لشد ما تأثرت ببرقية الطيب والرشيد، وكذلك ببرقية صالح ومحمد وعلال، وكنت أود أن أجيب بنفس اللهجة، ولكن لم يكن ذلك في إمكاني، وحملت إلي برقية من مراد نفحة من الآمال ... وأتتني برقيات جميلة من الطلبة التونسيين من باريس ودمشق تحمل معاني التكتل الوطني وعزم الشبيبة الناشئة الثابت؛ أي ضمان الدوام والاستمرار الذي لا يبلغ الإنسان من دونه غاية. وهل أحدثك عن مئات ومئات البرقيات والرسائل والبطاقات من جميع السجون، ومن جميع المعسكرات، ومن أبعد جهات تونس؛ كلها تتدفق وطنية وتنبئ عن حالة أدبية أشد ما تكون ارتفاعا وقوة وإيمانا لا يتزعزع بالنصر النهائي. فإن كان جسمي مقيدا محكوما عليه بالعزلة، وكانت القوة القاسية فرقتني عن إخواني؛ فقد عجزت عن منع قلوب شعب كامل وأفكار أبنائه أجمعين من مؤانستي في غربتي والاتجاه نحو منفاي فوق صخرتي. وتلك أجمل تسلية وأعظم جائزة كنت أؤملها في محنتي، وهو انتصار جبار من الناحية الأدبية لا يلبث أن يتجسم - وهو لا محالة سيتجسم طال الزمان أو قصر - في الميدان السياسي.
وكانت رسالتك - بتاريخ 27 يونيو - أشد وقعا على نفسي وأعمق تأثيرا، فاهتززت لها اهتزازا؛ لإيجازها وصراحتها وما حملته من عواطف.
فقرأتها عشر مرات، بل مائة مرة من غير ملل، وهي أمامي الآن وسأحملها معي دائما؛ لأنها أصدق مثال لأجمل وأعظم وألطف وأشرف وأصفى وأنقى ما يشعر به قلب بشري. حقا لم أعش من أجل نفسي وما تحمل كلمة نفس من أثرة، وقد كنت منذ بداية نشأتي أتبع كلمة خالدة قرأتها وأنا صغير: «عش للغير، لا لنفسك.» وعندما عشت لفائدة الغير وجدت أني اخترت أحسن طريقة لأحيا لنفسي، ولكنني لم أكن الوحيد الذي اختار ذلك الطريق في الحياة، ولو كنت الوحيد لما أمكن لي أن أبني بناء صحيحا يدوم ويبقى، وكان من حسن حظي - بل من حسن حظ الشعب التونسي - أني جمعت حولي جماعة من الشباب من ذوي الحزم والعزم، استأثروا بنكران الذات والمقدرة، واعتقدوا اعتقادي بأن الحياة لا تستحق أن يحياها الإنسان إن لم ينرها بنور التضحية الكاملة في سبيل مثال أعلى من الحرية والعدالة والأخوة البشرية.
وإن في ذلك لآية لقوم يفقهون، وشاهدا لا يرد على أن شعب تونس شعب نبيل لم تفقده عشرات السنين من العبودية والرق الشعور بالكرامة والشرف، وتلك هي الحقيقة الناصعة، فيمكن لي الآن أن أموت مطمئنا وأنا أعلم أن الكفاح سيستمر سواء كنت موجودا أو معدوما ... وأنه لن يتوقف إلا يوم تصبح تونس وليس فيها غالب ومغلوب وقاهر ومقهور، يوم يفتك شعبها حقه الطبيعي في الحرية وفي الحد الأدنى من الكرامة، الذي من دونه يسقط البشر إلى مصاف الحيوانات العجم.
وأن الكفاح سيستمر حتى بعد ذلك اليوم، ولكنه سيكون كفاحا ضد الجهل والفاقة لرفع مستوى الشعب الأدبي والمادي، إلى أن يصبح عائلة كبرى حرة قوية سعيدة قادرة على القيام بدورها في تقدم البشرية وصعودها إلى نحو مصيرها النير. وأن انتصارنا في الميدان السياسي وإن كان غاية في نفسه من الناحية الأدبية، إلا أنه الوسيلة أيضا التي تمكننا من معالجة المشكلة الاجتماعية معالجة حاسمة.
وليخرج المتطوعون آلافا من صميم ذلك الشعب الذي أقام الدليل للعالم على حيويته وقيمته لتحقيق تلك الغاية العظيمة الشريفة.
المستعمرون وسلوكهم
(1) المشكلة التونسية عند الاحتلال الفرنسي
نلاحظ أن المشكلة التونسية قد وضعت دائما في ميادين ثلاثة: الميدان الدولي، والميدان الفرنسي، والميداني الداخلي التونسي.
تكونت المشكلة التونسية يوم احتلت فرنسا الجزائر في أواسط القرن التاسع عشر، فأخذت فرنسا تتدخل في شئون تونس شيئا فشيئا تمهيدا للاستيلاء عليها، ولم يتيسر لها احتلالها عام 1881 إلا بعد مناورات دولية دامت أكثر من ثلاثين سنة، وكانت تخشى مزاحمة بريطانيا العظمى لها ومطامع إيطاليا المكشوفة، إلى أن تم الاتفاق مع الإنجليز بمساعدة رجل ألمانيا المحنك «بسمارك» على أن تكون بريطانيا مطلقة اليد في مصر وتكون فرنسا حرة التصرف بتونس، أما إيطاليا فوقع إبعادها بإعطاء بعض الترضيات لجاليتها بتونس.
ناپیژندل شوی مخ