[تمهيد]
﴿ياصاحِبَيِ اَلسِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اَللهُ اَلْواحِدُ اَلْقَهّارُ (٣٩)﴾ [يوسف:٣٩]
قال عمر بن الخطاب:
إنّي لم أستعمل عليكم عمّالي ليضربوا أبشاركم وليشتموا أعراضكم ويأخذوا أموالكم، ولكنّي استعملتهم ليعلّموكم كتاب ربكم وسنّة نبيكم، فمن ظلمه عامله بمظلمة فلا إذن له عليه، ليرفعها إليّ حتّى أقصّه منه.
فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين، أرأيت إن أدّب أمير رجلا من رعيته أتقصّه منه؟
فقال عمر: وما لي لا أقصّه منه وقد رأيت رسول الله ﷺ يقصّ من نفسه.
طبقات ابن سعد ٣/ ١٨٨
إن كنت حبستهم بباطل فالحقّ يطلقهم، وإن كنت حبستهم بحقّ فالعفو يسعهم.
الشعبي لابن هبيرة في سجين. العقد الفريد ٢/ ١٨٨
1 / 5
بِسْمِ اَللهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ وأفضل الصّلاة وأتمّ التّسليم على محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين
[مقدمة التحقيق]
الحمد لله كما أمر، وله الشكر على ما أنعم ووهب، وهو القائل بمحكم تنزيله: وَهُوَ اَلَّذِي فِي اَلسَّماءِ إِلهٌ وَفِي اَلْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ اَلْحَكِيمُ اَلْعَلِيمُ [الزخرف:
٨٤] كل شيء عنده بمقدار، خلق الإنسان، ووضع الميزان؛ وقال عزّ من قائل: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ اَلنّاسُ أَشْتاتًا لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (٦) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (٧) [الزلزلة:٦،٧] سريع الحساب، أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدّين كلّه نذيرا وبشيرا، ليقيم الدّين، ويبشّر المخبتين، ويجاهد الكافرين، أرسله لإقامة شرعه، وإنفاذ حكمه. فلله الحكم وله الأمر، وضع الحدود، وجعل التعزير رأفة ورحمة لعباده في هذا الوجود.
ومنذ تمّ أمر الله، وقامت دولة الإسلام، وتوطّدت أسسه وأركانه ظهرت الحاجة في كثير من الأحكام إلى ترشيد الزالّين عن الصراط، بتعويقهم وسجنهم، وقد ورد في القرآن الكريم أكثر من آية تأمر الحاكم بسجن الجناة، كقوله: إِنَّماجَزاءُ اَلَّذِينَ يُحارِبُونَ اَللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي اَلْأَرْضِ فَسادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ اَلْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي اَلدُّنْياوَلَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣) [المائدة:٣٣] ومعنى يُنْفَوْا: يسجنوا لأن نفيهم حقيقة من الأرض لا يعقل، فإن أيّ مكان يرسلون إليه هو من الأرض.
وقال رسول الله ﷺ: «ليّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته» (١).
_________
(١) أخرجه البخاري تعليقا ٥/ ٦٢ في الاستقراض، باب لصاحب الحق مقال، وأبو داود =
1 / 7
لم يكن السجن بدعا، وإنما هو قديم قدم الإنسان الأول، واليقين الذي لا شكّ فيه أن مؤسسة السجن هي من أولى المؤسسات التي ابتدعها الإنسان، ولا يتّفق الإسلام مع غيره من الأنظمة التي أخذت بنظام السجون إلا بالاسم فلم يكن السجن في الإسلام أداة قهر وتعذيب، ولا انتقام وتدمير بل هو أقرب ما يكون إلى المدرسة الاجتماعية، والمؤسسة الأخلاقية منه إلى السجن بل إننا نستطيع القول: إن السجن في النظام الإسلامي-أعني النظام الذي قام على شريعة الله تعالى، وسنّة نبيّه ﷺ-لم يكن سوى مستشفى للأمراض النفسية والعصبية والفكرية والسلوكية.
