مقاصد المكلفين فيما يتعبد به لرب العالمين
مقاصد المكلفين فيما يتعبد به لرب العالمين
خپرندوی
مكتبة الفلاح
د ایډیشن شمېره
الأولى
د چاپ کال
١٤٠١ هـ - ١٩٨١ م
د خپرونکي ځای
الكويت
ژانرونه
مَقَاصِدُ المُكَلفينَ فيمَا يُتعَبَّدُ به لِرَبِّ العَالمين
أو
«النيات في العبادات»
«إنما الأعمَال بالنِّيَّات»
الدكتور عمر سليمان الأشقر
رسَالة دكتورَاه في الفقهِ المقَارن
من كلية الشريعة بجامعَة الأزهر
مكتبة الفلاح
الكويت
ناپیژندل شوی مخ
حقوق الطبع محفوظة
الطبعة الأولى
١٤٠١ هـ - ١٩٨١ م
مكتبة الفلاح - الكويت - ص. ب ٤٨٤٨
1 / 2
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)
"اللهم اجعل عملي كلَّه صالحًا ولوجهك خالصًا ولا تجعل فيه لأحد شيئًا"
1 / 3
أمَل
"وددت أنّه لو كان من الفقهاء من ليس له شغل إلا أن يعلّم الناس مقاصدهم في أعمالهم، ويقعد للتدريس في أعمال النيّات ليس إلا، فإنَّه ما أتى على كثير من الناس إلاّ من تضييع ذلك".
عبد الله بن أبي جمرة
***
1 / 5
كلمة الافتتاح
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمد عبده ورسوله، وبعد: فإنَّ مقاصد العباد ونياتهم محلُّ نظر الباري جلَّ وعلا، فالعبادة ما لم تقم على المقاصد الشرعية فإنها تعدُّ في ميزان الله هباء تذروه الرياح، وسرابًا إذا جاء صاحبه في اليوم الذي يجمع الله فيه الأولين والآخرين لم يجده شيئًا، ووجد الله عنده، فوفَّاه حسابه، والله سريع الحساب.
ومقاصد العباد تحتاج إلى تقويم وتشذيب ورعاية وعناية، ذلك أن النيات تقع موقع الأرواح من الأعمال، وتقوم مقام جذور الشجرة من السوق والفروع والأغصان، فكيف يكون حال الأجساد إذا نزعت منها الأرواح؟ وكيف يكون حال شجرة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار؟
ومن يطالع الكتاب الكريم، وسنة المصطفى المختار بتدبر وتأمل يعلم أنَّ الدّين الإسلامي عني بإصلاح مقاصد المكلفين ونياتهم عناية تفوق اهتمامه بأي مسألة أخرى، ذلك أن الأعمال تصبح مظاهر جوفاء، وصورًا صمّاء إذا خلت من المقاصد الصادقة الحقة.
وقد حمدت الله كثيرًا على أن وفقني جل وعلا إلى اختيار هذا الموضوع: "مقاصد المكلفين فيما يتعبد به لرب العالمين" كي يكون مجال بحثي في الرسالة التي أعدّها لنيل 'جازة (الدكتوراه) في الفقه المقارن من كلية الشريعة بجامعة الأزهر.
وقد ألزمت نفسي في بداية الأمر بالرجوع إلى الكتاب والسنة متدبرًا متأملًا، حتى إذا وقفت على النصوص التي تتصل بالموضوع عدت إلى ما تركه السلف الصالح من
1 / 7
كنوز خيرة تتحدث عن هذا الموضوع وتجليه.
لم أشكُّ، والحمد لله من قلَّة المادة العلمية، فمباحث النيات من أوائل المسائل التي يتناولها العلماء والباحثون بالبسط والإيضاح، لأهميتها، ولأنَّ الترتيب الفقهي المنطقي يحتّم كون النيات في طليعة المسائل الفقهية. ومن الملاحظ أنَّ علماءنا الأوائل كانوا يفصِّلون في المباحث الأولى التي يتناولونها تفصيلا، لأنَّ عزائمهم في البدايات تكون قويَّة، وهممهم لا تزال تتطلع إلى تجلية الحقائق واستقصاء المسائل.
