( لقد مض الوحي ومات العلا
وارتفع الجود مع السلسلة ) وكانت هذه السلسلة لا يأتيها رجلان إلا نالها المحق منهما ومن كان مبطلا ارتفعت عنه فلم ينلها وملخص حكايتها مع اختلاف فيه أن رجلا يهوديا كان قد استودعه رجل مائة دينار فلما طلب الرجل وديعته جحد ذلك اليهودي فترافعا إلى ذلك المقام عند السلسلة فأخذ اليهودي بمكره ودهائه فسبك تلك الدنانير وحفر جوف عصاه وجعلها فيها فلما أتى ذلك المقام دفع العصا إلى صاحب الدنانير وقبض عل السلسلة ثم حلف بالله لقد أعطاه دنانيره ثم دفع إليه صاحب الدنانير العصا وأقبل حتى أخذ السلسلة فحلف إنه لم يأخذها منه ومس كلاهما السلسلة فعجب الناس من ذلك فارتفعت السلسلة من ذلك اليوم لخبث الطويات وحكي غير ذلك وجعل سليمان عليه السلام تحت الأرض بركة وجعل فيها ماء وجعل عل وجه ذلك الماء بساطا ومجلس رجل جليل أو قاض جليل فمن كان على الباطل إذا وقع في ذلك الماء غرق ومن كان عل الحق لم يغرق ومن العجائب التي كانت أيضا فيبيت المقدس في الزمان الأول ما حكاه صاحب مثير الغرام أن الضحاك بن قيس صنع به العجائب الأولى إنه صنع به في ذلك الزمان نارا عظيمة اللهب فمن عصى الله في تلك الليلة أحرقته تلك النار حين ينظر إليها والثانية من رمى بيت المقدس بنشابة رجعت النشابة إليه والثالثة وضع كلبا من خشب عل باب بيت المقدس فمن كان عنده شيء من السحر إذا مر بذلك الكلب نبح عليه فإذا نبح عليه نسى ما عنده من السحر والرابعة وضع بابا فمن دخل منه إذا كان ظالما من اليهود ضغطه ذلك الباب حتى يعترف بظلمه والخامسة وضع عصا في محراب بيت المقدس فلم يقدر أحد يمس تلك العصا إلا من كان من ولد الأنبياء ومن كان سو ذلك أحرقت يده والسادس كانوا يحبسون أولاد الملوك عندهم في محراب بيت المقدس فمن كان من أهل المملكة إذا أصبح أصابوا يده مطلية بالدهن وكان ولد هارون يجئيون إلى الصخرة ويسمونها الهيكل بالعبرانية وكانت تنزل عليهم عين زيت من السماء فتدور في القناديل فتملأها من غير أن تمس وكانت تنزل نار من السماء فتدور عل مثال سبع عل جبل طور زيتا ثم تمتد حتى تدخل من باب الرحم ثم تصير عل الصخرة فيول ولد هارون تبارك الرحمن لا إله إلا هو فغفلوا ذات ليلة عن الوقت الذي كانت تنزل النار فيه فنزلت وليس هم حضورا ثم ارتفعت النار فجاؤا فقال الكبير للصغير يا أخي قد كتبت الخطيئة أي شيء ينجينا من بني إسرائيل أن تتركنا هذا البيت الليلة بلا نور ولا سراج ؟ فقال الصغير للكبير تعالى حتى نأخذ من نار الدنيا فنسرج القناديل لئلا يبقى هذا البيت في هذه الليلة نور ولا سراج فأخذ من نار الدنيا واسراجا فنزلت عليهما النار في ذلك الوقت فأحرقت نار السماء نار الدنيا وأحرقت ولدي هارون فناج نبي ذلك الزمان فقال يا رب أحرقت ولدي هارون وقد علمت مكانهما فأوح الله تعال إليه هكذا افعل بأوليائي إذا عصوني فكيف افعل بأعدائي ( طلسم الحيات ) قال الحافظ بن عساكر قرأت في كتاب قديم فيه وفي بيت المقدس حيات عظيمة قاتلة إلا أن الله تعال قد تفضل عل عباده بمسجد عل ظهر الطريق أخذه عمر بن الخطاب رضي الله عنه من كنيسة هناك تعرف بقمامة وفيه اسطوانتان كبيرتان من حجارة عل رأسهما صور حيات يقال إنها طلسم لها فمت لسعت إنسانا حية في بيت المقدس لم تضره شيئا وأن خرج عن بيت المقدس شبرا من الأرض مات في الحال ودواؤه من ذلك أن يقيم في بيت المقدس ثلاثمائة وستين يوما فإن خرج منه وقد بقي من العدة يوم واحد هلك وذكر الهروي أيضا نحو هذا في كتاب الزيارات له قال صاحب مثير الغرام رحمه الله وقد اخبرني الفقيه شمس الدين محمد بن علي بن عقبة وهو عدل فاضل ثقة أن ذلك اتفق لشخص سماه هو وأنسيت اسمه كان يلعب بالحيات فلدغته حية فخرج من المقدس فمات وهذا يؤيد ما ذكراه قلت وهذا المسجد معروف وهو بحارة النصارى بالقدس الشريف بجوار كنيسة القمامة من جهة الغرب عن يمينه السالك من درج القمامة الخانقاه الصلاحية والذي يظهر أن طلسم الحيات بطل منه والله أعلم ولما انتهت عمارة مسجد بيت المقدس شرع سليمان في بناء دار مملكته بالقدس الشريف واجتهد في عمارتها وتشييدها وفرغ منها في مدة ثلاث عشرة سنة وانتهت عمارتها في السنة الرابعة والعشرين من ملكه ( قصة بلقيس ) وفي السنة الخامسة والعشرين من ملكه جاءته بلقيس ملكة اليمن ومن معها وقصتها معه مشهورة وملخصها عن سيدنا سليمان عليه السلام لما فرغ من بناء بيت المقدس عزم على الخروج إلى مكة فتجهز للسير واستصحب من الجن والأنس والشياطين والطيور والوحوش ما بلغ معسكره مائة فرسخ فحملتهم الريح فلما وافى الحرم أقام به ما شاء الله أن يقيم وكان ينحر كل يوم - طول مقامه بمكة - خمسة آلاف ناقة ويذبح خمسة آلاف ثور وعشرين ألف شاة وقال لمن حضره من أشراف قومه هذا مكان يخرج منه نبي عربي صفته كذا وكذا يعطي النصر على من عاداه وتبلغ هيبته مسيرة شهر القريب والبعيد عنده في الحق سواء لا تأخذه في الله لومة لائم قالوا فبأي دين يدين يا نبي الله ؟ قال بدين الحنيفية فطوبي لمن آمن به وأدركه فقالوا كم بيننا وبين خروجه يا نبي الله ؟ قال مقدار ألف عام فليبلغ الشاهد منكم الغائب فإنه سيد الأنبياء وخاتم الرسل فأقام بمكة حتى قضي نسكه ثم خرج من مكة صباحا وسار حتى لحق اليمن فوافى صنعاء وقت الزوال وذلك مسيرة شهر فرأى أرضا حسنا تزهو خضرتها فأحب النزول بها ليتغذى ويصلي وكان الهدهد دليل سليمان عل الماء فإنه كان يعرف موضع الماء ويراه تحت الأرض كما يرى في الزجاجة فيعرف قربه من بعده فينقر الأرض حتى تجيء الشياطين فيسلخونها ويستخرجون الماء فلما نزل سليمان قال الهدهد سليمان قد اشتغل بالنزول فارتفع نحو السماء حتى نظر إلى طول الدنيا وعرضها فنظر يمينا وشمالا فرأى بستانا لبلقيس فمال إلى الخضرة فوقع فيه فإذا هو بهدهد فهبط عليه وكان اسم الهدهد سليمان يعفو واسم هدهد اليمن عنيفر فقال عنيفر اليمن ليعفور سليمان من أين أقبلت وأين تريد ؟ قال أقبلت من الشام مع صاحبي سليمان بن داود فقال ومن سليمان ؟ قال ملك الأنس والجن والشياطين والوحوش والطيور والرياح فقال يعفور لعنيفر فمن أين أنت ؟ قال أنا من هذه البلاد قال ومن ملكها ؟ قال امرأة يقال لها بلقيس وأن لصاحبكم ملكا عظيما ولكن ليس ملك بلقيس دونه فإنها ملكة اليمن كلها وتحت يدها اثنا عشر ألف قائد تحت يد كل قائد مائة ألف مقاتل فهل أنت منطلق معي حتى تنظر إلى ملكها ؟ قال أخاف أن يتفقدني سليمان في وقت الصلاة إذا احتاج الماء قال الهدهد اليماني إن صاحبكم يسره أن تأتيه بخبر هذه الملكة فانطلق مهم حتى نظر إلى بلقيس وملكها وما رجع إلى سليمان إلا وقت العصر فلما نزل ودخل عليه وقت الصلاة - وكان نزل على غير ماء - فسأل الجن والأنس والشياطين عن الماء فلم يعلموا فتفقد الطير الهدهد فدعا عريف الطير وهو النسر فسأله عن الهدهد فقال اصلح الله الملك ما ادري أين هو وما أرسلته مكانا فغضب عند ذلك سليمان وقال ( لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين ) واختلف في العذاب الذي توعده به فأظهر الأقوال أن عذابه أن ينتف ريشه وذنبه ويليقيه في الشمس ممعطا لا يمتنع من النحل ولا من هوام الأرض أو لأذبحنه أي لأقطعن حلقه أو ليأتيني بسلطان مبين بحجة بينة وعذر ظاهر ثم دعا العقاب سيد الطيور فقال علي بالهدهد الساعة فرفع العقاب نفسه دون السماء حتى التصق بالهواء إلى الدنيا كالقصعة بي يدي أحدكم ثم التفت يمينا وشمالا فإذا هو بالهدهد مقبلا من ناحية اليمن فانقض العقاب نحوه يريده فلما رأى الهدهد ذلك علم أن العقاب يقصده بسوء فناشده فقال بالذي قواك وأقدرك علي إلا رحمتني ولم تتعرض لي بسوء فولى العقاب وقال ويلك ثكلتك أمك إن نبي الله حلف أن يعذبك أو يذبحك ثم طارا متوجهين نحو سليمان فلما انتهى إلى العسكر تلقاه النسر والطير فقالوا له ويلك أين غبت في يومك هذا القدر توعدك سليمان نبي الله واخبروه بما قال فقال الهدهد وما استثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا بلى قال ( أو ليأتيني بسلطان مبين ) قال نجوت إذا ثم انطلق العقاب والهدهد حتى أتيا سليمان - وكان قاعدا عل كرسيه - فقال العقاب قد أتيتك به يا نبي الله فلما قرب الهدهد منه رفع رأسه أرخى ذنبه وجناحيه يجرهما عل الأرض تواضعا لسليمان فلما دنا منه أخذ برأسه فمده إليه فقال أين كنت ؟ لأعذنك عذابا شديدا فقال له الهدهد يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله عز وجل فلما سمع سليمان ذلك ارتعد وعفا عنه ثم سأله ما الذي أبطأك عني ؟ فقال الهدهد ما أخبر به الله تعالى في قوله ( فمكث غير بعيد - أي غير طويل - فقال أحطت بما لم تحط به ) والإحاطة العلم بالشيء من جميع جهاته يقول علمت ما لم تعلمه وبلغت ما لم تبلغه أنت ولا جنودك ( وجئتك من سبأ بنبأ يقين ) فقال سليمان وما ذاك ؟ قال إني وجدت امرأة تملكهم اسمها بلقيس بنت شراحيل من نسل يعرب بن قحطان وكان أبوها ملكا عظيم الشأن وقد ولد له أربعون ملكا وهي آخرهم وكان يملك أرض اليمن كلها وكان يقول الملوك الأطراف ليس أحد منكم كفؤا لي وأبي أن يتزوج منهم فزوجوه امرأة من الجن يقال لها ريحانه بنت اليسكن فولدت له بلقيس ولم يكن له ولد غيرها وجاء في الحديث إن أحد أبوي بلقيس كان جنيا فلما مات أبو بلقيس طمعت في الملك فطلبت من قومها أن يبايعوها فأطاعها قوم وعصاها آخرون فملكوا عليهم رجلا فافترقوا فرقتين كل فرقة استولت على طرف من أرض اليمن ثم إن الرجل الذي ملكوه أساء السيرة في أهل مملكته حتى كان يمد يده إلى حريم رعيته فيفجر بهن فأراد قومه خلعه فلم يقدروا عليه فلما رأت بلقيس ذلك أدركها الغيرة فأرسلت إليه تعرض نفسها عليه فأجابها الملك وقال ما منعني أن ابتدئك بالخطبة إلا الأياس منك فقالت لا أرغب عنك كفؤ كريم فاجمع رجال قومي وأخطبني إليهم فجمعهم وخطبها إليهم فقالوا لا نراها تفعل هذا فقال لهم إنها طلبت ذلك أحب أن تسمعوا قولها فجاؤها فذكروا لها ذلك فقالت نعم أحببت الولد فزوجوها منه فلما زفت إليه خرجت بأناس كثيرة من حشمها فلما جاءته سقته الخمر حنى سكر ثم حزت رأسه وانصرفت من الليل إلى منزلها فلما أصبحوا ورأوا الملك قتيلا ورأسه منصوب على باب دارها علموا أن تلك المناكحة كانت مكرا وخديعة منها فاجتمعوا إليها وقالوا أنت بهذا الملك أحق من غيرك فملكوها وقد جاءفي الحديث الشريف أن رسول الله ( ص ) لما بلغه أن أهل فارس قد ملكوا عليهم بنت كسرى قال لا أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة قال الله تعال ( ^ واوتيت من كل شيء - أي تحتاج إليه الملوك من الآلة والعدة - ولها عرشعظيم ) سرير ضخم كا نمضروبا رمن الذهب مكللا بالدر والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر وقوائمه من الياقوت ومن الزمرد وعليه سبعة بيات عل كل بيت باب يغلق قال ابن عباس كان عرش بلقيس ثلاثين ذراعا في ثلاثين ذراعا وطوله في السماء ثلاثون ذراعا وقيل غير ذلك ( وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يعتدون ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض - فخبء السماء المطر وخبء الأرض النبات - ويعلم ما يخفون وما يعلنون الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم ) أي هو المستحق للعبادة والسجود لا غيره وعرش ملكة سبأ وإن كان عظيما فهو صغير حقير في جنب عرشه عز وجل فلما فرغ الهدهد من كلامه قال له سليمان ( سننظر أصدقت فيما أخبرت أم كنت من الكاذبين ) فدلهم الهدهد على الماء فاحتفروا الركايا وروى الناس والدواب ثم كتب سليمان كتابا من عند سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ بسم الله الرحمن الرحيم سلام من اتبع الهدى أما بعد ( فلا تعلوا علي ائتوني مسلمين ) ولم يزد سليمان عل ما قص الله في كتابه وكذلك الأنبياء كانت تكتب جملالا لا يطيلون ولا يكثرون فلما كتب الكتاب طبعه بالمسك وختمه بخاتمة وقال للهدهد ( اذهب بكتابي هذا فالقه إليهم ثم تول - تنح عنهم وكن قريبا منهم - فانظر ماذا يرجعون ) يردون من جواب فأخذ الهدهد الكتاب وأتى به إلى بلقيس - وكانت بأرض اليمن بأرض يقال لها مأرب بأرض صنعاء عل ثلاثة أيام - فوافوها في القصر وقد أغلقت الأبواب وأخذت المفاتيح فوضعتها تحت رأسها فأتاها وهي نائمة مستلقية عل قفاها فألق الكتاب عل نحوها فأخذت بلقيس الكتاب - وكانت قارئة - فلما رأت الخاتم ارتعدت وخضعت لأن ملك سليمان كان في خاتمه وعرفت أن الذي أرسل الكتاب أعظم ملكا منها فقرأت الكتاب وتأخر الهدهد غير بعيد فجاءت حتى قعدت عل سرير ملكها وجمعت الملأ من قومها وهم اثنا عشر ألف قائد مع كل قائد مائة ألف مقاتل فجاؤا وأخذوا مجالسهم فقالت لهم بلقيس ( يا أيها الملأ - وهم أشراف الناس وكبراؤهم - إني القي إلي كتاب كريم ) سمته كريما لأنه مختوما وروى عن النبي صل الله عليه وسلم إنه قال كرامة الكتاب ختمه ثم بينت ممن الكتاب وقالت ( إنه من سليمان ) وبينت المكتوب فقالت ( وإنه بسم الله الرحمن الرحيم إن لا تعلو علي ) قال ابن عباس لا تتكبروا علي ( وائتوني مسلمين ) طائعين قيل هو من الإسلام قيل هو من الاستسلام ( قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري - أشيروا علي فيما عرض لي وأجيبوني ما كنت قاطعة قاضية وفاصلة أمرا - حتى تشهدون - أي تحضرون - قالوا - مجبيين لها - نحن أولوا قوة - في المال - وأولوا بأس شديد ) - عند الحرب والقتال ثم قالوا والأمر إليك أيتها الملكة في القتال وتركه فانظري من الرأي ماذا تأمرين تجدينا لأمرك مطيعين قالت بلقيس - مجيبة لهم عند التعريض بالقتال - إن الملوك إذا دخلوا قرية عنوة أفسدوها - خربوها - وجعلوا أعزة أهلها أذلة ) أي أهانوا أشرافها وكبراءها كي يستقيم لهم الأمر تحذرهم مسير سليمان إليهم ودخوله بلادهم وتناهى الخبر عنها هاهنا فصدق الله قولها فقال ( وكذلك يفعلون ) أي كما قالت هي يفعلون ثم قالت ( وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون ) والهدي هي العطية على ظهر الملاطفة وذلك أن بلقيس كانت امرأة لبيبة قد سيست وساست فقالت للملأ حولها من قومها إني مرسلة إلى سليمان وقومه بهدية أصانعه بها عن ملكي واختبره بها أملك هو أم نبي فإن يكن نبيا لم يقبل الهدية ولم يرضه منا إلا أن نتبعه عل دينه وذلك وله تعالى ( ^ وكذلك يفعلون ) أي كما قالت هي يفعلون ثم قالت ( وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون ) والهدية هي العطية على ظهر الملاطفة فأهت له وصفاء ووصائف وألبستهم لباسا واحدا كي لا يعرف ذكرهم من اثناهم قيل ألبست الغلمان لباس الجواري وعكسه وكان في لباسهم ما هو مرصع بأنواع الجواهر وأركبتهم الخيول بلجم الذهب مرصعة بالجواهر وجعلت الغواشي من الديباج الملون وبعثت إليه خمسمائة لبنة من الذهب وخمسمائة لبنة من الفضة مكللة بالدر واليواقيت وأرسلت إليه المسك والعنبر والعود اليلنجوج وعمدت إلى حقة فجعلت فيها درة ثمينة غير مثقوبة وخرزة جزعية صغيرة مثقوبة معوجة الثقب ودعت رجلا من أشراف قومها يقال له المنذر بن عمرو وضمت إليه رجالا من قومها أصحاب رأي وعقل وكتبت إليه كتابا بنسخة الهدية وقالت له إن كنت نبيا فميز بين الوصفاء والوصائف وأخبر بما في الحقة من غير علاج أنس ولا جن وأمرت بلقيس الغلمان وقالت لهم إذا كلمكم سليمان فكلموه بكلام تأنيث وتخنث يشبه كلام النساء وأمرت الجواري أن يكلمنه بكلام فيه غلظة يشبه كلام الرجال ثم قالت لرسولها انظر إلى الرجل إذا دخلت عليه فإن نظر إليك نظر غضب فاعلم إنه ملك ولا يهولنك منظره فإنا أعز منه وإن رأيت الرجل بشاشا لطيفا فاعلم إنه نبي مرسل فافهم قوله ورد الجواب فانطلق رسولها بالهدية وأتي الهدهد مسرعا إلى سليمان فأخبره الخبر كله فأمر سليمان الجن أن يضربوا لبنات الذهب ولبنات الفضة ففعلوا ثم أمرهم أن يبسطوا من موضعه الذي هو فيه - وكان تسع فراسخ - ميدانا واحدا بلبنات الذهب والفضة وأن يتركوا عل طريقهم موضعا على قدر اللبنات خاليا وباقي الأرض مفروشة وإن يجعلوا حول الميدان حائطا شرافاتها من الذهب والفضة ثم قال أي الدواب خير ما رأيتم في البر والبحر ؟ قالوا يا نبي الله أنا رأينا دواب في بحر كذا وكذا ممنطقة مختلفة ألوانها على صفات الخيل ولها أجنحة وأعراف ونواصي فقال سليمان علي بها الساعة فأتوا بها فقال شدوها عن يمين الميدان وعن يساره على لبنات الذهب والفضة وألقوا لها علفها فيها ثم قال سليمان للجن علي بأولادكم فاجتمع عنده خلق كثير فأقامهم عن يمين الميدان ويساره ثم قعد سليمان في مجلسه على سريره ووضع له أربعة آلاف كرسي عن يمينه ومثلها عن يساره وأمر الشياطين أن يصطفوا صفوفا فاصطفوا فراسخ عن يمينه ويساره وأمر الأنس أن يصطفوا مثلهم فاصطفوا فراسخ ثم أمر الطيور والوحوش والهوام أن يصطفوا فاصطفوا فراسخ عن يمين سليمان وعن يساره وهو جالس على كرسيه والجميع حوله وعن يمينه وشماله فلما دنا القوم من الميدان ورأوا سليمان ونظروا إلى مكة ونظروا الدواب البحرية التي لم تراعينهم مثلها على وجه الأرض وهو يبولون عل لبن الذهب والفضة ويروثون عليها تقاصرت أنفسهم ورموا جميع ما معهم من الهدايا في ذلك المكان خوفا من أن يتهموا بذلك ولما نظروا إلى الشياطين ورأوا منظرا عجيبا فزعوا وخافوا فقال لهم الشياطين جوزوا فلا بأس عليكم فكانوا يمرون على كردوس من الجن والأنس والوحوش والطير والسباع والهوام حتى وقفوا بين يدي سليمان عليه السلام فنظر إليهم منظرا حسنا بوجه طلق وبشاشة وقال وما رواء كم ؟ فأخبره رئيس القوم بما جاؤا له به أعطاه كتاب الملكة فنظر فيه ثم قال أين الحقة ؟ فأتوه بها فحركها وجاءه جبرائيل عليه السلام وأخبره بما فيها فقال سليمان إن فيها درة ثمينة غير مثقوبة وخرزة مثقوبة معوجة الثقب فقال له الرسول صدقت فاثقب لنا الدرة و ~ ~ أدخل الخيط في الخرزة فقال سليمان من لي بثقبها وسأل سليمان الأنس والجن فلم يكن عندهم علم من ذلك ثم سأل الشياطين فقالوا أرسل إلي الأرضة فجاءت فأخذت شعرة في فمها ودخلت الخزرة بها حتى خرجت من الجانب الآخر فقال سليمان للأرضة ما حاجتك ؟ وما الذي تريدين ؟ قالت يا نبي الله أريد أن تصير رزقي في الشجر فقال لها لك ذلك ثم قال سليمان من لهذه الخرزة يسلكها الخيط ؟ فقالت دودة بيضاء أنا لها يا رسول الله فأخذت الدودة الخيط في فمها ودخلت من جانب ثم خرجت من الجانب الآخر فقال لها سليمان ما تريدين ؟ قالت تجعل رزقي في فواكه فقال لها ذلك لك ثم ميز الجواري والغلمان بأن أمرهم أن يغسلوا وجوههم وأيديهم فجعلت الجارية تأخذ الماء من الآنية بإحدى يديها ثم تجعله عل اليد الأخرى ثم تضرب به الوجه ؟ وجعل الغلام كلما أخذ من الآنية يضرب به وجهه وكانت الجارية تصب الماء صبا والغلام يحدر الماء عل يديه حدرا فميز بينهما بذلك ثم رد سليمان الهدية كما قال الله تعالى عنه تعال قد مكنني فيها وأعطاني منها ما لم يعطه لأحد ومع ذلك أكرمني بالدين والنبوة ثم قال للمنذر بن عمرو - وهو أمير القوم - ارجع إليهم بالهدية ( فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها - أي لا طاقة لهم بها - ولنخرجنهم منها - أي من أرضهم وبلادهم وهي سبأ - أذلة وهم صاغرون ) أي ذليلون إن لم يأتوني مسلمين فلما رجع رسول بلقيس إليها قالت قد عرفت والله ما هذا بملك ولا لنا به من طاقة ثم بعثت إلى سليمان إني قادمة عليك بملوك قومي انظر ما أمرك وما تدعو إليه من دينك ثم أمرت بعرشها فجعلته في آخر سبعة أبيات بعضها في بعض في آخر قصر من سبعة قصور ثم غلقت دونه الأبواب ووكلت به حراسا يحفوظونه ثم قالت لمن خلفت على سلطانها احتفظ بما قبلك وسرير ملكي لا تخلص إليه أحدا ولا تدنيه حتى آتيك ثم أمرت مناديا ينادي في أهل مملكتها تؤذنهم بالرحيل ثم شخصت إلي سليمان في اثنى عشر ألف قيل من ملوك اليمن تحت يد كل قيل ألوف كثيرة وكان سليمان رجلا مهابا لا يبتدأ بشيء حتى يكون هو الذي يسأل عنه فخرج يوما فجلس على سرير ملكه فرأى رهجا قريبا منه فقال ما هذا ؟ قالوا له هذه بلقيس وقد نزلت بهذا المكان وكانت على مسيرة فرسخ من سليمان فأقبل سليمان حينئذ على جنوده وقال لهم يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين مؤمنين وقال ابن عباس مسلمين أي طائعين واختلفوا في السبب الذي لأجله أمر سليمان باختصار عرشها فقال أكثرهم لأن سليمان علم إنها إن اسلم حرم عليه مالها فأراد أن يأخذ سريرها قبل أن يحرم عليه أخذه بإسلامها وقيل أراد يريها قدرة الله عز وجل وعظيم سلطنه في معجزة يأتي بها عرشها قال قتادة لأنه أعجبه صفته حين وصفه الهدهد فأحب أن يراه وقال زيد أراد أن يبدأ بتنكيره وتغييره فيختبر بذلك عقلها ( قال عفريت من الجن ) - وهو المارد القوي قيل اسمه كودي وقيل اسمه دوكان وقيل هو صخر الجني وكان بمنزلة حبل يضع قدمه عند منتهى طرفه - ( أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك ) - أي مجلسك الذي تحكم فيه - وكان له كل غداة مجلس يقضي فيه إلى فراغ النهار ( وإني عليه - أيعل حمله - لقوي أمين ) عل ما فيه من الجواهر والمعادن فقال سليمان أريد شيئا يكون أسرع من ذلك ( فقال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك ) واختلفوا فيه فقيل هو جبريل عليه السلام وقيل هو ملك من الملائكة أيد الله به سليمان عليه السلام وقال الاكثرون هو آصف بن برخيا وكان صديقا يعرف اسم الله الأعظم الذي إذا ادعى به أجاب وإذا سئل به أعطى وروي عن ابن عباس إنه قال إن صف قال لسليمان - حين صلى - مد عينيك حتى ينتهي طرفك فمد عينيه - أي بصره - فنظر نحو اليمن فدعا آصف بين يدي سليمان فبعث الله الملائكة فحملوا السرير من تحت الأرض وهم يخدون خدا حتى انخرقت الأرض بالسرير بين يدي سليمان وقيل غير ذلك وقيل كانت المسافة مقدار شهرين واختلف في الدعاء الذي دعا به صف فقيل إنه قال يا ذا الجلال والإكرام وقيل يا حي يا قيوم وعن الزهري قال الذي عنده علم من الكتاب يا إلهنا وإله كل شيء إلهنا واحدا لا إله إلا أنت ائتني بعرشها وقيل إنما هو سليمان قال له عالم من بني إسرائيل - آتاه الله علما وفهما - ( أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك ) قال سليمان هات قال أنت النبي وليس أحد عند الله أوجه منك فإذا دعوت إليه وطلبته كان عندك قال صدقت ففعل ذلك فجيء بالعرش في الوقت وقوله ( قبل أن يرتد إليك طرفك ) قال سعيد بن جبير يعني من قبل أن يرجع إليك أقصى من تر وهو أن يصل إليك من كان منك على مد بصرك وقيل غير ذلك ( فلما رآه - يعني سليمان العرش - مستقرا عنده - محمولا إليه من هذه المسافة البعيدة في قدر ارتداد الطرف - قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر نعمته أم أكفر - فلأشكرها - ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ) أي يعود نفع شكره عليه وهو أن يستوجب به تمام النعمة ودوامها لأن الشكر قيد النعمة الموجودة وصيد النعمة المفقودة ( ومن كفر فإن ربي غني ) عن شكره وكريم بالا فضال عل من يكفر نعمته ( قال سليمان نكروا لها عرشها ) أي سريرها إلى حال تنكره إذا رأته فقيل جعل أسفله أعلاه وعكسه وجعل مكان الجوهر الأحمر الأخضر وعكسه ( ننظر أتهتدي - إلى عرشها فتعرفه - أم تكون من الجاهلين ) الذين لا يهتدون إليه وإنما حمل سليمان على ذلك أن الشياطين خافت أن يتزوجها سليمان فتفشي إليه أمر الجن لأن أمها كانت جنية وإذا ولدت ولدا لسليمان لا ينفكوا من تسخيرهم لسليمان وذريته من بعده فأساؤا الثناء عليها ليزهدوه فيها وقالوا له إن في عقلها شيئا وإن برجليها شعرا وإن رجليها كحوافر الحمار وإنها مشعرة الساقين فأراد سليمان أن يختبرها في عقلها فنكر عرشها وينظر إلى قدميها ببناء الصرح فلما جاءت لها أهكذا عرشك ؟ قالت كأنه هو عرفته ولكن شبهت عليهم كما شبهوا عليها لم تقل نعم خوفا من التكذيب فقالت كأنه هو فعرف سليمان كمال عقلها حيث لم تقر ولم تنكر وحكي غير ذلك ( فقالت وأوتينا العلم ) بصحة نبوة سليمان الآيات المتقدمة من أمر الهدية والرسل من قبلها ومن قبل الآية في العرش ( وكن مسلمين ) منقادين طائعين لأمر سليمان وقيل غير ذلك قال الله تعالى ( وصدها ما كانت تعبد من دون الله ) أيمنعها ما كانت تعبد من دون الله وهي الشمس ( أن تعبد الله ) أي صدها عبادة الشمس عن التوحيد وعن عبادة الله تعالى وقيل غير ذلك وقوله تعالى ( قيل لها ادخلي الصرح ) الآية وذلك أن سليمان ' ع ' أراد أن ينظر قدميها وساقيها من غير أن يسلبها أثوابها وينظر ما قالت الشياطين عنها أن رجليها كحوافر الحمار وهي مشعرة الساقين فأمر سليمان الشياطين فبنوا له صرحا أي قصرا من زجاج وقيل الصرح صحن الدار أجرى تحته الماء والقى فيه كل شيء من دواب البحر حتى السمك والضفدع وغيرهما ثم وضع سريره في صدره وجلس عليه فعكف عليه الطير والجن والأنس وإنما بنى الصرح ليختبر فهمها كما فعلت هي بالوصائف والوصفاء فلما جلس سليمان على سرير دعا بلقيس فلما جاءت قيل لها ادخلي الصرح ( فلما رأته حسبته لجة - وهي معظم الماء - وكشفت عن ساقيها ) لتخوضه إلى سليمان فنظر سليمان فإذا هي أحسن الناس قدما وساقا إلا إنها مشعرة الساقين فلما رأى سليمان ذلك صرف بصره عنها ثم ناداها إنه صرح ممرد أي مملس من قوارير ثم دعاها للإسلام وكانت قد رأت حال العرش وعلمت أن ملك سليمان من الله تعالى فأجابت وقالت ( رب إني ظلمت نفسي - بالكفر عبادة غيرك - وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ) أي أخلصت له التوحيد واختلف في أمرها هل تزوجها سليمان عليه السلام ؟ فقال بعضهم تزوجها ولما أراد أن يتزوجها كره ما رأى من كثرة شعر ساقيها فسأل الأنس ما يذهب هذا قالوا له الموسى فقال إنها تجرح ساقيها وسأل الجن فقالوا لا ندري ثم سأل الشياطين فقالوا نحتال لك بحيلة حتى يصير كالسبيكة الفضة من غير أذى فقالوا افعلوا فإتخذوا النورة والحمام وكانت النورة والحمام من ذلك اليوم ويقال إن الحمام كان بباب الآباط بالقدس الشريف وهو الحمام الذي بجوار المدرسة الصلاحية وهو من جملة أوقاف المدرس من الملك صلاح الدين وإنما بني لبلقيس وإنه أول حمام وضع عل وجه الأرض والله أعلم ولما تزوجها سليمان أحبها حبا شديدا وأقرها عل ملكها وأمر الجن فابتنوا بأرض اليمن ثلاثة حصون لم ير الناس مثلها ارتفاعا وحسنا ثم كان سليمان بزورها في كل شهر مرة بعد إن ردها إلى ملكها ويقيم عندها ثلاث أيام ؟ وولدت له فيما يذكر والله أعلم ( ذكر فتنة سليمان عليه السلام ) قال الله تعالى ( ولقد فتنا سليمان ) أي اختبرناه وابتليناه بسلب ملكه وسبب ذلك ما روي عن وهب بن منبه قال سمع سليمان بمدينة في جزيرة من جزائر البحر يقال لها صدوف ولها ملك عظيم الشأن لم يكن للناس عليه سبيل لمكانه بالبحر وكن الله عز وجل قد آتى سليمان في ملكه سلطانا لا يمتنع عليه شيء في بر ولا بحر بما يركب إليه الريح فخرج سليمان إلى تلك المدين تحمله الريح عل ظهر الماء حتى نزل بها بجنوده من الجن والأنس فقتل ملكها واستقام فيها فأصاب فيما أصاب ابنه الملك تسمى جرادة لم ير مثلها حسنا وجمالا فاصطفاها لنفسه ودعاها للإسلام فأسلمت عل جفاء منها وقلة موافقة وأحبها لم يحبه أحدا من نسائه فكانت على منزلة عظيمة عنده فكانت لا يذهب حزنها ولا يرقأ دمعها فشق ذلك على سليمان فقال لها ويلك ما هذا الحزن الذي لم يذهب والدمع الذي لا يرقأ ؟ قالت إني أذكر أبي وأذكر ملكه وما كان فيه وما أصابه فيجزيني ذلك قال سليمان قد أبد لك الله ملكا هو أعظم من ملك أبيك وسلطانا هو كذلك ولكني إذا تذكرته أصابني ما ترى من الحزن فلو إنك أمرت الشياطين فيصوروا صورته في داري التي أنا فيها فأراها بكرة وعشية لرجوت أن يذهب ذلك حزني وأن يسلبني بعض ما أجد في نفسي فأمر سليمان الشياطين أن يمثلوا لها صورة أبيها في دارها حتى لا تنكر منه شيئا فمثلوها حتى نظرت إلى أبيها بعينه إلا إنه لا روح فيه فعمدت إليه حين وضعوه فأزرته وقمصته وعممته وردته بمثل ثيابه التي كانت عليه في حال حياته ثم إنها كانت إذا خرج سليمان من دارها تغدو إليه في ولائدها ومن يلوذبها ثم تسجد له ويسجدون له كما كانت تصنع له في ملكه واستمرت تفعل ذلك بكرة وعشية وسليمان لا يعلم بشيءمن ذلك مدة أربعين صباحا فبلغ ذلك آصف ابن برخيا - وكان صديقا وكان لا يرد عن أبواب سليمان وأي ساعة أراد أن يدخل دار سليمان دخل حاضرا كان سليمان أو غائبا - فأتى سليمان وقال له يا نبي الله كبر سني ورق عظمي ونفذ عمري وقد حان مني ذهابه وقد أحببت أن أقوم مقاما قبل الموت أذكر فيه من مضى من أنبياء الله تعالى واثني عليهم بعلمي فيهم وأعلم الناس بعض ما كانوا يجهلون من كثير أمورهم فقال سليمان افعل فجمع له سليمان الناس فقام فيهم خطيبا فحمد الله تعال وذكر من مضى من أنبياء الله تعالى أثنى على كل نبي بما فيه وذكر ما فضله الله به حتى انتهى إلى سليمان فقال ما كان أحلمك في صغرك وأورعك في صغرك وأفضلك في صغرك وأبعدك من كل ما يكره في صغرك ثم انصرف فوجد سليمان في نفسه من ذلك حتى امتلأ غيظا فلما دخل سليمان داره أرسل إليه فقال يا آصف ذكرت من مضى من الأنبياء الله تعالى وأثنيت عليهم خيرا في زمانهم وفي كل حال من أمورهم فلما أن ذكرتني جعلت تثني علي بخير في صغري وسكت عن ما سوى ذلك في أمري في كبري فما الذي أحدثت في خر أمري ؟ فقال له إن غير اهلل يعبد في دارك مدة أربعين صباحا في هوى امرأة فقال سليمان في داري ؟ قال في دارك قال سليمان أنا لله وأنا إليه راجعون لقد عرفت إنك ما قلت الذي قلت إلا عن شيء بلغك ثم رجع سليمان إلى داره وكسر ذلك الصنم وعاقب تلك المرأة وولائدها ثم أمر بثياب الطهرة فأتي بها - وهي ثياب لا يغزلها إلا البنات الأبكار ولا يمسها امرأة قد رأت الدم ولا ينسجها إلا البنات الأبكار ولا يغسلها إلا الأبكار - فلبسها ثم خرج إلى فلاة من الأرض وحده وأمر برماد ففرش له ثم أقبل تائبا إلى الله تعالى حتى جلس على ذلك الرماد وتمعك فيه بثيابه تذللا لله تعالى وتضرعا إليه وجعل يبكي ويدعو ويستغفر مما كان فيداره فلم يزل كذلك يومه حتى أمسى ثم رجع إلى داره وكانت له أم ولد تسمى الأمينة كان إذا دخل مذهبه أو أراد إصابة امرأة من نسائه وضع خاتمه عندها ثم دخل حتى يتطهر وكان لا يلبس خاتمه إلا طاهرا وكان ملكه في خاتمه فوضعه يوما عندها ثم دخل إلى مذهبه فأتاها الشيطان صاحب البحر وكان اسمه صخر عل صورة سليمان لم تنكر منه شيئا فقال خاتمي يا امينه فناولته إياه فجعله في يده ثم خرج حتى جلس عل سرير سليمان فعكف عليه الطير والجن والأنس فخرج سليمان وأتى الأمينة وقد تغيرت حالته وهيئته عند كل من يراه فقال خاتمي يا أمينة فقالت له من أنت ؟ قال سليمان بن داود نبي الله قالت له كذبت قد جاء سليمان وأخذ خاتمه وهو جالس عل سرير ملكه فعرف سليمان أن الخطيئة قد أدركه فخرج وجعل يقف عل الدار من دور نبي إسرائيل فيقول أنا سليمان بن داود فيكذبوه ويحثون عليه التراب ويسبونه ويقولون انظروا إلى هذا المجنون أي شيء يقول يزعم إنه سليمان فلما رأى سليمان ذلك عمد إلى البحر وكان ينقل الحيتان لأصحاب البحر إلى السوق فيعطونه كل يوم سمكتين فإذا أمسى باع إحدى سمكتيه برغيفين وشوى السمكة الأخرى وأكلها فمكث كذلك أربعين صباحا بعدد ما كان عبد الوثن في داره فأنكر آصف وكبراء بني إسرائيل حكم عدو الله الشيطان في تلك الأربعين يوما فقال آصف يا معشر بني إسرائيل هل رأيتم من اختلاف حكم سليمان ابن داود ما رأيت ؟ قالوا نعم قال آصف أمهلوني حتى أدخل على نسائه واسألهن هل ينكرن منه شيئا في خاصة أمره كما ذكرناه في عام أمر الناس فدخل عل نسائه فقال ويحكن هل أنكرتن من أمر ابن داود ما أنكرناه ؟ فقلن أشد ما يدع امرأة منا في دمها ولا يغتسل من دمها ولا يغتسل من الجنابة فقال أنا لله وأنا إليه راجعون إن هذا لهو البلاء المبين ثم خرج آصف على بني إسرائيل فقال ما في الخاص أعظم مما في العامة فاجتمع قراء بني إسرائيل وعلماؤهم فأقبلوا حتى أحدقوا به ونشروا التوراة فقرؤها فطار من بين أيديهم حتى وقع عل شرفه والخاتم معه ثم طار حتى ذهب إلى البحر فوقع الخاتم منه في البحر وابتلعه حوت فأخذه بعضه الصيادين وكان سليمان قد عمل لذلك الصياد من صدر النهار حتى إذا كانت العيشة أعطاه سمكتين فأعطى السمكة التي فيها الخاتم من جملة السمكتين فخرج سليمان بسمكتيه فباع التي ليس في بطنها الخاتم بالرغيفين ثم عمد إلى السمكة الأخرى فبقرها ليشويها فاستقبله خاتمه في جوفها فأخذه وجعله في يده فرد الله تعالى عليه ملكه وبهاءه فوقه ساجدا شكرا فعكفت عليه الطير والوحوش والأنس والجن وأقبل عليه الناس وعرف الذي كان دخل عليه لما أحدث في داره فرجع إلى ملكه وأظهر التوبة من ذنبه وأمر الشياطين فقال أئتوني بصخر فطلبته الشياطين حت أخذته فأتي به فجاء له بصخرة فأدخله فيها ثم سد عليه بأخرى ثم أوثقها بالحديد والرصاص