وهو حسبنا ونعم الوكيل
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد خاتم النبيين والمرسلين، وأكرم الأولين والآخرين، المبعوث هاديا للأمة، كاشفا للغمة، والمنعوت بالرأفة والرحمة، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه الكرام المنتجبين، وتابعيهم بإحسان إلي يوم الدين، وسلم تسليما.
وبعد:
فهذه ترجمة محررة، وحلية محبرة، تكشف عن شمائل سلطان المحدثين، بل أمير المؤمنين، المقدم في هذا الشأن على أقرانه، أبي عبد الله البخاري أوحد زمانه، سميتها: ((تحفة الإخباري، بترجمة البخاري)).
فهو: محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بذدزبة الجعفي، مولاهم البخاري، الإمام العلم، الحافظ أمير المؤمنين في الحديث، أبو عبد الله بن أبي الحسن رحمة الله عليه.
مخ ۱۷۷
وجده بذدزبة مختلف فيه فقيل فيه: بردزبه، (بالراء مكان الذال المعجمة)، ووجدته مقيدا في موضعين يزذبه بخط أبي جعفر بن أحمد بن محمد العبدري فيما قرأه على أبي مروان عبد الملك بن عبد الله بن مدرك العبدري في غرة شهر ربيع الآخر من سنة ست وثمانين وأربع مئة.
وبذدزبة بالبخارية ومعناها: الزارع فيما ذكره أبو سعيد بكر بن منير بن خليد بن عسكر البخاري، وبذدزبة كان مجوسيا مات عليها. وأسلم ولده المغيرة على يدي اليمان بن أخنس بن خنيس والي بخارى جد المسندي أبي جعفر عبد الله بن محمد بن عبد الله بن جعفر بن اليمان الجعفي، قال أبو أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني الحافظ: ((ومحمد بن إسماعيل جعفي)) وقيل: لأن أبا جده أسلم على يدي أبي جد عبد الله بن محمد المسندي.
وقال أيضا: سمعت الحسن بن الحسين، أبا علي البزاز البخاري يقول: ولد محمد بن إسماعيل البخاري -رحمه الله- يوم الجمعة بعد صلاة الجمعة لثلاث عشرة خلت من شوال سنة أربع وتسعين ومئة. انتهى. وقال أبو عبد الله محمد بن يوسف الفربري، ثنا أبو جعفر محمد بن أبي حاتم الوراق: قال لي أبو عمرو المستنير بن عتيق: سألت أبا عبد الله محمد بن إسماعيل متى ولدت فأخرج إلي خط أبيه : ولد محمد بن إسماعيل يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة مضت من شوال سنة أربع وتسعين ومئة، قال مؤلفه -رحمه الله-: وكان مولده ببخارى وأضر في صغره.
مخ ۱۷۸
قال الحافظ أبو القاسم هبة الله بن الحسن اللالكائي في كتابه ((كرامات أولياء الله عز وجل)): أنا أحمد بن محمد بن حفص، أنا محمد بن أحمد بن سليمان، أنا خلف بن محمد، [حدثنا محمد بن أحمد بن] الفضل البلخي، سمعت أبي يقول: ذهبت عينا محمد بن إسماعيل -يعني البخاري- في صغره فرأت والدته في المنام إبراهيم الخليل -عليه السلام- فقال لها: يا هذه، قد رد الله -عز وجل- على ابنك بصره لكثرة بكائك، أو كثرة دعائك -الشك من أبي محمد البلخي- فأصبحت وقد رد الله -تعالى- عليه بصره.
مخ ۱۷۹
وحدث به أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد المستملي البلخي ببلخ فقال: سمعت محمد بن يوسف بن ديحان البخاري ببخارى أنبأ أبو عبد الله محمد بن محمد البامياني ببخارى، حدثني أبو الحسن محمد بن نوح سمعت أحمد بن محمد بن الفضل البلخي، سمعت أبي يقول: كان محمد بن إسماعيل قد ذهب بصره في صباه، وكانت له والدة متعبدة، فرأت إبراهيم خليل الرحمن -عليه السلام- في المنام فقال لها: إن الله -تبارك وتعالى- قد رد بصر ابنك عليه بكثرة دعائك، قال فأصبحت وقد رد الله عز وجل عليه بصره. وخرجه الحافظ أبو بكر أحمد بن علي الخطيب في ((تاريخه)) من حديث علي بن محمد بن الحسين الفقيه، ثنا خلف بن محمد الختام، سمعت أبا محمد المؤذن عبد الله بن محمد بن إسحاق السمسار، سمعت شيخي يقول: ذهبت عينا محمد بن إسماعيل في صغره، فرأت والدته في المنام إبراهيم الخليل -عليه السلام- فقال لها: يا هذه، قد رد الله على ابنك بصره، لكثرة بكائك، أو لكثرة دعائك، قال: فأصبح وقد رد الله -عز وجل- عليه بصره.
