[مقدمة المؤلف]
بسم الله الرحمن الرحيم
مخ ۸
الحمد لله الذي هدانا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا إلى سواء السبيل، وجعل العلماء ورثة الأنبياء، وخصهم بمزيد تفضيل، ورفع لهم الدرجات، وضاعف لهم المثوبات، وفضلهم بالأجر الجزيل، ووعد من نبيه ببعث مجدد(1) على رأس كل مئة سنة في أمته يحق الحق، ويبطل الباطل بأوضح سبيل، فسبحانه ما أعظم شأنه، أشهد أنه لا إله إلا هو وحده لا شريك له، ولا ضد له، ونظيره مستحيل، وأصلى وأسلم على رسوله سيد ولد آدم، فخر العالم محمد الذي أوضح لمتبعيه سبل الهداية، ونحاهم عن طرق الضلالة صاحب الخلق العظيم والفضل الجميل، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الثواب الجليل.
وبعد:
فيقول الراجي عفو ربه القوي أبو الحسنات محمد عبد الحي اللكنوي الأنصاري الحنفي تجاوزا لله عن ذنبه الجلي والخفي:
هذه كراسة لطيفة، وعجالة شريفة، مسماة ب:
((تحفة النبلاء في جماعة النساء))
ألفتها حين وقعت تذكرة جماعة النساء وحدهن في الصلوات الخمس وغيرها بين الجلساء، أرجو من فضل ربي أن يجعلها مقبولة في أعين الفضلاء.
وقد رتبتها على مراصد مشتملة على مقاصد:
- المرصد الأول(1) -
في ذكر الأخبار والآثار الواردة في مشروعية جماعة النساء وحدهن
في الفرائض والنوافل وكيفية إقامتهن
مخ ۹
في حالة إمامتهن لهن أخرج أبو داود في ((سننه)): حدثنا عثمان بن أبي شيبة، نا وكيع بن الجراح، نا الوليد بن عبد الله بن جميع، حدثتني جدتي وعبد الرحمن بن خلاد الأنصاري عن أم ورقة بنت عبد الله بن نوفل، أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما غزا بدرا، قالت: قلت: له يا رسول الله، ائذن لي في الغزو معك، أمرض مرضاكم، لعل الله أن يرزقني شهادة، قال: ((قري في بيتك، فإن الله تعالى يرزقك الشهادة))،قال:فكانت تسمى الشهيدة، قال: وكانت قد قرأت القرآن فاستأذنت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن تتخذ في دارها مؤذنا، فأذن لها، وكانت قد دبرت غلاما لها وجارية، فقاما إليها بالليل فغماها بقطيفة لها حتى ماتت، وذهبا فأصبح عمر رضي الله عنه، فقام في الناس، فقال: من كان عنده من هذين علم، أو من رآهما فليجئ بهما، فأمر بهما فصلبا فكانا أول مصلوب بالمدينة(1).
مخ ۱۰
ثم أخرج(1)عن الحسن بن حماد الحضرمي نا محمد بن فضيل عن الوليد بن جميع عن عبد الرحمن بن خلاد عن أم ورقة بنت عبد الله بن الحارث بهذا الحديث، قال: ((وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها في بيتها، وجعل لها مؤذنا يؤذن لها، وأمرها أن تؤم أهل دارها، قال عبد الرحمن: فأنا رأيت مؤذنها شيخا كبيرا)).
قال ابن عبد البر(2)في كتابه ((الاستيعاب في أخبار الأصحاب)): أم ورقة بنت عبد الله بن الحارث بن عويمر الأنصاري، وقيل: بنت نوفل، هي مشهورة بكنيتها، واضطرب أهل الخبر في نسبها، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسميها الشهيدة، وكانت حين غزا رسول الله بدرا، قالت: إئذن لي أخرج معكم إداوي جرحاكم وأمرض مرضاكم، لعل الله يهدي إلي الشهادة، فقال لها: ((إن الله مهد لك الشهادة، وقري في بيتك فإنك شهيدة))(3).
وكان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أمرها أن تؤم أهل دارها، وكان لها مؤذن، وكانت تؤم أهل دارها حتى غمها غلام لها وجارية، قد كانت دبرتهما، فقتلاها في خلافة عمر،.