ثم أمر به فقذف به البحر هذا حديث وهب وحكي غير ذلك وأشهر الأقاويل إن الجسد الذي ألقى على كرسيه هو صخر الجني فذلك قوله عز وجل ( ^ وألقينا عل كرسيه جسدا ثم أناب ) أي رجع إلى ملكه بعد أربعين يوما ( فلما رجع قال رب أغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي ) يريد هب لي ملكا لا تسلبنيه في باقي عمري وتعطيه غيري كما سلبتنيه فيما مضى ( إنك أنت الوهاب ) قيل سأل ذلك ليكون آية لنبوته ودلالة عل رسالته ومعجزة له وقيل سأل ذلك ليكون علما عل قبول توبته حيث أجاب الله دعاءه ورد إليه ملكه وزاد فيه وقال مقاتل كان سليمان ملكا ولكنه أراد بقوله ( لا ينبغي لأحد من بعدي ) تسخير الرياح والطير والشياطين بدليل ما بعده وروى أبو هريرة عن النبي صل الله عليه وسلم قال إن عفريتا من الجن تفلت البارحة ليقطع علي صلاتي فأمكنني الله منه فأخذته فأردت إن أربطه إلي سارية من سواري المسجد حتى تنظروا إليه كلكم فذكرت دعوة أخي سليمان ( رب أغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي فرددته خاسئا ) ولما رد الله على سليمان ملكه وبهاءه وحامت عليه الطير وعرف الناس إنه سليمان قاموا يعتذرون إليه مما صنعوا فقال ما أحمدكم عل عذركم ولا ألومكم على ما كان منكم هذا أمر كان لا بد منه ثم جاء حتى أتى ملكه و أطاعه جميع ملوك الأرض وحملوا إليه نفائس أموالهم واستمر سليمان على ذلك حتى توفي ( ذكر وفاته عليه السلام ) وقد روي وفاة سليمان عليه السلام ما قاله أهل العلم إنه كان يتحنث في بيت المقدس السنة والسنتين والشهر والشهرين وأقل من ذلك وأكثر يدخل فيه طعامه وشرابه فأدخله في المرة التي مات فيها وكان بدأ ذلك إنه لا يصبح يوما إلا نبتت في محرابه ببيت المقدس شجرة فيسأل هل ما أسمك ؟ فتقول اسمي كذا فيقول لأي شيء أنت ؟ فتقول كذا وكذا فيأمر بها فتقطع فإن كانت نبتت لغرس يغرسها وإن كانت لدواء كتبها حتى نبتت الخروبة فقال لها ما أنت ؟ قالت الخروبة قال لأي شيء نبت ؟ قالت لخراب مسجدك فقال سليمان ما كان الله ليخربه وأنا حي أنت التي عل وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس فنزعها وغرسها في الحائط ثم قال اللهم غم على الجن موتي حتى تعلم أن الأنس إن الجن لا يعلمون الغيب وكانت الجن تخبر الأنس إنهم يعلمون من الغيب أشياء ويعلمون ما في غد ثم دخل المحراب فقام يصلي متكئا عل عصاه نقل إنه نحتها من الخروب فمات قائما وكان للمحراب كوى بين يديه وخلفه فكان الجن يعلمون تلك الأعمال الشاقة التي كانوا يعملونها في حياته وينظرون إليه يحسبون إنه حي ولا ينكرون احتباسه عن الخروج إلى الناس لطول صلاته قبل ذلك فمكثوا يدأبون له بعد موته حولا كاملا حتى أكلت الأرضية عصا سليمان فخر ميتا فعلموا بموته فشكرت الأرضة فهم يأتونها بالماء والطين في جوف الخشب فذلك قوله تعالى ( ^ ما دلهم عل موته إلا دابة الأرض - وهي الأرضة - تأكل منسأته - يعني عصاه - فلما خر - أي سقط عل الأرض - تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ) أي علمت الجن وأيقنت أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين أي في التعب والشقاء مسخرين لسليمان وهو ميت يظنون حياته أراد الله بذلك أن يعلم الجن إنهم لا يعلمون الغيب لأنهم كانوا يظنون إنهم يعلمون الغيب لغلبة الجهل وقيل إن معنى تبينت الجن أي ظهرت وانكشفت الجن للأنس أي ظهر أمرهم إنهم لا يعلمون الغيب لأنهم كانوا قد شبهوا عل الأنس ذلك وتوفي سليمان وعمره اثنتان وخمسون سنة فكانت مدة ملكه أربعين سنة فتكون وفاته في أواخر سنة خمس وسبعين وخمسمائة لوفاة موسى عليه السلام وذلك بعد فراغ بناء بيت المقدس بتسع وعشرين سنة فيكون الماضي من وفاته إلى عصرنا وهو أواخر سنة تسعمائة من الهجرة الشريفة النبوي ألفين وستمائة وثلاثا وسبعين سنة والله أعلم ونقل أن قبره بالبيت المقدس عند الجيسمانية وإنه هو وأبوه داود في قبر واحد واستمر بيت المقدس على العمارة السلمانية أربعمائة وثلاثا وخمسين سنة ( ذكر خراب بيت المقدس عل يد بخت نصر ) لما توفي سليمان عليه السلام ملك بعده إبنه رحبعم - بضم الراء والحاء المهملتين وسكون الباء الموحدة وفتح العين المهملة ثم الميم - وفي أيامه اختل نظام الملك وخرج عن طاعته عشرة أسباط ولم يبق تحت طاعته سو سبطين وصار الأسباط العشر ملوكا تعرف بملوك الأسباط واستمر الحال على ذلك نحو مائتين وإحدى وستين سنة وكان ولد سليمان في بني إسرائيل بمنزلة الخلفاء للإسلام لأنهم أهل الولاية وكان الأسباط مثل ملوك الأطراف والخوارج وارتحل الأسباط إلى جهات فلسطين وغيرها بالشام واستقر ولد داود بالبيت المقدس واستمر رحبعم على ما استقر له من الملك وزاد في عمارة بيت لحم وغزة وصور وغير ذلك وعمر آيلة وجددها وملك سبعة عشر سنة ومات ثم ملك بعده إبنه افيا - بفتح الهمزة وكسر الفاء التي هي بين الألف والياء عل مقتض اللغة العبرانية وتشديد الياء المثناة من تحتها ثم ألف - وكان مدة ملكه ثلاث سنين ومات ثم ملك بعده ابنه يهوشافاط - بفتح المثناة من تحتها وضم الهاء وسكون الواو وفتح الشين المعجمة وبعدها ألف ثم فاء وألف وطاء مهملة - وكان رجلا صالحا كثير العناية بعلماء بني إسرائيل وكانت مدة ملكه خمسا وعشرين سنة ومات ثم ملك بعده ابنه يهورام - بفتح الياء المثناة من تحتها وضم الهاء وسكون الواو ثم راء مهملة ثم ألف وميم - وكانت مدة ملكه ثماني سنين ومات ثم ملك بعده ابنه احزياهو - بفتح الهمزة والحاء المهملة وسكون الزاي المعجمة ثم المثناة من تحتها ثم ألف وهاء ثم واو - وكانت مدة ملكه سنتين ومات ثم كان بعد أحزياهو فترة بغير ملك وحكمت في الفترة المذكورة امرأة ساحرة أصلها من جواري سليمان عليه السلام وأسمها عثلياهو - بفتح العين المهملة والثاء المثلثة وسكون اللام وفتح الياء المثناة من تحتها وبعدها ألف ثم هاء مضمومة ثم واو - يقال عثليا بغير هاء ولا والو وتتبعت نبي داود فأفتهم وسلم منها طفل أخفوه عنها وكان اسم ذلك الطفل يواش بن احزبوا واستولت عثلياهو سبع سنين فيكون آخر الفترة وعدم عثلياهو في أواخر سنة ثمان وسبعين وستمائة لوفاة موسى عليه السلام ثم ملك بعد عثلياهو يؤاش وهو ابن سبع سنين ويؤاش - بضم الياء المثناة من تحتها ثم همزة وألف وشين معجمة - وفي السنة الثالثة والعشرين من رمم بيت المقدس وجدد عمارته وملك أربعين سنة ومات ثم ملك بعده ابنه امصياهو - بفتح الهمزة والميم وسكون الصاد المهملة ومثناة من تحتها ثم ألف وهاء ثم واو - وملك تسعا وعشرين سنة وقيل خمسة عشر سنة