وقد بلغنا أن أباه أبا الحسن، إسماعيل، كان من خيار الناس، ووجدت في ((التاريخ الكبير)) لولده ما نصه: إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة الجعفي أبو الحسن رأى حماد بن زيد صافح ابن المبارك بكلتا يديه وسمع مالكا. [إن] لم يكن هذا والد البخاري فلا أدري [من] هو؟، وأبو الحسن والد البخاري، لما حضرته الوفاة، قال لأحمد بن حفص: لا أعلم من مالي درهما من شبهة ولا من حرام. ولما توفي نشأ ولده أبو عبد الله يتيما في حجر أمه فأسلمته إلى معلم إلى أن كمل له عشر سنين.
روينا عن أبي جعفر محمد بن أبي حاتم وراق البخاري قال: قلت لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل: كيف كان بدء أمرك في طلب الحديث؟ قال: ألهمت حفظ الحديث وأنا في الكتاب.
مخ ۱۸۰
قلت: كم كان سنك؟ قال: عشر سنين، أو أقل. ثم خرجت من الكتاب بعد العشر، فجعلت أختلف إلى الداخلي وغيره. فقال يوما فيما كان يقرأ للناس: سفيان، عن أبي الزبير، عن إبراهيم، فقلت: يا شيخ، إن أبا الزبير لم يرو عن إبراهيم فانتهرني، فقلت له: ارجع إلى الأصل، فدخل فنظر فيه، ثم خرج فقال لي: كيف هو يا غلام؟ قلت: هو الزبير بن عدي، عن إبراهيم، فأخذ القلم مني، وأحكم كتابه، فقال لي: صدقت. فقال له بعض أصحابه: ابن كم كنت حين رددت عليه؟ قال: ابن إحدى عشرة سنة. فلما طعنت في ست عشرة سنة، كنت قد حفظت كتب ابن المبارك ووكيع، وعرفت كلام هؤلاء، ثم خرجت مع أمي وأخي أحمد إلى مكة، فلما حججت رجع أخي وتخلفت بها في طلب الحديث.
فلما طعنت في ثماني عشرة سنة، جعلت أصنف قضايا الصحابة والتابعين وأقاويلهم، وصنفت كتاب ((التاريخ)) عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليالي المقمرة. وقل اسم في التاريخ إلا وله عندي قصة، إلا أني كرهت تطويل الكتاب.
مخ ۱۸۱
وقال أبو جعفر أيضا: سمعت البخاري يقول: لو نشر بعض أستاذي هؤلاء لم يفهموا كيف صنفت كتاب ((التاريخ)) ولا عرفوه، ثم قال: صنفته ثلاث مرات. قال: وقال -يعني البخاري-: أخذ إسحاق بن راهويه كتاب ((التاريخ)) الذي صنفت، فأدخله على عبد الله بن طاهر، فقال: أيها الأمير، ألا أريك سحرا؟ فنظر فيه عبد الله بن طاهر، فتعجب منه وقال: لست أفهم تصنيفه.
قال القاضي أبو الحسن محمد بن صالح الهاشمي، سمعت أبا العباس بن سعيد يقول: لو أن رجلا كتب ثلاثين ألف حديث لما استغنى عن كتاب ((تاريخ محمد بن إسماعيل البخاري)). خرجه الخطيب البغدادي في ((تاريخه)) من طريق الهاشمي. وقد بلغ رواة الحديث في ((كتاب التاريخ)) هذا قريبا من أربعين ألف رجل وامرأة فيما قاله أبو الحسين بن محمد الماسرجسي وهذا هو ((التاريخ الكبير)).
وكذا ((التاريخ الأوسط)).
و((الصغير)) أيضا.