إلا أن الذي عانيت منه كثيرًا تضارب الآراء واختلافها، وقد أحوجني ذلك إلى كثرة ترديد النظر في الحجج والبراهين التي يوردها المتنازعون، وقد أكثرت من الاستشهاد بنصوص الأدلَّة القرآنية والحديثية، كي أصل إلى النتيجة السليمة التي يطمئن لها القلب وترضى بها النفس، وهذا منهج أحرص عليه دائمًا، فهدي المسلمين الذي علمناه أن يقتفي التابعون نهج السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة المرضيين ولا يُخْرَج عن أقوالهم بحالٍ من الأحوال.
لم أكتف وأنا أقلِّب الكتب بالمطبوع منها، بل بذلت جهدي في الحصول على المخطوطات التي لم تر النور بعد، وصورت ونسخت ما تيسر لي منها، وبقيت مخطوطة (١) حرصت حرصًا شديدًا على الحصول عليها، وطال التطلاب لها ولم أعثر على مكانها إلا مد فترة وجيزة، فقد اطلعت على فهارس المكتبة العامة في المغرب الأقصى، فوجدتها ضمن خزانتها العامرة، فبادرت بطلبها ولم تصلني بعد.
لقد نظرت في موضوع البحث فهديت إلى أنَّ البحث ينبغي أن يكون في مقدّمة وبابين:
أما المقدمة فتعدُّ مدخلًا لا بدَّ منه للبحث، وقد عقدت لها ثلاثة مباحث، حدَّدت في الأول منها موضوع الرسالة من خلال تعريفي لمكونات عنوان الرسالة، فقد عرفت القصد والنية بإلقاء الضوء على معناهما اللغوي والاصطلاحي، وعرفت التكليف
_________
(١) هي "الأمنية في النية" للقرافي المالكي.
1 / 8
والمكلفين، وبينت مفهوم العبادة وحدودها وأصلها ومعناها، واصطلاح الفقهاء فيها.
وقد خلصت إلى أنَّ موضوع الرسالة جزء من إرادات المكلفين، هو تلك الإِرادة الجازمة التي تتجه نحو أعمال شرعية معينة، هي العبادات دون غيرها لتحقيقها وإيجادها. وفي المبحث الثاني أوردت الأدلة النقلية والعقلية التي لا تبقي مجالًا للشك والارتياب في أنَّ القصود معتبرة في العبادات والتصرفات، وقد أوردت في هذا المبحث الاعتراضات على تلك الأدلة ودحضتها بالحجَّة والبرهان.
أمّا المبحث الثالث من المقدمة فقد حوى فضائل المقاصد وعظيم أجرها. والناظر فيه ببصيرة سيعلم خطر هذا الموضوع وسيمضي -إن شاء الله تعالى- في العناية بمقاصده بجدّ وعزيمة وقادة يرنو من وراء ذلك إلى تحصيل ذلك الفضل العظيم الذي يحققه المصلحون لمقاصدهم.
وقد عنونت للباب الأوّل بعنوان "النيّات"، ذلك أنَّ النيَّة هي المصطلح الذي ارتضاه الفقهاء، واستعملوه في مباحثهم، وقد مهدت للباب بإيضاح السبب الذي انقسم البحث -من أجله- إلى بابين: ذلك أنَّ المقاصد تتوجه إلى أمرين دائمًا، الأول: الفعل الذي تريد تحقيقه وإحرازه، وهذا خصصنا لمباحثه الباب الأول.
والثاني: الغاية البعيدة التي يريدها القاصد من وراء عمله، فالإنسان لا ينطلق إلى العمل ما لم يلمح فيه ما يدعوه إلى فعله، وقد يطلق العلماء على هذا اسم الدافع أو الغاية، والمتأمل في نصوص الكتاب والسنَّة يعلم أنَّ خير ما يعنون له به اسم "الإِخلاص"، ومن أجل ذلك ارتضيناه على سواه.
والباب الأوّل انتظم بعد التمهيد في ستة فصول:
في الفصل الأول حققت القول في أنَّ مكان النيَّة القلب، وفاقا لأهل السنة، لا الدماغ كما تقوله العزلة ومن تابعهم من الفقهاء، وعرضت لمفهوم القلب، ورجحت أن المراد به تلك اللطيفة الربانية المتعلقة بالقلب الجِسْماني، وليس هو القلب الجسماني نفسه كما فهمه بعض العلماء.