مخ ۱۱
فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه، فقام في الناس، وقال: إن أم ورقة غمها غلامها وجاريتها فقتلاها، وأنهما هربا، فأمر بطلبهما، فأدركا فأتي بهما فصلبا، وكانا أول مصلوبين(1)[في الإسلام](2)في المدينة، وقال عمر رضي الله عنه: صدق رسول الله حين كان يقول انطلقوا بنا نزور الشهيدة. انتهى(3).
وقال ابن الأثير الجزري(4)في كتابه ((أسد الغابة في معرفة الصحابة)): أم ورقة بنت عبد الله بن الحارث بن عمير الأنصارية، وقيل: أم ورقة بنت نوفل، هي مشهورة بكنيتها، واختلفوا في نسبها، أخبرنا عبد الوهاب الصوفي بإسناده عن أبي داود نا عثمان بن أبي شيبة نا وكيع نا الوليد بن عبد الله بن جميع حدثتني جدتي وعبد الرحمن بن خلاد الأنصاري عن أم
ورقة بنت نوفل : ((أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما غزا بدرا))(5)الحديث. انتهى.
مخ ۱۲
وقال الحافظ ابن حجر(1)في ((تلخيص الحبير في تخريج أحاديث شرح الرافعي(2)الكبير)) :عند ذكر حديث أم ورقة المذكور: أخرجه أبو داود والدارقطني(3)والحاكم(4)والبيهقي(5)عن أم ورقة بنت نوفل: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم لما غزا بدرا...)) الحديث(6).
وفيه: وأمرها أن تؤم أهل دارها، وفيه قصة وأنها كانت تسمى الشهيدة.
وفي إسناده عبد الرحمن بن خلاد، وفيه جهالة. انتهى(7).
مخ ۱۳
وقال العيني(1)في ((البناية شرح الهداية)): قوله: أي صاحب ((الدراية))(2): مع أن في حديث أم ورقة مقالا إشارة إلى ما قاله المنذري(3)في((مختصره لسنن أبي داود)):أن في سنده الوليد بن جميع، وفيه مقال.ولا يضره ذلك،فإن مسلما أخرج له،وكفى هذا في عدالته وثقته.
فإن قلت: قال ابن بطال(4)في ((كتابه)): الوليد بن جميع وعبد الرحمن بن خلاد لا يعرف حالهما.
قلت: ذكرهما ابن حبان(5)في كتاب ((الثقات))(6)، فالحديث إذن(7)صحيح. انتهى(8).
مخ ۱۴
وفي ((المستدرك)) لأبي عبد الله الحاكم: حدثنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن الصفار نا أحمد بن يونس الضبي نا عبد الله ابن داود الخريبي(1) نا الوليد بن جميع عن ليلى بنت مالك وعبد الرحمن بن خالد الأنصاري عن أم ورقة الأنصارية:أن رسول الله كان يقول:((انطلقوا بنا إلى الشهيدة، فنزورها، وأمر أن يؤذن لها ويقام، وتؤم أهل دارها في الفرائض)).
قد احتج مسلم بالوليد بن جميع، وهذه سنة غريبة لا أعرف في الباب حديثا مسندا غير هذا.
وقد روينا عن عائشة: أنها كانت تؤذن وتقيم وتؤم النساء.
حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب نا أحمد بن عبد الجبار نا عبدالله بن إدريس عن ليث عن عطاء عن عائشة: أنها كانت تؤذن وتقيم وتؤم النساء، وتقوم وسطهن. انتهى(2).
وأخرج محمد بن الحسن(3)في كتاب ((الآثار)): أخبرنا أبو حنيفة نا حماد عن إبراهيم عن عائشة رضي الله عنه: أنها كانت تؤم النساء في شهر رمضان، فتقوم وسطهن، قال محمد: لا يعجبنا أن تؤم المرأة، فإن فعلت قامت في وسط الصف مع النساء كما فعلت عائشة، وهو قول أبي حنيفة. انتهى.
مخ ۱۵
وأخرج ابن عدي في ((الكامل))(1)، وأبو الشيخ الأصبهاني(2)في كتاب الأذان من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((ليس على النساء أذان ولا إقامة ولا جمعة ولا اغتسال ولا تقدمهن امرأة، ولكن تقوم وسطهن))(3).
قال العيني في ((البناية)): في سنده الحكم بن عبد الله، قال ابن معين: ليس بثقة ولا مأمون، وعن البخاري: تركوه، وعن النسائي: متروك الحديث، وأنكر ابن الجوزي(4)هذا الحديث في كتابه ((التحقيق))، وقال: لا يعرف مرفوعا، وإنما هو شيء يروى عن الحسن البصري(5)وإبراهيم النخعي(6). انتهى(7).
