدماء ولا أنتقص منه، فيما أبسط تصوراتي وفيما يسعني في الوقت نفسه أن أحصد ثمار تواضعي؛ ذلك أنني إذا قلت إن لدي شيئا أفضل مما يقدمه القدماء بينما أنا أتخذ نفس الطريق الذي اتخذوه، فمعنى ذلك أن هناك مجالا للمقارنة والمنافسة بيننا، لا مفر بأي تفنن لفظي من الإقرار به، من حيث النبوغ والذكاء، ورغم أن هذا ليس أمرا جديدا أو غير جائز (إذ لو كان ثمة أي شيء أساءوا فهمه أو أخطئوا وضعه، فما الذي يمنعني، إذ أستخدم الحرية المتاحة للجميع، من أن أنتقدهم وأبين خطأهم؟) إلا أن المنافسة، على عدالتها وجوازها، ستكون غير متكافئة نظرا لقدراتي المحدودة، ولكن ما دام هدفي هو فتح طريق جديد للفهم لم يطرقوه ولم يعرفوه، فإن الأمر يختلف: فلا تحزب في الأمر ولا منافسة، وما أنا إلا دليل يشير إلى الطريق، وهو مركز ضئيل النفوذ ويعتمد على نوع من الحظ أكثر مما يعتمد على القدرة أو النبوغ، هذه النقطة تتعلق بالأشخاص، أما النقطة الأخرى التي أود أن أذكر الناس بها فتتعلق بالموضوع نفسه.
فليكن هناك إذن مصدران للمعرفة وسبيلان لنشرها (ربما لمصلحة الاثنين)، وليكن هناك بنفس الطريقة عشيرتان أو فصيلان من طلاب الفلسفة - فصيلان غير متعاديين أو مغتربين الواحد عن الآخر، بل مرتبطان بروابط التعاون المتبادل - ليكن هناك باختصار منهج لتنمية المعرفة وآخر لاكتشافها، أما بالنسبة لأولئك الذين يفضلون المنهج الأول، سواء بدافع العجلة أو لدواعي العيش، أو بسبب قصور قدرتهم العقلية عن استيعاب المنهج الآخر والتمكن منه (وهو بالضرورة حال الأغلبية العظمى)، فأنا أتمنى لهم النجاح فيما يصبون إليه. أما إذا كان هناك من لا يقنع بالركون إلى استخدام المعرفة التي تم اكتشافها بالفعل، ويأملون في مزيد من الاختراق لكي يقهروا خصما في جدل، بل لكي يقهروا الطبيعة في عمل، وباختصار لا لكي يقدموا آراء مدبجة وجيهة، بل لكي يعرفوا معرفة يقينية برهانية، فلينضموا إلي كأبناء حقيقيين للمعرفة، حتى نعبر الأفنية الخارجية للطبيعة، تلك التي وطئتها الحشود، فنفتح منفذا في النهاية إلى غرفها الداخلية، ولكي أوضح ما أعنيه وأقربه إلى الأفهام بإعطائه اسما، فقد رأيت أن أسمي أحدهما «استباق العقل»
anticipation of the mind ، والآخر «تفسير الطبيعة»
interpretation of nature .
يبقى لدي طلب ينبغي أن أتقدم به، لقد حرصت من جانبي كل الحرص على أن تأتي اقتراحاتي التي سوف أعرضها لا صائبة فحسب بل واضحة سهلة الولوج إلى عقول الناس (تلك التي تم استهواؤها وتعويقها على نحو عجيب)، غير أني لا أشق على الناس (وبخاصة في مثل هذا التجديد الكبير للمعرفة والعلوم) إذ أسألهم فضلا من جانبهم في المقابل: أن من يرغب في إبداء رأي أو إصدار حكم بخصوص أفكاري في هذا العمل، سواء من خلال ملاحظاته الخاصة، أو من خلال حشد من الثقات، أو خلال صور البرهان (التي اكتسبت اليوم سلطة القوانين القضائية)، فلا يحسبن أن بوسعه أن يفعل ذلك بلا تدقيق، أو وهو بصدد شيء آخر، إنما عليه أن ينظر في الأمر مليا، عليه هو نفسه أن يجرب الطريق الذي أصفه وأعبده، عليه أن يتمرس بدقة الطبيعة التي تبينها الخبرة، عليه أخيرا أن يصحح، بتؤدة ومهل، العادات الفاسدة والمتجذرة للعقل، وعندئذ فقط فليستخدم (إذا شاء) حكمه الخاص، وقد شرع في أن يكون سيد نفسه.
فرنسيس بيكون
الكتاب الأول
شذرات في تفسير الطبيعة وفي مملكة الإنسان1
ناپیژندل شوی مخ
(1) الإنسان هو الموكل بالطبيعة والمفسر لها، وهو بهذه الصفة لا يملك أن يفعل أو يفهم إلا بالقدر الذي تتيحه له ملاحظته التي قام بها لنظام الطبيعة، سواء كان ذلك في الواقع أو في الفكر، وليس بوسعه أن يعرف أو يعمل أكثر من ذلك. ••• (2) ليس لليد وحدها ولا للعقل وحده أية قدرة تذكر، إنما يجري العمل بالأدوات والعدد، تلك التي يحتاجها الفكر بقدر ما تحتاجها اليد، ومثلما تقوم أدوات اليد بحفز حركتها وترشيدها، كذلك تقوم أدوات العقل بحفز الفهم أو وقايته. ••• (3) المعرفة البشرية والقدرة البشرية صنوان؛ لأن الجهل بالعلة يمنع المعلول، ذلك أن الطبيعة لا يمكن قهرها إلا بإطاعتها، وما يعد علة في مجال الفكر النظري يعد قاعدة في مجال التطبيق. ••• (4) كل ما يستطيع الإنسان أن يعمله لكي يحقق نتائج
2
هو أن يضم أجساما طبيعية معا أو يفرقها، والطبيعة تتولى الباقي داخليا. ••• (5) يتمرس بالطبيعة من أجل نتائج عملية كل من الميكانيكي والرياضي والفيزيائي والخيميائي
3
والساحر؛
4
ولكن جميعهم - كما يشي الحال - لا يظفر إلا بنتاج هزيل ونجاح قليل. ••• (6) إنه لمن الخطل والتناقض الذاتي أن نتوقع أن الأشياء التي لم تنجز حتى الآن على الإطلاق يمكن أن تنجز، ما لم يكن ذلك بوسائل لم تجرب حتى الآن قط. ••• (7) تبدو نواتج العقل واليد وفيرة جدا إذا قدرت بعدد الكتب والسلع، غير أن كل هذا النتاج المتنوع لا يعدو أن يكون تنقيحا مفرطا واستنباطات من عدد قليل مما تمت معرفته، ولا يعبر عن عدد المبادئ
5 (المكتشفة). ••• (8) وحتى النواتج التي اكتشفت بالفعل إنما تم اكتشافها بطريق المصادفة والخبرة أكثر مما هو بطريق العلوم؛ ذلك أن علومنا الراهنة لا تعدو أن تكون تنظيمات لائقة لأشياء سبق اكتشافها، وليست طرائق للكشف أو موجهات لعمليات جديدة. ••• (9) سبب وأصل كل خلل تقريبا في العلوم هو هذا وحده: أننا في غمرة إعجابنا الخاطئ وإطرائنا لقوى العقل البشري لا نبحث عن دعائم حقيقية له. ••• (10) الطبيعة تفوق دقة الحواس والفكر أضعافا، بحيث إن جميع تلك التأملات والتنظيرات والشروح المنمقة التي ينغمس فيها الناس هي محض جنون، كل ما في الأمر أنه لا أحد هنالك ليلحظها. ••• (11) مثلما أن العلوم في وضعها الحالي لا تجدي نفعا في اكتشاف نتائج جديدة، كذلك المنطق الذي بحوزتنا لا جدوى منه في اكتشاف العلوم. ••• (12) نسق المنطق الحالي يفيد في تثبيت وترسيخ الأخطاء (القائمة على الأفكار السائدة) أكثر مما يفيد في البحث عن الحقيقة، ومن ثم فإن ضرره أكبر من نفعه. ••• (13) لا ينطبق القياس
syllogism
على مبادئ العلوم، ولا جدوى من تطبيقه في المبادئ الوسطى، إذ إنه لا يجاري الطبيعة في دقتها، وهو من ثم يفرض الموافقة على القضية دون أن يمسك بالأشياء. ••• (14) يتكون القياس من قضايا، والقضايا من كلمات، والكلمات هي مقابلات رمزية لأفكار، وعليه فإذا كانت الأفكار نفسها (وهذا هو جذر المسألة) مختلطة ومنتزعة برعونة من الوقائع، فلن يكون هناك ثبات فيما يبنى فوقها، لذا فلا أمل لنا إلا في الاستقراء