وقد أوجد المسلمون دستورا لنظام الإصلاح الاجتماعي والأخلاقي لا نجده في أرقى دول العالم، كتب عمر بن عبد العزيز لأمراء الأجناد:
«وانظر من في السجون ممّن قام عليه الحقّ، فلا تحبسنّه حتى تقيمه عليه، ومن أشكل أمره فاكتب إليّ فيه، واستوثق من أهل الدّعارات، فإن الحبس لهم نكال، ولا تعدّ في العقوبة، وتعاهد مريضهم ممّن لا أحد له ولا مال وإذا حبست قوما في دين فلا تجمع بينهم وبين أهل الدّعارات. . . .
وانظر من تجعل على حبسك ممّن تثق به، ومن لا يرتشي، فإنّ من ارتشى صنع ما أمر به» (١).
هذا هو النهج الذي خطّه عمر بن عبد العزيز، والذي ذكره دائما في
_________
= (٣٦٢٨) في الأقضية، باب في الحبس في الدين وغيره، والنسائي ٧/ ٣١٦ في البيوع، باب مطل الغني، وابن ماجه (٢٤٢٧) في الصدقات، باب الحبس في الدّين. قال ابن الأثير في «جامع الأصول» ٤/ ٤٥٥: اللّيّ: المطل، والواجد القادر المليء، «يحل عرضه»: أي يجوز لصاحب الدين أن يعيبه، ويصفه بسوء القضاء، والمراد بالعرض: نفس الإنسان، و«عقوبته»: حبسه.
(١) طبقات ابن سعد ٥/ ٣٥٦.
1 / 8
رسائله: «أما بعد، فاستوص بمن في سجونك وأرضك حتى لا تصيبهم ضيعة، وأقم لهم ما يصلحهم من الطعام والإدام (١)».
وما زلنا نجد نفحات طيّبة من ذلك الأصل الزكي، فأحمد بن طولون كان يجري على المسجونين (٥٠٠) دينار في كلّ شهر (٢).
وقد بلغت الحكومة الإسلامية منزلة لا تحلم بها اليوم أمّة من الأمم، وهي ليست رعاية المسجونين، بل رعاية التّوابين، فمن قضى مدّة سجنه، أو نال جزاء ما اقترفت يداه من إقامة حدّ، أو تنفيذ تعزير، ومن ثمّ صلح أمره، وغدا على الصراط المستقيم حاله، لا يدعه المجتمع غريبا وحيدا منبوذا، بل يعيده إلى صفوفه، ويرعاه حقّ رعايته، متمثلا بقوله ﷺ: «كلّ بني آدم خطّاء، وخير الخطّائين التوابون (٣)» فكان يجري عليه راتبا شهريا (٤)، تأكيدا على وقوف المجتمع مع الفضيلة، ومنعا من انحرافه تحت وطأة العوز والفقر.
هذه هي وظيفة السجن الحقيقية: العقوبة دون تعدّ، والإصلاح والتقويم دون إفراط ولا تفريط، فلا غرابة أن يكون أوّل من بنى السّجون في الإسلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ﵁.
وما زال السجن قائما بين أمرين، فإما أن يكون شعلة نور يهتدي بهديها المجتمع فيصحّح سلوك أبنائه، ويرشد الشّداة إلى الصراط المستقيم، وبين
_________
(١) طبقات ابن سعد ٥/ ٣٧٧.
(٢) التاريخ لابن خلدون ٤/ ٣٠٥.
(٣) أخرجه الترمذي (٢٥٠١) في صفة القيامة، باب المؤمن يرى ذنبه كالجبل فوقه. وابن ماجه (٤٢٥١) في الزهد، باب ذكر التوبة. والدارمي ٢/ ٣٠٣ في الرقاق، باب في التوبة.
(٤) مروج الذهب ٥/ ١٥٤ (٣٢٩٥).
1 / 9
أن يكون أداة قمع وتعذيب وتنكيل بيد حاكم ظالم، ابتعد عن الإسلام وابتعد الإسلام عنه، فراح يعيث فسادا في الأمّة وفي أبنائها معتمدا على فقيه سوء وسجّان مجنون.