وله من المصنفات غير ذلك منها:
كتاب ((القراءة خلف الإمام)).
وكتاب ((رفع اليدين في الصلاة)).
وكتاب ((الأدب)).
وكتاب ((الضعفاء الكبير)) و((الصغير)).
وكتاب ((المبسوط)) الذي جمع فيه كتبه على الأبواب فيما قيل.
مخ ۱۸۲
وكتاب ((الفوائد)) الذي ذكره الترمذي في ((جامعه)) في مناقب طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه-.
وكتاب ((أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم )) وأشار إليه في ((التاريخ الكبير)).
وكتاب ((الرد على الجهمية)).
وكتاب ((خلق أفعال العباد)).
وقال محمد بن أبي حاتم الوراق فيما روينا عنه: سمعته -يعني البخاري- يقول: كنت أختلف إلى الفقهاء بمرو وأنا صبي، فإذا جئت أستحي أن أسلم عليهم، فقال لي مؤدب من أهلها: كم كتبت اليوم؟ فقلت: اثنين، وأردت حديثين، فضحك من حضر المجلس. فقال شيخ منهم: لا تضحكوا، فلعله يضحك منكم يوما. فكان كما قال الشيخ.
مخ ۱۸۳
وقال أبو جعفر الوراق أيضا سمعت محمد بن إسماعيل يقول: قال لي محمد بن سلام -يعني البيكندي-. انظر في كتبي فما وجدت فيها من خطأ فاضرب عليه، كي لا أرويه قال ففعلت ذلك، وكان محمد بن سلام كتب عند الأحاديث التي أحكمها محمد بن إسماعيل: رضي الفتى. وفي الأحاديث الضعيفة: لم يرض الفتى. فقال له بعض أصحابه: من هذا الفتى؟ فقال: هو الذي ليس مثله، محمد بن إسماعيل. وقد بلغنا أن البخاري فعل هذا بكتب البيكندي وهو ابن سبع عشرة سنة أو دونها. ولم يزل -رحمه الله- مجتهدا من صغره إلى آخر عمره.
خرج الحافظ أبو بكر الخطيب في ((تاريخه)) من طريق أحمد بن محمد بن عمر بن بسام المروزي سمعت أحمد بن سيار يقول: ومحمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة الجعفي أبو عبد الله، طلب العلم، وجالس الناس، ورحل في الحديث، ومهر فيه وأبصر، وكان حسن المعرفة، حسن الحفظ، وكان يتفقه.
كانت رحلة البخاري -رحمه الله- في طلب الحديث إلى معظم البلاد، وكتب بخراسان، والجبال، ومدن العراق كلها، وبالحجاز والشام ومصر، وأخذ عن الحفاظ النقاد، لقي مكي بن إبراهيم بخراسان، وأبا عاصم بالبصرة، وعبيد الله بن موسى بالكوفة، وأبا عبد الرحمن المقرئ بمكة، ومحمد بن يوسف الفريابي بالشام، وكتب عن خلق حتى عن أقرانه كأبي محمد الدارمي، وأبي زرعة، وأبي حاتم الرازيين، وأشباههم حتى كتب عمن هو دونه، كعبد الله بن حماد الأملي، وحسين القباني وغيرهما.
مخ ۱۸۴
قال وراقه محمد بن أبي حاتم: سئل محمد بن إسماعيل عن خبر حديث فقال يا أبا فلان: تراني أدلس؛ تركت أنا عشرة آلاف حديث لرجل لي فيه نظر، وتركت مثله أو أكثر منه لغيره لي فيه نظر.
وقال الحافظ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد غنجار في كتابه: ((تاريخ بخارى)): ثنا خلف بن محمد، سمعت الحسين بن الحسن بن الوضاح، ومكي بن خلف بن عفان قالا: سمعنا محمد بن إسماعيل البخاري يقول: كتبت عن ألف نفر من العلماء وزيادة ولم أكتب إلا عن من قال: الإيمان قول وعمل، ولم أكتب عمن قال الإيمان قول.
