تمهيد
مخ ۲
بسم الله الرحمن الرحيم تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور.
الحمد لله الذي قص على نبيه صلى الله عليه وسلم من أنبياء الرسل والقرى ما ثبت به فؤاده مصبرا, وجعله له ولمن بعده عظة ومعتبرا , أفنى القرون الماضية وأباد الدول الخالية , فلم يبق إلا أخبارهم, ولا ترى إلا آثارهم, فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم, ( وتلك القرى نقصها عليك منها قائم وحصيد وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم ).
فلم يبق منهم غير نشر حديثهم ... ... = ... وما اكتسبوا من فعل محمدة وذم
قدموا على ما قدموا, وأسفوا على ما خلفوا, فما منهم من أحد إلا وهو يود أن يكون ما خلف في جملة ما أسلف, فمن قدم خيرا حمد عليه وله أجره, ومن قدم شرا ذم به وعليه وزره؛ نسأل الله أن يجعلنا من أول الفريقين؛ وأن يثيبنا على ذلك أجرين؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ الأول بلا بداية والآخر بلا نهاية؛ وأن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. اللهم صل وسلم على مهبط الوحي ومعدن الخصوصية سيد ولد آدم ولا فخر؛ إسوة كل راشد وقدوة كل مهتد؛ محمد ابن عبدالله بن عبدالمطلب صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة دائمة مدى الحقب.
( أما بعد ) فإنه لا يخفى على عاقل أن علم التاريخ مما يعين على الاقتداء بالصالحين ويرشد على طريقة المتقين, لأن فيه ذكر أخبار من مضى من صالح وطالح؛ فإذا سمع العاقل أخبار الصالحين اشتاقت نفسه إلى اقتناء آثارهم؛ وإذا سمع أخبار الطالحين أشفقت نفسه أن يكون من جملتهم؛ فتراه بذلك يقتفي آثار من صلح؛ ويتجنب أحوال من طلح؛ فيجاهد نفسه حق الجهاد؛ فيستحق بذلك من الله العون والتوفيق لقوله عز من قائل ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين ).
مخ ۳
وحيث كان العدل وسيرة الفضل في عمان أكثر وجودا بعد الصحابة من سائر الأمطار. تشوقت نفسي إلى كتابة ما أمكنني الوقوف عليه من آثار أئمة الهدى ليعرف سيرتهم الجاهل بهم , وليقتدي بها الطالب لأثرهم , مع قلة المادة في هذا الباب , إذ لم يكن التاريخ من شغل الأصحاب , بل كان اشتغالهم بإقامة العدل وتأثير العلوم الدينية؛ وبيان ما لا بد من بيانه للناس أخذا بالأهم فالأهم؛ فلذلك لا تجد لهم سيرة مجتمعة ولا تاريخا شاملا؛ فتتبعت ما أمكنني تتبعه من كتب السير والآثار والتواريخ؛ وكتبت ما أمكنني أن أكتبه من أحوال عمان وأئمتها من أول أمر العرب فيها إلى آخر ما انتهى إلى علمه من أخبار أهلها الماضين؛ ليكون عبرة للمعتبرين وعظة للمتعظين.
وقد كنت عزمت أن أجمع سيرة تجمع أحوال المذهب , وذكر أهله أينما كانوا من الحجاز والعراق وعمان واليمن والمغرب وخراسان وغيرها من عهد الصحابة إلى عصرنا هذا , ثم رأيت أن ذلك شيء يطول , وخشيت معالجة الأيام قبل تمام المأمول , فجعلت للناس السيرة العمانية؛ وإن كان في الأجل فسحة جمعت إن شاء الله باقي السير على حسب ما ذكرت , فأجعل سيرة الصحابة في جلد مفرد؛ وسيرة أهل العراق واليمن وخراسان في مجلد مفرد , وسيرة أهل المغرب في مجلد مفرد؛ فتجتمع السير في أربع مجلدات.
