وإنا لنتساءل: هل كان حكم المغرب منوطا بوالي مصر عندما حل عام 667م؟ الواقع أن الفتح الحقيقي لم يتم إلا بين عامي 669 و770م، وقد تميز بانتصار عقبة بن نافع وبناء مدينة القيروان، وكان هذا تاريخ استيلاء العرب على إفريقية والتمكين لهم فيها، وفاتحة دخول قبائل البربر في الإسلام. على أن أهم هذه الحوادث جميعا هو تشييد هذه المدينة الجديدة، وهي حاضرة من حواضر المسلمين ودار للصناعة ومحط للقوافل وسوق للتجارة، وقد رفع أهل هذه المدينة منذ ذلك الوقت قواعد مسجدها، ومدوا أرباضها في السهول المواجهة لنجاد تونس الوسطى التي ظل يحميها خط من حصون الروم.
وعاد عقبة عام 681م بعد أن انقضت ولاية أبي المهاجر، ولا نعرف من أخبار هذا الوالي إلا القليل، وحدث بعد عامين أن كان عقبة راجعا من غزوة له، فسقط في الزاب أمام تهودة صريع فتنة شديدة، قام بها الأهلون في وجهه، وقد ناصر الروم كسيلة رأس هذه الفتنة، وظل هذا الرجل أعواما طويلة أميرا على دولة بربرية مترامية الأطراف، ناهضت غارات العرب الجديدة وقاتلتهم أشد قتال، وسقط كسيلة نفسه في حومة الوغى بناحية سبيبة عام 678م، ويقال إن زهير بن قيس البلوي كان قد وفد عليها في ذلك الحين.
ولم تسمح الأحوال في داخل الدولة الأموية باستئناف الفتح إلا عام 693م، وفيه خرج حسان بن النعمان في جيش عدته أربعون ألف مقاتل لغزو إفريقية، ثم تقدم مسرعا صوب الشمال؛ للقضاء على الروم قبل أن يرجع لقتال بربر «أوراس» الأشداء، واستولى على قرطاجنة عام 695م، ولكنه فقدها وهزمه البطريق يوحنا، ثم هزمه البربر في سهول باغاية بقيادة الكاهنة، وهي شخصية أسطورية، فرجع إلى برقة، ثم هاجم قرطاجنة في العام التالي بحرا وبرا، فاستولى عليها وثبت أقدامه فيها، وفي عام 698م انتزع العرب من البربر والروم جميع ما يعرف الآن بتونس تقريبا، واستطاع حسان أن يشيد تونس، واستولى خلفه موسى بن نصير على زغوان، ثم قاد بربر إفريقية لغزو المغرب ...
وتمكن معظم الروم في إفريقية من الهرب بحرا إلى صقلية ومالطة خاصة، والظاهر أن غالب السكان الذين بقوا في البلاد بادروا إلى الدخول في الإسلام، اللهم إلا جماعات قليلة من النصارى «الأفاريق» أو اليهود. على أن بربر إفريقية قد نزعوا إلى الاستقلال حتى بعد إسلامهم، شأنهم في ذلك شأن بقية أقطار شمالي إفريقية، وحاولوا في عدة مناسبات أن يستعيدوه، وتذرعوا في ذلك بأيسر الأسباب وهو الزندقة، فكان القرن الثامن كله فتنا، وقد استعين بمذهب الخوارج الاشتراكي؛ لإثارة أهل البلاد على العرب الحاكمين، كما كان هذا القرن حافلا بفتن الجند العرب الذين كانوا يسارعون إلى الشغب والخروج على النظام.