1 / 9
وبحثت في هذا الفصل عدة مسائل تدور حول التلفظ بالنية:
الأولى: حكم التلفظ بالنية دون مواطأة القلب.
الثانية: مخالفة اللسان لما نواه المرء في قلبه.
الثالثة: حكم الجهر بالنية.
الرابعة: حكم التلفظ بها همسًا.
وقد بينت في كل مسألة منها آراء الفقهاء وأدلتهم والمناقشات التي وردت عليها، وأبرزت الرأي الراجح، والأدلة التي اقتضت رجحانه.
وعقدت في الفصل الأوّل مبحثًا هامًّا للقصد المجرد الذي لم يتحقق في واقع الأمر، ذلك أنّه قد شاع عند كثير من العلماء أنَّ القصد المجرد لا عقوبة عليه، وإن بلغ مرتبة العزم الجازم.
وخصصت الفصل الثاني بالمباحث التي تتعلق بوقت النيّة في كلِّ عبادة من العبادات، وقد طال البحث في وقت نيّة الصيام بسبب الخلاف الذي دار حول جواز الصيام بنيّة متأخرة من الليل.
والفصل الثالث يتحدث عن صفة النيّة في كلِّ عادة من العبادات، وفيه أيضا ردٌّ على الذين يقولون بوجوب الاستحضار التفصيلي لأركان الصلاة حين الإحرام، وعلى من قال بوجوب استحضار قضايا الاعتقاد، وقد سبب القول بذلك إشكالات لا نزال نرى آثارها عندما ندخل بيوت الله لدى بعض المسلمين.
وتناولت في الفصل الرابع شروط النية الثمانية، وضممت لكلَّ شرط من الشروط المسائل التي تتعلق به، وهي مسائل كثيرة، حاجة الناس إليها شديدة لكثرة وقوعها ودورانها.
وتعرضت بالبحث والبيان لحكم العبادات التي فقدت هذه الشروط وبهذا نكون قد استغنينا عن عقد فصل مستقلٍّ لبيان مبطلات النيَّة ومفسداتها، وسنجد في الفصل الخامس عرضًا لمذاهب العلماء وآرائهم والراجح منها في مسألة النيابة في النية.
1 / 10
وفي هذا الفصل مسألة أخرى شديدة الارتباط بموضوع الفصل وهي إهداء ثواب العبادة للأموات، وقد ثار حول هذه المسألة جدل شديد في الماضي ولا يزال.
وفي الفصل الأخير فصَّلت القول في العبادات التي تفتقر إلى النيَّة، والعبادات التي لا تفتقر إليها، وقد طال البحث والتقصي في لزوم النية لطهارتي الغسل والوضوء، ولعلي أكون قد وفرت على الباحث في هذا جهدًا ليس بالقليل إن شاء الله تعالى.
وفي ختام الفصل مبحث متواضع عقدته لبيان حكم النيَّة في العبادات، أهي ركن أم شرط.
وقد انتظمت مباحث الباب الثاني في أربعة فصول يسبقها تمهيد.
التمهيد قصدت به بيان عظم الغاية وأهميتها، وبينت هنا أنَّ الغاية التي يتصورها الِإنسان هي المحرِّك له دائمًا إلى الفعل، ولذلك كانت الغايات التي تستقر في القلوب والنفوس ذات تأثير شديد في حياة الأفراد والجماعات.
وفي التمهيد تفريق بين المقاصد الطبعية والشرعية.
والفصل الأول مخصص لبحث الغاية التي يريد الإسلام إقرارها في النفوس، وهي الغاية التي ينبغي أن ترتسم في ذهن كل إنسان لتصلح الحياة والأحياء، وإذا ضلَّت عنها البشرية وقعت في مستنقع آسن، لا تغني عنها بعد ذلك حياة الترف، ولا نعيم الدنيا.
وقد وضحت الأسباب المنطقية والعقلية والشرعية التي تجعل هذه الغاية هي الأمر الحتمي الذي لا غنى عنه.
وكان لزامًا علَّي في الفصل الثاني أن أبين الزيف الذي أحاط بالغاية الإِسلامية التي أقرها الشارع ودعانا إليها، وذلك ببيان المفهومات الخاطئة التي كانت تشوه الغاية وتطمس معالمها.
