وقد ألقت السلطات الفرنسية القبض على عدد من التونسيين، فأضربت مدينة قابس وضواحيها احتجاجا على هذه الاعتقالات.
وتهدم جسر أول بالقرب من بلدة «فريفيل» مساء الخميس 13 مارس، وقد وضعت مفرقعات تحته فنسف بانفجارها، وعلى مسافة من ذلك الحادث نسف جسر ثان لما انفجر ما وضع تحته من مفرقعات.
وأخذ الوطنيون يقطعون أسلاك التليفون والأعواد الحاملة لها في جميع جهات القطر، واستمر ذلك واتسع نطاقه إلى أن أصبح من المتعذر على القوات الفرنسية الاتصال بالقيادة العليا بمدينة تونس، وانقطعت السلطات الفرنسية بعضها عن بعض إلا بطريق اللاسلكي، حتى جن جنون الفرنسيين وأخذ الجنرال جارباي - القائد الأعلى للجيوش الفرنسية - يصدر الأوامر تلو الأوامر بالتشديد على التونسيين جميعا، وأخيرا قرر تحميل المدن والقرى مسئولية قطع أسلاك التليفون وفرض عليها غرامات حربية. ولما رأى أن تلك الإجراءات لم تأت بالنتيجة المطلوبة ، فرض على السكان أداء خاصا لحراسة التليفون، وعين عددا من التونسيين المدنيين في كل مكان ليقوموا بتلك الحراسة وحملهم كل مسئولية، لما عسى أن يعتريها من إتلاف. فكان جواب الوطنيين على تلك الأوامر الظالمة المجحفة، أن انتشر قطع أعواد التليفون على نطاق لم يسبق له نظير. ولنذكر بعض ما وقع من ذلك في ثلاثة أيام متوالية؛ ففي ليلة الخميس 8 مارس قطعت أعمدة التليفون بطريق «فريفيل»، وقطعت ثمانية أعمدة قرب منزل جميل. وليلة 9 مارس قطع عدد من أعواد التليفون بالقرب من مدينة قفصة، وتسعة أخرى على السكة الحديدية المؤدية إلى سوسة. وليلة 10 مارس من الشهر نفسه فكت أسلاك التليفون بلدة الكنائس ومدينة المنستير، وقطعت سبعة أعمدة تليفونية بين المنستير وقصر هلال، فتعطلت المخابرات بين البلدتين. وفي مساء 11 مارس سبعة أعمدة تليفونية بالقرب من ساقية الزيت في ضواحي صفاقس، وقطعت الأسلاك الكهربائية بطريقة «قرمدة» و8 أعمدة بالقرب من المنستير.
ولما قررت الهيئات الوطنية مقاطعة الترام تجددت الحوادث لتعطيله أصلا ولمنع الفرنسيين من ركوبه، ولنذكر بعض تلك الحوادث في أيام قليلة متتابعة؛ فقد قذفت عربة «تروللي باس» تابعة لخط مونفلوري بالحجارة وبقارورة من النفط مشتعلة، وذلك في شارع قرطاج يوم السبت 8 مارس، ويوم 9 منه ألقيت قارورة بنزين مشتعلة على عربة «تروللي باس» بشارع الباب الجديد في الساعة السابعة والنصف مساء، ورميت في نفس الوقت عربة «تروللي باس» أخرى بالحجارة بشارع باب سعدون، وألقيت قارورة بنزين مشتعلة على عربة «تروللي باس» أمام المحكمة الفرنسية بشارع باب البنات، وفي الساعة الثامنة والدقيقة العشرين تهاطلت الحجارة على عربات الترام بجهة باب سويقة، فتحطم زجاجها وأصيب الضابط الفرنسي «ريبرو» وعونان من الحراس المتجول بجروح. وفي صباح يوم الاثنين 10 مارس في الساعة السادسة والنصف، ألقيت قذيفة على عربة الترام بشارع لندرة، وقذف الترام الرابط بين شارع فرنسا وضاحية فرانس فيل بقارورة ملتهبة من النفط، فانتشرت النار بعربتها والتهمتها التهاما. (21) الحالة العامة في شهر مارس
وكانت الأزمة التونسية تزداد شدة يوما بعد يوم، وتستفحل المشكلة وتستعصي على كل حل ، واتخذت قالب مسابقة بين القوات الوطنية التي تجمع في الحقيقة الشعب بأسره وبين القوات الفرنسية المعتدية، وأقام شعب تونس الدليل لفرنسا على استحالة حكم تونس بالقوة وحدها. وقد لخص الكاتب الفرنسي الحر الذي يعيش بتونس منذ عشرات السنين - الأستاذ دوران إنقليفيال - الحالة في ذلك الإبان، فقال:
سألت أحد حراس الأمن - وكان قد ابتل بالمطر حتى أثقل - عما إذا كان سيأوي إلى بيته في هذا اليوم مبكرا، فأجابني بقوله: «ومن يستطيع أن يعرف ذلك؟ ليست الرغبة في العودة إلى منزلي هي التي تنقصني، ولكن ...» ثم أضاف: «إن الصمت يطغى على كل شيء. وأشهد أن هذا هو نفس شعوري بالضبط، إننا محاطون بالصمت، بل إنه يثقلنا حتى ليكاد يزهق منا الأنفاس، وإذا قدر لنا أن نسمع شيئا فهي أصوات الانفجارات في الشمال وفي الجنوب، ثم يعود الصمت من جديد، صمت الدوائر الحكومية التي أصبح فراغها مريعا، ولعلنا نستطيع القول: إن هذا الصمت هو سبب الانفجار.
فبين فرنسا وتونس يظهر أنه يوجد نوعان من المحادثات، وإن كنا لسنا على يقين من ذلك؛ أحدهما سري يقوم به أناس سريون أيضا، وهدفه هو إيجاد الإصلاح والبحث عن اتفاق، ولكن الصمت حول هذا النوع من المحادثات ما يزال مخيما أيضا، وهذا ما يبعث القلق والدهشة في كل مكان. وفي مقابل ذلك نعرف النوع الآخر من المحادثات، النوع المعروف المشهور والذي يتحدث به كل أحد في الطريق، وهو عبارة عن طلقات من النار والقنابل والرشاشات والقنابل اليدوية والهجوم والدفاع والتراجع والانتقام، وهو التسلسل الذي لا حد له ولا نهاية.
فمن الطبيعي أن يكون الأبرياء الذين كثيرا ما يكون الدفع على حسابهم، فيوجد في هذه البلاد التونسية جنود فرنسيون لا يعرفون لم تركوا مدنهم وقراهم بفرنسا، ويوجد تونسيون وطنيون يمرون من هنا وهناك وإذا السجون ملأى بالمعتقلين.
إن هناك تسابقا طويل المدى بين حركة المقاومة الوطنية الشعبية وبين حركة القمع البوليسي، وكل حركة متعلقة بالأخرى دون أن تعرف أي منها كيف يوضع حد لحركة الفناء.
ولست هنا في معرض النقد لإجراءات الأمن المتخذة، ولكن من المفيد أن نعترف أن كل ما بذل حتى الآن في سبيل المحافظة على هذا الأمن قد كان عبثا ونفخة في واد، بل الغريب أن حركة المقاومة تتضاعف وتنتشر بقدر ما تشتد قوات الأمن وتعنف، وشيوخ الاستعمار في هذه البلاد أخذوا يتفطنون لهذه الظاهرة الجديدة، وهي أن تونس لم تعد تحكم بالقوة.
ناپیژندل شوی مخ