فتح حميدو عينيه، وأحس من تحته البركة، دافئة كجسده، نفاذة الرائحة كحياته، أدرك أنه لا زال حيا، وتفتحت شهيته للأكل، مد يده في الصحن فانتفضت ملايين الحشرات السوداء الصغيرة وهاجت من حوله في مرح، بعضها يطير، وبعضها يجري، وبعضها يزحف، التصق بعضها بالسقف ووقف على الجدران، ودخل آخرون الشقوق وبقيت واحدة في كفه.
نظر بين ساقيها ورأى الجرح القديم المسدود فأدرك أنها أنثى، وأنها ميتة، ضغط عليها بالكف الأخرى فماتت مرة أخرى، طرقع أصابعها الميتة فالتقط جهاز التسجيل صوت الطرقعة (كان هناك جهاز للتسجيل من آخر طراز بحجم الحمصة ثبت في عضو من جسمه)، طرقع أصابع قدمه اليمنى بكبرياء وزهو، حركته في التاريخ لها أهمية، والأهمية هي سبب ذلك الذعر الذي يراه في عيون موظفي الدولة، حين تصوب نحوهم العدسات المفتوحة، فإذا بأي حركة تصدر عنهم تدخل التاريخ على الفور، وإن كانت مجرد طرقعة أصبع (بسبب تيبس المفاصل بعد الأربعين)، أو أصبع يرتفع لهش ذبابة وقفت على الأنف.
هز أصابع قدمه بحركة مبتكرة، إنه رغم كل شيء يحب الأصالة ويكره التقليد، كم سجل ركاما من الحركات المقلدة غير الأصلية كحركات القرود، ووجوه وأصابع متشابهة مكررة كلها تقليد في تقليد، ركام مكدس بعضه فوق البعض ككوم السباخ، كل يوم ترقد البقرة، وفي الفجر تدخل أمه تلم الروث، ثم تجمعه تحت الشمس بعضه فوق البعض، وحين يجف في اليوم التالي يصبح راسخا في التاريخ.
ظهر العسل الأسود متجمدا في قاع الصحن، واستقر في قاع معدته كقطعة من القطران، قضم قطعة بصل وأصلح بها طعم العلقم، أشعل قطعة تبغ وملأ بالدخان صدره وبطنه فشعر بما يشبه الشبع، وتجشأ بصوت عال ينم عن الثقة بالنفس (الذكور فقط هم الذين كان يحدث لهم ذلك).
سمعت حميدة الصوت، تعرفت فيه على رائحة التبغ، كانت تشتريه من الدكان لأبيها أو أخيها أو خالها أو عمها أو أي رجل من الأسرة، ويناولها البائع قطعة حلوى، تضعها في فمها، وتخفيها تحت لسانها، وحين يطالبها بالقرش تفتح يدها فلا تجد شيئا، وتفتح عينيها فتجد المصباح كذؤابة الضوء، تحتضر ثم تموت بنفخة هواء واحدة، وتسد الظلمة الباب كالجسد الطويل الضخم إلا من ثقبين مستديرين في أعلى الرأس ينفذ منهما ضوء أحمر بلون الشفق.
همست بصوت خائف غير مسموع: «من أنت؟» رد بصوت كصوتها خائف وغير مسموع: «حميدو.» أغمضت عينيها حتى لا يتعرف عليها، تركت ذراعيه الطويلتين تحوطانها، وأنفاسه الساخنة تدفئها، كان الفصل شتاء وأذناها الصغيرتان الناعمتان كقطعتين من الثلج.
همس في أذنيها بنفسه الساخن: من أنت؟ تركت أذنها تحت فمه ولم ترد، تظاهرت بالنوم وخبأت رأسها في شعر صدره الغزير، وحينما أحست بالأصابع الكبيرة ترفع عنها الثوب كتمت أنفاسها، ولم يعد صدرها يعلو أو يهبط، وأصبحت ميتة.
لكن الشمس في الصباح سقطت فوق عينيها، ورأت الجسد الطويل إلى جوارها، طويلا ورفيعا ومعوجا، كتفاه غير مستويتين تشبهان كتفيها، وأصابع يديه متورمة متقرحة من ماء الغسيل كأصابع يديها، وأظافره سوداء كأظافرها، عرفت على الفور أنه جسدها فاحتضنته بكل قوتها، وضغطت صدرها، فأحست المحفظة الجلدية تحت ثديها الأيسر، كانت جائعة فمدت يديها وسحبت المحفظة بسرعة قبل أن يراها أحد.
اختبأت وراء جدار وفتحت المحفظة، رأت صورتها بالطرحة السوداء تشبه أمها ليلة زفافها، ووصية بخط أبيها يذكره بغسل العار، وأربعة جنيهات وبريزة (البريزة هي العشرة القروش في ذلك الوقت).
أكلت بالبريزة، واشترت بجنيهين ميني فستان (وهو الفستان المصغر الذي كان شائعا في ذلك الوقت بين الزوجات المحصنات حتى لا يظهر من أجسادهن المحرمة إلا الأذرع والأكتاف والصدور والأفخاذ فحسب)، واشترت بالجنيهين الباقيين حذاء له كعب عال رفيع وليس له وجه، (اختفاء وجوه الأحذية في ذلك الوقت كان هدفه الكشف عن طلاء الأصابع الأحمر بلون الدم، أما الكعب فكان موجودا ليخفي تشقق أقدام النساء بسبب الخدمة بالبيوت).
ناپیژندل شوی مخ