ناپیژندل شوی مخ
induction
الصحيح. ••• (15) لا شيء صحيح في أفكارنا سواء في المنطق أو في الفيزياء، فلا «الجوهر» ولا «الكيف» ولا «الفعل» ولا «العاطفة» ولا «الوجود» نفسه أفكار واضحة، وأقل منها وضوحا بكثير فكرة «ثقيل»، «خفيف»، «كثيف»، «رقيق»، «رطب»، «يابس»، «كون»، «فساد»، «جذب»، «طرد»، «عنصر»، «مادة»، «صورة»، وما إلى ذلك، كأنها أفكار وهمية وغير محددة. ••• (16) إن أفكارنا عن الأنواع الأقل عمومية - مثل: «الإنسان»، «الكلب»، «الحمام»، وعن الإدراكات المباشرة للحواس، مثل: «الحار»، «البارد»، «الأسود»، «الأبيض» - لا تخدعنا كثيرا، ولكن حتى هذه قد تضطرب في بعض الأحيان من جراء تدفق المادة وتغيرها وامتزاج الأشياء بعضها ببعض، وكل ما عدا ذلك مما استخدمه البشر إنما هو زيغ وضلال، وغير مستمد ولا مستخلص من الأشياء على نحو قويم. ••• (17) وليس تشييد «المبادئ»
axioms
بأقل تهافتا وزيغا من تكوين الأفكار، ولا حتى تلك المبادئ نفسها التي تعتمد على الاستقراء المعتاد،
6
غير أن التهافت والزيغ يبلغ مبلغا أعظم من كل ذلك في حالة المبادئ والقضايا الدنيا المستقاة من الأقيسة. ••• (18) إن كل ما اكتشف حتى الآن في العلوم ينسجم على قدر الأفكار الشائعة، ولكي نحقق اختراقا إلى الأعماق الباطنة والقصية من الطبيعة يتعين أن نستخلص الأفكار والمبادئ من الأشياء بطريقة أكثر وثوقا وحذرا، ويتعين اتخاذ إجراء فكري أكثر وثوقا وصحة. ••• (19) ليس هناك - ولا يمكن أن يكون - سوى طريقتين اثنتين للبحث عن الحقيقة وكشفها: الأولى تقفز من الحواس والجزئيات إلى أكثر المبادئ عمومية، ثم تنطلق من هذه المبادئ - وقد سلمت تسليما بصدقها - لكي تقرر المبادئ الوسطى وتكشفها، وهذه هي الطريقة الراهنة، أما الثانية فتستمد المبادئ من الحواس والجزئيات، ثم ترتقي في صعود تدريجي غير منقطع حتى تصل في النهاية إلى أكثر المبادئ عمومية، وهذه هي الطريقة الصحيحة وإن لم يجربها أحد حتى الآن. ••• (20) إذا ترك الفكر لحاله فإنه يمضي في نفس الطريق الذي يتخذه عندما يسترشد بالمنطق (أي يتخذ أولى الطريقتين السابقتين)، فالعقل مغرم بالقفز إلى العموميات لكي يتجنب العناء؛ ولذا فإنه سرعان ما يضيق ذرعا بالتجربة، غير أن هذه الآثام تتفاقم بالمنطق؛ لأنه يغري بالمماحكة والمراء. ••• (21) حين يترك الفكر لحاله لدى عقل يقظ وحصيف وجاد (وبخاصة إذا كان غير معوق بمذاهب سائدة)، فإنه يبذل محاولة ما في الطريق الصحيح، لكن دون جدوى؛ ذلك أن الفكر بغير توجيه ومساعدة لا حول له على الإطلاق، ولا قدرة على فض لغز الأشياء. ••• (22) إن كلتا الطريقتين تبدأ من الحواس والجزئيات وتخلص إلى أعلى العموميات، غير أنهما مختلفتان اختلافا بعيدا: فالأولى تمر على التجربة والجزئيات مرور الكرام، أما الثانية فتتمعن فيها كما يجب وتوليها كل اهتمامها. الأولى تضع منذ البداية تعميمات معينة مجردة وعقمية، أما الثانية فتصعد درجة درجة إلى تلك المبادئ التي هي أعم حقا في نظام الطبيعة. ••• (23) إن البون لبعيد بين أوهام العقل البشري وأفكار العقل الإلهي، أي بين ما هو مجرد آراء فارغة وما هو السمة أو البصمة الحقيقية المطبوعة على المخلوقات كما نجدها في الطبيعة. ••• (24) هيهات لمبادئ تم استخلاصها بالجدل أن تعين أحدا في كشف نتائج جديدة؛ لأن الطبيعة أدق وأحذق من الجدل أضعافا مضاعفة، أما المبادئ التي تستخلص من الجزئيات بطريقة وافية قويمة فإنها تشير وتومئ بسهولة إلى جزئيات جديدة، وهذا ما يضفي الفاعلية على العلوم. ••• (25) المبادئ المستخدمة في الوقت الحالي هي مبادئ مستمدة من حفنة من الخبرة ونزر يسير من الجزئيات الشائعة الحدوث، وكثيرا ما توسع وتمط لكي تنطبق عليها، ومن ثم فلا عجب إذا كانت هذه المبادئ لا تقودنا إلى جزئيات جديدة، فإذا ما صادفنا مثال مضاد لم نلحظه من قبل ولم نعرفه، فإننا ننقذ المبدأ ونبقي عليه بواسطة تمييز عبثي حيث يكون التصرف الأقوم هو أن نصوب المبدأ نفسه.
7 ••• (26) آثرت - من باب الإيضاح - أن أطلق على الاستدلال الذي يطبقه الناس عادة على الطبيعة اسم «استباق الطبيعة»
anticipation of nature ؛ لأنه عمل طائش ومبتسر، وأن أطلق على ما هو مستنبط من الأشياء على نحو منهجي صحيح اسم «تفسير الطبيعة»
interpretation of nature . ••• (27) تتمتع الاستباقات
anticipations
ناپیژندل شوی مخ
بقوة ورسوخ يكفي لانتزاع الإجماع، فحتى إذا أصيب البشر جميعا بالجنون بدرجة متساوية فسيكون بوسعهم الاتفاق فيما بينهم اتفاقا كبيرا. ••• (28) الحق أن «الاستباقات» أقوى بكثير على كسب الإجماع من «التفسيرات»، فلأنها مستقاة من أمثلة قليلة (شائعة مألوفة في الأغلب) فهي تمس الفهم على الفور وتملأ المخيلة، على حين أن التفسيرات - إذ تستجمع وقائع شديدة التنوع والتناثر - لا يمكنها أن تنفذ إلى الفهم للتو، ومن ثم فلا مناص لها من أن تبدو للنظرة الشائعة شيئا صعبا وناشزا وأشبه بأسرار الإيمان. ••• (29) يحق للعلوم القائمة على الآراء والاعتقادات أن تستخدم «الاستباقات» والجدل؛ ذلك أن غايتها أن تفرض القبول (بالقضية) لا السيطرة على الأشياء. ••• (30) حتى لو اجتمعت كل العقول من كل العصور وتآزرت جهودها جميعا فلن يتحقق تقدم كبير في العلم من طريق «الاستباقات»؛ ذلك أن الأغلاط المتجذرة في جبلة العقل الأولى لا سبيل إلى الشفاء منها بأية جهود أو علاجات لاحقة مهما بلغت عبقريتها. ••• (31) من العبث أن نتوقع أي تقدم كبير في العلوم من عملية إضافة وتطعيم
8
أشياء جديدة على القديمة، لا بد لنا من بداية جديدة
9
تتناول الأسس نفسها إذا شئنا ألا نظل ندور إلى الأبد في حلقة لا تفضي إلى أي تقدم يذكر. ••• (32) كرامة المؤلفين القدماء محفوظة، وكذا كرامة الجميع، فنحن لا ندخل في مقارنة من حيث العقول أو الملكات، بل مقارنة في الطرق والمناهج، ونحن لا نضطلع بدور القاضي بل بدور المرشد. ••• (33) فلنقلها صراحة: ليس ثمة حكم صائب يمكن إصداره على منهجنا ولا على الكشوف الناجمة عنه بواسطة تلك «الاستباقات» التي تشكل طريقة التفكير السائدة في الوقت الحالي، فليس ثمة ما يحملنا على أن نتقبل حكم المنهج الذي هو نفسه يحاكم.