فإن بقيت فأسأل الله تمام ما ذكرت , وإن عوجلت فأسأله أجر ما قصدت , والله المستعان وعليه التكلان , ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم , لا ملجأ من الله إلا إليه ما شاء الله لا قوة إلا بالله.
مخ ۴
مقدمة في تعريف أهل عمان قال ابن خلدون: هي من ممالك جزيرة العرب المشتملة على اليمن والحجاز وحضرموت وعمان يعني أن عمان بعض جزيرة العرب المشتملة على هذه البلدان قال: وهي خامسها إقليم سلطاني منفرد على بحر فارس من غربيه مسافة شهر شرقيها بحر فارس وجنوبيها بحر الهند؛ وغربيها بلاد حضرموت وشماليها البحرين, وكثيرة النخيل والفواكه, وبها مغاص اللؤلؤ؛ سميت بعمان بن قحطان- أول من نزلها بولاية أخيه يعرب, وصارت بعد سيل العرم للأزد وجاء الإسلام وملوكها بنو الجلندى قال والخوارج , يعني المسلمين بها كثرة , قال وكانت لهم حروب مع عمال بني بويه وقاعدتهم نزوى؛ قال وملك عمان من البحر ملوك فارس غير مرة؛ قال وهي في الإقليم الثاني وبها مياه وبساتين وأسواق وشجرها النخيل.
إلى أن قال:
وقلهات هي عرصة عمان على بحر فارس من الإقليم الثاني ومما يلي الشحر وحجار في شماليها إلى البحرين , بينهما سبع مراحل؛ وهي في جبال منيعة فلم تحتج إلى سور.
( قلت ) وحجاز هذه لم نعرفها بهذا الاسم , فالله أعلم ما أراد بها؛ ولعله أراد بها مسكد , وسيأتي أن عمان كانت قبل العرب في يد الفرس , وأنها صارت إليهم بعد سيل العرم بعد حروب كانت بينهم شديدة؛ وأنهم سموها عمان؛ باسم واد كانوا ينزلون حوله إذ كانوا في مأرب , وأن الفرس كانت تسميها مزون؛ وفي ذلك يقول قائلهم:
إن كسرى سمى عمان مزونا ... = ... ومزون يا صاح خير بلاد
بلدة ذات مزرع ونخل ... ... = ... ومراع ومشرب غير صاد
( وقال ) المسعودي في المروج: وسنجار قصبة بلاد عمان , وأراد بها صحار , ولعل اسمها كان كذلك في لسان العجم والله أعلم.
مخ ۵
وقال الأندلسي الشريشي: صحار سوق عمان مدينة كبيرة على ساحل البحر مرساها فرسخ في فرسخ , وبلاد عمان ثلاثون فرسخا ماولى البحر سهول ورمال , وما تباعد حزون وجبال , وهي مدن منها مدينة عمان وهي حصينة على الساحل , ومن جانب الآخر مياه تجري إلى المدينة وفيها دكاكين وأشجار مفروشة بالنحاس مكان آخر , قال وهي كثيرة النخيل والبساتين وضروب الفواكه والحنطة والشعير والأرز وقصب السكر , قال وفي الأمثال: من تعذر عنه الرزق فعليه بعمان , قال وفي أحوازها مغاص اللؤلؤ , وقال: وعمان من أحواز اليمن.
( قلت ) ولعله أراد بمدينة عمان قلهات , وهي الآن عارية من هذه الصفات لانتقال العمارة عنها إلى مسكد , وكون عمان ثلاثين فرسخا فيه نظر , بل هي أكثر من ذلك بأضعاف مضاعفة , والأرز لا يوجد فيها وإنما يجلب إليها من الهند , اللهم إلا أن يكون قد زرع في أيام الأئمة ثم انقطع بانقطاع ذلك الخير , فأنه سيأتي أن الإمامين سلطان بن سيف وولده قيد الأرض قد جلبا لعمان أشجارا كثيرة من البحر , وغرسا فيها تلك الأشجار حتى الورس والزعفران والله أعلم.
