وأمرهم شورى بينهم ،
وشاورهم في الأمر ، فتعاليم الإسلام تنافي الاستبداد بأنواعه وتحض على الديمقراطية.
إن شعب تونس أصبح لا يتحمل الملكية المطلقة ولا يرضى بها، ولن يسمح بوجودها، ولكن الملكية الدستورية تجمع بين حسنات الملكية والديمقراطية، فالملك عنصر الدوام والاستقرار في الدولة، والعمدة في المحافظة على مصالحها العليا، وضمان الاستمرار في حياتها السياسية، وهو أيضا عنوان الدولة ورمزها الحي، ورئيسها الدائم وعلامة وحدتها، وممثل سيادتها. والملكية لا تناقض تقاليدنا ولا تخالف روح تاريخنا، بل يتقبلها الشعب برضى من تلقاء نفسه، ويجد العرش كنقطة ارتكاز في المحن والمصائب ومعقل الآمال مدة الكفاح والجهاد، فيلتف حوله لتحقيق وحدته وصيانة كيانه.
وتكون هذه الملكية دستورية؛ أي إن الملك يصبح أكثر رسوخا، وتكون السلطة التنفيذية تحت إشرافه في يد وزارة مسئولة أمام برلمان، فيختار الشعب أفراده كنواب عنه.
والحرية روح ذلك النظام الديمقراطي وأساسه، فإذا كانت الديمقراطية هي حكم الشعب بالشعب وللشعب حقا، فمعنى ذلك أنه يختار ما يريده من نظام وسياسة، ومن قال اختيارا قال أيضا حرية؛ إذ من البديهي أن الاختيار يفرض وجود الحرية، فلا يكون حرا من هو مجبور على قبول نظام معين وسياسة محددة مضبوطة وضعها غيره، ولا يمكن اختيار إلا إذا كانت أمام الشخص أنظمة مختلفة وسياسات متعددة وحلول متنوعة، فيختار إحداها دون غيرها، عن اقتناع فردي ومن تلقاء نفسه من غير أن يكون تحت ضغط خارجي أو تهديد أجنبي عنه، بل حسب إرادته الشخصية، وكما يمليه عليه عقله وإدراكه؛ لأن الاختيار في المجتمع السياسي كاختيار الفرد لأعماله، ولو لم يكن الفرد حرا في اختيار أعماله، ولو فرضت عليه الأعمال فرضا، لما بقي مبرر للجزاء ولا سبب للعقاب. وكذلك في الحياة السياسية لا معنى للديمقراطية إذا لم يكن أفراد الشعب أحرارا في اختيار ما يرونه من حكم. والحرية في حقيقتها وفي الواقع أيضا كل لا يتجزأ، فإما أن تكون وإما ألا تكون، فإذا وقع الاعتداء على فرد أو جماعة من الشعب وسلبت منهم حريتهم من أجل آرائهم أو معتقداتهم، يفتح الباب للاعتداء على حرية جميع الشعب وكبته. وحرية الفرد مرتبطة بحرية المجموع أيضا، فإذا كانت حرية الشخص الواحد مقدسة، فكذلك حرية الجماعات، فللفرد أن يبدي ما يراه من آراء، وله أن يحاول إقناع غيره بها، كتابة وقولا، وتلك هي حرية الفكر، وله أن ينتقد آراء غيره وأن يفندها وأن يتبع بالتحليل والنقد أيضا آراء الحكومة ورجال السياسة وأعمالهم، وله أن يكون مع غيره من المواطنين جماعات للدفاع عن أفكارهم والدعاية لها ، وله أيضا الحرية الكاملة في معتقده من غير أن يكون عرضة للاعتداء من طرف الحكومة أو من طرف جماعات أخرى من الشعب، وتلك هي حرية الأديان. وليس الحرية هي الفوضى بل فيها ضرب من النظام عجيب؛ إذ تنتهي حرية كل فرد عند ابتداء حرية غيره، فمن لا يحترم حرية غيره ليس أهلا للتمتع بحريته؛ ولذا كانت الحرية تتطلب ضربا من الرقي والتربية السياسية والاجتماعية في الشعوب وأفرادها، يجعلها تتسامح ويحتمل بعضهم بعضا، فلا يلجئون للقوة لفرض إرادتهم أو آرائهم أو معتقدهم على غيرهم، حتى يصبح ذلك التسامح جبلة وطبيعة ثانية في كل مواطن، فتقديس حرية الغير إنما هي تقديس لحريتك الشخصية.