10 ••• (34) ولا هو بالأمر السهل أن نشرح أو نفسر ما نحن بصدده؛ ذلك أن كل ما هو جديد سيظل يفهم من خلال الإشارة إلى ما هو قديم. ••• (35) كان بورجيا
11
يقول عن حملة الفرنسيين إلى إيطاليا: إنهم جاءوا بطباشير في أيديهم كي يسموا بها مساكنهم، وليس بأسلحة كي يقتحموا بها طريقهم، وبنفس الطريقة أريد لفلسفتي أن تنفذ بهدوء إلى العقول الممهدة لتلقيها، فلا محل للدحوضات ما دمنا نختلف في المبادئ الأولى وفي الأفكار ذاتها، بل وحتى في صور البرهان. ••• (36) ليس أمامنا سوى طريقة واحدة بسيطة لطرح قضيتنا: هي أن نضع الناس وجها لوجه أمام الجزئيات نفسها وأمام تسلسلها ونظامها المطرد، وعليهم بدورهم أن يتخلوا برهة عن أفكارهم ويبدءوا في التعارف مع الأشياء. ••• (37) يتفق منهجنا في بداية الطريق بعض الشيء مع منهج أولئك الذين أنكروا إمكان الوصول إلى اليقين، غير أنهما يفترقان في النهاية غاية الاختلاف ويتعارضان كل التعارض، فهم يذهبون ببساطة إلى أننا لا يمكننا أن نعرف شيئا، وأنا أيضا أذهب إلى أننا لا يمكننا أن نعرف شيئا يذكر في الطبيعة بواسطة المنهج المستخدم الآن، إلا أنهم يمضون إذاك لكي يدمروا سلطة الحس والفهم، بينما نمضي نحن لكي نبتكر لهما مساعدات ونزودهما بدعائم. ••• (38) تلك الأوهام والتصورات الزائفة - التي استحوذت على الذهن البشري وما زالت متجذرة فيه بعمق - لا ترين فقط على عقول البشر فلا تجد الحقيقة منفذا إليها، بل حتى إذا وجدت الحقيقة منفذا فإن هذه الأوهام سوف تلاحقنا مرة أخرى في عملية تجديد العلوم نفسها، وتضع أمامنا العوائق ما لم يأخذ البشر حذرهم ويحصنوا أنفسهم منها قدر ما يستطيعون. ••• (39) ثمة أربعة أنواع من «الأوهام»
12
تحدق بالعقل البشري، وقد قيضت لكل منها اسما بغرض التمييز بينها، فأطلقت على النوع الأول: «أوهام القبيلة»
ناپیژندل شوی مخ
idols of the tribe (idola tribus) ، وعلى النوع الثاني: «أوهام الكهف»
idols of the cave (idola specus) ، وعلى الثالث: «أوهام السوق»
idols of the market place (idola fori) ، وعلى الرابع: «أوهام المسرح»
idols of the theatre (idola theatric) . ••• (40) لا شك أن تكوين التصورات والمبادئ بواسطة الاستقراء الصحيح هو العلاج الناجع للتخلص من الأوهام وإزالتها، إلا أن التعرف على الأوهام هو أيضا أداة مفيدة للغاية، فدراسة «الأوهام»
idols
هي بالنسبة إلى «تفسير الطبيعة» مثل دراسة «الدحوضات السوفسطائية»
sophistic refutations
13
بالنسبة للمنطق العادي. ••• (41) «أوهام القبيلة» (أوهام الجنس)
idola tribus
ناپیژندل شوی مخ
مبيتة في الطبيعة البشرية وفي القبيلة البشرية نفسها أو الجنس البشري نفسه، فالرأي القائل بأن حواس الإنسان هي مقياس الأشياء إنما هو رأي خاطئ، فالإدراكات جميعا، الحسية والعقلية، هي - على العكس - منسوبة إلى الإنسان وليس إلى العالم، والذهن البشري أشبه بمرآة غير مستوية تتلقى الأشعة من الأشياء وتمزج طبيعتها الخاصة بطبيعة الأشياء فتشوهها وتفسدها. ••• (42) أما «أوهام الكهف»
idola specus
فهي الأوهام الخاصة بالإنسان الفرد، إن لكل فرد - بالإضافة إلى أخطاء الطبيعة البشرية بعامة - كهفا أو غارا خاصا به يعترض ضياء الطبيعة ويشوهها، قد يحدث هذا بسبب الطبيعة الفريدة والخاصة لكل إنسان، أو بسبب تربيته وصلاته الخاصة، أو قراءاته ونفوذ أولئك الذين يكن لهم الاحترام والإعجاب، أو لاختلاف الانطباعات التي تتركها الأشياء في أذهان مختلفة: في ذهن قلق متحيز، أو ذهن رصين مطمئن ... إلخ. الروح البشرية إذن (بمختلف ميولها لدى مختلف الأفراد) هي شيء متغير، وغير مطرد على الإطلاق، ورهن للمصادفة العشواء، وقد صدق هيراقليطس حين قال: إن الناس تلتمس المعرفة في عوالمهم الصغرى الخاصة، وليس في العالم الأكبر أو العام. ••• (43) ثمة أيضا أوهام تنشأ عن تواصل الناس واجتماعهم بعضهم ببعض، والتي أسميها «أوهام السوق»
idola fori ، بالنظر إلى ما يجري بين الناس هناك من تبادل واجتماع، فالناس إنما تتحادث عن طريق القول، والكلمات يتم اختيارها بما يلائم فهم العامة، وهكذا تنشأ مدونة من الكلمات سيئة بليدة تعيق العقل إعاقة عجيبة، إعاقة لا تجدي فيها التعريفات والشروح التي دأب المثقفون على التحصن بها أحيانا: فما تزال الألفاظ تنتهك الفهم بشكل واضح، وتوقع الخلط في كل شيء، وتوقع الناس في مجادلات فارغة ومغالطات لا حصر لها. ••• (44) وأخيرا هناك تلك الأوهام التي انسربت إلى عقول البشر من المعتقدات المتعددة للفلسفات المختلفة، وكذلك من القواعد المغلوطة للبرهان، وهذه أسميها «أوهام المسرح»
idola theatric ، ذلك أني أعتبر أن كل الفلسفات التي تعلمها الناس وابتكروها حتى الآن هي أشبه بمسرحيات عديدة جدا تقدم وتؤدى على المسرح، خالقة عوالم من عندها زائفة وهمية، ولا ينسحب حديثي على الفلسفات والمذاهب الرائجة اليوم فحسب، ولا حتى على المذاهب القديمة، فما يزال بالإمكان تأليف الكثير من المسرحيات الأخرى من نفس النمط وتقديمها بنفس الطريقة المصطنعة وإضفاء الاتفاق عليها، ما دامت أسباب أغلاطها الشديدة التعارض هي أسباب مشتركة إلى حد كبير، ولا أنا أقصر حديثي على الفلسفة الكلية، وإنما أشمل أيضا كثيرا من العناصر والمبادئ الخاصة بالعلوم، والتي اكتسبت قوتها الإقناعية من خلال التقليد والتصديق الساذج والقصور الذاتي، غير أننا ينبغي أن نعرض لكل صنف من الأوهام على حدة بتفصيل أكبر؛ كيما نحصن الفهم البشري ضدها. ••• (45) من طبيعة الفهم البشري الخاصة أنه يميل إلى أن يفترض في العالم نظاما واطرادا أكثر مما يجده فيه، ورغم وجود أشياء كثيرة في الطبيعة فريدة في نوعها وعديمة النظير، فإن الذهن البشري يخترع لها أشباها ونظائر وصلات لا وجود لها، ومن هنا يأتي الوهم القائل بأن جميع الأجرام السماوية تتحرك في دوائر مكتملة، بينما تستبعد تماما المسارات اللولبية والمتمعجة (إلا في الاسم)، ومن هنا كذلك إدخال عنصر النار ومداره؛ لكي يكون رباعيا مع العناصر الثلاثة الأخرى التي تدركها الحواس، وكذلك فرض نسبة عشرة إلى واحد على العناصر (كما يطلق عليها) بشكل اعتسافي، والتي هي نسبة كثافاتها على التوالي، وما إلى ذلك من الهراء، ولا تقتصر هذه الحماقة على النظريات، بل تمتد أيضا إلى التصورات البسيطة. ••• (46)
14
من دأب الفهم البشري عندما يتبنى رأيا (سواء لأنه الرأي السائد أو لأنه يروقه ويسره) أن يقسر كل شيء عداه على أن يؤيده ويتفق معه، ورغم أنه قد تكون هناك شواهد أكثر عددا وثقلا تقف على النقيض من هذا الرأي، فإنه إما أن يهمل هذه الشواهد السلبية ويستخف بها، وإما أن يختلق تفرقة تسول له أن يزيحها وينبذها؛
15
لكي يخلص - بواسطة هذا التقدير السبقي المسيطر والموبق - إلى أن استنتاجاته الأولى ما زالت سليمة ونافذة؛ ولذا فقد كان جوابا وجيها ذلك الذي بدر من رجل أطلعوه على صورة معلقة بالمعبد لأناس دفعوا نذورهم ومن ثم نجوا من حطام سفينة؛ عساه أن يعترف الآن بقدرة الآلهة، فما كان جوابه إلا أن قال: «حسنا، ولكن أين صور أولئك الذين غرقوا بعد دفع النذور؟!»