مخ ۶
وفي عمان الجبل الأخضر , ويقال له رضوى وهو من عجائب الدنيا مملوء بالفواكه من الرمان والعنب والجوز والخوخ والمشمش والبوت والنمت وغيرها من أشجار الجبل وفيه من الرياحين كالورد والزعفران والآس والنرجس وغيرها وسئل بعض أهله عن وصفة فقال: هو جبل عظيم الارتفاع , صعب الامتناع , في وسط عمان , أهله في رفاهة وأمان؛ لا يخافون جور شيطان , ولا سطوة سلطان , ذو نهور وقصور وحياض ورياض , وبساتين بها كرم وتين وتوت وجوز وخوخ ولوز ومشمش ورمان , وفواكه ألوان محصنة حدائقها بالورد والياسمين , وحشيشها الزعفران الثمين؛ والفوذج والشذاب والنرجس المشبه بعيون الكعاب؛ محفوظه بالآس كأنها الجنة في القياس , اغتصت بالكرم والتفاح والشجر المعطر النفاح. قال: وإن حللت في أقفارها اكتفيت عن جني أثمارها كمثل النمت والبوت شفاء وقوت تسفح من هذا الجبل تسعة أدوية وكل واد به له طريق مؤدية وعلى أبوابها قرى لبني ريام أحاطوا به كالأكمام بالثمر , والهالة بالقمر , حاملين لأبوابه عن طلابه. انتهى وصف صاحب الجبل له والله أعلم.
باب فضائل أهل عمان
ذكر أبو يعقوب في لواحق المسند من روايات الربيع بن حبيب عن شيخه أبي سفيان , وهو محبوب بن الرحيل عن ازور , رجل من المسلمين قال: أن نسوة من أهل عمان استأذن على عائشة رضي الله عنها فأذنت لهن فدخلن عليها وسلمن عليها؛ وسلمن عليها وفي نسخة: وسلمت عليهن ثم قالت: من انتن؟ قلن من أهل عمان؛ قال فقالت لهن: لقد سمعت حبيبي عليه السلام يقول ليكثرن وراد حوضي من أهل عمان.
مخ ۷
وفيه أيضا من روايات الربيع عن أبي سفيان قال دخل جابر بن زيد على عائشة رضي الله عنها قال فأقبل يسألها عن مسائل لم يسألها عنها من قبل؛ سألها عن جماع رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف كان يفعل؛ وأن جبينها يتصبب عرقا وتقول سل يا بني؛ ثم قالت: ممن أنت؟ قال من أهل المشرق من بلد يقال لها عمان , قال أبو سفيان فذكرت له شيئا لم أحفظه إلا أني أظن أنها قالت: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكره لي وأشباه هذا.
وفي بعض الكتب قال وقد أوصى عليه السلام عائشة أم المؤمنين ليصلك شيخ العمانية الأعور وليجدني ميتا , ويسألك عن الدين فعلميه جميع الدين الدقيق والجليل , قال ثم وصلها بعد موته ونقل عنها العلم كله حتى فيما بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم , ثم قال لها يا أم المؤمنين أنا أحبك فقالت له وأنا كذلك أحبك , ثم لام نفسه فقال لها أنا أحبك في الله؛ قالت: أتظن أنا احبك في غير الله يا أعور , فحمل عنها العلم إلى عمان.
قال: وله قصة عجيبة وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء من أمتي , قالوا ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال الذين يعملون بكتاب الله حين يترك , ويتمسكون بحبل الإسلام حين يقطع؛ قال محمد بن أحمد: الغرباء أهل عمان , من سره أن ينظر إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلينظر إلى الصلحاء من أهل عمان.
وروى أحمد من طريق أبي لبيد قال خرج رجل منا يقال له بيرح بن أسد فرآه عمر فقال ممن أنت؟ قال من أهل عمان , فأدخله على أبي بكر فقال هذا من أهل الأرض التي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( إني لأعلم أرضا يقال لها عمان ينضح بناحيتها البحر لو أتاهم رسولي ما رموه بسهم ولا حجر ).
