تخليص الموضوع الأولي من كل الشوائب الحضارية التي علقت بالمعنى الأولي للنص سواء فيما يتعلق بطريقة عرضه أو فيما يتعلق بنتائج فهمه وتحليله، فكلاهما مرتبط بفترة محدودة من تطور الحضارة وبمستواها الثقافي، وكثيرا ما يضيع الموضوع نفسه داخل هذه الشوائب نفسها التي تحل محله وتصبح بديلا عنه وكأنها هي الموضوع، وهذه الشوائب إما حجج عقلية يتحول من خلالها الموضوع الحسي المباشر إلى موضوع صوري محض أو شوائب تاريخية مادية يتحول أيضا الموضوع من خلالها إلى وقائع مادية كمية، إظهار الموضوع يقتضي التخلص من هذه الشوائب الصورية والمادية على السواء ثم يرجع به إلى الموضوع الأصلي، وإلى المعنى الأولي للنص، وقد قام الفقهاء بهذا الدور خير قيام إذ إنهم في كل عصر نفضوا عن النص ما علق به من شوائب حضارية، صورية أو مادية، بيئية أو مزاجية، ورجعوا إلى النص الخام يحرصون على معناه بكل ما فيه من تصوير وتخييل، فالنص ذاته أضمن من كل عمل حضاري عليه، فالفكر الفقهي أساسا فكر تطهري، وظيفته تخليص النص من الشوائب الحضارية والمتاهات العقلية، وكثيرا ما فضل الفقهاء الضرب أو السجن على الإدلاء برأي في نص لم يذكر عن الرأي شيئا،
25
وأكثر من ذلك توجيه النص ضد الفكر الدخيل نقدا وتفنيدا وهدما، ففي نفس الوقت الذي يتم فيه شرح المنطق الصوري باعتباره منطقا ممكنا للفكر على يد الفلاسفة يتم رفضه من الفقهاء والأصوليين باعتباره منطقا أقل اتساعا من المنطق الشرعي وهو منطق الوحي، والفكر الفقهي كله هو في الحقيقة هذا التطهير المستمر للنص، والانتقال من مجرد الدفاع إلى الهجوم على الثقافات المغايرة وتفنيدها باعتبارها معارضة للشرعي والعقلي على السواء.
26 (ب)
يعاد بناء الموضوع الأولي، وهو المعنى الأولي للنص، بعد أن تخلص من الشوائب الحضارية في الخطوة الأولى، يعاد بناؤه داخل الشعور باعتباره موضوعا مستقلا له بناؤه الداخلي وله وضوحه النظري ووسائل التحقق منه في داخله، في الشعور أو في الواقع، يتم بناء الموضوع في الشعور عن طريق البدء المطلق، ومحاولة العثور على نقطة بديهية أولى وواقعية يقينية يتم عليها باقي البناء النظري، ثم يبدأ في بناء الموضوع خطوة حتى يتم بناؤه كلية، ويكون تقسيم المقال هو بناء الموضوع نفسه، وفي هذه الحالة تكون أسس البناء النظري أسسا شعورية، إذ إن الموضوع يتم بناؤه في الشعور، وينصب جهد الباحث حينذاك في البحث عن الماوراء الشعوري للموضوع، والصوفية هم الذين قاموا بهذا البناء الشعوري للموضوعات الأولية خير قيام، حيث قامت المعاني الأولية كلها للوحي على أساس شعوري بالرغم من وقوعهم في خطأ الاتجاه، فاتجهوا إلى أعلى بدلا من الاتجاه إلى الأمام، كما اتجهوا إلى أغوار الشعور وأعماقه بدلا من الاتجاه إلى التركيب الطبقي للمجتمع، أي تحليل شعور الفرد منعزلا عن شعور الجماعة وليس داخلا فيها. (ج)
إطلاق المعنى حتى يتجاوز حدود اللفظ نفسه، ويصبح نوعا آخر من الوجود المطلق، وتصبح المعاني مبحثا من مباحث الوجود العام، يمكن إطلاق المعنى ابتداء من المعنى الاشتقاقي للفظ والذي يحتوي على المعنى الأصلي له، والذي يكشف عن الأصل الحسي في العالم الخارجي، والذي يمكن بعد إطلاقه تحويله إلى وجود عام، وكذلك يمكن إطلاق المعنى المجازي للفظ والذي يحوي في باطنه إمكانية إطلاق المعنى وتجاوزه من المعنى الأصلي عن طريق التشابه أو الالتزام أو الاستعارة، كما يمكن ربط المعنى المطلق بالمعنى العرفي حيث يتم إيصال المعنى الأولي بعد إطلاقه إلى مادة العلم الحالية، والمعنى العرفي موجود في روح الشعب كما يتضح في الأمثال العامية والحكمة الشعبية،
27
والفلاسفة هم الذين قاموا بهذا الإطلاق للمعاني خير قيام، فقد حولوا عالم الأذهان إلى عالم الأعيان، وتحولت المعاني إلى وجود كما تحول المعبود ذاته من «ثيولوجيا» إلى «أنطولوجيا» أي من نظرية في الله إلى نظرية في الوجود، ولم يعد الله هو الذات والصفات والأفعال، بل الموجود الأول القائم بذاته، فالحقائق ليست ماهيات بل موجودات، والله ذاته ليس ماهية بل وجود، كما أطلق الفلاسفة المعاني المجازية بالتأويل، وأطلقوا المعاني الأولية إلى معان عامة لا يدركها إلا الفيلسوف.
28
ولما كان الهدف من تغيير البيئة الثقافية هو اكتشاف العصر الحاضر ومكوناته ووضعه بدلا من العصر القديم، فإنه يمكن أيضا القيام بالخطوات الثلاثة الآتية: (أ)
ناپیژندل شوی مخ