16
ناپیژندل شوی مخ
وهكذا سبيل الخرافة، سواء في التنجيم أو في تفسير الأحلام أو الفأل أو ما شابه، حيث تجد الناس - وقد استهوتهم هذه الضلالات - يلتفتون إلى الأحداث التي تتفق معها، أما الأحداث التي لا تتفق - رغم أنها الأكثر والأغلب - فيغفلونها ويغضون عنها الطرف، على أن هذا الأذى يتسلل بطريقة أشد خفاء ودقة إلى داخل الفلسفة والعلوم، حيث يفرض الحكم الأول لونه على ما يأتي بعده، ويحمله على الإذعان له والانسجام معه، ولو كان الجديد أفضل وأصوب بما لا يقاس، وفضلا عن ذلك - وبغض النظر عن ذلك الهوى والضلال الذي ذكرت - فإن من الأخطاء التي تسم الفكر الإنساني في كل زمان أنه مغرم ومولع بالشواهد الموجبة أكثر من الشواهد السالبة،
17
حيث ينبغي أن يقف من الاثنين على حياد. والحق أنه في عملية البرهنة على أي مبدأ صحيح يكون المثال السلبي هو أقوى المثالين وأكثرهما وجاهة وفعالية. ••• (47) إن أكثر ما يشغف الفهم البشري هو تلك الأشياء التي تلفت العقل وتنفذ إليه فورا وفجأة، فتجعل المخيلة تمتلئ للتو وتتمدد، ثم يتراءى له (أي الفهم) ويفترض أن كل شيء آخر هو بطريقة ما - وإن تكن خفية غير مدركة - شبيه بتلك الأشياء القليلة التي استحوذت على العقل، أما في الترحال إلى أمثلة بعيدة وغير متجانسة تختبر المبادئ اختبار النار فإن الفكر بطيء جدا وغير مؤهل ما لم تحمله على ذلك قواعد قاسية وسلطة نافذة. ••• (48) إن الفهم البشري في نشاط دائب، ولا يمكنه أن يتوقف أو يستكن، وما يزال يبتغي المضي قدما وإن كان ذلك بغير جدوى؛ ولذا فمن غير المتصور أن يكون هناك حد ما للعالم أو نقطة نهاية؛ إذ يبدو لنا دائما - بما يشبه الضرورة - أن هناك شيئا ما وراء ذلك الحد أو النهاية، ولا هو من المتصور أيضا كيف تدفقت الأبدية نزلا إلى يومنا هذا؛ لأن هذا التحديد المتفق عليه للانهاية في الماضي واللانهاية في المستقبل لا يمكن أن يصمد، إذ سيترتب أن هناك لا نهاية أكبر من لا نهاية أخرى، وأن اللانهائية تتآكل وتؤول إلى نهائية، وثمة نفس الصعوبة فيما يتعلق بقابلية الخطوط للانقسام إلى ما لا نهاية، والناجمة عن انفلات فكرنا وعجزه عن التوقف،
18
على أن هذا الانفلات من جانب العقل يكون أكثر إيذاء في عملية اكتشاف العلل، فعلى الرغم من أن المبادئ الأكثر عمومية في الطبيعة ينبغي أن تكون وقائع خاما هي كما وجدت عليه ولا يمكن أن تحال حقا إلى علة، إلا أن الفهم البشري في عجزه عن التوقف ما يزال يتلمس شيئا ما سابقا في نظام الطبيعة، ثم هو في غمرة جهاده في المضي إلى ما هو أبعد إذا به يرتد إلى ما هو أقرب مأخذا، أعني إلى العلل الغائية،
19
تلك التي تمت بالصلة إلى طبيعة الإنسان أكثر مما تمت إلى طبيعة العالم، وهي من جراء هذا المنشأ قد أفسدت الفلسفة على نحو عجيب، على أن الفيلسوف الذي يلتمس العلل في العموميات القصوى ليس أقل خرقا وسطحية من ذلك الذي يتوانى عن التماسها في الأشياء التابعة والفرعية. ••• (49) الفهم الإنساني ليس مجبولا من ضياء صرف،
20
وإنما هو مشرب بالإرادة والعواطف،
21
ناپیژندل شوی مخ
من هنا تأتي المعرفة التي يمكن أن تسمى «معرفة حسب الطلب»، فالإنسان أميل دائما إلى تصديق ما يفضله، ولذا فهو ينبذ الأمور الصعبة؛ لأنها تجشمه الصبر في البحث، وينبذ الاعتدال لأنه يضيق حدود أمله، وينبذ التعمق في الطبيعة؛ لأنه - أي الإنسان - مرتهن للخرافة، ويرفض نور التجربة؛ لأنه متغطرس مكابر يظن أن العقل لا يليق به أن يهدر وقته في أشياء مبذولة متغيرة، ويرفض كل ما هو غير تقليدي خوفا من رأي العامة، صفوة القول: إن العاطفة تدمغ العقل وتصبغه بطرائق لا حصر لها، وطرائق خفية تند عن الإدراك في بعض الأحيان. ••• (50) غير أن أكبر عائق للفهم البشري على الإطلاق وأكبر زيغ إنما يأتي من بلادة الحواس وقصورها وخداعها، فالأشياء التي تمس الحواس لها الأرجحية على الأشياء التي لا تمسها مباشرة مهما علا شأنها، هذا ما يجعل التأمل يتوقف في أغلب الأحوال حيثما يتوقف البصر، بحيث لا يؤبه للأشياء غير المرئية، وبذلك يبقى كل فعل الأرواح المكنونة في الأجسام الملموسة
22
خفيا غير ملحوظ من الناس، وخفية بالمثل تلك التغيرات البنيوية
23
الأدق في أجزاء الأشياء الكثيفة (والتي تشيع تسميتها بالتغير ولكنها في حقيقة الأمر حركة جسيمات دقيقة)، ولكن ما لم يتم بحث هذين الأمرين المذكورين وإخراجهما إلى واضحة النهار فلن يمكن تحقيق نتائج ذات قيمة في الطبيعة، وكذلك الطبيعة الجوهرية للهواء المشاع ولجميع الأجسام الأقل كثافة من الهواء (وهي كثيرة جدا) فهي أيضا مجهولة تقريبا؛ ذلك أن الإحساس بحد ذاته كليل وعرضة للخطأ، ولا تفيده كثيرا الأدوات المستخدمة لتوسيعه وشحذه، أما التفسير الأصدق للطبيعة فإنما يتحقق بواسطة الشواهد وبواسطة التجارب المناسبة وذات الصلة، حيث يحكم الحس على التجربة وحدها، بينما تحكم التجربة على الطبيعة والشيء ذاته. ••• (51) الفهم البشري يميل بطبيعته الخاصة إلى التجريد، ويفترض جوهرا (ثابتا) وواقعا فيما هو عابر ومتغير، غير أنه أفضل لنا أن نشرح الطبيعة إلى أجزاء من أن نجردها، وهذا ما فعلته مدرسة ديمقريطس التي حققت تقدما أكبر من غيرها في اختراق الطبيعة، إن المادة - وليست الصور - هي ما ينبغي الالتفات إليه: المادة وبنيتها وتغيرات هذه البنية والفعل المحض
24
وقانون هذا الفعل، أما الصور فما هي إلا وهم العقل البشري، إلا إذا أطلقنا اسم «الصور» على قوانين الفعل. ••• (52) هكذا هي أوهام القبيلة، التي تنشأ إما عن اطراد جبلة الروح البشرية أو عن تحيزاتها أو قصور ملكاتها أو حركتها الدائبة أو عن تأثير الانفعالات أو عن عجز الحواس أو عن شكل انطباعاتها. ••• (53) أما «أوهام الكهف»
idola specus
فتصدر عن الطبيعة الخاصة لعقل كل فرد وجسمه، وعن ثقافته أيضا وعاداته وظروفه، ورغم أن هذه الفئة متنوعة ومركبة إلا أننا سنتناول منها تلك الجوانب الأكبر خطرا وأشد إفسادا لصفاء الفهم. ••• (54) يقع الناس في غرام قطاعات معينة من المعرفة والأفكار، إما لأنهم يظنون أنفسهم مؤلفيها ومبتكريها، وإما لأنهم أنفقوا فيها جهدا كبيرا وصاروا على إلف كبير بها، إذا عمد مثل هؤلاء الناس إلى الفلسفة والتأملات ذات الصبغة الكلية فإنهم يلوون بها ويفسدونها لكي تلائم خيالاتهم المسبقة، ولدينا من أرسطو نموذج واضح لهؤلاء: لقد أخضع فلسفة الطبيعة تماما لمنطقه، فجعل منها شيئا خلافيا ولا خير فيه، ولدينا أيضا جماعة الخيميائيين، فقد شيدوا فلسفة خيالية ضيقة النطاق للغاية، قوامها بضع تجارب في الأتون، وكذلك جلبرت
Gilbert
ناپیژندل شوی مخ
25
فبعد أن كرس جهدا كبيرا في دراسة الحجر المغناطيسي وملاحظته توجه للتو إلى تلفيق فلسفة كاملة أخضعها لموضوعه الأثير. ••• (55) أما أكبر الفروق بين العقول وأكثرها جذرية في مجال الفلسفة والعلوم، فهو أن بعض العقول أقدر وأميل إلى ملاحظة الفروق بين الأشياء، وبعضها الآخر إلى ملاحظة التشابهات بينها، فالعقول المدققة الدءوبة بوسعها تثبيت الانتباه وتركيزه فترات طويلة على كل فارق طفيف، أما العقول الرصينة الاستدلالية فبوسعها التفطن إلى أخف التشابهات وأعمها والمضاهاة بينها، وكلا الصنفين من العقول عرضة للشطط، سواء بالتشبث بالفروق التافهة أو بخيالات التشابه. ••• (56) ثمة عقول أشربت بإعجاب لا حدود له بالقديم، وعقول أخرى مغرمة بالجديد، وقلما نجد من يقف موقفا متوازنا فلا يبخس القدماء إنجازاتهم الصائبة ولا يزدري الإسهامات الوجيهة للمحدثين، وهذا خسران مبين للعلوم والفلسفة، فهذه ليست أحكاما مستبصرة بل مجرد ولوع بالقديم أو بالجديد، أما الحقيقة فينبغي ألا تلتمس في حظوة زمن بعينه، فهذا أمر غير مضمون، بل في ضوء الطبيعة والتجربة، وهو شيء أزلي، علينا إذن أن نجتنب مثل هذه الأهواء ونعيذ فكرنا أن ينساق إليها. ••• (57) إن ملاحظة الطبيعة والأجسام في أجزائها البسيطة من شأنها أن تكسر الفهم وتشتته، في حين أن ملاحظة الطبيعة والأجسام في تكوينها الكلي وبنيتها المركبة من شأنه أن يذهل الفهم ويوهنه، وهذا التمييز نراه في أوضح صورة عند مقارنة مدرسة ليوسيبوس وديمقريطس