مخ ۸
وعند مسلم من حديث أبي برزة قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا إلى قوم فسبوه وضربوه , فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ( لو أهل عمان أتيت ما سبوك ولا ضربوك ).
وفي حديث مازن بن غضوبة قال قلت يا رسول الله صلى الله عليك وسلم وآلك أدع الله تعالى لأهل عمان؛ فقال: ( اللهم اهدهم وأثبهم) فقلت زدني يا رسول الله فقال ( اللهم أرزقهم العفاف والكفاف والرضى بما قدرت لهم ) قلت يا رسول الله البحر ينضح بجانبنا ادع الله في ميرتنا وخفنا وظلفنا , قال ( اللهم وسع عليهم في ميرتهم وأكثر خيرهم من بحرهم) قلت زدني يا رسول الله قال ( اللهم لا تسلط عليهم عدوا من غيرهم ) قل يا مازن آمين فإن آمين يستجاب عنده الدعاء قال قلت آمين.
قال: فلما كان العام القابل التي وفدت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله فقلت يا المبارك ابن المباركين , الطيب ابن الطيبين , قد هدى الله قوما من أهل عمان ومن عليهم بدينك , وقد أخصبت عمان خصبا هنيا وكثرت الأرباح والصيد بها فقال صلى الله عليه وسلم: ( ديني دين الإسلام سيزيد الله أهل عمان خصبا وصيدا فطوبى لمن آمن بي ورآني وطوبى لمن آمن بي ولم يرني ولم ير من رآني , وأن الله سيزيد أهل عمان إسلاما).
مخ ۹
ولما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قد استعمل على عمان عمرو ابن العاص وأراد عمرو أن يرجع إلى خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم صحبه ملك عمان عبد بن الجلندى وجعفر بن خشم العتكي وأبو صفوة سارف بن ظالم في جماعة من الأزد , فقدموا بعمرو بن العاص على أبي بكر الصديق رضي الله عنه فلما دخلوا عليه قام سارف بن ظالم فقال يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويا معشر قريش هذه أمانة كانت في أيدينا وفي ذمتنا وديعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقد برئنا منها إليكم , فقال أبو بكر جزاكم الله خيرا وأثنى عليهم المسلمون خيرا وقام الخطباء بالثناء عليهم والمدح , فقالوا: كفاكم معاشر الأزد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وثناؤه عليكم , فقام عمرو بن العاص فلم يدع شيئا من المدح والثناء إلا قاله في الأزد , وجاءت وجوه الأنصار من الأزد وغيرهم مسلمين على عبد ومن معه , فلما كان من الغد أمر أبو بكر فجمع الناس من المهاجرين والأنصار وقام أبو بكر خطيبا فحمد الله وأثنى عليه وذكر النبي فصلى عليه وقال: معاشر أهل عمان إنكم أسلمتم طوعا لم يطأ رسول الله ساحتكم بحف ولا حافر ولا جشمتموه ما جشمه غيركم من العرب , ولم ترموا بفرقة ولا تشتت شمل , فجمع الله على الخير شملكم ثم إليكم عمرو بن العاص بلا جيش ولا سلاح فأجبتموه إذ دعا كم على بعد داركم , وأطعتموه إذ أمركم على كثرة عددكم وعدتكم فأي فضل أبر من فضلكم , وأي فعل أشرف من فعلكم كفاكم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم شرفا إلى يوم الميعاد , ثم أقام فيكم عمرو وما أقام مكرما , ورحل عنكم إذ رحل مسلما وقد من الله عليكم بإسلام عبد وجيفر ابنى الجلندى وأعزكم الله به وأعزه بكم , وكنتم على خير حال وجميل حتى أتتكم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأظهرتم ما يضاعف فضلكم , وقمتم مقاما حمدناكم فيه ومحضتم بالنصيحة وشاركتم بالنفس والمال فيثبت الله به ألسنتكم , ويهدي به قلوبكم , وللناس جولة فكونوا عند حسن ظني فيكم , ولست أخاف عليكم أن تغلبوا على بلادكم ولا أن ترجعوا عن دينكم , جزاكم الله خيرا ثم سكت.