وقتل ثم ملك بعده ابنه عزياهو - بضم العين المهملة وتشديد الزاي المعجمة ثم مثناة من تحتها ثم ألف وهاء ثم واو - وملك اثنتين وخمسين سنة ولحقه البرص وتنغصت عليه أيامه وضعف أمره في آخر وقته وتغلب عليه ولده يوثم ومات ثم ملك بعده ابنه يوثم - بضم المثناة من تحتها وسكون الواو وفتح الثاء المثلثة ثم ميم - وفي أيامه كان يونس النبي عليه السلام وملك ستة عشر سنة ومات ثم ملك بعده ابنه آخر - بهمزة ممدودة ممالة أيضا وحاء مهملة مفتوح ثم زاي معجمة - ملك ستة عشر سنة ومات ثم ملك ابنه حزقيا - بكسر الحاء المهملة وسكون الزاي المعجمه وكسر القاف وتشديد الياء المثناة من تحتها ثم ألف - وكان رجلا صالحا مظفرا ولما دخلت السنة السادسة من ملكه انقرضت دولة الخوارج ملوك الأسباط - الذين نبهنا عليهم عند ذكر رحبعم بن سليمان - وانضم من بقى من الأسباط إلى حزقيا ودخلوا تحت طاعته وكان من الصلحاء الكبار وكان قد خرج عليه سنحاريب ملك بابل والموصل ونزل حول بيت المقدس في ستمائة راية فنصره الله وأهلك عسكر سنحاريب ووقع سنحاريب في أسره ثم اطلقه وسيره إلى بلاده وكان قد فزغ عمر حزقيا موته بخمسة عشر سن فزاد الله في عمره خمسة عشر سنة وأمره أن يتزوج وأخبره بذلك نبي كان في زمانه وهو اشعيا ' ع ' واشعيا هو الذي بشر بالنبي صلى الله عليه وسلم وبشر بعيسى عليه السلام وملك حزقيا تسعا وعشرين سنة ومات ثم ملك بعده ابنه منشا - بميم ونون مفتوحتين وشين معجم مشددة وألف - وملك خمسا وخمسين سنة ومات ثم ملك بعده إبنه يوشيا - بضم المثناة من تحتها وسكون الواو وكسر الشين المعجمة وتشديد المثناة من تحتها ثم ألف - ولما ملك أظهر الطاعة والعبادة وجدد عمارة بيت المقدس وأصلحه وملك يوشيا إحدى وثلاثين سنة ومات ثم ملك بعده ابنه يهوياخين - بياء مثناة من تحتها مفتوحة وهاء مضمومة وبعدها واو ثم ياء مثناة من تحتها مفتوح وبعدها ألف ثم خاء معجم مكسورة ثم ياء مثناة من تحتها ساكنة ثم نون - ولما ملك غزاه فرعون مصر - وهو الأعرج - فأخذ يهوياخين أسيرا إلى مصر فمات بها وكانت مدة ملكه ثلاثة أشهر ولما اسر يهوياخين ملك بعده أخوه يهوياقيم - بفتح المثناة من تحتها وضم الهاء ثم واو ساكنة وياء مثناة من تحتها وألف وقاف مكسورة وياء مثناة من تحتها ساكنة وميم - وفي السنة الرابعة من ملكه تولى بخت نصر على بابل وكان ابتداء ولايته في سنة تسع وسيعين وتسعمائة لوفاة موسى عليه السلام وتفسير بخت نصر بالعبرانية عطا دوهو سطو سمي بذلك لتقريبه العلماء والحكماء وحبه أهل العلم واختلف المؤرخون فيه هل كان ملكا مستقلا بنفسه أم كان نائبا للفرس والأصح عند الأكثر إنه كان نائبا لملك اسمه لهراسف وبين ولاية بخت نصر والهجرة الشريفة ألف وثلاثمائة وتسع وستون سنة ومائة وسبعة عشر يوما وقد مضى من الهجرة الشريفة إلى عصرنا تسعمائة سنة فيكون الماضي من ولاية بخت نصر إلى آخر سنة تسعمائة من الهجرة الشريفة ألفين ومائتين وتسعا وستين سنة وأياما وفي السنة الرابعة من ملكه - وهي السابعة من ملك يهوياقيم - سار بخت نصر بالجيوش إلى الشام وغزا بني إسرائيل لما حصل منهم من التغيير والتبديل وفعل القبيح فلم يحاربه يهوياقيم ودخل تحت طاعته فأبقاه بخت نصر على ملكه ورجع بنو إسرائيل إلى الله تعالى وتابوا عن المعاصي فرد الله عنهم بخت نصر وبقى يهوياقيم تحت طاعته بخت نصر ثلاث سنين ثم خرج عن طاعته وعصاه فأرسل بخت نصر وأمسك يهوياقيم وأمر بإحضاره إليه فمات يهوياقيم في الطريق من الخوف فكانت مدته نحو إحدى عشرة سنة وانقضى ملكه في أوائل سنة ثمان لابتداء ملك بخت نصر ولما أخذ يهوياقيم المذكور إلى العراق استخلف مكانه ابنه يخنيو - بفتح المثناة من تحتها والخاء المعجمة وسكون النون وضم المثناة من تحتها ثم واو - فأقام موضع أبيه مائة يوم ثم أرسل بخت نصر من أخذه إلى بابل وأخذ معه أيضا جماعة من علماء بني اسرائيل من جملتهم دانيال النبي وحزقيل النبي وهو من نسل هارون عليه السلام وحال وصول يخينو سجنه بخت نصر ولم يبرح مسجونا حتى مات بخت نصر ولما أمسك بخت نصر يخينو نصب مكانه عل بني إسرائيل يخينو المذكور وهو صدقيا - بكسر الصاد المهملة وسكون الدال المهملة وكسر القاف وفتح الياء المثناة من تحتها مع التشديد وبعدها ألف - واستمر صدقيا تحت طاعة بخت نصر وكان أرميا النبي ' ع ' قد رأى بخت نصر قديما وهو صبي أقرع ورآه يأكل ويتغوط ويقتل القمل فقال له ما هذا ؟ فقال أذى يخرج ومنفعة تدخل وعدو يقتل فقال له سيكون لك شأن فأخذ أرميا من بخت نصر أمانا لبيت المقدس ومن فيها وكتب لها الأمان فيجلد فلما صار الملك إلى بخت نصر وعصى عليه صدقيا - كما تقدم قصد بخت نصر بيت المقدس فلما بلغ سهول الرملة وأعلم ارميا بذلك سار إليه وأعطاه الأمان فنظر هو قال هو أماني ولكني مبعوث وقد أمرت أن أرمي سهمي فحيثما وقع سهمي طلبت الموضع فرم بسهمه فوقع في قبة بيت المقدس فرجعا ارميا أهل بيت المقدس وأخبرهم بذلك ثم سار بخت نصر بالجيوش وكان معه ستمائة راية ودخل بيت المقدس بجنوده ووطئ الشام وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم وخرب بيت المقدس وجنوده أن يملأ كل رجل منهم ترسه ترابا ثم يقذفه في بيت المقدس ففعلوا حتى ملؤه هكذا نقل البغوي في تفسيره والذي نقله الملك المؤيد صاحب حماه إنه جهز العساكر وبعث الجيش مع وزيره واسمه نبوز رذان - بفتح النون وضم الباء الموحدة وسكون الواو وفتح الزاي والراء المهملة وسكون الألف وفتح الذال المعجمة وسكون الألف وبعدها نون - إلى حصار صدقيا بالقدس فسار الوزير بالجيش وحاصر صدقيا مدة سنتين ونصف أولها عاشر تموز من السنة التاسعة لملك صدقيا أسيرا وأخذ معه جملة كثيرة من بني إسرائيل واحرق القدس وخربه وطرح فيه الجيف وهدم البيت الذي بناه سليمان وأحرقه واحتمل منه ثمانين عجلة ذهبا وفضة وطرحه يومية وأباد بني إسرائيل قتلا وتشديدا و أعانه عل خرابه الروم بغضا لبني إسرائيل فكانت مدة ملك صدقيا نحو إحدى عشرة سنة وهو آخر ملوك بني إسرائيل وأما من تول بعده من بني إسرائيل بعد إعادة عمارة بيت المقدس فإنما كان له الرياسة ببيت المقدس فقط فيكون انقضاء ملوك بني إسرائيل وخراب بيت المقدس عل يد بخت نصر سنة عشرين من ولايته تقريبا وهي السنة التاسعة والتسعون وتسعمائة لوفاة موسى عليه السلام وهي أيضا سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة مضت من عمارة بيت المقدس وهي مدة لبثه عل العمارة وهذه المرة التي ذكرها الله تعالى فقال ( ^ وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ) أي