26
بغيرها من الفلسفات، فهذه المدرسة مشغولة بالجزئيات بحيث أغفلت البنية إلى حد كبير، بينما المدارس الأخرى منبهرة بمشاهدة البنية فلا تكاد تنفذ إلى بساطة الطبيعة. ينبغي إذن أن نتناوب هذين الصنفين من الملاحظة، بحيث نجعل الفهم ثاقبا وشاملا في الوقت نفسه، ونتلافى العيوب المذكورة لكل من الطريقتين والأوهام التي تنجم عنها. ••• (58) كذا فليكن الحذر في الملاحظة، الكفيل بنفي أوهام الكهف، تلك الأوهام التي تنشأ في معظمها من غلو في التركيب أو شطط في التقسيم، ومن التحيز لعصور تاريخية بعينها، ومن كبر موضوعات الملاحظة أو صغرها،
27
وبصفة عامة: فعلى كل دارس للطبيعة أن ينظر بارتياب إلى كل ما يفتن عقله ويأخذ بلبه، وأن يجعل ذلك همه الأكبر في هذا الصنف من البحث؛ كيما يحفظ ذهنه صافيا ومتوازنا. ••• (59) غير أن «أوهام السوق»
idola fori
28
هي أكثر الأوهام إزعاجا، تلك الأوهام التي انسربت إلى الذهن من خلال تداعيات الألفاظ والأسماء؛ ذلك أن الناس يظنون أن عقلهم يتحكم في الألفاظ، بينما الحقيقة أيضا أن الألفاظ تعود وتشن هجوما مضادا على الفهم، وهذا ما جعل الفلسفة والعلوم مغالطة وعقيمة؛ لأن الألفاظ تكونت في معظمها لكي تلائم قدرة العامة من الناس، وهي تحدد الأشياء بخطوط تقسيم تسهل على الذهن العامي، وحالما أراد ذهن أكثر حدة أو ملاحظة أكثر تدقيقا أن تغير هذه الخطوط لتلائم التقسيمات الأصوب للطبيعة فإن الألفاظ تعترض الطريق وتقاوم التغيير، ومن ثم تنتهي الحوارات الرفيعة والجليلة - في كثير من الأحيان - إلى خلافات حول ألفاظ وأسماء؛ ولذا فمن الأسلم (اقتداء بحذر علماء الرياضيات) أن نبدأ منها ونضفي عليها النظام باستخدام التعريفات، إلا أن مثل هذه التعريفات لا يمكنها أن تعالج هذا الخلل إذا كان موضوع الدراسة هو الطبيعة والمادة؛ لأن التعريفات نفسها تتكون من ألفاظ والألفاظ تولد ألفاظا؛ ولذا فإن علينا أن نلجأ إلى شواهد محددة وإلى تسلسلها المطرد ونظامها، كما سنذكر حالا عندما نعرض للمنهج والطريقة فيما يتصل بتكوين التصورات والمبادئ. ••• (60) هناك نوعان من الأوهام تفرضهما اللغة على الفهم، وهما إما أسماء لأشياء لا وجود لها (فإلى جانب الأشياء التي تفتقر إلى أسماء؛ لأنها لم تلاحظ بعد، هناك أيضا أسماء تفتقر إلى أشياء؛ لأنها وليدة افتراضات خيالية لا تناظرها أشياء في الواقع)، وإما أسماء لأشياء موجودة ولكنها مختلطة وغير محددة؛ لأنها انتزعت من الأشياء على عجل ودون تدقيق، من الصنف الأول لفظ
fortune
ناپیژندل شوی مخ
29
و«المحرك الأول» و«الأفلاك الكوكبية»
30
وعنصر «النار»، إلى غير ذلك من الخيالات التي تعود في نشأتها إلى النظريات الزائفة العقيمة، هذا الصنف من الأوهام يسهل التخلص منه، إذ من الممكن استئصالها بواسطة التفنيد المستمر أو التخلي عن النظريات نفسها، أما الصنف الثاني من الأوهام فهو معقد ومتجذر؛ لأنه ناتج من تجريد مغلوط وأخرق، ولنأخذ كمثال كلمة «رطب»، وننظر إلى أي حد تتسق الأشياء المشار إليها بهذه اللفظة، وسنجد أن كلمة «رطب» لا تعدو أن تكون علامة تستخدم بتسيب وخلط لتدل على أفعال متباينة لا يجمعها أي اطراد أو قاسم مشترك، فهي تشير إلى ذلك الذي ينشر نفسه حول شيء آخر، وذلك الذي لا تخوم له ولا ثبات، وذلك الذي يستسلم في كل اتجاه، وذلك الذي يسهل انقسامه وتناثره، وذلك الذي يسهل تدفقه وتحريكه، وذلك الذي يسهل التصاقه بجسم آخر وترطيبه، وذلك الذي يرد بسهولة إلى الحالة السائلة، أو هو صلب يسهل انصهاره، ومن ثم فإذا أتيت إلى استعمال هذا اللفظ فستجد من جهة أن اللهب رطب، ومن جهة أخرى أن الهواء رطب، ومن أخرى أن التراب الدقيق رطب، ومن أخرى أن الزجاج رطب،
31
هكذا يتبين بسهولة أن هذا التصور قد انتزع على عجل من الماء والسوائل الشائعة والعادية فحسب بدون أي تمحيص واجب.
ثمة درجات من القصور والخطأ في الألفاظ، فأقل فئات الألفاظ خطأ أسماء المواد وبخاصة النوع الأقل تجريدا وأكثر تحديدا (تصور الطباشير والطين حسن، وتصور التراب سيئ)، تليها أسماء الأفعال مثل «يولد» «يفسد» «يغير»، أما أكثر الفئات خطأ فأسماء الكيفيات (باستثناء الموضوعات المباشرة للإحساس)، مثل: «ثقيل» «خفيف» «مخلخل» «كثيف» ... إلخ، على أنه في جميع الفئات تكون بعض التصورات بالضرورة أفضل قليلا من البعض الآخر، وفقا لكثرة أو قلة الأشياء التي تقع في نطاق الحواس. ••• (61) أما «أوهام المسرح»
idola theatric
فليست فطرية ولا هي تسترق إلى الذهن سرا، وإنما يتم إدخالها علنا وتقبلها عن طريق النظريات الخرافية والقواعد المغلوطة للبرهان، ولكن ليس بما يتفق مع ما أعلنته آنفا أن أحاول أو أضطلع بتفنيدها، فما دمنا لا نتفق حول المبادئ ولا حول البراهين فلا محل للجدل، وهذا من حسن الحظ بقدر ما يحفظ للقدماء كرامتهم، فأنا لا أنتقص من قدرهم، إذ لا يعنيني في مذهبي كله إلا الطريق الذي يتبع، وكما يقول المثل: «الأعرج على الطريق الصحيح يسبق العداء على الطريق الخطأ.» بل إن الذي يتخذ الطريق الخطأ يزداد ضلالا وبعدا عن المقصد كلما كان أمهر وأسرع.
إن منهجي في الكشف مصمم بحيث لا يعول على حدة الموهبة الفردية وقوتها، بل إنه يكاد يسوي بين الملكات والأفهام، فمثلما أن رسم خط مستقيم أو دائرة دقيقة يعتمد كثيرا على ثبات اليد ودربتها بينما لا حاجة لأي ثبات ودربة إذا ما استخدمت مسطرة أو فرجار، كذلك الأمر بالضبط في منهجي المقترح، ولكن رغم أني لا أعرض لتفنيدات بعينها، إلا أن شيئا ما ينبغي أن يقال، أولا عن مذاهب هذه النظريات وأنواعها، ثم عن وجود دلائل خارجية على ضعفها، وأخيرا عن أسباب مثل هذا الفشل ومثل هذا التشبث الطويل بالخطأ والإجماع عليه، أتغيا من ذلك أن أجعل المسلك إلى الحقيقة أقل عثارا، والفهم البشري أكثر نزوعا إلى التطهر ونبذ الأوهام. ••• (62) هناك الكثير من «أوهام المسرح» أو أوهام النظريات، ويمكن أن تكون هناك وربما ستجد فيما بعد أوهام أخرى كثيرة، إذ لولا أن عقول الناس قد انشغلت أحقابا طويلة بالمسائل الدينية واللاهوتية، والحكومات المدنية (وبخاصة الملكيات) قد أبغضت مثل هذه التجديدات حتى في الفكر (بحيث لا يمكن لأحد أن ينخرط فيها دون خطر وضرر، ولا يعدم الثواب فحسب بل يلحقه الازدراء والحسد)، لولا ذلك لكانت أدخلت - بلا شك - مذاهب فلسفية ونظرية أخرى كثيرة مثل تلك التي ازدهرت مرة بوفرة وتنوع كبير عند اليونان، فمثلما يمكن تشييد نظريات خيالية كثيرة من ظواهر السماء، فمن الممكن - بل والأيسر - تشييد اعتقادات متنوعة كثيرة من ظواهر الفلسفة، وفي مسرحيات هذا المسرح الفلسفي قد تلاحظ نفس الشيء الموجود في مسرح الشعراء: أن القصص المؤلفة للمسرح أكثر تماسكا ووجاهة وإمتاعا من القصص الحقيقية من التاريخ، وأقرب لرغبات الناس.
ناپیژندل شوی مخ
وبصفة عامة فإن الناس يأخذون كأساس لفلسفتهم: إما أشياء كثيرة جدا من موضوعات قليلة، وإما أشياء قليلة جدا من موضوعات كثيرة، وفي كلتا الحالتين تتأسس الفلسفة على أساس ضيق جدا من التجربة والتاريخ الطبيعي، وتقرر الأحكام بناء على شواهد أقل مما يجب، فالفلاسفة العقليون يلتقطون من التجربة تنويعة من الأمثلة العامة لم يتم فهمها بدقة ولا فحصها ووزنها بعناية، ويعتمدون فيما تبقى على التأمل والنشاط الفكري.