مخ ۱۶
وأخرج عبد الرزاق(1)في ((مصنفه)) ومن طريقه الدارقطني والبيهقي
من حديث أبي حازم عن رابطة الحنفية عن عائشة رضي الله عنها: أنها أمتهن فقامت بينهن في صلاة مكتوبة(2).
وأخرج ابن أبي شيبة(3)ثم الحاكم من طريق عطاء عن عائشة رضي الله عنها: أنها كانت تؤم النساء فتقوم معهن في الصف(4).
وأخرج الشافعي وابن أبي شيبة وعبد الرزاق عن ابن عيينة عن عمار الدهني عن امرأة من قومه يقال لها حجيرة عن أم سلمة: أنها أمتهن فقامت وسطهن(5).
ولفظ عبد الرزاق: أمتنا أم سلمة في العصر فقامت بيننا ... (6)، ومن طريقه أخرجه الدارقطني أيضا(7).
مخ ۱۷
وأخرج ابن أبي شيبة من طريق قتادة عن أم الحسن: أنها رأت أم سلمة تقوم معهن في صفهن(1)، كذا ذكره ابن حجر في ((التلخيص))(2).
وأخرج عبد الرزاق عن إبراهيم بن محمد عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: تؤم المرأة النساء وتقوم وسطهن(3).
وأخرج الحاكم في ((المستدرك)): عن عبد الله بن إدريس عن عطاء عن عائشة: أنها كانت تؤذن وتقيم(4)وتؤم النساء، فتقوم وسطهن(5)، كذا ذكره العيني(6).
* * *
- المرصد الثاني -
في ذكر اختلاف المذاهب في هذه المسألة
اعلم أنه وقع الاختلاف في أنه هل جماعة النساء وحدهن مشروعة أم غير مشروعة:
مخ ۱۸
فذهب الشافعي إلى استحبابها، وهو قول الأوزاعي (1) والثوري(2) وأحمد، وحكاه ابن المنذر(3)عن عائشة وأم سلمة.
وقال النخعي والشعبي(4): تؤمهن في النفل دون الفرض.
مخ ۱۹
وشذ أبو ثور(1)والمزني(2)ومحمد بن جرير الطبري(3)فأجازوا إمامة النساء على الإطلاق للرجال وللنساء.
وعند الحسن البصري ومالك: لا تؤم المرأة أحدا لا في فرض ولا في نفل، كذا ذكره العيني في ((البناية))(4).
والمشهور من مذاهب أصحابنا: أن جماعة النساء وحدهن مكروهة، وهو المذكور في كثير من الكتب الفقهية لأصحابنا الحنفية، وعللوا الكراهة بتعليلات متفرقة، وأجابوا عن الأخبار المذكورة بجوابات غير شافية.
ولنذكر قدرا(5)من عبارات مشاهير كتبهم، وأعقبه بذكر ما لهم وما عليهم:
مخ ۲۰
قال ابن نجيم(1)في((البحر الرائق شرح كنز الدقائق)): وجماعة النساء: أي كره جماعة النساء لأنها(2)لا تخلو عن ارتكاب محرم، وهو قيام الإمام وسط الصف فيكره كالعراة، كذا في ((الهداية))(3)، وهو يدل على كراهة تحريم؛ لأن التقدم واجب على الإمام للمواظبة عليه من النبي صلى الله عليه وسلم، وترك الواجب موجب لكراهة التحريم المقتضية للإثم.
فإن فعلن يقف الإمام وسطهن كالعراة(4)؛ لأن عائشة فعلت كذلك، وحمل فعلها على ابتداء الإسلام؛ ولأن في التقدم زيادة الكشف. انتهى(5).
وفي ((رمز الحقائق شرح كنز الدقائق)) للعيني: وكره جماعة النساء؛ لأنها لا تخلو عن حرام، فإن فعلن أي أردن أن يصلين جماعة، يقف وسطهن تحرزا عن زيادة الكشف كالعراة، فإنهم إذا صلوا بجماعة يقف الإمام وسطهم. انتهى.
مخ ۲۱
وفي ((مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر)): وكذا يكره جماعة النساء؛ لأنه يلزمهن أحد المحظورين: إما قيام الإمام وسطهن، أو تقدمه، وهما مكروهان في حقهن كراهة تحريم إلا في صلاة الجنازة، فإنها لا تكره فيها؛ لأنها فريضة فلا تترك بالمحظور.