ومن بديع حكمة الله تعالى وفضله أن يشمل أدبنا كلّ نواحي الحياة، فلم يدع بابا إلاّ طرقه، ولا بقعة مظلمة إلا أنارها، ونظرا لتداخل موضوع السجن بين السياسة والأدب، والفقه واللغة فقد تناول هذا الجانب كلّ حسب اختصاصه، وكان أولهم بسطا لهذا الموضوع كتب الفقه فنجد أبا يوسف يعقوب بن إبراهيم المتوفى سنة ١٨٢ هـ قد جعل في كتابه «الخراج» فصلا في أهل الدّعارة والتّلصص والجنايات، وما يجب فيه من الحدود، تحدث عن الحبس وشروطه والسجان وما يجب أن يتحلّى به من خير وصلاح، وما يجري على السجناء من صدقة مال وكساء وأكل وغير ذلك.
أما المكتبة الأدبية فقد أدرجت حديث السجن والمسجون في أثناء أبوابها وفصولها، ولم تخصّص للسجن بابا مفردا وربّما كان الجاحظ أبو عثمان بن بحر المتوفى سنة ٢٥٥ هـ أول من أفرد بابا عن الحبس في كتابه «المحاسن والأضداد» كذا نجد ابن قتيبة المتوفى سنة ٢٧٦ هـ في كتابه «عيون الأخبار» أفرد فصلا لطيفا عن السجن في كتاب السلطان، وإبراهيم بن البيهقي الذي كان حيّا زمن المقتدر بالله (٢٩٥ - ٣٢٠) في كتابه «المحاسن والمساوئ».
وهنالك كتب صلبها عن السجن والسجّان، والضيق والكرب، ولكن الأخبار أتت منثورة لا يجمعها ناظم، ولا يلمّ شتاتها ضابط، ففي كتاب «الفرج بعد الشدّة» لأبي بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدّنيا المتوفى سنة ٢٨١ هـ نرى أخبار السجن قد طغت على صفحات الكتاب، وكذلك الشأن في كتاب «الفرج بعد الشدة» للمحسّن بن علي التنوخي المتوفى سنة ٣٨٤ هـ يكاد يكون الجزء الأكبر من الكتاب حول السجن ابتداء من ارتكاب المخالفة
1 / 10
والجرم، ومن ثم طرق استجواب المتّهمين، وانتزاع الأدلة، ومن ثم قصص السجن وحوار أصحابها، والأحاديث التي تقال، ثم انفراج الضيق وسهولة الحزن بفضل من الله وكرمه.
أما كتب التاريخ والرجال فأكاد أجزم بأنه لا يوجد كتاب في التاريخ إلا لو أفردت أخبار السجن فيه لكانت كراريس مطوّلة.
وحتى كتب اللغة لم تغفل هذا الجانب، فالمعاجم قد أدرجت مفرادات السجون في موادّها، أما كتب المعاني فقد واكبت تطور المجتمع والدولة، فنجد في كتاب «المخصص» لابن سيده ١٢/ ٩٣ عنوانات هي: الحبس في السجن، ما يحبس به، الحبس في غير السجن والمنع، الأسر والشدّة، باب العذاب، التنقذ والإطلاق، الضيق.
وما زال السجن مؤديا وظيفته، ساميا بسمو الدولة، متّضعا بانحدارها إلى أن استقر به الحال منذ ضعف الدولة الإسلامية حتى يومنا فغدا الحاضر الغائب، المعرفة النكرة، قد غرس في ضمير الأمّة وفكر الفرد، قدرا محتّما كل الطرقات تؤدي إليه، لا فرق بين مفكّر وعيّار، ولا بين فقيه وقاطع طريق، فأمام السجن يقف الناس سواسية، لا فرق بين كبير وصغير، ورفيع ووضيع، وكأنّي بالحاكم لا يعرف إلا: وإن منكم إلا وارده. فقلّما نجد رجلا إلاّ دخله، ومن لم يدخله أصابه من غباره.
وكم دلّلت أمتنا في تاريخنا المجيد على كرهها السجن عندما تنحرف الغاية منه، عندما يغدو رمزا للقهر والعدوان، فقد كسّرت الحبوس، وأخرجت المساجين كما ذكر الخطيب البغدادي في «تاريخه» ١/ ٧٦ حادثة كسر الحبوس بمدينة المنصور سنة ٣٠٧ هـ. وكما يذكر الطبري في «تاريخه» ٩/ ٢٦٢ أنّ العامّة ببغداد فتحوا سجن نصر بن مالك، وأخرجوا من فيه،
1 / 11
ونهبوا ديوان قصص المحبّسين، وقطعت الدفاتر.