وظهرت إجابة دعاء الرسول ودعاء خليفته لأهل عمان وصدق الله توسمهما فيهم , فهم أكثر الناس هدى وصوبا ومنهم الأئمة العادلون والعلماء الراشدون لم يتسلط عليهم عدو من غيرهم وولم تخرج بلادهم من أيديهم , وإن غلبوا على دولتهم في بعض الأحيان لما أراد الله من تمحيص المؤمنين وتمحيق الكافرين , فما زالت دعوتهم بالحق ظاهرة , وسيرتهم بالعدل شاهرة , ودولتهم بالفضل زاهرة , منهم العلماء النجباء والعقلاء والفضلاء والبلغاء الخطباء.
قال عمرو بن بحر وهو الجاحظ: لربما سمعت من لا علم له يقول ومن أين لأهل عمان البيان , قال ونهل يعدو لبلدة واحدة من الخطباء والبلغاء مما يعدون لأهل عمان؛ منهم مصقلة بن الرقية أخطب الناس قائما وجالسا ومفردا ومنافسا ومجيبا ومبتدئا , ثم ابنه من بعده كرب بن مصقلة وولهما خطبتا العرب العجوز في الجاهلية والعذراء في الإسلام.
وقال أبو عبيدة ما سمعنا مثلهما في الإسلام إلا خطبة قيس بن خارجة بن شيبان في حملة داحس , فقد ضرب به المثل وذلك أن قيسا أتى الجاهلين وهما خارجة ابن شيبان والحارث بن عوف فضرب مؤخر راحلة ابن شيبان بالسيف وقال مالي وهذه الحمالة أيها العيسيميان فقد فقأت عين بعير عن ألف بعير , قالوا وما عندك رضي كل ساخط وقرى كل نازل , وخطب من لدن تطلع الشمس إلى أن تغرب وأمر فيها بالصلة ونهي فيها عن القطيعة وخوف فيها درك العواقب؛ وما تجئ به النوائب , فزعموا أنه خطب من غدوة إلى الليل , فقال قائلهم وهو يذكر غيره فلو قال حتى تغرب الشمس قائما لكان كقيس في ديار بني مرة , وهو خطيب قيس في الجاهلية , وخطيبهم في الإسلام سحبان بن وائل الباهلي.
مخ ۱۱
ومن خطباء عمان وعلمائها صحار العبدي صاحب الخلفاء. ومن خطبائهم صعصعه بن صوحان بن زيد وأخيه خطيبان مصقاعان. ومن خطبائهم مرة ابن البليد وهو من الأزد لم يكن في الأرض أجود منه ارتجالا وبديهة , ولا أعجب فكرا وتحبيرا منه , وكان رسول المهلب إلى الحجاج , وله عنده كلام محفوظ , ومنهم عرفجة بن هزيمة البارقي. ومنهم بشر بن المغيرة بن أبي صفرة لم يكن في الأرض عماني أنطق منه وكان خطيب المصر يحيي بن يعمر وكان منشأه ومولده إلى أن بلغ الأهواز وكذلك الجحاف بن حكيم وغيرهما , قال فالذي ينكر أن لا يكون بعمان خطيب ليس يقول ذلك بعلم.
وقال الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء قال: رأيت أعرابيا بمكة فاستفصحته فقلت من الرجل؟ قال من الأزد؛ قلت من أيهم؟ قال من بني الحدان بن شمس , فقلت من أي بلد؟ قال عمان , قلت صف لي بلادك , فقال سيف أفح وفضاء صحصح وجبل صلدح ورمل أصيح , فقلت فأخبرني عن مالك؛ قال النخل , فقلت وأين أنت عن الإبل؟ فقال كلا إن النخل أفضل , أما علمت أن النخل حملها غذاء وسعفها ضياء؛ وليفها رشاء؛ وجذعها غماء , وفروها إناء؛ فقلت وأني لك هذه الفصاحة؟ قال إنا بقطر لا نسمع فيه ناجخة التيار.