وقال غنجار أيضا: ثنا أبو عمرو أحمد بن محمد بن عمر المقرئ، سمعت أبا حسان مهيب بن سليم، سمعت جعفر بن محمد القطان إمام الجامع بكرمينية، سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول: كتبت عن ألف شيخ وأكثر، عن كل واحد منهم عشرة آلاف وأكثر، ما عندي حديث إلا أذكر إسناده. وقال أبو جعفر الوراق: سمعت البخاري يقول قبل موته بقليل: كتبت عن ألف وثمانين رجلا، كل يعتقد أن الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص. وروينا عن البخاري أنه قال مرة لوراقه أبي جعفر محمد بن أبي حاتم: لم تكن كتابتي للحديث كما كتب هؤلاء. كنت إذا كتبت عن رجل سألته عن اسمه وكنيته ونسبه وعلة الحديث، إن كان الرجل فهما. فإن لم يكن سألته أن يخرج إلي أصله ونسخته.
مخ ۱۸۵
قال خلف بن محمد، ثنا إسحاق بن أحمد بن خلف، سمعت أبا عيسى محمد بن عيسى الترمذي، يقول: كان محمد بن إسماعيل عند عبد الله بن منير، فلما قام من عنده قال: يا أبا عبد الله، جعلك الله زين هذه الأمة. قال أبو عيسى: فاستجيب له فيه. جعله الله زينا للأمة وقدوة للأئمة.
أخذ الحفاظ عنه وسمعوا منه.
مخ ۱۸۶
روى عنه مسلم بن الحجاج خارج ((صحيحه)) والترمذي في ((جامعه)) والنسائي في رواية ابن السني وحده عنه حيث قال في ((سننه)): ((ثنا)) محمد بن إسماعيل البخاري، وساق بسنده عن الزهري، عن عروة عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: ((ما لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من لعنة .. .. )) الحديث. ورواه حمزة الكناني، وابن حيوية النيسابوري، وغيرهما، عن النسائي قال: ثنا محمد بن إسماعيل فقط وقع من طريق الصوري، عن ابن النحاس، عن حمزة الكناني، عن النسائي، ثنا محمد بن إسماعيل وهو أبو بكر الطبراني، ويحتمل أن يكون محمد بن إسماعيل هو ابن علية فإنه يروي عنه كثيرا، وقد روى النسائي في كتابه ((الكنى)) عن عبد الله بن أحمد ابن عبد السلام الخفاف عن البخاري. فقيل: هذه قرينة في أنه لم يلق البخاري والله أعلم.
وممن روى عنه إبراهيم بن إسحاق الحربي، وصالح بن محمد جزرة، وأبو زرعة وأبو حاتم الرازيان، ومحمد بن عبد الله الحضرمي مطين، وأبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، ويحيى بن محمد بن صاعد، ومحمد بن نصر المروزي، وخلق لا يحصون. قال الحافظ أبو بكر محمد بن أبي عتاب الأعين البغدادي، فيما خرجه الحافظ أبو بكر الخطيب في ((تاريخه)) من طريق أبي العباس الفضل بن إسحاق بن الفضل البزاز، ثنا أحمد بن المهنا العابد، ثنا أبو بكر الأعين قال: كتبنا عن محمد بن إسماعيل على باب محمد بن يوسف الفريابي، وما في وجهه شعرة. قلت فقلت: ابن كم كنت؟ قال: ابن سبع عشرة سنة.
مخ ۱۸۷
وقال الخطيب في ((تاريخه)): أنا القاضي أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري بنيسابور، سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن أحمد الفقيه البلخي، سمعت أبا العباس أحمد بن عبد الله البلخي الصفار، يقول سمعت أبا إسحاق المستملي، يروي عن محمد بن يوسف الفربري، أنه كان يقول: سمع كتاب ((الصحيح)) لمحمد بن إسماعيل تسعون ألف رجل، فما بقي أحد يروي عنه غيري.
قال الحافظ أبو عبد الله الذهبي فيما أنبأنا عنه: ((الصفار)): لا يدري من هو؟ انتهى. وآخر من روى عنه ((صحيحه)) فيما ذكره أبو العباس جعفر بن محمد المستغفري الحافظ في تاريخ ((نسف)) وأبو نصر ابن ماكولا وغيرهما: أبو طلحة منصور بن محمد بن علي بن مزينة، وقيل: قرينة بن سوية البزدوي النسفي الدهقان. مات سنة تسع وعشرين وثلاثمائة، وهو ثقة لكن ضعفت روايته من جهة صغره.