هذا هو السجن، وكذا فهمت الدولة الإسلامية-الإسلامية-وظيفة السجن الإصلاحية، وعندما انحرف هذا الفهم، واستبدل الأدنى بالذي هو خير أصبح السجن العبء الأعظم على الأمة، وأصبح رمزا للقهر والتسلط والبغي فما كان من الأمة إلا أن حطّمت هذا الرمز.
وما زلنا نتلمّس رفض الأمة للسجن في نواح شتى، قد يكون أهمها ما درجت عليه الأمّة من الدعاء لهؤلاء المظلومين، حتى أضحى هذا الدعاء جزءا بل ركنا من أركان دعاء الجمعة: اللهم فكّ أسر المأسورين، وأحسن وعجّل خلاص المسجونين.
وما زالت لغتنا تفرز بين الآونة والأخرى أدبا يمكن أن نسميه أدب السجون، مع العلم بأن المفرز لا يمكن أن يمثّل حالة السجن والقهر الذي يعيشه المسجون، فقد ألّف عباس محمود العقاد كتابا سماه «عالم القيود والسدود» ذكر فيه تجربته في سجن (قره ميدان) عام ١٩٣٠ - ١٩٣١ (١)، وهذا أحمد صافي النجفي ينظم ديوان «حصاد السجن» عام ١٩٤١ م.
_________
(١) وهو في هذا الكتاب متأثر أشدّ التأثير بقصة دوستويفسكي: «ذكريات من منزل الأموات».
1 / 12
الكاتب
هو الشيخ الفاضل العلاّمة صفيّ الدين، أبو الفتح عيسى بن البحتري الحلبي، هذا ما أثبت على غلاف المخطوط، وقد حاولت جاهدا أن أجد له ترجمة في كتب التاريخ والرجال دونما طائل (١).
ولقد ورد في الكتاب صوى تشير إلى شخصه دون تحديده. أما الأولى فهي في المقدمة، وقد طمست بعض كلماتها، وهي تشير بمجملها إلى صورة عامّة لرجل قد تقاربت صروف الزمان به، وتآلفت المحن عليه، فقد نزلت به المصائب، وحلّت فيه البلايا من السجن والفقد والعدم. . . . . هذا ما نجده في مقدّمة الكتاب، وهذه المقدّمة لا تشير إلى الزمان ولا إلى المكان، وإنّما هي شاملة عامة تخبرنا عن دواعي تأليف الكتاب أكثر مما تشير إلى شخص صاحبها.
أما الإشارة الثانية فيه فقد جاءت في الخبر (٣٥٠) تحت قوله:
«ولمولاي ركن الدين أحمد بن قرطاء. .» وهو أبو شجاع التركي الإربلي
_________
(١) جهالة مؤلف كتابنا هذا لا تقدح بالكتاب، فهناك كتب كثيرة ألّفت ولم يعلم شيء عن كاتبها، مع استفادة القاصي والداني منها، وأنصع مثالين هما: كتاب «الحماسة البصرية» التي تضاهي حماسة أبي تمام شهرة وذيوعا لصدر الدين بن أبي الفرج بن الحسين البصري المتوفّى سنة ٦٥٩ هـ. فهو على علوّ شأنه وقربه من أكابر عصره وعلمائه وإهدائه حماسته إلى الملك صلاح الدين أبي المظفر لم يترجم له إنسان، أو يذكر مناقبه ومحاسنه. وكتاب «المحاسن والمساوئ» لإبراهيم بن محمد البيهقي، وكلّ ما يعرف عنه أنه كان حيّا زمن المقتدر بالله (٢٩٥ - ٣٢٠ هـ).
1 / 13
مولى السلطان مظفر صاحب إربل، وقد ولد سنة ٥٩٨ هـ، غضب عليه أستاذه مظفر الدين فحبسه، وبعد موت مظفر الدين قدم حلب، وخدم الملك العزيز، ثم استوطن بغداد إلى أن توفي سنة ٦٥٥ هـ.