وخرج الحجاج بن يوسف إلى القاوسان , فإذا هو بأعرابي في زرع له , فقال له ممن أنت؟ قال من أهل عمان؛ قال فمن أي القبائل أنت؟ قال من الأزد؛ قال فكيف علمك بالزرع؟ قال إني لأعلم منه علما؛ قال فأي شيء خيره؟ قال ما غلظت قصبته واعتم نبته وعظمت جثته؛ قال فأي العنب خير؟ قال ما غلظ عوده وعظم عنقوده؛ قال فما خير التمر؟ قال ما غلظ لحاه ودق نواه ورق شجاه.
ومن أهل عمان كعب بن سور قاضي عمر بن الخطاب على البصرة , وهو من أول من قدم على البصرة بعد تمصيرها.
ومنهم أبو الشعثاء جابر بن زيد الأزدي رحمه الله تعالى؛ وكان غاية في العلم والورع , وشهرته عند المواقف والمخاطب كافية عن إطالة ذكره.
مخ ۱۲
ومنهم الربيع بن حبيب رحمه الله وهو من فراهيد انتقل إلى البصرة ونسب إليها ورجع إلى عمان آخر عمره , وكان يضرب به المثل في العلم.
ومنهم أبو حمزة الشاري المختار بن عوف , وهو من بني سليمة بن مالك بن فهم صاحب الإمام طالب الحق عبدالله بن يحيي الحضرمي؛ وهو خطيب مصقع؛ وله الخطب المشهورة المأثورة , روى بعضها مالك بن أنس؛ وقال عند روايته: خطبنا أبو حمزة المختار بن عوف خطبة حيرت المبصر وردت المرتاب , يعني أن المبصر في دينه المخالف لأبي حمزة صار بعد سماع خطبته محتارا غير مبصر؛ لما سمع فيها من الحجج الباهرة؛ والبراهين القاهرة الناقصة لما هو عليه من سوء الاعتقاد؛ وأن المرتاب في مذهبه رجع بسماع خطبة أبي حمزة لي مذهب الحق وترك ما كان عليه من الريب.
وكان يشير بالمبصر إلى نفسه , فهذا من قوله يدل على أنه صار محتارا في مذهبه حيث أنه لم يستطيع جوابا لحجج أبي حمزة , ولا دفعا للحق الذي نطق به؛ والحق إذا قام صرع معانده , وليته ترك الحيرة , وأخذ بالبصيرة , ومحل ذكر خطبه في سيرة طالب الحق من أهل اليمن فلا نطيل بذكرها هنا.
ومن أهل عمان الخليل بن أحمد الأزدي الفراهيدي وكان من أهل ودام من الباطنة خرج إلى البصرة وأقام بها فنسب إليها وهو صاحب كتاب العين الذي هو لغة الكتب في اللغة؛ وما سبقه إلى تأليفه أحد؛ وإليه يتحاكم أهل العلم والأدب فيما يختلفون فيه من اللغة فيرضون به ويسلمون له؛ وهو صاحب النحو وإليه ينسب؛ وهو أول من بوبه وأوضحه ورتبه وشرحه؛ وهو شيخ سيبوية في النحو وكان قد أخذ النحو عن أبي الأسود الدؤلي واضع هذا الفن , وهو صاحب العروض والنقط والشكل؛ والناس تبع له؛ وله فضيلة السبق إليه والتقديم فيه.
مخ ۱۳
ومنهم أبو بكر أحمد بن محمد أبي الحسن بن دريد الأزدي وهو صاحب كتاب الجمهرة؛ وله مصنفات كتب عدة وهو الخطيب المذكور؛ والشاعر المشهور والفصيح الذي يقف عن كلامه البلغاء؛ ويعجز عن آدابه الأدباء؛ ويستعير منه الفصحاء؛ ويستعين بكلامه الخطباء وهو خطيب في شعره ومصقع في خطبته؛ وقدوة في أدبه وحكيم في نثره ومجيد في شعره؛ لا زيادة عليه في فنون العلم والأدب.
