الغرض من وضع هذا الكتاب
يسطر هذا الكتاب صفحة ناصعة من الكفاح الرائع، وصفحة سوداء من تاريخ الاستعمار.
فليس هذا الكتاب إذن بحثا جغرافيا عن تونس العربية الإسلامية التي يسكنها ثلاثة ملايين ونصف مليون من العرب المسلمين، وقد أضيف إليهم بعد الاحتلال الفرنسي 140 ألفا من الفرنسيين ومائة ألف من الإيطاليين. وهي على صغر رقعتها (125 ألف كيلومتر مربع) تحتوي على أراض خصبة متسعة في الشمال، وعلى غابات شاسعة تمتد إلى الجزائر، وعلى بساتين تجعل من جهات كاملة - كجهة الدخلة - تعبق بالرياحين في فصل الربيع، ونمت غابة زياتينها خاصة في الساحل الشرقي إلى أن بلغت أكثر من عشرين مليون شجرة. وتونس غنية أيضا بمعادنها من فوسفات وحديد ورصاص وزنك وزئبق وفحم وغيرها، وأخيرا عثر على البترول في غالب جهاتها.
أما موقعها الاستراتيجي، فهي تفصل البحر الأبيض المتوسط إلى حوض شرقي، وحوض غربي، وتتحكم في المضيق الرابط بينهما بميناها الحربي بنزرت ومطاراتها.
ومن البديهي أن أسطورة الاستعمار الذي جاء بنوايا حسنة طيبة، ورسالة تمدينية افتضحت، حتى أصبح لا يصدقها أحد وخاصة مروجوها. إنما الاستعمار في كنهه استثمار اقتصادي كامل يتبع ضربا من القانون الحديدي الذي لا يرحم؛ ولذا رأينا المستعمرين الفرنسيين استحوذوا استحواذا كليا على جميع الثروة المعدنية، وعلى أخصب الأراضي وعلى غالب منابع الثروة، واستثمروا أيضا جهود التونسيين استثمارا فظيعا؛ إذ جعلوهم عمالا يتقاضون أجورا طفيفة لا تسد رمقهم ولا تغني عائلتهم من الجوع، بل اتخذت منهم فرنسا أيضا جنودا يريقون دماءهم للدفاع عنها وعن استعمارها.
والاستعمار مفسدة بشرية، لا يدوم إلا بانحطاط الأخلاق، فينزل بالمغلوب إلى حضيض الخنوع والخسة والذل والحيوانية بما يصبه عليه من فقر وجهل ومرض، فيدنس إنسانيته المقدسة، ويفسد الغالب أيضا، فيولد فيه التعصب الأعمى والتفوق العنصري والمطامع والشره والميل إلى الأرباح والمصالح الشخصية، ويميت فيه الضمير وروح العدالة والأخوة البشرية، ويقضي على كل اعتلاء فكري فيه.
ومما أكسب الوطنيين التونسيين قوة وألبس كفاحهم ضربا من القداسة، شعورهم بالدفاع عن القيم البشرية العليا؛ عن الحرية وعن العدالة: عدالة القانون والمحاكم، وعدالة المجتمع، وعدالة الاقتصاد والثروة، ودفاعهم فعلا عن كرامة الإنسان وقداسة حياته.
وقد اقتصر هذا الكتاب على تسجيل فترة (من 1949 إلى 1954) من الصراع بين ذلك الاستعمار وبين شعب تونس الذي لا يريد أن يموت كشعب وأن يفنى، وأن يصبح أبناؤه كأوراق الخريف تذروهم كل ريح وعاصفة، أو كحبات الرمل تبددهم كل موجة من أمواج البحر.
والقضية التونسية في وضوحها ونصوعها كالبلور، لا تحتاج إلى تزييف وتلفيق ولا إلى المبالغة، بل الحقيقة نفسها تخدمها دائما؛ ولذا كان جميع ما قدمته في كتابي هذا مستندا إلى وثائق رسمية أو إلى قول خصومنا أنفسهم، وأخذت قصة الحوادث عن الذين شاركوا فيها أحيانا أو عن عدة شهود عيان، وحذفت الكثير مما سمعت، وأغفلت أيضا الكثير من الفظائع. واحتطت لكيلا أذكر حادثا إلا بعد البحث والتمحيص، فجمعت كمية من الوثائق والأحداث تمكن كل إنسان من أن يبدي حكمه، وقد يكون رأيه مخالفا لرأي فيجد ما يسند عليه فكرته. ففي هذا الكتاب يجد القارئ الحوادث والوثائق مضبوطة بتواريخها وأسماء مكانها ومرجعها، وما لم أسجل مرجعه فقد أخذته عن عشرات الشهود.
ولأمكن القارئ من فهم الحوادث وأسبابها البعيدة والقريبة، لخصت في فصول ثلاثة الوضع الحالي، وأبنت عن سياسة فرنسا الاستعمارية وسلوك جاليتها، وعن قوة الحركة الوطنية ونظامها، وعن النظم التي فرضها الاستعمار على الدولة التونسية، ثم تحدثت عن «التجربة التونسية» عندما دخلت تونس في مفاوضات رسمية مع فرنسا لتحقيق استقلالها، وعن نكث حكومة فرنسا تعهداتها، وعن العدوان المسلح ضد شعب تونس الأعزل. فكانت الثورة الدامية المستمرة، وتطور الكفاح التونسي تطوره الطبيعي، وكانت الأدوار السياسية تماشي الثورة الدامية.
ناپیژندل شوی مخ