إذن فلنعترف بقدرة الله على كل شيء. فلنعترف بأفعاله الظاهرة في مخلوقاته. فليعترف كل فريق منا بفضائل ومزايا الفريق الآخر. إنني يا أختي أحب قومك حبا شديدا، وأعرف فضلهم على العالم. فهم الذين كانوا مهد الدين والوحدانية. هم الذين كانوا أول من بذروا في الأرض مبادئ المساواة الاجتماعية والعدل والعبادة النقية المنزهة عن عبادة الأمور الحسية، وتاريخهم تاريخ الصلة الأولى بين الله والناس، ولكن هذا الاعتراف يا أستير يجب أن يكون كاملا، وكماله أن نعترف أيضا بالسيئات بعد اعترافنا بالحسنات؛ فنقول: إن شريعة قومك بعد التحول الجديد الذي طرأ عليها كما وصفته لك لم تعد بكافية للإنسانية؛ لأن ارتقاء الإنسانية كان يستوجب شريعة أرقى منها، ولذلك جاءت الشريعة المسيحية بآدابها النقية وقداستها السماوية. فتشي وابحثي يا أختي أين تجدين في الكتب القديمة مبادئ كالمبادئ الإنجيلية. انظري ياعزيزتي، إن المعطلين والوثنيين أنفسهم ينحنون باحترام أمام هذه المبادئ بصرف النظر عن المسائل الدينية؛ لأنها أرقى صورة للكمال في هذا العالم، وكثيرون من قومك العقلاء المنصفين يعترفون بذلك، وأؤكد لك أنني سمعت ذلك منهم بأذني، ولا تقولي إن تلك المبادئ مستمدة من التوراة فإن المنصفين
4
الذين يطلبون الحقيقة المجردة دون انتصار لحزب دون حزب يثبتون أنها منقطعة عما قبلها انقطاعا حقيقيا، ومتى ثبت هذا فقد ثبت الحق في جانب واضعها والمحقوقية في جانب الذين اضطهدوه من أجلها.
فيا أختي أستير، فلنضع كل جدال ديني جانبا. لنترك المماحكات التي لا فائدة فيها لبشر بعقول قاصرة محدودة كعقولنا. أنت يهودية وأنا مسيحي، ولكن لا أنت يمنعك دينك أن تعترفي بالحق ولا أنا يمنعني ديني أن أعترف به، وإلا فإن الأديان تكون أديان فساد لا أديان صلاح وصدق وإخاء ومساواة. فأنا أعجب بتاريخكم وبشعبكم وبحكمائكم وبقوة نفوس أمتكم، ولكن إعجابي هذا سابق لصلب الصديق، وأما ما بعده فإنني آسف؛ لأنكم لم تجدوا في نفوسكم وحبكم القديم للصدق والحق والعدل من القوة ما يمكنكم من الاعتراف بالخطأ الهائل الذي حدث على يدكم.
