وكان أرميا قد جاء مع الشيخ إلى المقام البطريركي، فأرسله البطريرك في طلب إيليا، فذهب أرميا وجرى له مع إيليا ما جرى.
فلما وقف إيليا على هذه التفاصيل خيل له أن الأرض أخذت تميد به، وسمع صوت أستير في باطنه يناديه: إيليا إيليا. فما فرغ البطريرك من كلامه حتى وثب إيليا، وقال: أنا سائر إلى البيت الأحمر يا مولاي حسب أمركم.
فقال البطريرك مبستما مع اشتغال باله وكثرة همومه: لا بأس يا بني، فإن إنقاذ روح محبة من الموت كإنقاذ نفس ضالة من جحيم الضلال .
وبعد خمس دقائق كان إيليا على جواد يعدو على طريق بيت لحم، ووراءه أرميا يركض كالكلب وراء صاحبه.
ولما وصل إيليا إلى «البيت الأحمر» نظر في الباب من بعيد أبا أستير واقفا ينتظره طبقا لوعد البطريرك، وما وقع عليه نظر الشيخ حتى أسرع إليه والدموع في عينيه. فدخل إيليا إلى الفندق مع الشيخ. أما أرميا فاهتم بتدبير مربط للجواد.
وما صار الشيخ وإيليا وحدهما في الحديقة التي أمام الفندق حتى انطرح الشيخ على يد الفتى ليقبلها. فأجفل إيليا ورجع القهقرى. فقال الشيخ باكيا: يا كيريه إيليا، لقد أنقذتني مرة فأنقذني مرة أخرى.
فقال إيليا بجد وهدوء: ماذا جرى؟
فقال الشيخ: جرى ما سيقتلني ويقتل أمها إذا ماتت. فإذا كنت أنا مذنبا فما ذنبها هي؟ يا كيريه إيليا، لقد علمت كل شيء. فإنها ذكرت أثناء هذيانها وذهولها كل ما حدث لك معها في المزرعة، ووقفت من أرميا على سبب إغمائها ونفورك منها. فلنتحادث في ذلك الآن بهدوء يا كيريه. أي جناية ارتكبت لأستحق احتقارك؟ نحن وأنتم قوم نتنازع على هذه الأرض، وكل منا يحارب خصمه بكل سلاح يقع في يده. فلقد هدمتم هيكلنا وحرمتم علينا الدنو من بيت مقدسنا وسفكتم دماءنا وجعلتمونا نهيم على وجوهنا في الأرض كحيوانات سائمة. فهل ينكر علينا بعد كل ذلك أن نحالف عليكم من يقوم لاستخلاص البلاد منكم؟ ولو كنتم في مكاننا وكنا في مكانكم أفما كنتم تفعلون ما نفعله نحن الآن؟ بل إنكم الآن تفعلون مثله مع أعدائكم العرب؛ لأنكم تبعثون إليهم من يتجسس أحوالهم ويتنسم أخبارهم. فلماذا تحملني وحدي يا إيليا عار الجاسوسية ما دامت هذه الوظيفة القبيحة من لوازم الحروب والاضطرابات.
أما إيليا فلم يلتفت كثيرا لهذا الكلام، ولا جاوب عنه؛ بل سأل الشيخ دون أن ينظر إليه: أين السيدة أستير أيها الشيخ، فإنني أحب أن أراها لأثبت لها أنني ما زلت أحترمها كما كنت، وأن ما بلغها عني خطأ محض.
فأشرق وجه الشيخ وأكب ثانية على يد إيليا صارخا بدموع: بارك الله في شهامتك يا أيها الرجل الكريم. نعم يا ولدي، قل لها: إنك لا تحتقرها، وأنا على ثقة من شفائها.
ناپیژندل شوی مخ