وعقدت الفصل الثالث لبيان المقاصد السيئة التي تزاحم الإخلاص وتضاده، وقد تناولت أربعة منها وهي: الهوى، والرياء، وقصد الاطلاع على العوالم المغيبة، والهروب من العبادة.
1 / 11
ولم أغفل حين بحثت هذه المقاصد أن أسلِّط الضوء على العلاج الذي يشفي متعاطيه من هذه الأدواء.
وفي ختام الفصل وضحت الأمر الضابط لمقاصد المكلفين.
وفي الفصل الرابع والأخير تحدثت عن مدى تأثير المقاصد في المباحات والمحرمات والمبتدعات، وتحدثت عما يسمى بالنية الحسنة التي يظن كثير من الناس أنها تجعل العمل السيء عملا مشروعا مقبولا.
وقد ختمت الرسالة بملحق قصدت فيه إيراد إيضاحات مهمة تتعلق بالحديث الذي يكثر دورانه لدى الباحثين في المقاصد وفي كتاباتهم، وهو حديث "إِنمّا الأعْمَالُ بِالنيَّاتِ".
وبعد: فإنني لا أدعي أنني بلغت الغاية التي ينبغي أن يصل البحث إليها، ولكنني أقول لقد بذلت ما في وسعي، وأعطيت البحث الكثير من وقتي وفكري، ولم يكن دوري دور الجامع المدون لآراء الفقهاء، ولم أكن حاطب ليل يسير على غير هدى، لقد كنت حريصا على أن أعرف أبعاد القضايا التي أتناولها، وكنت أجتهد في معرفة آراء الفقهاء بأدلتها، كما كنت أبذل الجهد في التعرف على مأخذهم من الأدلة، وأناقش الأدلة التِى أرى أن الاستدلال بها غير سديد، لضعف الدليل أو لعدم صلاحيته للاستدلال على تلك المسألة. وفي كثير من الأحيان حررت محلّ النزاع، كما كنت معنيًّا بترجيح الأقوال، حتى لا أترك القارىء حائرًا لا يدري ما يأخذ وما يدع.
وإذا كان في هذه المباحث زلة جاءت من قصور في البحث، أو من غفلة القلب، أو من حيرة الفكر، فأنا عائد إلى الحق عندما يتبدى لي -بحول الله وقوته- أسرع من رجع الصدى، فالحقُّ قديم، والرجوع إليه خير من التمادي في الباطل، والحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها أخذها.
وفي الختام أوجه الشكر إلى كلِّ من قدَّم لي عونًا، أو أسدى إليَّ يدًا وأخصُّ منهم فضيلة الشيخ عبد الغني محمد عبد الخالق الذي كان له فضل السبق في
1 / 12
الإشراف على هذه الرسالة، وفضيلة الشيخ عبد الجليل سعد القرنشاوي الذي ارتضى الإشراف عليها بعد أن حولت إليه، فجزاهما الله عني خير الجزاء عمّا قدماه لي من توجيه وتقويم ونصح وإرشاد، وصلى الله على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
عمر سليمان الأشقر
مدينة نصر القاهرة
١٥ من ربيع الأول ١٤٠٠ هـ ٢ من فبراير ١٩٨٠م
1 / 13
المقدمة
المبحث الأول: تحديد موضوع المبحث.
المبحث الثاني: الأدلة على أنَّ المقاصد معتبرة في العبادات والتصرفات.
المبحث الثالث: فضل المقاصد.
1 / 15
المبحث الأول
تحديدُ مَوضُوع البَحث
١ - تعريف القصد والنيّة، وبيان حقيقتهما
٢ - التكليف والمكلفون
٣ - العبادة وحدودها
1 / 17
تعريف القصد
يستعمل العلماء القصد والنيَّة بمعنى واحد.
وفي هذا المبحث سنلقي ضوءًا على المعنى اللغوي والاصطلاحي لهاتين الكلمتين.
أصل "ق ص د" ومواقعها في لغة العرب: "الاعتزام والتوجه والنهود والنهوض نحو الشيء على اعتدال كان ذلك أو جور.
والقصد استقامة الطريق، والقصد الاعتماد والأمّ" (١).
