(1) تدبير الفظائع
ملأ الفرنسيون الدنيا صراخا وطبقوها دعاية ضد الألمان النازيين خلال الحرب العالمية الثانية، وفضحوا الأعمال الإجرامية التي ارتكبت مدة الاحتلال الألماني لفرنسا، وأبرزوا للملأ ما وقع في مدنهم وقراهم - وخاصة في قرية «أورادور» - من تقتيل الأبرياء وتعذيبهم والتنكيل بهم.
ولكنهم بتونس عاملوا عشرات القرى معاملة «أورادور» بل معاملة أشنع وأفظع، وظنوا أن أنين المظلومين لن يسمع في العالم، وعويل الأرامل سيكبت، وصراخ اليتامى سيغط، واعتقدوا أن الضعيف المقهور المغلوب لا يؤبه له، ولا يلتفت إليه، ولا يصغى لشكواه، وعلموا أن تونس في زمرة البلدان المغلوبة على أمرها المحتلة احتلالا قويا جبارا، المعدودة في عرف الدول الكبرى ملكا لفرنسا، فيقول عنها الإنجليز كما يقول الأمريكان تونس الفرنسية.
وقد جربت فرنسا ذلك الأسلوب بالجزائر في عام 1945 عندما قتلت أكثر من أربعين ألف جزائري - رجالا ونساء وشيوخا وأطفالا - وقام الجنرال جارباي نفسه بقمع الحركة الوطنية بجزيرة مدغشقر، وقتل في تلك الأثناء أكثر من مائة ألف لم تشعر بهم الدنيا، ولم يعرهم الرأي العام العالمي التفاته، وأرسلته الحكومة الفرنسية إلى تونس بنفس النوايا وليقوم بنفس العمل، فلم تكن عملية «التطهير» في جهة الدخلة من باب الصدفة، بل كانت منظمة تنظيما محكما قد أعدت خطتها من قبل، وسطر برنامجها في غير غفلة ولا سهو، بضمير لا يرحم، وقلب لا يخفق وفقدان غريب لكل شعور إنساني، حتى أصبح كل تونسي يتساءل أين المدنية الفرنسية، بل أين المدنية البشرية؟ وأين الرحمة؟ وأين الإنسانية؟
وقد تأثر كثير من الفرنسيين الأحرار الذين يعيشون بتونس عند مشاهدة الحوادث، فلم يستطيعوا تحمل جو كله رعب، وارتجفت أعضاؤهم من شدة ما رأوا وهول ما شهدوا. وهذا واحد منهم معلم فرنسي صاحب ضمير كتب رسالته إلى مجلة لوديكاتور
L’Educateur
الفرنسية وهو تحت تأثير ما عاين، والاضطراب بين في كلامه، فنشرتها تلك المجلة تحت عنوان: «تونس تحت النير والاضطهاد» في عددها الصادر في شهر مارس 1952 جاء فيها:
تعرف الحقيقة كيف تفتح لنفسها سبيلا لتسمع صوتها رغم حالة الحصار، ونحن نقدم إليكم صوت واحد من أعز مشتركينا، مرب مسالم، لا هم له إلا إنارة عقول أطفال أفريقيا الشمالية وتثقيفهم:
أبعث إليك بهذه الأسطر في هذا الصباح المحزن، وفي جو ملؤه الغضب المستعر، وبين مصائب متدفقة في ساعة لم أسمع فيها إلا دويا مرتبكا من الأصوات، ومن الأنين والشهيق المتدفق والبكاء بصوت مرتفع ممزوجا بدوي المصفحات والطائرات المحلقة في سماء القرية.
إني أعتذر إليك إذا لم أجد الألفاظ اللازمة لأعبر عن الهول المحيط بنا، ومعذرة أيضا إذا لم أتعقل في كلامي.
ناپیژندل شوی مخ