فمن موالاة مؤلف كتابنا عيسى لركن الدين أحمد نعلم بأنه من رجال القرن السّابع، ونجزم أنه كان حيّا سنة ٦٢٥ هـ.
والإشارة الثالثة وردت في الخبر (٥٩٧) صفحة (٢٢٥) والذي يصدره بقوله: حدّثني الشيخ الصالح أوحد الدين الكرماني وهو حامد بن أبي الفخر ولد بكرمان سنة ٥٦١ وساح ببلاد قونية وقيصرية، وبغداد وحلب ودمشق وكانت له صداقات مع الشيخ ابن عربي والذي ذكره في «فتوحاته» الجزء الثامن قائلا: «حدثني أوحد الدين حامد بن أبي الفخر الكرماني وفقه الله».
كرّمه الخليفة المستنصر بالله وعمل له رباطا توفي سنة ٦٣٥، وقد تأثر به كل من صدر الدين القونوي وجلال الدين الرومي، وكانت له مكانة عظيمة وترك أتباعا كثيرين. وقد ترك مجموعة آثار في اللغة العربية منها «ورد الأوراد» ونسب إليه كتاب «مصباح الأرواح» وليس له. . كتب ما يقارب من ١٧٠٠ رباعية جلّها بالفارسية وهو ممن قال بوحدة الوجود، وقد طعن عليه شيخ الإسلام ابن تيمية عندما ذكر ابن عربي وابن الفارض وجرد أمضى أسلحته وأطلق فيهما لسانه وقلمه جامعا بينهما على الرغم من اختلافهما منزعا ومشربا ومنهجا في إطار واحد مع صدر الدين القونوي، وابن سبعين، والحسين بن منصور الحلاج، وعفيف الدين التلمساني وأوحد الدين الكرماني على أساس أنهم جميعا يقولون بالحلول والاتحاد (١).
_________
(١) انظر الفتوحات المكية ١/ ١٤٠، مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية ١/ ١٦٦، ١٦٧. . نفحات الأنس لجامي صفحة ٥٣٨ (مخطوط فارسي) هدية العارفين ٥/ ٢٢٨ مجلة (المسلمون) انظر صفحة (٢٦٣) المراجع الأجنبية.
1 / 14
والخبر يعزز لنا أن كاتب مؤلفنا كان حيا سنة ٦٢٥، وأنه قد استوى مع الشيخ ابن عربي بالتلقي، فكلاهما قد أخذ عن أوحد الدين الكرماني.
ثقافته
١ - نتلمّس من خلال الكتاب ثقافة رجل من أصحاب الدواوين جمّاعة لا بأس به، صاغ تجربته التي مرّت به فأجاد، واستفاد من مخزونه الثقافي فأحاط وأفاد، وتتبدّى لنا ثقافته في منحيين:
الأول: حشد أخبار وأقوال عن السجن، وما يتعلّق به: الحاكم والأمير والزائر، حتى السامع. ولولا سعة اطلاعه وشمولية ثقافته لعجز عن هذا السّرد.
الثاني: بناء الكتاب، صحيح أن الكتاب عن «أنس المسجون» ولكن الشطر الثاني من اسم الكتاب لم يكن غائبا «سلوة المحزون» وبهذا أعطى الكتاب شمولية لها بعدان: مكاني ونفسي، وبهذا أخرج الكتاب من أن يكون تخصّصيا، فهو من كتب الأدب العامة، أقامه على تسعة أبواب. عرف كيف يسوق الفصول مع الأبواب، كما عرف كيف يدفع الأخبار ويتنقي الأقوال.
والكتاب على جودته وتفرّده لم يأت مبرّأ من العيب خاليا من الهنات، وأهم ما يؤخذ على صاحبه:
١ - تحريف كثير من الأسماء وتصحيفها، ولا أريد أن أرفق الكلام بجدول ولكن ما عليك إلا أن تراجع الأخبار (٩٢،١٣٥،١٧٢. . .).
٢ - كثيرا ما ينسب الخبر إلى غير قائله انظر الخبر (١٨).