وتمكن حنظلة بن صفوان من إخماد فتنة عكاشة الصفري، ولكنه أجبر على الفرار إلى الشرق عندما استولى الثائر عبد الرحمن بن حبيب الفهري على القيروان، وعجز آخر الأمويين عن استعادة هذه الولاية النائية التي كانت بسبيل الخروج من أيديهم. ورأى العباسيون أن الأندلس بمنجاة من سلطانهم، فقصروا همهم على استعادة إفريقية من أبي الخطاب الإباضي، واسترجع قائدهم محمد بن الأشعث القيروان وعمر أرباضها، وأقام فيها يلي أمورها، ولكن حكمه لم يدم طويلا، فقد نقم جند العرب عليه، وأجبروه على الرحيل، وعجز الأغلب بن سالم التميمي عن الثبات للمنتقضين من المضرية، وقتل في فتنة عام 767 فسادت الفوضى خمسة أعوام سويا.
وتوارث حكم إفريقية من عام 772 إلى عام 794م بنو المهلب، وهم دويلة من عمال الخلافة يمانية الأصل، نجحت بعض النجاح في إقامة النظام، ونشر الأمن في ربوع البلاد، وتخلص يزيد بن حاتم يعاونه أربعون ألف جندي من أبي حاتم الإباضي، وعمر مسجد القيروان الجامع عام 774م، ونظم أهم طوائف المدينة، وقضى ابنه داود على حلف وفرجومة البربري، وتمكن أخوه وخلفه روح من الاتفاق مع ابن رستم الإباضي صاحب تيهرت ، وقد قضى هذا الاتفاق على نزعة التمرد بين بربر إفريقية، ولم يعد يهدد أمن البلاد إلا جند العرب وحدهم، فقد حل بها، بعد وفاة الفضل آخر بني المهلب، عهد ساده الفتن وسفك الدماء، فأنفذ الخليفة العباسي إليها القائد هرثمة بن أعين، فردها إلى طاعته، وبنى رباط المنستير، وخلف هرثمة محمد بن مقاتل العكي، فأثار جند تونس التميمية بسوء تدبيره وضعف حيلته فعزلوه في أكتوبر عام 799م، وفي هذا الوقت ظهر إبراهيم بن الأغلب فجأة وناصر العباسيين في ولاية الزاب، وكان ابن عاملها، وقد قتل عام 867م، ورد ابن مقاتل إلى القيروان، واستمع هارون الرشيد لناصحيه فجعل إبراهيم «أمير» إفريقية مكافأة له وتوطيدا لأركان الحكم في البلاد، وظل السلطان في بيته أكثر من قرن بلا انقطاع.
وقد أحدثت دولة الأغالبة أثرا بالغا في تونس، وكان الأمراء يتبعون الخلافة في الظاهر، ولكنهم كانوا في الواقع مستقلين عنها يتوارثون الحكم فيما بينهم، فجنحوا إلى السلم والنظام والتوسع. بيد أن التميمية في تونس لم تهدأ ثائرتهم، وكان إبراهيم نفسه تميميا، ولكنه اختلف مع هؤلاء الجند من مضر، وقد برموا بأولي الأمر سواء أقربت ديارهم أم بعدت عن العباسيين، الذين قربوا اليمانية أعداءهم القدماء. فاضطر إبراهيم إلى الاعتماد على جند بينهم كثير من الأعاجم الوافدين من خراسان، وكان حرسه حديث النشأة من الزنج يعتصم بحصون القصر القديم أو العباسية التي أقامها على بعد فرسخ من القيروان، وفي عهده أخذت تنتشر الحصون المعروفة بالمحارس على حدود الساحل الشرقي، ولما توفي عام 812م، عادت الفتنة إلى طرابلس.
واشتهر ابنه زيادة الله بنشاطه وقسوة قلبه، وسرعة بادرته، فوجد له منافسا قويا هو منصور الطنبذي الذي أوشك أن يقضي عليه، وخرجت البلاد الشمالية كلها بما فيها تونس عن طاعته أعواما، بيد أن نفحة من نفحات عبقريته هدته إلى ما في الجند المشاغبين من طمع وحمية فاستنفرهم إلى جهاد صقلية فأقلعوا من سوسة يهزهم الحماس، تحت إمرة القاضي المشهور أسد بن الفرات، واستولوا على بلرم عام 831م، ثم على مسينا بعد اثنتي عشرة سنة، وقد شيد زيادة الله رباط سوسة عام 821م، واستطاع أن ينصرف إلى أعمال السلم، ومنها بناء المسجد الجامع في القيروان، وتأثره خلفه فتوسع في إقامة البنى، وشيد عام 850م مسجد سوسة الجامع ومسجد سفاقس، ونحن نخص بالذكر الأمير أحمد الذي أقام الأسوار حول هاتين المدينتين، وبنى «صهريج الأغالبة»، وهو الصهريج الكبير الذي يزود القيروان بالماء.