فالقصد على ذلك نوع من الإرادة تبلغ في قوتها درجة الاعتزام، والإرادة لا تكون عزمًا ما لم تكن جازمة، والمتأمل في كلام العلماء يلحظ أنَّهم يذهبون إلى أنَّ القصد أعلى درجة من العزم، فالعزم عندهم قد يكون على فعل في المستقبل، وهذا العزم قد يضعف أو يحول، أما القصد عندهم فلا يكون إلا إذا كانت الإرادة جازمة مقارنة للفعل أو قريبة من المقارنة، ولذا فإنَّ العلماء يقولون: لا فرق بين النيّة والقصد، وكثير من العلماء يرى أنَّ النية لا بدّ أن تقارن المنوي (٢).
_________
(١) لسان العرب، وتاج العروس، مادة (قصد).
(٢) سيأتي تحقيق القول في هذا، وسأرجح أنَّ القصد والنيَّة والعزم في درجة واحدة من القوة، فالمرء قد ينوي فعل أمر حاضر، أو فعل أمر مستقبل.
1 / 19
تعريف النيّة
ّلمّا كانت النيّة والقصد متقاربين في المعنى، وكانت النيَّة هي اللفظة التي كثر استعمالها لدى الفقهاء للدلالة على القصد خصصناها بمزيد من المبحث والنظر.
الاشتقاق اللغوي:
النيّة مصدر نوى الشيء ينويه نيّة ونواه، وأصلها نِوْية بكسر النون وسكون الواو، ووزنها فِعْلة، اجتمعت الواو والياء، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت في الياء.
فالنيَّة على ذلك واوية العين يائية الفاء، قال الشاعر: (١)
صَرَمَتْ أمَيْمةُ خُلَّتيِ وَصِلَاتيِ ... وَنَوَتْ وِّلمَا تَنْتَوي كَنَواتيِ
والنيّة مؤنث النوي، فالنيّة والنوي معناهما واحد (٢).
وذهب الماوردي (٣) إلى أنَّ النيَّة مصدر نأى ينأى، بمعنى بعد، لاختصاصها بأنأى أعضاء الجسد، وهو القلب (٤)، وما ذهب إليه بعيد عن الصواب، لأنَّ عين نأى
_________
(١) العيني على البخاري (١/ ٢٣).
(٢) تهذيب اللغة (١٥/ ٥٥٦)، وانظر لسان العرب مادة (نوي) (٣/ ٧٥١) ومراد الشاعر في قوله: ونوت ولما تنتوي كنواتي، لم تنو فيَّ كما نويت في مودتها. راجع لسان العرب في الموضع المشار إليه.
(٣) هو علي بن حبيب الماوردي، ولد في البصرة، وانتقل إلى بغداد، وتوفي بها سنة (٤٥٠ هـ)، عالم باحث له تصانيف منها: (أدب الدنيا والدين)، (والأحكام السلطانية)، و(الحاوي) في فقه الشافعية، اشتغل بالقضاء، وجعل أقضى القضاة في أيام القائم بأمر الله العباسي.
(شذرات الذهب ٣/ ٢٨٥)، (وفيات الأعيان (٣/ ٢٨٢)، (الأعلام ٥/ ١٤٦).
(٤) نهاية الإحكام (ص ٧).
1 / 20
همز، وعلى ذلك فمصدرها النأي، وإجماع أهل اللغة على أنَّ عين (نيّة) واو (١)، ثم إننا لا نقول: نأيت كذا بمعنى نويته.
والنِيَة بالتخفيف لغة في النيّة (٢)، قال صاحب اللسان: "النيَّة بالتشديد هي النِيَة مخففة" (٣).
ويبدو أنَّ لام الكلمة حذفت على هذه اللغة، وقد أبعد بعض شراح الحديث عندما ذهب إلى أنَّ "النِيَة" بالتخفيف مصدر "ونى، يني"، إذا أبطأ وتأخر، وعلّلوا ذلك بأنَّ النيّة تحتاج في توجيهها وتصحيحها إلى إبطاء وتأخير (٤).
ولم يرتض المحققون من الشرّاح هذا القول وردّوه، يقول العيني: (٥) "هذا بعيد، لأنَّ مصدر ونى يني ونيًا، قال الجوهري: يقال ونيت في الأمر أني ونيًا، أي ضعفت، فأنا وان" (٦).
وفي اللسان: "ونى يني ونيا وونيّا، وونى فهو وان" (٧).