وآخر من حدث عن البخاري ببغداد فيما ذكره الخطيب في ((تاريخه)) الحسين بن إسماعيل المحاملي، وآخر من زعم أنه سمع منه: أبو ظهير عبد الله بن فارس بن محمد بن علي بن عبد الله بن يحيى بن عبد الله بن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي البلخي الذي مات سنة ست وأربعين وثلاثمائة.
مخ ۱۸۸
قال الفربري فيما خرجه الخطيب في ((تاريخه))، ثنا محمد بن أبي حاتم، قال: قلت لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل: تحفظ جميع ما أدخلت في المصنف؟ قال لا يخفى علي جميع ما فيه.
وخرج أيضا من طريق محمد بن أبي حاتم الوراق سمعت حاشد بن إسماعيل يقول: كان أبو عبد الله محمد بن إسماعيل يختلف معنا إلى مشايخ البصرة وهو غلام، فلا يكتب حتى أتى على ذلك أيام، فكنا نقول له: إنك تختلف معنا ولا تكتب، فما معناك فيما تصنع؟ فقال لنا بعد ستة عشر يوما: قد أكثرتما علي وألححتما ، فاعرضا علي ما كتبتما. فأخرجنا ما كان عندنا، فزاد على خمسة عشر ألف حديث، فقرأها كلها على ظهر القلب، حتى جعلنا نحكم كتبنا على حفظه. ثم قال: أترون أني أختلف هدرا وأضيع أيامي؟! فعرفنا أنه لا يتقدمه أحد. قال: وكان أهل المعرفة من أهل البصرة يغدون خلفه في طلب الحديث، وهو شاب حتى يغلبوه على نفسه، ويجلسونه في بعض الطريق، فيجتمع عليه ألوف، أكثرهم من يكتب عنه. قال وكان أبو عبد الله عند ذاك شابا لم يخرج وجهه.
مخ ۱۸۹
وخرج الخطيب وغنجار في ((تاريخيهما)) من طريق أبي ذر محمد بن محمد بن يوسف القاضي، سمعت أبا معشر حمدوية بن الخطاب يقول: لما قدم أبو عبد الله محمد بن إسماعيل من العراق، قدمته الآخرة، وتلقاه من تلقاه من الناس، وازدحموا عليه، وبالغوا في بره. فقيل له في ذلك، وفيما كان من كرامة الناس، وبرهم له. فقال: فكيف لو رأيتم يوم دخولنا البصرة؟
مخ ۱۹۰
وقال أبو جعفر محمد بن أبي حاتم: سمعت سليم بن مجاهد: كنت عند محمد بن سلام البيكندي، فقال لي لو جئت قبل لرأيت صبيا يحفظ سبعين ألف حديث. -يعني البخاري- قال فخرجت في طلبه حتى لقيته. فقلت: أنت الذي تقول: أنا أحفظ سبعين ألف حديث؟ قال: نعم؛ وأكثر منه، ولا أجيئك بحديث من الصحابة أو التابعين إلا عرفت مولد أكثرهم ووفاتهم ومساكنهم، ولست أروي حديثا من حديث الصحابة أو التابعين إلا ولي في ذلك أصل أحفظه حفظا عن كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال علي بن الحسين بن عاصم البيكندي: قدم علينا محمد بن إسماعيل فاجتمعنا عنده. ولم يكن يتخلف عنه من المشايخ أحد، فتذاكرنا عنده. فقال رجل من أصحابنا -أراه حامد بن حفص-: سمعت إسحاق بن راهويه يقول: كأني أنظر إلى سبعين ألف حديث من كتابي. قال فقال محمد بن إسماعيل: أو تعجب من هذا؟! لعل في هذا الزمان من ينظر إلى مائتي ألف حديث من كتابه. وإنما عنى به نفسه.
وقال أبو أحمد ابن عدي، حدثني محمد بن أحمد القومسي، سمعت محمد بن حمدويه، سمعت محمد بن إسماعيل يقول: أحفظ مائة ألف حديث صحيح، وأحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح.