قضاء كائنا لا خلف فيه وبين خراب بيت المقدس والهجرة الشريفة ألف وثلاثمائة وخمسون سنة وقد مض من الهجرة الشريفة تسعمائة سنة فيكون الماضي من خراب بيت المقدس إلى عصرنا هذا - وهو آخر سنة تسعمائة - ألفين ومائتين وخمسين سنة ولما غزا بخت نصر القدس وخربه وفعل ما تقدم ذكره هرب من بني إسرائيل جماعة و أقاموا بمصر عند فرعون الأعرج وأرسل بخت نصر إليه يطلبهم منه وقال هؤلاء عبيدي هربوا إليك فلم يسلمهم فرعون مصر وقال ليس هم بعبيدك وإنما هم أحرار وكان هذا هو السبب لقصد بخت نصر غزو مصر وقتل فرعون الأعرج وهرب منه جماعة إلى الحجاز وأقاموا مع العرب واستمر بيت المقدس خرابا سبعين سنة وعن قتادة في قوله عز وجل ( ^ ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسع في خرابها ) قال هو بخت نصر وأصحابه خربوا بيت المقدس وأعانهم على ذلك الروم قال الله تعال ( ^ أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين ) قال وهو نصار لا يدخلون المسجد إلا مسارقة أن قدر عليهم عوقبوا ( ولهم في الدنيا خزي ) قال يعطون الجزية عن يد ( وهم صاغرون ) ( ذكر عمارة بيت المقدس الثانية ) لما جر ما ذكر من تخريب بيت المقدس ولبثه عل التخريب سبعين سنة عمره بعد ذلك بعض ملوك الفرس واسمه عند اليهود كورش وقد اختلف فيه فقيل هو دارا بن يهمن وقيل هو بهمن المذكور وهو الأصح وكان كريما متواضعا علامته عل كتبه من ازدشير بهمن عبد الله وخادم الله والسائس لأموركم وتفسير بهمن بالعبرانية الحسن النية وكان قد أمره الله عل لسان عبده أرميا النبي صلى الله عليه وسلم أن يبني بيت المقدس ففعل ذلك واصعد إليها من بني إسرائيل أربعين ألفا وقربوا القرابين عل رسومهم الأولى ورجعت إليهم دولتهم وعظم محلهم عند الأمم قال الله تعالى ( ^ ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددنا كم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا إن أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها ) وعاد البلد احسن مما كان وحكي بعض المؤرخين إن الله أوحى إلى اشعيا النبي عليه السلام أن كورش يعمر بيت المقدس وذكر لفظ اشعيا الذي ذكره في الفصل الثاني والعشرين من كتابه حكاية عن الله عز وجل وهو أن القائل لكورش راعيا الذي يتمم جميع محياي ويقول لاورشلم عودي مبينة ولهيكلها كن زخرفا مزينا هكذا قال الرب لمسبحة كورش الذي أخذ بيمينه لتدبير الأمم وينحي ظهور الملوك سائرا بفتح الأبواب أمامه ولا تغلق وأسهل لك الوعر وأكسر أبواب النحاس وأحبوك بالذخائر التي في الظلمات انتهى ولما عادت بيت المقدس تراجع إليه بنو إسرائيل من العراق وغيره وكانت عمرته في أول سنة تسعين لابتداء ولاية بخت نصر ولما رجع بنو إسرائيل إلى المقدس كان من جملتهم عزير عليه السلام وكان بالعراق وقدم معه من بني إسرائيل ما يزيد على ألفين من العلماء وغيرهم ورتب مع عزير في القدس مائة وعشرين شيخا من علماء بني إسرائيل وكانت التوراة قد عدمت منهم إذ ذاك فمثلها الله في صدر العزير ووضعها لبني إسرائيل يعرفونها بحلالها وحرامها فأخبره حبا شديدا وأصلح العزير أمرهم وأقام بينهم عل ذلك ولبث مع بني إسرائيل في القدس يدبر أمرهم حتى توفي بعد مضي أربعين سنة لعمارة بيت المقدس فتكون وفاته سن ثلاثين ومائة لابتداء ولاية بخت نصر واسم العزير بالعبرانية عزرا وهو من ذرية هارون بن عمران ثم تولى رياسة بني إسرائيل ببيت المقدس بعد العزير شمعون الصديق وهو أيضا من نسل هارون ولما تراجع بنو إسرائيل إلى القدس بعد عمارته صار لهم حكام منهم وكانوا تحت حكم ملوك الفرس واستمروا كذلك حتى ظهر الاسكندر ملك اليونان في سنة خمس وثلاثين وأربعمائة لولاية بخت نصر وغلب اليونان عل الفرس ودخل حينئذ بنو إسرائيل تحت حكم اليونان وبين غلبة الاسكندر عل ملك الفرس وبين الهجرة الشريفة النبوية تسعمائة وأربع وثلاثون سنة ومات الاسكندر بعد غلبته لقريب سبع سنين فيكون بين موته وبين الهجرة الشريفة تسعمائة وقريب ثمان وعشرين سنة وقد مضى من لهجرة الشريفة إلى عصرنا تسعمائة سنة فيكون الماضي من وفاة الاسكندر الآخر سنة تسعمائة من الهجرة الشريفة ألفا وثمانمائة وقريب ثمان وعشرين سنة وهذا الاسكندر ليس هو ذو القرنين الذي ذكره الله تعالى في القرآن فإن ذاك ملك قديم كان عل زمن إبراهيم الخليل عليه السلام وتقدم ذكره ولمل دخل بنو إسرائيل تحت حكم اليونان أقام اليونان من بني إسرائيل ولاة عليهم وكان يقال للمتولي عليهم هردوس واستمر بنو إسرائيل عل ذلك حتى خرب بيت المقدس الخراب الثاني وتشتت منه بنو إسرائيل عل ما سنذكره إن شاء الله تعالى ( قصة أرميا عليه السلام ) قد تقدم عند ذكر صدقيا الذي هو آخر ملوك بني إسرائيل إن أرميا النبي عليه السلام كان في أيامه وكان يأمر بني إسرائيل بالتوبة ويهددهم ببخت نصر وهم لا يلتفتون إليه فلما رأى إنهم لا يرجعون عما هم فيه فارقهم أرميا واختف حتى غزاهم بخت نصر وخرب القدس كما تقدم ذكره ثم إن الله تعالى أوحى إلى القدس وهي خراب فقال سبحان الله أمرني الله أن أنزل هذه البلدة وأخبرني إنه عامرها فمتى يعمرها ومتى يحييها الله بعد موتها ثم وضع رأسه فنام ومعه حماره وسلة فيها طعام وهو تين وركوة فيها عصير عنب وكان من قصته ما أخبر الله تعالى به في محكم كتابه العزيز في قوله تعال ( ^ أو كالذي مر على قرية وهي خاوية عل عروشها قال أني يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فأنظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه - أي لم يتغير - وانظر إلي حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلي العظام كيف ننشرها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم إن الله عل كل شيء قدير ) وقد قيل إن صاحب القصة هو العزير والأصح إنه أرميا وقد أهلك الله بخت نصر ببعوضة دخلت دماغه ونج الله من بق من بني إسرائيل ولم يمت ببابل وردهم جميعا إلى بيت المقدس ونواحيه قال البغوي في تفسيره وعمر الله أرميا فهو الذي يرى في الفلوات فذلك قوله تعالى ( ^ فأماته الله مائة عام ثم بعثه ) أي احياه وبعثه الله عل السن الذي توفاه عليه مائة سنة وهو أربعون سنة ولابنه عشر ومائة سنة ولابن ابنه تسعون سنة وأنشد ذلك
( وأسود رأس شاب من قبل ابنه
ومن قيله ابن ابنه فهو أكبر )
( ترى ابن ابنه شيخا يجيء عل عصا
ولحيته سوداء والرأس أشقر )
( وما لابنه حيل ولا فضل قوة
يقوم كما يمشي الصبي فيعثر )
( يعد ابنه في الناس تسعين حجة
وعشرين لا يخوى ولا يتعجر )
مخ ۱۵۴