ومن أهل عمان أبو العباس المبرد صاحب كتاب الكامل.
وإنما ذكرت من بلغائهم وفصحائهم من هو مشهور عند قومنا وإلا فهم أكثر من ان يحصروا يطول بذكرهم الكتاب.
ولهم السياسة التي يحار في وصفها الواصفون؛ وناهيك بسياسة المهلب بن أبي صفرة وحزمه وشجاعته فإنه كان من أهل عمان؛ وهو الذي استنفذ البصرة من أيدي الأزارقة بأهل عمان وغيرهم بعد أن كادت الأزارقة تستحوذ على البصرة , فقام في مقاومتهم زمانا طويلا حتى ردهم الله بسببه على أعقابهم؛ ومن هناك كانوا يقولون في البصرة أنها بصرة المهلب.
وسترى في هذا الكتاب من سياسات أئمتها وملوكها وولاتها وقضاتها ما تقتضي به العجب.
ولهم في الشجاعة المنزلة العليا والسهم الأوفر؛ وذلك فيهم غير مجهول ولا مستنكر؛ فمنهم بلج بن عقبة الفراهيدي الذي كان يعد عن ألف فارس وهو شاب ابن عشرين سنة, وخبره في سيرة طالب الحق والله أعلم.
باب دخول العرب في عمان وأخذها من يد الفرس
وسمعت من يدعي المعرفة بذلك يقول إن ذلك كان قبل الإسلام بألفي عام؛ وذلك بعد ما أرسل الله على سبأ سيل العرم؛ وخرجت الأزد منها إلى مكة وأرسلوا روادهم في النواحي يرتادون لهم الأمكنة؛ وتفرقوا من هناك إلى الأطراف؛ وخرج مالك في جملة من خرج إلى السراة ثم منها إلى عمان.
وفي مروج الذهب للمسعودي قال إن مالكا سار من اليمن مع ولد جفنة بن عمر بن عامر مزيقيا فسار بنو جفنة نحو الشام؛ وانفصل مالك نحو العراق , فملك على مضر بن نزار اثني عشرة سنة ثم ملك بعده ابنه جذيمة.
مخ ۱۴
قال وقد كان ملك جزيمة من مشارق الشام إلى الفرات من قبل الروم وكانت داره بالموضع المعروف بالمضيرة بين بلاد الخانوقة وقرقيسيا.
قال وأقام جزيمة ملكا في زمن ملوك الطوائف خمسا وتسعين سنة؛ وفي ملك أزدشير بابك وسابور الجنود أزدشير ثلاثا وعشرين سنة؛ فكان ملكه مائة سنة وثمان عشرة سنة.
وذكر العوتبي في الأنساب عن الكلبي أن أول من الحق بعمان من الأزد ملك ابن فهم بن غانم بن دوس بن عدثان بن عبدالله بن زهران بن كعب بن الحارث ابن عبدالله بن مالك بن نصر بن الأزد.
وكان سبب قصة خروجه عن قومه إلى عمان كان له جار؛ وكان لجاره ذلك كلبة؛ وكان بنو أخيه عمرو بن فهم بن غانم يسرحون ويمرحون على طريق بيت ذلك الرجل؛ وكانت الكلبة تنبحهم وتفرق غنمهم؛ فرماها رجل منهم بسهم فقتلها؛ فشكا جار مالك إليه ما فعل بنو أخيه؛ فغضب مالك وقال لا أقيم ببلد ينال فيها هذا من جاري؛ ثم خرج مراغما لأخيه عمرو بن فهم.