وهناك أيضا فئة أخرى من الفلاسفة ما يكادون يعكفون بعناية وصدق على بضع تجارب حتى يسارعوا باستنباط فلسفاتهم منها ويشيدوها تشييدا، ويلوون كل الوقائع الأخرى بطرق عجيبة لكي تنسجم مع هذه الفلسفات.
وهناك بعد صنف ثالث من الفلاسفة يحملهم إيمانهم ووقارهم على أن يخالطوا فلسفتهم باللاهوت والتعاليم، من هؤلاء من بلغ بهم الغرور مبلغا جعلهم يحاولون اشتقاق العلوم من الأرواح والعفاريت. ثمة إذن ثلاثة مصادر للخطأ وثلاثة أنواع من الفلسفة الزائفة: السوفسطائية
32
والتجريبية العشوائية والخرافية. ••• (63) وأوضح مثل على الصنف الأول من الفلاسفة هو أرسطو، الذي أفسد الفلسفة الطبيعية بمنطقه، وشيد العالم بمقولاته، ونسب إلى الروح البشرية - أنبل الجواهر جميعا - جنسا يقوم على كلمات من المقصد الثاني،
33
وحول التفاعل بين الكثيف والمخلخل (الذي به تشغل الأجسام محلا أكبر أو أصغر) إلى تلك التفرقة الباردة بين القوة والفعل، وأكد أن لكل جسم حركة فريدة خاصة به، فإذا شارك في حركة أخرى فإن هذه الحركة تعود إلى علة خارجية، وفرض على الطبيعة أشياء أخرى لا حصر لها وفقا لهواه، فقد كانت تعنيه دائما التعريفات والدقة في صياغة قضاياه أكثر مما تعنيه الحقيقة الداخلية للأشياء، يتجلى هذا في أوضح صورة إذا ما قارنا فلسفته بغيرها من الفلسفات الذائعة بين اليونان: فال «هومويوميرا»
34 (الأجزاء المتماثلة) عند أنكساجوراس، والذرات عند ليوسيبوس وديمقريطس، والسماء والأرض عند بارمنيدس، والتنافر والانسجام عند أمبدوقليس، وتلاشي الأجسام في الطبيعة غير المتمايزة للنار ثم عودتها إلى الصلابة مرة أخرى عند هيراقليطس، كل أولئك يحمل داخله شيئا من الفلسفة الطبيعية ومن حس الطبيعة والتجربة والأجسام، في حين لا تكاد تسمع في فيزيقا أرسطو أي شيء عدا مصطلحات المنطق، والتي أعاد تدويرها مرة أخرى في ميتافيزيقاه تحت تسمية أكثر جلالا، زاعما أنه واقعي
realist
أكثر منه اسميا
ناپیژندل شوی مخ
nominalist ، ولا يخدعن أحدا كثرة التجائه إلى التجربة في كتبه «عن الحيوان» و«مشكلات» ورسائل أخرى، فحقيقة الأمر أنه قد حسم أمره مسبقا ولم يستشر التجربة حق المشورة كأساس لأحكامه ومبادئه. إنه يعتسف أحكامه اعتسافا ثم يلوي بالتجربة حتى تلائم أفكاره، ويجرها كما يجر أسير في موكب، ومن ثم فهو أفدح ذنبا من تابعيه المحدثين (الأسكولائيين) الذين هجروا التجربة تماما ونفضوا أيديهم منها.
35 ••• (64) تتولد عن المدرسة التجريبية معتقدات أكثر تشوها ومسخا مما تنتجه المدرسة السوفسطائية أو العقلية؛ ذلك لأن هذه المعتقدات لا تتأسس في ضوء التصورات العامة (التي رغم ضعفها وسطحيتها فهي بشكل ما عمومية وتشير إلى أشياء كثيرة)، بل تقوم على أساس ضيق ومعتم من حفنة تجارب، مثل هذه الفلسفة تبدو محتملة وشبه يقينية عند أولئك الذين ينخرطون كل يوم في مثل هذا الصنف من التجارب فأفسدوا مخيلتهم بها، أما لغيرهم فتبدو بعيدة عن التصديق وغير ذات جدوى، ولدينا عليها مثال صارخ في أهل الخيمياء ومعتقداتهم، وهي عدا ذلك نادرة الوجود في زمننا هذا، ربما باستثناء فلسفة جلبرت، ويبقى علينا رغم ذلك أن نحذر من مثل هذه الفلسفات؛ ذلك أننا ندرك ونتوقع أنه إذا أصغى الناس لنصيحتنا وكرسوا أنفسهم حقا للتجربة (بعد أن ودعوا المذاهب السفسطائية) فإن هذه الفلسفة ستكون مصدر خطر حقيقي على أقل تقدير، وذلك بسبب تسرع العقل وتهوره، وقفزه أو طيرانه إلى العموميات وإلى مبادئ الأشياء، ذلك الخطر الذي ينبغي من ثم أن نكون متأهبين - حتى في هذه اللحظة - لمواجهته. ••• (65) على أن الفساد الذي يأتي الفلسفة من الامتزاج بالخرافة والثيولوجيا هو أوسع انتشارا وأشد ضررا عليها، سواء على منظوماتها الكلية أو على أجزائها، فتأثر العقل البشري بالخيال لا يقل عن تأثره بالأفكار الشائعة. إن الصنف الجدلي والسوفسطائي من الفلسفة يوقع العقل في شرك، أما الصنف الآخر أي الفلسفة الخيالية الطنانة شبه الشعرية فتغويه. إن بالإنسان ضربا من طموح الفكر لا يقل عن طموح الإرادة، وبخاصة لدى الشخصيات الشامخة النبيلة.
وهناك مثال لافت على هذا بين اليونان نجده في فيثاغوراس، وإن كانت الخرافة لديه فظة ثقيلة، ومثال آخر في أفلاطون ومدرسته حيث الخرافة أخطر وأرقى، وهذا الإثم نجده أيضا في جوانب من الفلسفات الأخرى، متمثلا في القول بالصور المجردة والعلل الغائية والأولى،
36
مع إغفال كثير للعلل الوسطى وما إليها. إن علينا أن نتخذ أشد الحذر هنا، فليس ثمة ما هو أسوأ من تمجيد الخطأ، فحين تؤله الحماقة فذلكم بلاء يحيق بالفكر، في هذه الحماقة انغمس بعض المحدثين، وبغفلة متناهية حاولوا أن يؤسسوا فلسفة طبيعية على الفصل الأول من سفر التكوين
Genesis
وسفر أبواب وأجزاء أخرى من الكتاب المقدس، باحثين - هكذا - عن الموتى بين الأحياء،
37
ومثل هذه الحماقة يجب أن توقف وتقمع بكل قوة، فمن هذا المزج غير الصحي بين البشري والإلهي لا تنبثق فقط فلسفة وهمية، بل ودين هرطقي، ومن ثم فإن رأس الحكمة والاتزان أن نعطي للإيمان ما هو للإيمان ولا نتزيد. ••• (66) بحسبنا هذا عن السلطة الخبيثة للفلسفات القائمة على تصورات عامة أو تجارب قليلة أو على الخرافة، ويبقى أن نتحدث عن الموضوعات الخاطئة للتأمل العقلي، وبخاصة في الفلسفة العقلية، إن العقل يضل السبيل إذ ينظر إلى ما يجري في الفنون الميكانيكية، حيث الأجسام تتغير تماما عن طريق التركيب والتفريق، فيفترض أن شيئا شبيها بذلك يحدث في الطبيعة الكلية للأشياء، وهذا هو مصدر الوهم القائل ب «العناصر»
elements
ناپیژندل شوی مخ
واحتشادها لتكوين الأجسام الطبيعية، كذلك عندما يتأمل الإنسان في الطبيعة وهي تعمل بحرية، فإنه يلتقي بأجناس شتى من الأشياء: حيوانات، نباتات، معادن، ومن هنا ينزلق بسهولة إلى تصور أن في الطبيعة صورا أولية للأشياء تريد أن تنتجها، وأن ما عدا ذلك من تنويعات إنما يأتي من جراء عوائق وأخطاء للطبيعة في إنجاز مهمتها، أو من صراع بين الأجناس المختلفة، أنتجت الفرضية الأولى مذهب الخواص الأولية، والثانية أنتجت مذهب الخواص الخفية والقوى النوعية، وكلا التصورين ينتميان إلى تلك الفئة من المختصرات الفكرية الفارغة التي فيها يسترخي العقل وينصرف عن موضوعات أكثر أهمية، وحسنا يفعل الأطباء حين يكبون على الخواص الثانوية للمادة وعمليات الجذب والطرد والتكثيف والبسط والقبض والتشتيت والنضج وما إلى ذلك،
38
ولقد كانوا حريين بتحقيق تقدم أكبر لو لم يعمدوا إلى التصورات المبسوطة التي تحدثت عنها (أي الخواص الأولية والقوى النوعية) فيفسدوا بها هذه الملاحظات القويمة باختزالها إلى خواص أولية وأخلاط دقيقة غير قابلة للمقايسة، أو بعدم تتبعها بملاحظات أكثر قوة ودقة إلى خواص ثالثة ورابعة، والتوقف فجأة عن الملاحظة قبل الأوان، مثل هذه القوى (أو ما شابهها) لا ينبغي أن نبحث عنها بين أدوية الجسم البشري فحسب، بل أيضا في العوامل التي تغير الأجسام الطبيعية الأخرى.