والنيَّة وإن كانت مصدرًا، فإنهَّا تجمع على نيَّات باعتبار تنوعها، فقد تكون النيَّة فعلية موجودة، أو حكمية معدومة. أو باعتبار مقاصد الناوي؛ يقول الطيبي مبينا ما يمكن أن ينويه من أراد أن يفعل شيئًا: "فنيّة العوام في طلب الأغراض مع نسيان الفضل؛ ونيَّة الجهال التحصن عن سوء القضاء ونزول البلاء، ونيَّة أهل النفاق التزين عند الله وعند الناس، ونيَّة العلماء إقامة الطاعات .. " (٨).
_________
(١) تهذيب اللغة (١٥/ ٥٥٦).
(٢) المصدر السابق.
(٣) لسان العرب (٣/ ٧٥١).
(٤) نقل هذا العيني في شرحه على البخاري (١/ ٢٣)، والصنعاني في العدة (١/ ٥٦).
(٥) هو محمود بن أحمد بن موسى العيني الحنفي، أصله من حلب، وولد في (عينتاب) سنة (٧٦٢ هـ)، من كتبه: (عمدة القاري في شرح صحيح البخاري)، و(مغني الأخيار في رجال معاني الآثار). توفي عام (٨٥٥ هـ).
(شذرات الذهب ٧/ ٢٨٦)، (الأعلام ٨/ ٣٨).
(٦) العيني على البخاري (١/ ٢٣).
(٧) لسان العرب (٣/ ٩٩٠).
(٨) دليل الفالحين (١/ ٥٤)، وفيض القدير (١/ ٣٤).
1 / 21
مدلول "النيّة" في لغة العرب:
الذي ينظر في استعمال العرب لهذه الكلمة يجد أنهَّا تدور في تصاريفها على القصد.
فنجدهم يقولون: "نوى الشيء ينويه نيَّة ونِيَة .. وانتواه: قصده ونوى المنزل، وانتواه كذلك".
ويقولون: "نواك الله بالخير قصدك به، وأوصلك إليه، وقال أعرابي من بني سليم لابن له سمّاه "إبراهيم": ناويت به إبراهيم، أي قصدت قصده، فتبركت باسمه".
ويقولون: "فلان ينوي وجه كذا، أي يقصده من سفر أو عمل، وفي حديث عروة بن الزبير (١) في المرأة البدوية يتوفى عنها زوجها أنَّها تنتوي حيث انتوى أهلها".
وقد يريدون بالنيّة الشيء المقصود إليه: "والنيَّة الوجه الذي يذهب فيه"، وقد يراد بها الشيء الذي يصاحبه القصد أو يسبقه.
"والنوى: التحول من مكان إلى مكان، أو من دار إلى غيرها، كما تنتوي الأعراب في باديتها" (٢).
وقد يراد بالنيّة في اللغة: العزم، يقول صاحب المصباح المنير: "خُصَّت النيّة في غالب الاستعمال بعزم القلب على أمر من الأمور" (٣).
ويقول صاحب اللسان: "نويت نيّة ونواة، أي عزمت، وانتويت مثله" (٤).
_________
(١) هو عروة بن الزبير بن العوام، تابعي جليل، وأحد فقهاء المدينة السبعة، اعتزل الفتن التي جرت بين المسلمين، ولادته ووفاته في المدينة (٢٢ - ٩٢ هـ).
(٢) لسان العرب، مادة: "نوي". وما ذكره صاحب اللسان عن عروة ليس حديثًا مرفوعًا، بل ليس من قول عروة ابن الزبير، بل هو قول ابنه هشام، وقد أخرجه الإمام مالك في موطئه، عن هشام بن عروة بن الزبير من قوله، باب الطلاق (رقم ٨٩ ص ٣٦٦).
(٣) المصباح المنير (ص ٦٣٢).
(٤) لسان العرب مادة "نوي".
1 / 22
النيَّة في الاصطلاح
١ - تعريف النية بالعزم والقصد:
ذهب جمع من العلماء إلى تعريف النيّة بمدلولها اللغوي، فمن هؤلاء النووي (١) ﵀، قال: "النيّة هي القصد إلى الشيء، والعزيمة على فعله، ومنه قول الجاهلية: نواك الله بحفظه، أي قصدك به" (٢).