فإن فعلن: أي صلين بجماعة وارتكبن الكراهة يقف الإمام وسطهن؛ لأن عائشة فعلت كذلك حين كانت جماعتهن مستحبة ثم نسخ الاستحباب.
وفي ((السراج)): إنما أرشد إلى التوسط؛ لأنه أقل كراهة من التقدم، لكن لا بد أن يتقدم عقبها من عقب من خلفها ليصح الاقتداء حتى لو تأخر لم يصح. انتهى(1).
وفي ((تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق)) للفخر الزيلعي(2): وجماعة النساء: أي كره جماعة النساء وحدهن، لقوله عليه السلام: ((صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها))(3).
مخ ۲۲
ولأنه يلزمهن أحد المحظورين: إما قيام الإمام وسط الصف وهو مكروه، أو تقدم الإمام وهو أيضا مكروه في حقهن كالعراة، فلم يشرع في حقهن الجماعة أصلا ، ولذا لم يشرع لهن الأذان ، لأنه دعاء إلى
الجماعة، ولولا كراهة جماعتهن لشرع.
فإن فعلن يقف الإمام وسطهن؛ لأن عائشة فعلت كذلك حين كانت جماعتهن مستحبة، ثم نسخ الاستحباب؛ ولأنها ممنوعة عن البروز لا سيما في الصلاة، ولذا كانت صلاتها في بيتها أفضل، وتنخفض(1)في سجودها، ولا تجافي بطنها فخذها، وفي تقدم إمامهن زيادة البروز، فيكره. انتهى.
وفي ((المجتبى شرح مختصر القدوري)) للزاهدي(2): يكره للنساء أن يصلين وحدهن جماعة، فإن فعلن وقف الإمام وسطهن كالعراة.
وقال الشافعي: يستحب كالرجل لحديث رابطة: أن عائشة أمتنا فقامت وسطنا(3).
ولنا أن جماعتهن لو كانت مشروعة لكره تركها، ولشاع كشيوع جماعة الرجال، وحديث رابطة كان في ابتداء الإسلام، ووقوف الإمام وسطهن استر لهن، فكان أولى. انتهى.
وفي ((جامع المضمرات شرح مختصر القدوري))(4): فإن فعلن وقف الإمام وسطهن؛ لأن عائشة فعلت كذلك، وحمل فعلها الجماعة على ابتداء الإسلام، ولأن في التقدم زيادة الكشف. انتهى.
مخ ۲۳
وفي ((النهر الرائق شرح كنز الدقائق))(1): وكره أيضا تحريما جماعة النساء للزوم أحد المكروهين، أعنى قيام الإمام وسط الصف أو تقديمه، ولا فرق في ذلك بين الفرائض وغيرها كالتراويح إلا في صلاة الجنازة، ودل كلامه على أنها صحيحة، إذ الكراهة لا تنافي الصحة.
قال في ((السراج)): إلا إذا استخلفها الإمام وكان خلفه رجال ونساء حيث تفسد صلاة الكل، أما الرجال فظاهر، وأما النساء فلأنهن دخلن في تحريمة كاملة. انتهى.
وفي ((منح الغفار شرح تنوير الأبصار)): وجماعة النساء في غير صلاة الجنازة، لأنها لا تخلو عن ارتكاب محرم، وهو قيام الإمام وسط الصف، فيكره كالعراة، كذا في ((الهداية))(2)، وهو يدل على أنها كراهة التحريم المقتضية للإثم. انتهى.
وفي ((الهداية)): يكره للنساء أن يصلين وحدهن الجماعة؛ لإنها لا تخلو عن ارتكاب المحرم، وهو قيام الإمام وسط الصف فيكره كالعراة، وإن فعلن قامت الإمام وسطهن؛ لأن عائشة فعلت كذلك، وحمل(3) فعلها الجماعة على ابتداء الإسلام؛ ولأن في التقدم زيادة الكشف. انتهى(4).
وقد علم من هذه العبارات وأمثالها الواقعة في كتب الأثبات أنهم عللوا ما حكموا به من كراهة جماعة النساء وحدهن، وعدم مشروعيتها بطرق مختلفة:
مخ ۲۴
الأول وهو مسلك كثيرين منهم أن جماعتهن وحدهن يستلزم أحد المحظورين: إما تقدم الإمام(1)على المقتديات، وإما توسطه، وكل منهما ممنوع عنه.