لقد شاهدنا كثيرا من المفكرين السياسيين - وخاصة بفرنسا - يظنون أن الحرية مرتبطة بالمساواة، بل يميلون أحيانا إلى تدعيم المساواة والدفاع عنها أكثر من ميلهم للحرية نفسها، مع أنهما مختلفان في جوهرهما وكنههما؛ إذ نرى في أكثر الديمقراطيات الحرية موفورة إلى درجة، ولكننا لا نشاهد المساواة بين أفراد الشعب في الغالب، يقولون المساواة في الحقوق والواجبات، نعم المساواة أمام القانون العام أمر حتمي لنظام المجتمع سواء في الديمقراطية أو في غيرها؛ إذ يقام كل مجتمع على قداسة القانون سواء أكان موضوعا أم دينيا منزلا، لأن العدل أساس العمران، ومن مصلحة الحاكم مهما يكن نوعه أن يحترم القانون.
والمساواة في الديمقراطية هي أن تكون أصوات جميع المواطنين - أصحاب الحق السياسي - متساوية عند التصويت أو في انتخابات النواب عنهم، نعم هذا الضرب من المساواة موجود في الغالب في البلاد الديمقراطية، ولكن التفاوت بين المواطنين في الثروة والثقافة والمواهب يجعل تلك المساواة نظرية أكثر منها واقعية. فنفوذ الغني وفرض آرائه على الفقير من الأمور الجلية البديهية، وكذلك نفوذ المثقف وأصحاب الجاه.
أي معنى للحرية وأي مجال للمساواة إذا كانت الديمقراطية تقتصر على الميدان السياسي وحده، ولا تشمل الميدان الاجتماعي والاقتصادي؟! فهل حرية الفقير إلا حريته في أن يعيش ويموت في تعاسة؛ فحظه من الحياة الفاقة والمرض والجهل والجوع أحيانا، فهو عبد في الواقع للقمة الخبز له ولعياله، وقد يجدها وقد لا يجدها إذا كان عاطلا والبطالة تهدده يوميا، وأين المساواة في أقطار يسير فيها بعض الأفراد الرأي العام بما لهم من صحافة قوية ومجلات وكتب ومذياعات؛ أي إنهم يفرضون آراءهم فرضا، ثم يسيطرون بأموالهم على مؤسسات الدولة نفسها.
فالحرية السياسية وحدها لا تكفي، بل لا بد من تعزيزها وتدعيمها بتحرير المواطنين من الفقر والفاقة ومن البطالة وما تجره وراءها من ويلات، فينبغي أن يكون لكل مواطن حق في العمل حتى يحافظ على حياته وحياة أسرته، وعلى كرامته البشرية؛ إذ الكرامة والفقر لا يجتمعان.
وإن العدالة الاجتماعية لا تقف عند هذا الحد؛ لأن حياة الفرد والعائلة تهم الشعب كله وتتطلب ضمانات اقتصادية تماشي الضمانات السياسية وتكملها، فالضمانات الاجتماعية ضرورية للديمقراطية الحقيقية؛ فلا تجوع الأسرة إذا مرض ممولها، وتعالج أفرادها للمحافظة على صحة المجموع، فحق العلاج الطبي وحق السكن الصحي، وحق التعليم والتربية، من الحقوق البديهية التي لا نجدها في الغالب عند الديمقراطيات! ولا معنى للديمقراطية بدونها.
ناپیژندل شوی مخ