مخ ۱۹۱
وروي أنه قدم بلخ فسأله أهلها أن يملي لكل واحد من مشايخه حديثا فأملى ألف حديث لألف شيخ ممن سمع منهم وما ظفروا منه بسقطه. وخرج الحافظ أبو بكر الخطيب في ((تاريخه)) من حديث يوسف بن موسى المروروذي قال: كنت بالبصرة في جامعها، إذ سمعت مناديا ينادي: يا أهل العلم، قد قدم محمد بن إسماعيل البخاري، فقاموا في طلبه، وكنت معهم، فرأيت رجلا شابا، لم يكن في لحيته شيء من البياض، يصلي خلف الأسطوانة. فلما فرغ من الصلاة، أحدقوا به، وسألوه أن يعقد لهم مجلس الإملاء، فأجابهم إلى ذلك. فقام المنادي ثانيا فنادى في جامع البصرة: قد قدم أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري فسألناه أن يعقد مجلس الإملاء، فقد أجاب بأن يجلس غدا في موضع كذا، قال: فلما أن كان بالغداة حضر الفقهاء، والمحدثون، والحفاظ، والنظار، حتى اجتمع قريب من كذا وكذا ألفا. فجلس أبو عبد الله محمد بن إسماعيل للإملاء فقال: قبل أن آخذ في الإملاء قال لهم: يا أهل البصرة أنا شاب وقد سألتموني أن أحدثكم، وسأحدثكم بأحاديث عن أهل بلدكم تستفيدون الكل فتعجب الناس من قوله، ثم أخذ في الإملاء، فقال: ثنا عبد الله بن عثمان بن جبلة بن أبي رواد العتكي بلديكم، أنا أبي، عن شعبة، عن منصور وغيره، عن سالم بن أبي الجعد، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن أعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله الرجل يحب القوم .. .. ؛ فذكر حديث ((المرء مع من أحب)) ثم قال محمد بن إسماعيل: هذا ليس عندكم إنما عندكم عن غير منصور، عن سالم، قال يوسف بن موسى: وأملي عليهم مجلسا على هذا النسق، يقول في كل حديث: روى شعبة هذا الحديث عندكم كذا فأما من رواية فلان فليس عندكم أو كلاما ذا معناه .
وقال أبو علي صالح بن محمد البغدادي كان محمد بن إسماعيل يجلس ببغداد وكنت أستملي له ويجتمع في مجلسه أكثر من عشرين ألفا.
مخ ۱۹۲
وقال الحافظ أبو بكر الخطيب في ((تاريخه)): حدثني محمد بن أبي الحسن الساحلي: أنا أحمد بن الحسن الرازي، سمعت أبا أحمد بن عدي يقول: سمعت عدة مشايخ، يحكون أن محمد بن إسماعيل البخاري قدم بغداد، فسمع به أصحاب الحديث، فاجتمعوا وعمدوا إلى مائة حديث، فقلبوا متونها وأسانيدها، وجعلوا متن هذا الإسناد لإسناد آخر، وإسناد هذا المتن لمتن آخر ودفعوها إلى عشرة أنفس، إلى كل رجل عشرة أحاديث وأمروهم إذا حضر المجلس يلقون ذلك على البخاري، وأخذوا الموعد للمجلس، فحضر المجلس جماعة من أصحاب الحديث من الغرباء من أهل خراسان، وغيرهم، من البغداديين، فلما اطمأن المجلس بأهله انتدب إليه رجل من العشرة فسأله عن حديث من تلك الأحاديث فقال البخاري: لا أعرفه. فسأله عن آخر فقال: لا أعرفه فما زال يلقى عليه واحدا بعد واحد. حتى فرغ من عشرته، والبخاري يقول: لا أعرفه فكان الفهماء ممن حضر المجلس يلتفت بعضهم إلى بعض، ويقولون: الرجل فهم ومن كان منهم غير ذلك يقضي على البخاري بالعجز والتقصير وقلة الفهم. ثم انتدب رجل آخر من العشرة، فسأله عن حديث من تلك الأحاديث المقلوبة، فقال البخاري: لا أعرفه، فسأله عن آخر فقال: لا أعرفه، فسأله عن آخر فقال: لا أعرفه، فلم يزل يلقى عليه واحدا بعد واحد، حتى فرغ من عشرته، والبخاري يقول: لا أعرفه، ثم انتدب له الثالث والرابع إلى تمام العشرة حتى فرغوا كلهم من الأحاديث المقلوبة، والبخاري -رحمه الله- لا يزيدهم على ((لا أعرفه)). فلما علم البخاري أنهم قد فرغوا، التفت إلى الأول منهم. فقال: أما حديثك الأول فهو كذا، وحديثك الثاني فهو كذا، والثالث والرابع على الولاء حتى أتى على تمام العشرة، فرد كل متن إلى إسناده. وكل إسناد إلى متنه وفعل بالآخرين مثل ذلك. ورد متون الأحاديث كلها إلى أسانيدها، وأسانيدها إلى متونها، فأقر له الناس بالحفظ وأذعنوا له بالفضل.