وأشد خطرا من ذلك أنهم يبحثون ويتقصون المبادئ الساكنة للأشياء التي «منها» أتت الأشياء نفسها إلى الوجود وليس المبادئ المتحركة التي «بواسطتها» أتت،
39
فالأولى تتعلق بالحديث، والثانية بالعمل، وليس ثمة أي قيمة في التمييزات الشائعة للحركة والتي نلحظها في الفلسفة الطبيعية التقليدية، مثل: الكون والفساد والزيادة والنقصان والتغير والحركة الموضعية، فكل ما تعنيه هو أنه إذا ما تحرك جسم - هو على ما هو عليه فيما عدا ذلك - من مكانه، فهذه هي الحركة الموضعية (النقل)، فإذا تغير في الكيف بينما بقي المكان والنوع على حاله فهذا هو «التغير»
alteration ، أما إذا نتج من هذا التغير أن الكتلة نفسها وكم الجسم لم يظلا كما هي فهذه هي حركة «الزيادة»
augmentation
و«النقصان»
diminution ، فإذا استمر التغير إلى أن تبدل النوع نفسه والجوهر ذاته، فهذا هو «الكون»
ناپیژندل شوی مخ
generation
و«الفساد»
corruption ، ولكن كل هذه أمور معلومة ومبتذلة، ولا تنفذ إلى عمق الطبيعة على الإطلاق؛ لأنها تشكل مقاييس الحركة وحدودها وليس الأنواع المختلفة للحركة، فهي تشير إلى «كم» (إلى أي درجة) وليس إلى «كيف» (بأية وسيلة) أو «من أين» (من أي مصدر)، ولا تخبرنا بأي شيء عن نزوع الأجسام أو عن صيرورة أجزائها، بل تحدس فحسب بتقسيم للحركة عندما تظهر هذه الحركة للحواس بطريقة واضحة أن شيئا ما لم يعد كما كان من قبل، وحتى عندما يريدون تفسير شيء ما عن علل الحركات وأن يؤسسوا تقسيما لهذه العلل، فإنهم يضعون تمييزا بين الحركة الطبيعية والحركة العنيفة، وهي نقلة غاية في العقم؛ لأن هذا التمييز هو نفسه مستمد تماما من تصور عامي، حيث إن الحركة العنيفة هي أيضا في الحقيقة حركة طبيعية، أي علة خارجية تجعل الطبيعة تعمل بطريقة مختلفة عما كانت عليه من قبل.
ولكن لنضرب صفحا عن كل هذا، فإذا ما لاحظ أي شخص - على سبيل المثال - أن في الأجسام نزوعا إلى الاتصال المتبادل، بحيث لا تسمح لوحدة الطبيعة أن تنفصم أو تنحطم تماما وللفراغ بالتالي أن يتكون، أو إذا لاحظ أي شخص أن في الأجسام نزوعا إلى استعادة أبعادها أو ضغطها الطبيعي، بحيث إذا ضغطت أو مطت أكثر من ذلك أو أقل جهدت على الفور لاستعادة واسترداد حجمها وامتدادها السابق، أو إذا لاحظ أي شخص أن في الأجسام نزوعا إلى التجمع مع كتل الأشياء التي من صنفها، أي نزوع الأجسام الثقيلة إلى الأرض، والأشياء الهزيلة والخفيفة إلى محيط السماء؛ فكل هذه الأشياء وأمثالها هي في الحقيقة أنواع فيزيقية من الحركة، أما تلك الأشياء الأخرى فهي نظرية ومدرسية قلبا وقالبا كما هو واضح جلي من هذه المقارنة فيما بينها.
وليس أهون من ذلك أنهم في فلسفاتهم وملاحظاتهم يهدرون جهودهم في بحث وتناول المبادئ الأولى للأشياء والعلل القصوى للطبيعة
ultimatibus naturae ، رغم أن كل الجدوى وفرص التطبيق تكمن في العلل الوسطى
in mediis ؛ لذا لا يكف الناس عن تجريد الطبيعة إلى أن يصلوا إلى مادة ممكنة وغير مشكلة، ولا هم من الجهة الأخرى يكفون عن تشريح الطبيعة إلى أن يصلوا إلى الذرة، وهي أشياء - حتى لو صدقت - قلما تجدي نفعا في تحسين حالة الجنس البشري.
40 ••• (67) على الذهن أيضا أن يأخذ حذره من الإفراط الذي تبديه المذاهب الفلسفية في إبداء الموافقة أو الامتناع عنها، ويبدو أن هذا الإفراط يرسخ الأوهام وأنه بطريقة ما يطيل عمرها، غير تارك أي منفذ للوصول إليها والتخلص منها.
ثمة نوعان من هذا الإفراط: الأول هو الذي يأتيه أولئك الذين يتسرعون في إصدار الأحكام، فيجعلون العلوم جازمة تسلطية، والثاني يأتيه أولئك الذين ينكرون أن بإمكاننا أن نعرف أي شيء (
acatalepsia )، فيفتحون المجال لنوع هائم من البحث لا يهدف إلى شيء ولا ينتهي إلى شيء، من شأن النوع الأول أن يقمع الذهن، أما الثاني فيوهنه، فبعد أن فرغت الفلسفة الأرسطية من تدمير الفلسفات الأخرى (على طريقة العثمانيين تجاه إخوتهم)
ناپیژندل شوی مخ
41
بتفنيدات عدائية، أخذ أرسطو يؤسس أحكاما في كل شيء، ثم أخذ هو نفسه يطرح اعتراضات من عنده؛ كيلا يلبث أن يتصدى لها، بحيث لا يترك أمرا إلا وهو يقيني محسوم، وهي طريقة ما زالت قائمة اليوم بين أتباعه.
أما مدرسة أفلاطون فأدخلت مذهب الشك، بدأ ذلك هزلا وتهكما من جراء استيائها من قدامى السوفسطائيين - بروتاجوراس وهيبياس وغيرهما - الذين كانوا يستخذون من الظهور بمظهر من يتردد بإزاء أي شيء، غير أن الأكاديمية الجديدة تصلبت في الشك واتخذته عقيدة، إنه لمنهج أكثر صدقا من الترخص في سك الأحكام؛ لأنهم قالوا بأنهم لا يقوضون كل بحث بأي حال مثلما كان يفعل فيرون و«المتوقفون عن الحكم»
Ephectici ، بل يسمحون باستقصاء بعض الأمور على أنها احتمالية، وإن لم يسمحوا بأي شيء أن يؤخذ كحقيقة، غير أن العقل البشري ما إن ييأس من العثور على الحقيقة حتى يأخذ شغفه بكل الأشياء في الخمود، وينتهي الأمر بأن ينصرف الناس إلى مناقشات وأحاديث لطيفة، وإلى نوع من التطواف حول الأشياء دون المثابرة على البحث الجاد، ولكن - كما أسلفنا في البداية وكما نؤكد على الدوام - فإن علينا ألا ننتقص من سلطة الحواس البشرية والفهم البشري - على قصورهما - بل علينا أن نزودهما بما يساعد ويعين. ••• (68) انتهينا الآن من عرض لمختلف ضروب «الأوهام»
idola
وخصائصها، وكلها أوهام ينبغي التخلي عنها وشجبها، وتطهير العقل وتحريره منها، حتى لا يبقى ثمة إلا مدخل واحد إلى مملكة الإنسان، المدخل القائم على العلوم، مثلما أنه «لا مدخل إلى مملكة السماء إلا عبر طهارة الطفولة».
42 ••• (69) غير أن البراهين الزائفة هي حصون «الأوهام» ودفاعاتها، والبراهين التي لدينا في المنطق لا تعدو أن تخضع العالم وتسخره للأفكار البشرية، وتخضع الأفكار للألفاظ، ولكن البراهين هي نفسها - بمعنى ما - فلسفات وعلوم، فكيفما تكن البراهين سديدة أو واهية تكن الفلسفات والتأملات المترتبة عليها، غير أن البراهين التي نستخدمها في العملية بأكملها التي تمضي من الحواس والأشياء إلى المبادئ والاستنتاجات هي براهين مغلوطة وواهية؛
43
فأولا: انطباعات هذه الحواس نفسها خاطئة؛ لأن الحواس تخذلنا وتخدعنا، ولا بد من أن نعالج الثغرات ونصحح الأخطاء، وثانيا: التصورات تستمد من انطباعات الحواس بطريقة غير قويمة، وهي ملتبسة ومشوشة حيث ينبغي أن تكون محكمة ومحددة المعالم ، وثالثا: الاستقراء الذي نستخدمه خاطئ؛ لأنه يقرر مبادئ العلم بناء على التعداد البسيط، ودون استخدام الاستبعاد والفصل أو التحليل الصحيح للطبيعة، وأخيرا: فإن طريقة الكشف والبرهان التي تبدأ بوضع المبادئ الأعم ثم تجعل منها محكا للمبادئ الوسطى فتختبر المبادئ الوسطى بمضاهاتها بالمبادئ العامة، هذه الطريقة هي أم الأخطاء، وهي كارثة كل العلوم، وإذا كنا الآن نمر على هذه الأشياء مرورا عابرا فسوف نعرض لها باستفاضة حين نتناول الطريقة الصحيحة لتفسير الطبيعة، بعد أن ننتهي من عملية تنقية العقل وتطهيره. ••• (70) ولكن أفضل برهان على الإطلاق هو التجربة، شريطة أن يبقى ذلك لصيقا بالتجربة الفعلية، فمن المغالطة الامتداد بها إلى أشياء أخرى شبيهة في الظاهر ما لم يكن يتم هذا الاستدلال بطريقة منهجية حذرة، أما الطريقة التي يجري بها الناس التجارب
44
ناپیژندل شوی مخ
في الوقت الحالي فهي طريقة عمياء بلهاء، ومن ثم فإنهم يهيمون ويتخبطون دون أي مسار واضح، مرتهنين للمصادفات يتأدون منها هنا وهناك دون أن يحرزوا تقدما يذكر، وهم - بين رجاء حينا وتشتت حينا آخر - يجدون دائما بارقا جديدا يسعون نحوه؛ ذلك أن الناس في الأغلب يجرون تجاربهم بغير اكتراث ولا جدية، واضعين تنويعات ضئيلة على التجارب المعروفة بالفعل، فإذا لم تجبهم التجربة بشيء تبرموا بها وأقلعوا عن المحاولة، وحتى عندما يكبون على عملهم بجد وكد ومثابرة فإنهم يهدرون وقتهم في سبر موضوع واحد معين، كشأن جلبرت مع المغناطيس، وشأن الخيميائيين مع الذهب. مثل هذا المسلك لا ينم فحسب على غياب المهارة بل أيضا على غياب الرؤية: فما كان لأحد أن ينجح في كشف طبيعة شيء ما بالنظر إلى الشيء وحده، بل لا بد للبحث من أن يكون نطاقه أوسع ومجال رؤيته أعم.