_________
(١) هو يحيى بن شرف النووي الشافعي، ولد في قرية (نوا) من قرى حوران سنة (٦٣١ هـ)، وبها توفي عام (٦٧٦ هـ). كان علامة بالفقه والحديث، تعلم في دمشق، وأقام بها زمنا طويلا، من كتبة (شرح صحيح مسلم)، و(المجموع شرح المهذب)، و(رياض الصالحين)، وهي كتب لا غنى للعالم وطالب العلم عنها.
(طبقات الحفاظ ص ٥١٠)، (شذرات الذهب ٥/ ٣٥٤)، (تذكرة الحفاظ ٤/ ١٤٧٠).
(٢) مواهب الجليل (٢/ ٢٣٠) وفيض القدير (١/ ٣٠)، وذكر النووي في (المجموع) أنَّ ابن الصلاح أنكر أنَّ العرب تقول: نواك الله بحفظه، وعلل قوله: بأنَّ القصد مخصوص بالحادث لا يضاف إلى الله تعالى (المجموع ١/ ٣٦٧).
وهنا قضيتان: الأولى في ثبوت ذلك عن العرب، وهذا لا يجوز إنكاره؛ فإنَّ الثقات نقلوه عنها وأثبتوه، راجع أساس البلاغة للزمخشري، والمغني لابن قدامة (١/ ١١١)، وفيض القدير (٢/ ٢٣٠)، ومواهب الجليل، ولسان العرب، معاجم اللغة.
والثانية: ليس جواز إطلاق ذلك على الله تعالى، فهذه يتوجه إنكار الشيخ أبي عمرو لها، وحجته في هذا القاعدة التي ينص عليها علماء التوحيد أن الأسماء والصفات توقيفية، فلا يجوز أن نطلق على الله صفة أو اسما لم يرد في الكتاب والسنة، إلا أنَّ بعض العلماء يرى أن هذا ليس من باب الأسماء والصفات، بل هو من باب إضافة الأفعال، والعجيب أنَّ الشيخ أبا عمرو ﵀ أجاز ذلك في شرحه على مسلم، فتناقض قوله، يقول النووي ﵀: "هذا الذي أنكره أبو عمرو غير منكر، وأبو عمرو ممن اعتمده، فإنَّه في القطعة التي اعتمدها من أول صحيح مسلم. وذكر نصّ قول الشيخ أبي عمرو هناك وهو "يقدم عل هذا أنَّ الأمر في إضافة الأفعال إلى الله تعالى واسع، لا يتوقف فيه على توقيف، كما يتوقف عليه في أسماء الله تعالى وصفاته، ولذلك توسع الناس في ذلك في خطبهم وغيرها"، (المجموع ١/ ٣٦٧).
1 / 23
ومنهم القرافي (١) ﵀ قال: "هي قصد الِإنسان بقلبه ما يريده بفعله" (٢).
وقال الخطابي (٣) ﵀: "النيَّة قصدك الشيء بقلبك، وتحري الطلب منك له، وقيل: عزيمة القلب" (٤).
وتعريف النية بالقصد والعزم مذهب قوي يدلّ عليه أنّه مدلول الكلمة في لغة العرب، فالقصد والعزم على ذلك قسمان للنية، وقد خصَّ إمام الحرمين العزم بالفعل المستقبل، والقصد بالفعل الحاضر المتحقق، يقول في ذلك: "النية إن تعلقت بفعل مستقبل فهي عزم، وإن تعلقت بفعل حاضر سميت قصدا تحقيقيا" (٥).
ويرى ابن قيم الجوزية (٦) -رحمه الله تعالى- أنَّ النية هي القصد بعينه، إلاّ أنَّ بينها وبين القصد فرقين:
أحدهما: أنَّ القصد معلق بفعل الفاعل نفسه وبفعل غيره، والنية لا تتعلق إلاّ بفعل نفسه، فلا يتصور أن ينوي الرجل فعل غيره، ويتصور أن يقصده ويريده.
ومن هذه الزاوية يكون القصد أعمَّ من النيّة.
_________
(١) هو أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن الصنهاجي المصري المالكي، أخذ عن العز بن عبد السلام، وعن ابن الحاجب، له مؤلفات نافعة مثل (التنقيح في الأصول)، و(شرح المحصول)، و(الذخيرة) في الفقه. توفي في عام (٦٨٤ هـ)، وكانت ولادته سنة (٦٢٦ هـ).