أما الأول: فلاستلزامه زيادة الكشف، والنساء مأمورات بالستر لا سيما في حالة الصلاة.
وأما الثاني: فلأن تقدم الإمام واجب؛ لمواظبة النبي عليه الصلاة والسلام عليه.
وفيه بحث من وجوه:
أحدها: أن إمامتهن في صلاة الجنازة غير مكروهة، وبقاء الحكم مع وجود ارتكاب أحد المحرمين غير صحيح، كذا ذكره أكمل الدين البابرتي(2)في ((العناية حاشية الهداية))(3).
ثم أجاب عنه: بأن ترك جماعتهن إنما كان لاجتماع السنة مع الكراهة، فترك السنة لأجل الكراهة، وفي صلاة الجنازة اجتمع الفرض مع الكراهة؛ لأن النساء إن صلين جماعة وأقامت الإمام وسطهن أقمن فرضا؛ لكون الصلاة فرضا، وارتكبن مكروها، وإن صلين فرادى فرادى تركن المكروه، لكن على وجه يؤدي إلى فوات الصلاة عن بعضهن؛ لأن الفرض يسقط بأداء الواحدة، وقد يتفق فراغ الواحدة قبل الباقيات. انتهى(4).
مخ ۲۵
أقول: هكذا ذكره جمع من الشراح والمحشين، فقال ابن الهمام(1)في ((فتح القدير)): اعلم أن جماعتهن لا تكره في صلاة الجنازة؛ لأنها فريضة، وترك التقدم مكروه، فدار الأمر بين الفعل المكروه لفعل الفرض أو ترك الفرض لتركه، فوجب الأول بخلاف جماعتهن في غيرها، ولو صلين فرادى فقد تسبق إحداهن فتكون صلاة الباقيات نفلا، والتنفل بها مكروه؛ فيكون فراغ تلك موجبا لفساد الفرضية لصلاة الباقيات. انتهى(2).
وقال ابن نجيم في ((البحر الرائق)): استثنى الشارحون صلاة الجنازة فإنها لا تكره؛ لأنها فريضة، وترك التقدم مكروه، فدار الأمر بين فعل المكروه لفعل الفرض، أو ترك الفرض فوجب الأول. انتهى(3).
وقال الطحطاوي في حواشي ((مراقى الفلاح)): لا تكره جماعتهن في صلاة الجنازة؛ لأنها لم تشرع مكررة، فلو تفردت تفوتهن، ولو أمت المرأة في صلاة الجنازة لا تعاد؛ لسقوط الفرض بصلاتها. انتهى(4).
ومثله في غيرها لكن لا يخفى على المتفطن ما فيه:
مخ ۲۶
أما أولا: فلما قال ابن عابدين(1)في ((رد المحتار على الدر المختار)) بعد نقل عبارة ((فتح القدير))(2)مفاده: أن جماعتهن في صلاة الجنازة واجبة حيث لم يكن غيرهن؛ ولعل وجهه الاحتراز عن فساد فرضية صلاة الباقيات إذا سبقت إحداهن.
وفيه أن الرجال لو صلوا منفردين يلزم فيها مثل ذلك فيلزم عليه وجوب جماعتهم فيها مع أن المصرح أن الجماعة فيها غير واجبة. انتهى(3).
وأما ثانيا: وهو الحل فلأن الجماعة في صلاة الجنازة ليست بواجبة اتفاقا كما صرحوا به، وصرحوا أيضا أن صلاة الجنازة فرض كفاية يسقط من الكل بفعل واحد ولو منفردا لا فرض عين يلزم أداؤه على كل عين، فإذا حضرت الجنازة وليس هناك رجل، فلا ضرورة إلى جماعة النساء بارتكاب أحد المحظورين، ولا إلى أن يصلين منفردات؛ ليلزم كون صلاة بعضهن نفلا عند سبق غيرهن، بل يكفي أن تصلي عليها المرأة الواحدة(4)منفردة فيسقط الفرض عن الكل من غير ارتكاب المحظور.
وبالجملة انتقاض دليل الكراهة، وهو استلزام أحد المحظورين بصلاة الجنازة إلى الآن كما كان، ولا ينفع في ذلك ما ذكروه من أن ارتكاب المحظور لأداء الفرض جائز، فإن الجماعة التي هي المستلزمة له ليس بفرض، إنما الفرض نفس صلاة الجنازة، وهو أيضا كفاية لا عينا، ولا يتوقف أداء نفس الفرض على ارتكاب المحظور.
مخ ۲۷