وحتى عندما يشيد الناس نوعا ما من العلم والنظرية على التجارب، فإنهم - في الأغلب - يهرعون بحماس أهوج إلى التطبيق العملي، لا لكي يجنوا منها ثمارا مرتقبة فحسب، بل لكي يجدوا توكيدا في شكل نتاج جديد بأن سعيهم جدير بالمواصلة ولن يكون مضيعة للوقت، بالإضافة إلى توطيد شهرتهم واكتساب صيت جيد لمجال عملهم، هم إذن أشبه بأتالانتا
Atalanta
يتركون طريقهم لكي يلتقطوا التفاحة الذهبية فيقطعون العدو ويفوتهم الفوز. إنما علينا - في دأبنا على الطريق الصحيح للتجربة ومواصلته لبلوغ نتائج جديدة - أن نقتدي بالحكمة والتدبير الإلهيين: ففي اليوم الأول للخلق اكتفى الرب بخلق النور وكرس يوما كاملا لهذا العمل، ولم يخلق أي شيء مادي في ذلك اليوم، نحن أيضا علينا أولا أن نحاول - بشتى ضروب التجارب - أن نكتشف العلل والمبادئ (القوانين) الحقيقية، وأن نلتمس التجارب التي تقدم النور لا الأثمار، فما إن يتم اكتشاف المبادئ وصياغتها على نحو صحيح حتى تقدم للممارسة عونا هائلا لا محدودا، وتجر وراءها أرتالا غفيرة من النتائج، وسوف نعرض لاحقا لطرق التجربة التي سدت وقطعت مثلما سدت طرق الحكم، فأنا لم أقل حتى الآن إلا أن البحث التجريبي المعتاد هو نوع رديء من البرهان، غير أن المقام يقتضيني أن أضيف شيئا ما عن العلامات التي سبق ذكرها والتي تشير إلى أن الفلسفات والملاحظات المستخدمة الآن عاجزة، وعن أسباب ما يبدو للوهلة الأولى عجيبا لا يصدق، فمعرفة هذه العلامات الخارجية تمهد للتصديق، وتفسير الأسباب يزيل العجب، وهذان الشيئان مفيدان غاية الفائدة في تطهير الذهن من الأوهام بسهولة ويسر. ••• (71) تأتي العلوم التي لدينا - في معظمها - من اليونان؛ إذ إن ما أضافه الرومان والعرب أو الكتاب الأحدث هو شيء قليل ومحدود الأهمية، ومبني كيفما كان على أساس من كشوف اليونان،
45
إلا أن حكمة اليونان كانت احترافية وميالة إلى الجدل، وذاك لون من الحكمة معاكس للبحث عن الحقيقة، وهكذا فإن اسم «السوفسطائيين» الذي رفضه بازدراء أولئك الذين ودوا أن يعتبروا فلاسفة وأطلقوه على الخطباء: جورجياس، بروتاجوراس، هيبياس، بولس
، هذا الاسم يمكن أن ينطبق على العشيرة بأكملها: أفلاطون وأرسطو وزينون وأبيقور وثيوفراسطس، وخلفهم كريسبوس وكارنيادس والبقية، والفارق الوحيد بين أولئك وهؤلاء هو أن الأولين كانوا مرتزقة جوالين يطوفون بين البلدان المختلفة ويعرضون حكمتهم ويطلبون أجرا عليها، في حين أن الآخرين كانوا أكثر تبجيلا وسعة، إذ كانت لهم مقارهم الثابتة ومدارسهم المفتوحة، وكانوا يعلمون الفلسفة دون مقابل، إلا أن كلتا المجموعتين (رغم اختلافهما في الجوانب الأخرى) كانت احترافية، وتحول كل موضوع إلى مجادلات، وتؤسس مذاهب وعقائد فلسفية وتنافح عنها، ومن ثم كانت مذاهبهم في معظمها (مثلما قال ديونيزيوس - بحق - عن أفلاطون): «حديث عجائز متبطلين إلى شبان جاهلين.»
46
على أن اليونانيين الأقدم مثل أنبدوقليس وأنكساجوراس وليوسيبوس وديمقريطس وبارمنيدس وهيراقليطس وزينوفان وفيلولاس والآخرين (وأنا أستثني فيثاغوراس باعتباره مشعوذا) لم يفتحوا مدارس على حد علمي، بل نذروا أنفسهم للبحث عن الحقيقة في صمت وجدية وبساطة أكثر: أي بادعاء واستعراض أقل؛ لذا فقد كانوا - في رأيي - أكثر نجاحا، لولا أن أعمالهم قد غشت عليها بمرور الزمن تلك الأعمال الأقل وزنا التي راقت أفهام السوقة وأذواقهم، فالزمن (كالنهر) يجلب لنا ما هو خفيف منتفخ ويغرق ما هو ثقيل صلب،
47
ناپیژندل شوی مخ
وحتى هؤلاء الأقدمون لم يبرءوا تماما من عيوب قومهم، فقد كانوا مأخوذين بغرور وطموح لتأسيس مذهب وانتزاع إعجاب عامة الناس، ولا تؤمل خيرا في البحث عن الحقيقة إذا تدنى إلى مثل هذه التفاهات، ولا ننس في هذا المقام ذلك الحكم بل النبوءة التي تفوه بها أحد الكهنة المصريين عن اليونانيين بأنهم «دائما أطفال، يعوزهم قدم المعرفة ومعرفة القدم.»
48
فهم بالتأكيد يشتركون مع الأطفال في الميل إلى الكلام والعجز عن الإنجاب، فحكمتهم لفظية لا تثمر نتائج، وعليه فإن العلامات التي نتلقاها من منبع الفلسفة السائدة ومسقط رأسها هي علامات غير مبشرة. ••• (72) ولا العلامات المستفادة من طبيعة الزمن والعصر بأفضل حالا من تلك المستفادة من المكان والشعب، فقد كانت المعرفة في ذلك العصر معرفة محدودة هزيلة، سواء المعرفة عن الزمن أو عن العالم، وهذا حقا شيء غير محمود على الإطلاق وخاصة بالنسبة لأولئك الذين يعتمدون على التجربة في كل أمر؛ لأنهم ليسوا بإزاء ألف عام من التاريخ تستحق اسم التاريخ، بل بإزاء قصص خيالي وتقاليد عتيقة، لم يكن أهل ذلك العصر يعلمون سوى جزء صغير من أصقاع العالم وبلدانه، فقد كانوا يسمون كل شعوب الشمال
Scythians
وكل شعوب الغرب
Celts
دون تمييز، ولا يعرفون عن أفريقيا أي شيء يتجاوز الجزء الأقرب من إثيوبيا، ولا من آسيا ما يتجاوز ال
Gangs ، وأقل من ذلك كثيرا عن أقاليم «العالم الجديد» ولو من طريق الروايات أو الشائعات المقبولة. الحق أن معظم الأقاليم المناخية والأصقاع التي تعيش وتتنفس فيها أمم لا تحصى كانت تعد عندهم غير قابلة للسكنى، بل كانوا يكبرون رحلات ديمقريطس وأفلاطون وفيثاغوراس التي كانت أقرب إلى نزهات الضواحي، بينا في أزمنتنا صارت كثير من أجزاء العالم الجديد وكل أطراف العالم القديم معروفة جيدا، وزادت ذخيرتنا من الخبرات زيادة لا متناهية، وعليه فإذا كان لنا - شأن الفلكيين - أن نستقي علامات من ميقات مولدهم أو ظهورهم فليس لدينا ما ينبئ بشأن عظيم لهذه المنظومات الفلسفية المبكرة. ••• (73) ليس بين العلامات جميعا ما هو أوثق وأوجه من الثمار، فاكتشاف الثمار والنتائج بمثابة كفالة أو ضمانة لصدق أي فلسفة من الفلسفات، فانظر الآن إلى كل هذه الفلسفات اليونانية، وعلى العلوم الجزئية المتشعبة منها، ليس بوسعك أن تورد بعد انقضاء كل هذه السنين تجربة واحدة تفضي إلى التخفيف عن الإنسان وتحسين حاله، ويمكن أن ترجع الفضل فيها - بحق - إلى تنظيرات تلك الفلسفات ومذاهبها، يعترف سيلسوس
Celsus
49
ناپیژندل شوی مخ