(معجم المؤلفين ١/ ١٥٨).
(٢) الذخيرة (١/ ١٣٤)، مواهب الجيل (٢/ ٢٣٠).
(٣) هو حمد بن محمد بن إبراهيم بن خطاب البستي، فقيه محدّث، من نسل زيد بن الخطاب، له كتاب (معالم السنن)، و(غريب الحديث) - ولد في سنة (٣١٩ هـ)، وتوفي في (بست) من بلاد (كابل) سنة (٣٨٨ هـ).
(طبقات الحفاظ ص ٤٠٣)، (الأعلام ٢/ ٢٠٤).
(٤) (العيني على البخاري (١/ ٣)، منتهى الآمال.
(٥) نهاية الإحكام (ص ٧).
(٦) هو محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي الدمشقي، عالم فقيه أديب مجاهد مصلح، تتلمذ على ابن تيمية، وانتصر له، وسجن معه بدمشق، من مصنفاته -وهي كثيرة جدا- "إعلام الموقعين"، و"مدارج السالكين". ولد في سنة (٦٩١ هـ) وتوفي في سنة (٧٥١ هـ).
شذرات الذهب (٨/ ٤٣٤)، (الأعلام ١/ ١٨٩).
1 / 24
الثاني: أنَّ القصد لا يكون إلاّ بفعل مقدور يقصده الفاعل، وأمّا النيّة فينوي الإِنسان ما يقدر عليه وما يعجز عنه، ولهذا في حديث أبي كبشة الأنماري (١)، الذي رواه أحمد (٢) في مسنده، والترمذي (٣) في سننه، وغيرهما، عن النبيّ ﷺ قال "إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالا وعلما، فهو يتقي في ماله ربَّه، ويصل رحمه، ويعلم لله فيه حقا، فهذا بأفضل المنازل عند الله.
وعبد رزقه الله علما، ولم يرزقه مالا، فهو يقول: لو أنَّ لي مالا لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته، وأجرهما سواء.
وعبد رزقه الله مالًا، ولم يرزقه علمًا، يخبط في ماله بغير علم، ولا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه فذلك بشر منزلة عند الله.
وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما فهو يقول: لو أنَّ لي مالا لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيَّته، وهما في الوزن سواء" (٤).
يقول ابن القيم معقبا على الحديث: "فالنيّة تتعلق بالمقدور عليه، والمعجوز عنه، بخلاف القصد والإِرادة، فإنهَّما لا يتعلقان بالمعجوز عنه لا من فعله ولا من فعل غيره" (٥).
فالنيَّة بناء على هذا أعمّ من القصد.
_________
(١) هو سعيد بن عمرو بن سعيد صحابي، نزل الشام، له أحاديث كثيرة في الصحاح والسنن.
راجع (الكاشف ٣/ ٣٧٠).
(٢) هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني أبو عبد الله، إمام المذهب الحنبلي، وأحد الأئمة الأربعة، له موقف مشهود في التصدي للذين قالوا بخلق القرآن، أصله من (مرو)، وولد بغداد سنة (١٦٤ هـ)، ورحل في طب العلم، وألّف، وصنف، من كتبه (المسند)، توفي في بغداد سنة (٢٤١ هـ).
(طبقات الحفاظ ص ١٨٦)، (خلاصة تذهيب الكمال ١/ ٢٩)، (الكاشف ١/ ٦٨).
(٣) هو محمد بن عيسى الترمذي، نسبة إلى (ترمذ) على نهر جيحون، من أئمة علماء الحديث، وكتابه (السنن) أحد الكتب الستة المعتمدة في الحديث، ولد في (ترمذ) سنة (٢٠٩ هـ) وبها توفي سنة (٢٧٩ هـ).
(تهذيب التهذيب ٩/ ٣٨٧)، (خلاصة تذهيب الكمال ٢/ ٤٤٧)، (طبقات الحفاظ ٩/ ٣٨٧).
(٤) بدائع الفرائد لابن القيم (٣/ ١٨٩)، والحديث رواه أحمد (٤/ ٢٣٠ - ٢٣١)، والترمذي كتاب الزهد (١٧)، وقال حديث حسن صحيح، وابن ماجه (٢/ ١٤١٣).
(٥) بدائع الفرائد (٣/ ١٨٩).
1 / 25