لذلك تحاشينا استعمال لفظ «إسلامية» كوصف للحضارة لأنه لفظ ديني والقضية حضارية بالأصالة تفرض أسلوبها العلمي الذي يمكن التعامل به مع عديد من الباحثين، وفي حالات الاضطرار القصوى فإن أمثال هذه الألفاظ الدينية لا تدل على أي معنى ديني بل تعني وصفا حضاريا صرفا، أي الحضارة التي نشأت حول الإسلام باعتباره معطى تاريخيا وليس باعتباره دينا، ولا يعني كونه معطى تاريخيا إنكارا للوحي؛ فالإسلام هنا واقعة حضارية حدثت في التاريخ، ويهمنا ما نشأ منه كحضارة وليس مصدره من أين أتى، تهمنا حضارته بعد حدوثه بالفعل، تجديد التراث لا يبحث عن النشأة بل عن التطور، والمجدد هنا كعالم الحديث مهمته البحث عن صحة الحديث في التاريخ وليس عن مصدر الحديث في النبوة وصدقها.
والتراث أيضا قضية شخصية؛ لأننا نتعامل مع موروث شخصي يربطنا به، وهو موصوف بنفس الصفة، فهو «إسلامي» ونحن «مسلمون»، والنسبة تشير إلى الحضارة أكثر مما تشير إلى الدين، وتعني أننا والتراث من منطقة حضارية معينة كما يعيش الغربي في تراث مسيحي ولا يكون هو مسيحيا، أو كما يعيش الهندي في تراث هندي ولا يكون هندوكيا أو بوذيا، التراث قضية شخصية نلتزم بها، وتختلف دراستنا له عن دراستنا مثلا للتراث الهندي أو الفارسي أو الصيني أو الغربي؛ لأننا في هذه الحالة نكون مجرد باحثين، في حين أننا في الحالة الأولى نكون أكثر من باحثين، بل نكون ملتزمين بقضية شخصية، تجديد التراث هو حياة المجدد نفسه، وجزء من التحليل النفسي لشخصيته الوطنية؛ من أجل التعرف على مكوناته النفسية. فتراث المجدد في نفس الوقت ذات وموضوع؛ لأن موضوع البحث هو ذاته أي وجوده التاريخي في اللحظة الحاضرة بين الماضي والمستقبل، لا ينظر الباحث إلى التراث إذن نظرة سائح إلى عالم غريب؛ لأن التراث جزء من ثقافة الباحث الوطنية، والباحث مسئول عنه مسئولية قومية، فالأحكام الخاطئة لا ترصد بل يعاد صياغتها، وأوجه النقص في التراث لا تبرر أو تنقد بل تكمل وتزاد، فالباحث عن نفس مستوى مسئولية المفكرين القدماء وهم أترابه وليسوا غرباء عنه، فإذا انفصل الباحث عنهم وقع في الغربة، وأصبحت مسئوليته هو وليست مسئولية التراث أن يقضي على اغترابه حتى يشعر بالانتماء وبأنه جزء من التراث وبأن التراث جزء منه،
11
ولا ينقص الالتزام بالقضية من حياد الباحث أو من نزاهته أو من موضوعيته، فلا تعني الموضوعية التخلي عن الحكم أو عدم الغوص في الأشياء وأخذ موقف، فالباحث عالم ملتزم، والتزامه أساس علمه ويقوم على علم، بل إن علمه هو التزامه بقضايا التغيير الاجتماعي، وهذا الالتزام هو نفس موضوع العلم، وبتعبير معاصر نقول: الأيديولوجية هي العلم والعلم هو الأيديولوجية؛
12
ولذلك تتكشف المشاكل القديمة في شعور الباحث المعاصر كمشاكل شخصية في حياته، وحيوية لثقافته الوطنية، ويتحول التراث القديم بالفعل إلى مشكلة الثقافة الوطنية، فهو مصدر الثقافة باعتباره مخزونا نفسيا موجها لسلوك الجماهير، وهو موجه نحو الواقع باعتباره أسسا لنظرية ممكنة للتغير والتنمية، وإذا كانت ثقافتنا الوطنية ما زالت تتأرجح بين القديم والجديد، بين الماضي والحاضر، فإن تجديد التراث يعطي لثقافتنا الوطنية وحدتها الضائعة، وتجانسها المفقود؛ ولذلك نستعمل ضمير المتكلم الجمع في «واقعنا» و«حضارتنا» و«موقعنا» و«عصرنا»، لا لندل على موقف حضاري خاص، أو على أسلوب شخصي جماعي، بل للإشارة إلى الحضارة كموقف شعوري، وإلى أن الغاية هو البحث عن أسباب التوقف التاريخي أو الانحراف الفكري أو الاغتراب الوجداني أو التغير الحضاري، وهو ما يحدث في كل حضارة تصنع نفسها موضع البحث، وتجدد صلتها بالتراث القديم والواقع المعاصر.
13
فإن قيل: هل «التراث والتجديد» يقدم منهجا أم يؤسس علما أم يكشف ميدانا؟ قيل: إن كل تجديد يصعب تصنيفه إلى منهج أو علم أو ميدان، فالمنهج هو ذاته علم لأنه تأسيس للعلم، والعلم إذا كان تأسيسا للعلم فهو ميدان، ميدان التأسيس، فتحليل الواقع المباشر ورؤية التراث فيه، أو تحليل التراث على أنه مخزون نفسي عند الجماهير، هو في نفس الوقت منهج نفسي اجتماعي، نفسي لأنه يقوم على تحليل شعور الناس وسلوكهم، واجتماعي لأنه يهدف إلى تحليل الواقع وإلى أي حد ترتكز هذه الأبنية على أبنية نفسية أخرى عند الجماهير، ولما كانت هذه الأسس النفسية ذاتها ناشئة من موروث حضاري، فإنه يتعين تحليل هذا الموروث ومعرفة ظروف نشأته، «التراث والتجديد» إذن يغطي ميادين ثلاثة: (1)
تحليل الموروث القديم وظروف نشأته ومعرفة مساره في الشعور الحضاري. (2)
تحليل الأبنية النفسية للجماهير وإلى أي حد هي ناتجة عن الموروث القديم أو من الأوضاع الاجتماعية الحالية. (3)
ناپیژندل شوی مخ