٣ - الخروج عن المنهج الذي خطّه لنفسه، ففي الفصل السادس: في القناعة واليأس مما بأيدي الناس يسوق الأخبار (٥٠٧،. . . .٥١٢) ويستمر في الاسترسال بقصص وأخبار هي أقرب ما تكون إلى باب الحلم والجود، ثم
1 / 15
يصحو من استرساله، فيقول معقبا: ثم تمام باب القناعة واليأس.
٤ - ربّما يستحسن خبرا، لكنه ينسى أسماء الشخصيات، فيسوق الخبر بمبهمات. انظر على سبيل المثال الخبر (٦٢).
٥ - وأخيرا نأخذ عليه شيئا بسيطا هو تكرار خبرين هما (٢٨٩ و٣١٩) وقد أعادهما تحت الرقمين (٣٦٤ و٥٥٢).
وأعود فأقول عن جمعه: إنه قد أجاد وأفاد، وانتقى مكارم الأخبار وعيون الأشعار.
٢ - ثقافته من خلال أحكامه: ونتلمس في هذا الكتاب عدّة أحكام أصدرها مؤلف كتابنا هذا نستطيع أن نتبين من خلالها مشربه وثقافته بل وعقيدته وفكره وانتماءه:
أ-الخبر (٢٠٥) صفحة (٨٠) عن الشيخ الرئيس أبي علي ابن سينا وأبياته التي أمر أن تغنّى له حتى تفارق روحه جسده، والتي آخرها:
وبقيت لا شيئا أشاهده ... إلا أقول بأنه ربّي
وفي الأبيات ما فيها من فكرة وحدة الوجود، ثم يقول في آخر الخبر:
ومات من وقته مقدّس الروح مطهّرا. ولا يكتفي بهذا بل يؤكد أنه على طريقته وفكره في البيتين اللذين يسوقهما بعد هذا الخبر وهما:
فليرحم الله إخوانا لنا ذهبوا ... أفناهم حدثان الدهر والأبد
نمدّهم كلّ يوم من بقيتنا ... ولا يؤوب إلينا منهم أحد
ب-الخبر (٥٩٧) صفحة (٢٢٥) والذي يصدره بقوله: حدّثني الشيخ الصالح أوحد الدين الكرماني، ولقد سبق لنا التعريف بهذا الشيخ الصالح صفحة (١٤) وأنه من أصحاب ابن عربي، وله نفس المشرب والمصدر.
وأقول: إن غياب ترجمة المؤلف عنّا دفعنا أن نتلمّس ملامحه الثقافية والتاريخية من خلال هذا الكتاب. وتبقى هذه الأحكام عرضة للتغيير والتبدل إذا
1 / 16
وجدنا ترجمة وافية له تحدّثنا عن الرجل وعقيدته، وتخبرنا عمّا مات عليه.
ويبقى لنا جانب من جوانب ثقافته وهو شعره، فهو شاعر غير مطبوع، وشعره أقرب إلى شعر المؤدبين والعلماء، لا نجد فيه جذوة الشعر، ولا حرارة العبارة، ولا براعة التشبيه، وإنما هو شعر وجداني، أراد به أن يعبّر عن مأساته ومحنته فأتى بأبيات موزونة ذات روي واحد. وانظر إلى أشعاره في الأخبار ذات الأرقام:
خبر ... صفحة
٢٨٥ ... ١١٧
٣٠٤ ... ١٢١
٣٤٢ ... ١٣٣
٣٤٥ ... ١٣٤
٣٥١ ... ١٣٧
1 / 17
الكتاب
إن الكتاب على صغر حجمه، ودقة جرمه له أهميته ومنزلته في المكتبة العربية، وهذه المنزلة تتبدّى أولا بعنوانه، فهو أوّل كتاب يفرد في عنوانه «السجن» ويجعل منه علامة يتوقف عندها، ومنبرا يشدّ القارئ إليه، فانفراده وأوّليته-في هذا المضمار-في أدبنا العربي، وربّما يكون أوّل كتاب يوقف لدراسة هذه الظاهرة في الآداب العالمية، يدللّ على إنسانية أدبنا، وتعاطفه مع الإنسان في جميع حالاته: بسموّه وارتفاعه، بوسطيّته واعتداله، بانحرافه وضلاله، فيبقى الإنسان إنسانا، ويبقى الأصل: فِطْرَتَ اَللهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنّاسَ عَلَيْها [الروم:٣٠] وتبقى حالة التمرّد والعصيان هي الحالة الشاذة العابرة، واستطاع أدبنا أن يكون مع هذه الحالات الثلاث مع الإنسان وله.