مخ ۱۹۳
قال ابن عدي: وكان ابن صاعد إذا ذكر محمد بن إسماعيل يقول: الكبش النطاح، خرجه أبو أحمد بن عدي كما ساقه الخطيب إليه في كتابه ((أسامي رجال البخاري)).
وقال أبو جعفر محمد بن أبي حاتم: سمعت أبا عمرو المستنير بن عتيق البكري، سمعت رجا بن المرجى يقول: فضل محمد بن إسماعيل على العلماء كفضل الرجال على النساء.
فقال له رجل: يا أبا محمد كل ذلك بمرة؟ فقال: هو آية من آيات الله يمشي على ظهر الأرض.
مخ ۱۹۴
وقال أبو بكر أحمد بن عبد الرحمن الشيرازي في كتابه ((الألقاب)): أخبرني أبو الفضل يعقوب بن إسحاق .. .. ، أنا أبو يعلى عبد المؤمن بن خلف يعني التميمي، ثنا الحسين [بن] حاتم عبيد [العجل] قال: ما رأيت مثل محمد بن إسماعيل البخاري. ومسلم بن الحجاج الحافظ، لم يكن [يبلغ] محمد بن إسماعيل. [ورأيت] أبا زرعة وأبا [حاتم] يستمعون إلى محمد بن إسماعيل أي شيء يقول: يجلسون تحته، قال: فذكر له قصة محمد بن يحيى فقال: ما له ولمحمد بن إسماعيل؟ كان محمد أمة من الأمم، وكان أعلم من محمد بن يحيى بكذا وكذا، ويجله، وكان محمد بن إسماعيل دينا فاضلا يحسن كل شيء. وخرجه الخطيب في ((تاريخه)) بنحوه.
وفي هذه الرواية تفضيل البخاري، ومسلم والذهلي، وغيرهما.
مخ ۱۹۵
وحكى الشيخ أبو زكريا النووي -رحمه الله-: اتفاق العلماء على أن البخاري أجل من مسلم، وأعلم بصناعة الحديث منه، قال: وقد صح أن مسلما كان ممن يستفيد من البخاري، ويعترف بأنه ليس له نظير في علم الحديث. ويشهد لقول النووي -رحمه الله- ما قال الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم في كتابه ((معرفة علوم الحديث)) وحدث به البيهقي في ((المدخل)) عن الحاكم، حدثني أبو نصر أحمد بن محمد الوراق، سمعت أبا حامد أحمد بن حمدون القصار -يعني الأعمش- سمعت مسلم بن الحجاج، وجاء إلى محمد بن إسماعيل البخاري، فقبل بين عينيه، وقال: دعني حتى أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين، وسيد المحدثين، وطبيب الحديث في علله، حدثك محمد بن سلام، ثنا مخلد بن يزيد الحراني، أنا ابن جريج، عن موسى بن عقبة، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن النبي صلى الله عليه وسلم في ((كفارة المجلس))، فما علته؟ وفي رواية البيهقي فقال البخاري: وثنا أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، قالا: ثنا حجاج بن محمد، عن ابن جريج، حدثني موسى بن عقبة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في: كفارة المجلس أن يقول إذا قام من مجلسه: ((سبحانك ربنا وبحمدك)) فقال محمد بن إسماعيل: هذا حديث مليح، ولا أعلم في الدنيا في هذا الباب غير هذا الحديث، إلا أنه معلول، ثنا به موسى بن إسماعيل، ثنا وهيب، ثنا سهيل، عن عون بن عبد الله قوله، قال: محمد بن إسماعيل: هذا أولى فإنه لا يذكر لموسى بن عقبة سماعا من سهيل، وفي رواية البيهقي بعد هذا: وسهيل بن ذكوان مولى جويرية، وهم أخوة سهيل، وعباد، وصالح بنو أبي صالح وهم من أهل المدينة.
مخ ۱۹۶