115

تونس ثائره

تونس الثائرة

ژانرونه

إن هذه السيادة قد بترت وذهبت أشلاء بفعل معاهدة عتيقة ترجع إلى سبعين سنة خلت، وكانت قد فرضت على البلاد فرضا بواسطة القوة المسلحة، وتبعها فيما بعد غزو هائل احتل البلاد من أطرافها بثلاثة جيوش جرارة يصحبها جميعا تهديد وإنذار لم يترك لجلالة الباي المحاصر في قصره إلا ساعات معدودات ليقرر موقفه من الأمر المقضي.

إلا أن هذا البتر الذي حدث للسيادة التونسية بالقوة في غضون القرن الماضي لم يكن هو كل شيء، بل إنه استتبع فيما بعد أيضا بالقضاء النهائي الذي أنزله المقيم العام على ما تبقى من هذه السيادة؛ ولذلك بالرغم من أن اختصاصات هذا المقيم لا تجيز له - وفقا للمعاهدة نفسها - أن يتعدى كونه واسطة للعلاقات القائمة بين الحكومة الفرنسية والسلطات التونسية فيما يتعلق بالشئون التي تهم البلدين (المادة 5).

أما اليوم فإن المقيم - بصورة عملية - هو السيد المطلق في أمره ونهيه بالبلاد التونسية، فالقوانين لا تتخذ صبغتها الشرعية إلا إذا حظيت بموافقته، وهو الذي يراقب جميع الأجهزة الإدارية بالبلاد التونسية، والشرطة والجندرمة تابعة له، وكذلك القوات المسلحة بالبلاد. أما الوزراء التونسيون فليس لهم أي نفوذ، ولا حق لهم في اتخاذ أية قرارات كانت، وهذه الوضعية الثقيلة على التونسيين في عقر دارهم، والتي لا يستطيعون تحملها، هي التي نهض الشعب بقيادة الحزب الدستوري لمحاربتها منذ ثلاثين سنة، وهدفه هو تحطيم هذا النظام الإرهابي.

وقد كانت الوعود التي قطعها روبير شومان سنة 1950، وأكدها بيرييه المقيم العام في 13 يونيو من نفس السنة، قد ظهرت لنا بأنها تعبر عن إرادة الحكومة الفرنسية في إرجاع السيادة المنهوبة إلى ذويها التونسيين، والتي كانت معاهدة باردو نفسها قد نصت بصراحة على أنها من مميزات رئيس البلاد الأعلى، وأنها - هذه الوعود - ستكون الخطوة الأولى في طريق استبدال معاهدة 1881 الاستعمارية التي فقدت قيمتها، ولم تعد تتماشى مع الزمن الحاضر، بمعاهدة أخرى قائمة على الصداقة والعلاقات الطيبة التي تحفظ لفرنسا جميع الحقوق المشروعة، وتجعل من الممكن وجود تعاون حر بين شعبينا في جميع الميادين الضرورية التي لا بد فيها من تعاون متبادل بالنسبة لفرنسا وتونس معا.

ولكن المؤسف أنه ما كادت المفاوضات تخطو خطوتها الأولى، حتى أخذت تحف بها تهديدات أغلبية الممثلين الفرنسيين، وما لبثت أن انتهت إلى مذكرة 15 ديسمبر التي أوصدت في وجه التونسيين جميع أبواب التفاهم مع الفرنسيين من أجل التحرير الوطني؛ وذلك لما جاء فيها من إقرار يحمل طابع «النهائية» للعلاقات التي تربط تونس بفرنسا، وجعلت الجالية الفرنسية المستوطنة بالبلاد التونسية هي صاحبة الطول والحول في البلاد على حساب الشعب، مما يخالف جميع مبادئ القوانين الدولية.

ولكن الاعتدال الذي ظهر به الحزب الحر الدستوري فيما أبداه من ثقة بالوعود المقطوعة له باسم فرنسا، قد مكن من إماطة النقاب عما يخفيه الاستعماريون في الحكومة الفرنسية من نوايا ومقاصد جعلت الغضب يبلغ عند الشعب أقصى حدوده؛ لأنه لم يعد يطيق التصور بأنه سيظل عبدا رقيقا إلى الأبد في حين أن غيره من الشعوب، ومن بينها شعوب تجاوره في حدوده قد أصبحت تتمتع بسيادتها واستقلالها.

وهكذا حدثت القطيعة العنيفة، وتبعتها ردود فعل أعنف وأشد سالت فيها الدماء وسقطت فيها الضحايا، وهو ما كنا منذ سنتين نحاول جهدنا أن نحذر منه الحكومة الفرنسية. ولكن عبثا. ومما يؤسف له حقا أن بعض المسئولين الفرنسيين الذين يظنون أنفسهم متشبعين اطلاعا على الأمور في البلاد التونسية أصبحوا يعتقدون، بل ويصرحون علنا أن التونسيين سيضطربون ويتحركون ويحاولون المشاغبة، ولكنهم لم يلبثوا أن يهدئوا من أعصابهم ويستكينوا من جديد. لقد كان هذا الظن قابلا لأن يكون معقولا لو جاء في القرن الماضي، ولكنه عندما يجيء في سنة 1952 فهو مضحك.

إن الشعب التونسي قد أصبح مستعدا لتقبل جميع التضحيات؛ لكي يبرهن للعالم على أنه نضج النضج اللازم الذي يؤهله للحرية التي يطالب بها. إن الشعب قد صمم على دفع الثمن لهذه الحرية، وهو مستعد للكفاح من أجلها طوال ما تتطلبه من وقت.

وهذا ما جعل الحكومة التونسية التي استنفدت جميع جهودها في التفاهم المباشر قد تحولت - لكي تتجنب ما هو أنكى وأضر - إلى أكبر مؤسسة دولية تطلب منها التوسط الودي في النزاع القائم بينها وبين الحكومة الفرنسية، ولا تزال الفرصة سانحة أمام الحكومة الفرنسية لتعود إلى المفاوضات، ولكن على نفس القواعد والأسس وهي الاستقلال الداخلي.

على أن بلاغ الحكومة الفرنسية المؤرخ في 30 ديسمبر قد جاء يحمل شرطا تعتبره لا بد منه قبل الشروع في أي تفاهم، وهذا الشرط ينص على ما يلي: «إن الحكومة الفرنسية مخول لها بحكم المعاهدات المعقودة مع البلاد التونسية مسئولية حفظ الأمن العام.» وهذا تفسير مسرف وبعيد عما يقصده البند الثاني من معاهدة باردو، والذي يقول صراحة ما يلي: «من أجل تقديم التسهيلات اللازمة لحكومة الجمهورية الفرنسية في مهمة القيام بالإجراءات التي تمكنها من أداء مهمتها المتفق عليها من الدوائر العليا للطرفين والقاضية بمنع تجديد الاضطرابات والفوضى التي حدثت أخيرا في الحدود الفاصلة بين الدولتين؛ فإن جلالة الباي يصادق على أن تحتل القوات العسكرية الفرنسية النقط التي تعتبرها ضرورية الاحتلال؛ من أجل إعادة الأمن إلى نصابه في الحدود والسواحل، وهذا الاحتلال ينتهي عندما تتفق السلطات العسكرية الفرنسية والتونسية على الاعتراف بأن الإدارة المحلية قد أصبحت آمنة ومضمونة.»

ناپیژندل شوی مخ