وتتبدّى أهمية الكتاب أيضا بنصوصه ومادّته، فإن كثيرا من نصوصه يكاد ينفرد بها، ويقف شاهدا على كتب فقدت من مكتبتنا، انظر على سبيل المثال الأخبار (٢٥٢ انظر الصفحة ٩٩ منه،٤١٢،٥١٣،٦٠٢).
والكتاب يعدّ من كتب الأدب العامة، ولئن كانت تسميته ب: «أنس المسجون وسلوة المحزون» فإنّما هو من باب تسمية الكلّ باسم الجزء.
وعادة تسمية الكل باسم الجزء عادة متّبعة في تراثنا تستند لنفاسة هذا الجزء، أو لأنّ مدار الكتاب عليه، وفي القرآن الكريم سميت كثير من السور باسم آيات فيها: كسورة البقرة، سميت باسم البقرة لورود قصتها في آيات منها، وسورة هود، ومريم. . . ومن هذا الباب سمّى أبو تمام كتابه «الحماسة».
1 / 18
الكتاب تسعة فصول، الفصل الرابع فيه هو: «في السجن والتعويق ومن خرج من سعة إلى ضيق» وباقي فصوله الثمانية فصول لا ترتبط بالسجن إلا ارتباطا خفيا قد لا يدرك للوهلة الأولى فالإنسان ابتداء في أحسن تقويم والفضل والنعم قد جاءته تحبو، ولكن النعم سريعة الذهاب متقلّبة الأحوال فعليه أن يقيّدها بالشكر (الفصل الأول) ويوثقها بالحمد، أما إذا تولّت فما عليه إلا الصبر (الفصل الثاني) والتجلّد، والتسليم والرضا، فمآل الأمور إلى زوال، وأحوالها إلى تبدّل وتغيّر، ومهما كان البلاء جللا فمصيره إلى اضمحلال، وإلا فالموت (الفصل الثالث) خاتمة الأشياء وكأن هناك طرفا خفيا، ورابطة سرية ما بين الموت والسجن لهذا يبدأ (الفصل الرابع) في السجن والتعويق، وأول طلع من طلوع السجن انفضاض الأصحاب، ونفاق الإخوان (الفصل الخامس) وفي هذه الحالة عود على بدء، فما على صاحب هذه المحنّة إلا القناعة والزهد (الفصل السادس) وعليه أن يتحلّى بمكارم الأخلاق ومحاسن المناقب (الفصل السابع) وأن يكون أولا تقيّا، ذا أمانة وديانة (الفصل الثامن) ولا عليه ما جرى له بعدها، فحال الدنيا، وتقلّب أحوالها معروف، فلن يكون أوّل ولا آخر من فعلت به الدنيا فعلها (الفصل التاسع).
ولا يفوتنا ونحن نتحدّث عن الكتاب أن نذكر أن مؤلفه أشار أحيانا إلى مصادره التي استقى منها مادة كتابه فيذكر التنوخي، والمسعودي و«مجالس ثعلب».
1 / 19
وصف المخطوطة
تقع هذه النسخة في إحدى وسبعين ورقة، وهي محفوظة في المتحف البريطاني تحت رقم (١٩٥٣٤). وقد ذكرها بروكلمان في «تاريخ الأدب العربي» ٦/ ١٦٣. وفي الصفحة (١٩) سطرا، وقد تمّ نسخها في السادس والعشرين من ربيع الأول سنة (٨٨٩) على يد أويس بن خليل بن علي المحمدي الأويراتي.
وخطّها نسخي مقروء جميل، كتبت مع الشكل والتنقيط وهي نسخة مقابلة مقروءة.