وفي عام 874م خلف إبراهيم الثاني، آخر الأمراء العظام في هذه الدولة، أخاه محمدا، وقد كني بأبي الغرانق؛ لكلفه باصطيادها، ثم هجر القصر القديم إلى قصبة جديدة جعلت فيها دواوين الحكومة، وهي رقادة التي لا يزال موضعها معروفا على مسيرة خمسة أميال جنوبي القيروان. فلما مات ثارت تونس، وفتحت عنوة وتردد الأمير عليها، ونقل عاصمته إليها لكي يرقب أحوالها بعين ساهرة، وتميزت سياسة الأمير في الخارج بحوادث جسام، فواجهت البلاد أول الأمر من ناحية الجنوب الشرقي غارات العباس بن أحمد، ابن أول أمراء البيت الطولوني؛ ذلك أنه لم يطع أباه وخرج على رأس حملة من مصر وسار إلى طرابلس عام 880م يريد فتح إفريقية، ولكن بربر نفوسة وقفوا بينه وبين طرابلس، وجاء إبراهيم في الوقت الملائم، واستولى على أموال الطولونيين فساعد ذلك على تحسين الحالة المالية للبلاد، بيد أن ذلك لم يدم طويلا؛ لأن الأموال لم تملأ الخزائن التي استنزفتها الفتن والثروات، ثم البذخ والإسراف، وألحت الحاجة على الحكام، فاشتطوا في طلب العبيد والخيول من سهل جمودة، فاندلعت فتنة جائحة! إلا أن فتح صقلية تم بالاستيلاء على سراقوسة عام 878م وتاور مينا عام 901م، وشكا أهل تونس من إبراهيم فصدع لأمر الخليفة، وتنازل لوالده عبد الله، ومات مجاهدا عند كوسنزة من أعمال كلابريا في أكتوبر من العام نفسه.
وكانت الفتنة الدينية التي اجتاحت إفريقية بعد ذلك في مهدها بالمغرب، وكان بربر الجنوب جميعا من الإباضية، وتمتد منازلهم من أوراس إلى جربة وطرابلس، أما بربر نفوسة فكانوا يقطعون الطريق الذاهب إلى الشرق جنوبي قابس، وذلك قبل أن يعمل إبراهيم الثاني السيف في رقابهم، بيد أن مذهب الخوارج لم يحل دون غلبة المذهب السني في الجزء الأكبر من البلاد، وظهور جماعة من مشاهير الرجال، وقد بلغت المناظرات في مسائل الفقه ذروتها أيام الأغالبة، وفي ذلك العهد قامت المذاهب المختلفة، وجمعت أمهات كتب السنة، وقد ظهر في هذه الأثناء اثنان من تلاميذ ابن القاسم فقيه المالكية المشهور في مصر، هما: أسد بن الفرات الذي ولد لأسرة خراسانية، وتوفي في صقلية 828م، وتلميذه سحنون الذي ولد في بلاد الشام لأب من مرتزقة الجند، وولي عام 850م قضاء القيروان، فنصر المذهب المالكي، ولا تزال مدونة ابن الفرات عمدة يرجع إليها، وظلت المالكية المذهب الغالب في تونس، وإن ظهر عليها أحيانا بعض المذاهب الأخرى، وجدير بنا أن نلاحظ أن أشهر العلماء والمذاهب كان شرقي المنبت، كما وفد الداعي أبو عبد الله عام 894م من المشرق على قبائل كتامة في إكجن؛ ليدخلهم في شيعة عبيد الله المهدي.
ناپیژندل شوی مخ