وكان الجنود والبوليس يفتشون كل تونسي يمر بالشوارع؛ ويلحقون به الإهانات المتنوعة، من صفع، وضرب بمؤخرات البنادق، ودوس بالأقدام، من غير رحمة ولا شفقة، ولا مراعاة لاحترام السن، ولا الوظيفة والمنصب، لإنزال الرعب في القلوب وتعميم الإرهاب، ولأقل إشارة وأتفه كلمة يلقون عليه القبض، بل أخذوا يعتقلون الناس بالجملة ويحملونهم في سيارات كبيرة قد أعدت لذلك.
ومن الغد تلبدت السحب في سماء تونس، واشتد البرد، وتهاطلت الأمطار؛ وظن الفرنسيون أن الهدوء سيسود، وأن ذلك الجو لا يشجع التونسيين على التجمهر وسيطفئ الحماس والحرارة، ولكن الإضراب كان عاما شاملا؛ وقد استثني منه المصالح العامة والإدارات، وشارك اليهود التونسيون في ذلك الإضراب، وتعسر التموين على الفرنسيين المدنيين، فلم يجدوا الخضر والفواكه واللحوم والأسماك وضروريات الحياة الأخرى.
وتكونت مظاهرة خصوصا من العمال والطلبة، التقت بالقوات الفرنسية المسلحة؛ واشتبكت معها عندما سعى البوليس في تفريقها ففشل؛ وإذ ذاك استخدمت نيران الأسلحة سريعة الطلقات وكثر الجرحى من بين المتظاهرين.
وسارت مظاهرة أخرى مؤلفة خصوصا من النسوة، يعززهن مئات من شباب الحزب؛ وكانت مؤثرة جدا لما أظهرت الوطنيات من شجاعة ونكران الذات، فاقتحمن القوات الفرنسية، ووصلن أمام الإقامة العامة نفسها، ففرقهن البوليس الفرنسي بقسوة ووحشية، واغتظن لما رأين الفرنسيين بالمدينة الأوروبية ينعمون بحياة هادئة، فاتحين محالهم ودور سينماتهم، ومقاهيهم؛ فهاجمن إذ ذاك تلك المحال وكسرن واجهاتها، وأنزلن الرعب في تلك الأماكن، ثم كررن راجعات إلى الإقامة العامة، وقد عزز صفوفهن كثير من الدستوريين، فأحاطت القوات بالنسوة خاصة إذ ذاك، واعتقلت أكثر من خمسين وطنيا أكثرهم من النسوة.
وكان يوم الأحد 20 يناير كأنه يوم مأتم، وصفه أحد الصحفيين الفرنسيين فقال:
7
جو إرهابي، جو حالة الحصار، سيارات عسكرية لاسلكية، جنود بلباس الميدان، دبابات وعساكرها، عساكر كتائب الكوماندوس من ذوي القبعات الزرقاء وقوات البوليس المحتلة للشوارع.
ولم تمنع الأمطار، ولا البرد اللاذع الجماهير من عقد اجتماعات كبيرة، والقيام بمظاهرات صاخبة، وكان الحي العربي مطوقا تطويقا قويا بالمصفحات والجند، بخلاف الحي الأوروبي، فإنه كان في بحبوحة من العيش ، وكان التونسيون الذين يسكنون به في جحيم لما يلحقهم من إهانات من غير انقطاع، وما يقع عليهم من اعتداء مستمر وتفتيشات مرهقة، وكان الإضراب عاما والدكاكين - حتى الفرنسية - مغلقة، فيسير الإنسان في شوارع تونس، وكأنها مدينة ميتة لا حراك بها، ما عدا القوات الفرنسية المتنقلة، وانقطع التموين عن المدينة منذ أيام.
واجتمع في الصباح آلاف من الطلبة، ومن مختلف طبقات الشعب في جامع الزيتونة، وتوالى الخطباء على المنبر، معلنين كلمة الحق، وتمسك الشعب برغباته في الحرية والاستقلال، والتحريض على الصبر والثبات، وتقديم ما يتطلبه الوطن من تضحيات، وعند الظهر انتظمت صفوف المجتمعين، وخرجوا في مظاهرة يسودها الهدوء والعزم، واخترقت الشوارع المؤدية إلى الحي الأوروبي، وعند وصولها إلى ميدان باب البحر، صادمتها قوات مسلحة عظيمة، وسعت في تشتيتها بالعنف، وانهال العساكر على المتظاهرين ضربا بمؤخرات البنادق، ولكن الوطنيين حافظوا على نظام صفوفهم، وتقدموا غير مبالين بتلك القوات، وإذا بالرصاص يمطرهم من كل جانب، فيموت من يموت، ويجرح من يجرح، ويتفرق التونسيون في الحي الأوروبي ويشرعون حالا في تكسير الدكاكين والشركات الفرنسية، فيطاردهم البوليس، وتصبح الشوارع ميدان معارك، وينتشر الذعر بين الفرنسيين، فتراهم بين هارب يجري، وملتجئ إلى العمارات القريبة وداخل الكنائس.
وفي ذلك الوقت عقد التونسيون اجتماعا شعبيا عظيما في ميدان الحلفاوين الذي كان غاصا بما احتواه من بشر، كأنه الزرع في تموجاته، وقام الخطباء فيهم يحرضونهم على متابعة الجهاد، والسير في أعمالهم طبق النظام وأوامر القادة، والمحافظة على اتزان أعصابهم، وخرجت تلك الجماهير من «الحلفاوين» في ثلاث مظاهرات، تبعت كل واحدة منها إحدى الشوارع المؤدية إلى ميدان «باب سويقة» (شارع الحلفاوين وشارع الكبدة وشارع الزاوية البكرية)، وكان الوطنيون يسيرون في صفوف منظمة، رباعي وخماسي، آخذ بعضهم بذراع بعض، وتقدموا في هدوء رهيب، ولما اقتربوا من الميدان، تعالت الأصوات كأنها الرعد بالهتافات ثم بالأناشيد.
ناپیژندل شوی مخ