فيا أستير أخبريني، أيطاوعك قلبك اللطيف الرقيق بعد الآن أن تخافي من الصليب الذي هو رمز انتصار الحق وانكار الذات والآلام والمصائب الأرضية. بالله قولي. ماذا طلبوا منك على الطريق لكي تظهري كل ذلك النفار والإباء من طلبهم. طلبوا منك أن ترسمي في الهواء على صدرك بإشارة يدك شكلا كشكل هذا الرمز. فلو رسمت هذا الشكل لما كان لذلك من معنى لديك سوى هذا «إنني أذكر بهذه الإشارة أن الحق لا يداس في الأرض بل ينتصر أبدا» ثم هل علمت معنى اليدين الممدودتين اللتين خفت منهما في الدير؟ معناهما: «يا أختي يا بنت دمي ولحمي، إنني مت وأنا أغفر لكم فإذا لم تشائي الإيمان بي فلا أقل من التألم لحادثتي» - فيا أستير مدي يدك بجرأة إلى هاتين اليدين وخذي بهما ولا يروعنك أمرهما. هو ذا انظري. منذ طفولتي اعتادت أمي أن تعلق في عنقي صليبا صغيرا علق أياما على الصليب الكبير القائم في الجلجلة، والذي لا يزال حتى اليوم بختمه كما ختمته الملكة هيلانه أم قسطنطين
5 * فإليك هذا الصليب الصغير لنرى ألا تزالين تخافين منه. خذيه في يدك. نعم هكذا، انظري إليه بحنو لا بخشونة، لماذا تبكين يا أختي؟ هل هذه الدموع للغيظ أم للحنان. إذا كانت للغيظ فرديه إلي، وإذا كانت للحنان فبالله ضعيه على شفتيك، آه ما أشد حنان قلبك وأرق عواطفك، اسمحي لي الآن بعد وضعه على شفتيك أن أقبله أنا أيضا، وبذلك لا أقبله فقط بل أقبل أيضا شفتيك. أستير أستير إنني الآن في أشد حالات الهياج، ولم أعد قادرا على ضبط نفسي. فأنا أصيح على مسمع منك، والله يسمع كلامي، ويشهد علي: إنني أحبك أحبك، بحياتك لا تنفري واسمعي، إنني منذ وقع نظري على نظرك سرت في نفسي كهربائية نفسك، قد كنت مللت هذه الحياة الباردة الجافة، وسئمت كل ما فيها؛ لأن كل ما فيها صغير دميم خشن دنيء، أما الآن بعد أن عرفتك فقد صرت أراها جميلة مثلك. نعم، ما أطيب العيش وما أرغد الحياة معك. إن كل الأشياء فيها تستمد حينئذ بهاءها من بهائك، وكل ألوانها تصبح حمراء زرقاء بيضاء بلون خدك وعينك وعنقك، وأما لون شعرك فلا تستمد منه أيامي شيئا معك. فيا جميلتي، إن الله أرسلك إلي كما أرسلني إليك. فلا تتركي الحواجز الصناعية التي يضعها البشر تحول بيني وبينك. يا أستير، لا تظني أنني قدمت لك كل تلك المقدمة الطويلة لأحولك عن مذهبك. كلا يا أختي، إنني أحترم مذهبك، وكل مذهب يجد فيه صاحبه راحة وسلاما وحقا وفضيلة، وإنما قصدت أن أعلمك احترام مذاهب غيرك.
قصدت أن أريك أنه من المضحك في الحياة أن يأكل الرؤساء الحصرم والمرءوسون يضرسون. فالرؤساء يضعون الترتيبات والنظامات التي تفرق بين البشر، والبشر يتبعونهم مغمضي العيون كعميان يقادون إلى حيث لا يعلمون. فما لنا ولهم يا أستير، فلندعهم في أعمالهم ومصالحهم، ولنعمل نحن أيضا ما فيه مصلحتنا. لنضع أديان البشر جانبا في مكان مقدس محترم، ولنجتمع على دين جديد يقبل كل الأديان الفاضلة ولا يرفض أحدها، وهذا الدين هو دين العدالة التي تقدم ذكرها والحق والمحبة والصفح للجميع،
6
ونحن الصغار المرءوسون المظلومون بهذه الحياة في أشد حاجة إلى إقامة «الحق والعدالة والمحبة» مقام كل شيء. فيا أستير ضعي يدي في يدك لنعيش بسلام في هذه الأرض على هذا الدين الجديد الذي تحترم فيه كل الأديان. فأنت تحترمين مذهبي كما أحترم أنا مذهبك ونترك الزمان يفعل فعله، وإذا اقتضت الحال عرض مسألتنا على البطريرك فلا أطلب منك شيئا أكثر من تقبيل هذا الصليب الصغير أمامه كما قبلته الآن أمامي».
هذا ما خاطب به إيليا أستير لدى قبر الراهب ميخائيل، وكانت أستير مصغية إليه أشد إصغاء في أثناء كلامه، وإن القلم ليعجز عن وصف ما قام حينئذ في نفسها.
ناپیژندل شوی مخ