وعلى غلافها كتبت أشعار بخط فارسي، وهذا نصّها:
لبعضهم:
نمّ العذار بوجهه ثم انثنى ... فكأنّه في وجنتيه مروّع
ثمل يحاول فتل نقطة خاله ... فتمسّه نار الخدود فيرجع
لبعضهم:
ووجه شفّ ماء الحسن فيه ... فلو قبّلت صفحته لسالا
يؤثر فيه لحظ العين حتى ... تخال سوادها في الخدّ خالا
ولبعضهم:
ويرى له في الخدّ خال ... كمسك فوق كافور نديّ
تحيّر ناظري لمّا رآه ... فقال الخال صلّ على النبيّ
فقلت لقد بلغت نصاب حسن ... فأدّ زكاة ذا الوجه [البهيّ]
1 / 20
فقال: أبو حنيفة لي إمام ... يرى أن لا زكاة على الصّبيّ
لبعضهم:
ألا ربّما زرت الملاح وربّما ... لمست بكفيّ البنان المخضّبا
ودغدغت رمان النهود ولم أزل ... أعضعض تفاح الخدود المكتبا
لبعضهم:
بصدر معذبي سطرت ضادا ... مؤرخة لأيام السعود
فقال اكتب حياتك قلت عيني ... حياتي بين رمان النهود
وبالإضافة إلى الأشعار هناك تملك للنسخة ونصّه: تملك العبد الحقير جرجس نعمة الله حسون.
كما ذكرت على هامش الورقة الأخيرة:
لقد كنت مثل اللّيث في زمن الصّبا ... وحدّته أكلي بما قنصت كفّي
وقد صرت مثل الهرّ أكلي سرقة ... وإن قويت نفسي فأكلي بالخطفي
وهنت إلى أن صرت كالفأر مأكلي ... بقرض وربّ القرض منّي يستعفي
وخوفي بعد الفأر أصبح نملة ... فإني أرى الأحوال تمشي إلى خلفي
وجاء في الهامش الأيسر على نفس الورقة ما نصّه: فائدة:
الغسل قبل طعام لليدين غنى ... والغسل من بعده حرز من الجذم
بارك الله في عيش غسل له، وغسل منه.
وكما ذكرت أن النسخة فيها كثير من الأخطاء والتحريفات، والناسخ يثبت الكلام بلهجته فغالبا ما تتحول الظاء إلى ضاد.
1 / 21
منهج التحقيق
لم آل جهدا في سبيل الحصول على نسخة ثانية لهذا المخطوط، فالنسخة الثانية غالبا ما تسدّ ثغرات النسخة الأولى، وتستر عوارها، وتقيم خللها، ولكن تجري الرياح بما لا يشتهى. وقد استعضت عن هذا بمحاولة تخريج كلّ أخبار الكتاب من أكثر من مصدر، ولكن المشكلة التي اعترضتني هي صحة نسبة الأقوال لأصحابها، فإن مررت بأخبار دون تخريج فهي إما لنفاسة هذا الكتاب وتفرّده بها، أو لعزو الأقوال إلى غير قائليها. ولقد رددت ما أعانني الله عليه من الأخبار إلى أصحابها، وبقي عدد غير قليل مردّه إلى ضعف بضاعتي وقلّة حيلتي.
أما المقابلة بعد النسخ والضبط والتفصيل والترقيم، والتنصيص والشرح، والتعريف بالرجال والأماكن، فهو تحصيل حاصل لا أجد لذكره مسوغا.
ولا يفوتني أن أتوجه بخالص الشكر والامتنان إلى الأخوة الأساتذة الكرام أبي خالد مأمون الصاغرجي، وأبي سميح إبراهيم صالح، والدكتور أبي عمار محمد حسان الطيان، الّذين استفدت من علمهم وآرائهم في إخراج هذا الكتاب.
إلهي لك الحمد ولك الشكر على ما أوليت
ولك النعمة والفضل على ما أعطيت
ربّ بما أنعمت عليّ فلن أكون ظهيرا للمجرمين
دمشق في غرّة ذي الحجة ١٤١٤ هـ
أيار ١٩٩٤ م محمد أديب الجادر
1 / 22
صفحة العنوان
1 / 23
الصفحة الأولى من المخطوطة
1 / 24
الصفحة الأخيرة من المخطوطة
1 / 25