وقال أبو حاتم السجستاني عن أبي عبيدة عن أبي اليقظان قال سبب خروج مالك بن فهم عن قومه بعد نفرقهم في البلاد حين أخرجهم سيل العرم من جنتى مأرب ونزلوا بالسراة أن راعيا لمالك بن فهم خرج بغنم , وكان طريقه ثنية فيها كلب عقور لغلام من دوس؛ فشد الكلب على راعي مالك فرماه الراعي بسهم فقتله؛ فتعرض صاحب الكلب لراعي مالك فخرج من السراة هو ومن أطاعه من قومه؛ فأسلم ذلك النجد نجد الكلبة إلى اليوم.
قال: فخرج مالك بن فهم من أرض السراة يريد عمان فيمن أطاعه من ولده وقومه وعشيرته من الأزد ومن اتبعه من أحياء قضاعة , وسار متوجها نحو عمان؛ وقد اعتزل عنهم من قبل ذلك من ولده جزيمة الأبرش بن مالك بمن سار معه من الأزد إلى أرض العراق.
مخ ۱۵
وقال أبو المنذر بن هشام بن محمد بن السائب الكلبي أخبرني أبي وشرقي ابن الفظامي قالا: لما خرج مالك بن فهم من السراة يريد عمان وقد توسط الطريق حنت إبله إلى مراعيها وأقبلت تلتفت نحو السراة وتردد الحنين؛ فقال مالك في ذلك:
تحن إلى أوطانها إبل مالك ... ... =ومن دونها عرض الفلا والدكادك
وفي كل أرض للفتى متقلب ... ... =ولست بدار الذل طوعا برامك
ستغنيك عن أرض الحجاز مشارب= ... رحاب النواحي واضحات المسالك
وقال أيضا:
تحن أوطانها بزل مالك ... ... = ... ومن دون ما تهوى فرات المقارف
وسيح أبي فيه منع لضائم ... ... = ... وفتيان أنجاد كرام غطارف
فحني رويدا واستريحي وبلغي ... ... =فهيمهات منك اليوم تلك المآلف
ثم سار من فوره يريد عمان؛ فجعل لا يمر بقبيلة من قبائل العرب من معد وغيرهم من اليمن إلا سالموه ووادعوه لمنعته وكثرة عساكره.
ثم أنه سار في مسيرة ذلك حتى أخذ على برهوت وهو واد في حضرموت فلبث فيه حتى راح واستراح وبلغه أن بعمان الفرس وهم ساكنوها؛ فعبأ أصحابه وعساكره وعرضهم فيقال إنهم بلغوا زهاء ستة آلاف فارس وراجل؛ ثم أنه أعد واستعد وأقبل يريد عمان؛ وقد جعل مقدمته ابنه هناة بن مالك؛ ويقال فراهيد بن مالك في ألفي فارس من صناديد الأزد وفرسانها؛ ثم سار يؤم عمان حتى انصب على الشحر فتخلفت عنه مهرة ابن حيدان بن عمرو بن الحاف بن قضاعة ابن مالك بن حمير فنزلت بالشحر.
قال الكلبي كان أول من خرج من العرب من تهامة عند مالك بن فهم الأزدي وعمرو وابناه فهم بن تيم الله بن أسد بن وبرة بن ثعلبة بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة وراسب بن الخزرج بن جدة بن حزم بن ريان بن حلوان بن حمير بن الحاف بن قضاعة فنزلت الشحر.
مخ ۱۶
وتقدم مالك بن فهم في قبائل الأزد معه من أحياء قضاعة إلى أرض عمان نوجد بعمان الفرس من جهة الملك دارا بن دارا بن يهمن بن أسفيديا وهم يومئذ أهلها وسكانها؛ والمتقدم عليهم المرزبان عامل ملك فارس؛ فعند ذلك أنزل مالك بن فهم من كان معه من الحشم والعيال والنساء والأثقال إلى جانب قلهات من شط أرض عمان ليكون أمنع لهم , وترك عندهم من الخيل والرجال من يحفظونهم , ثم سار هو ببقية عساكره وصناديد رجاله؛ وقد جعل على مقدمته وأرسل هناة بن مالك في ألفي فارس حتى ناحية الجوف فعسكر بالصحراء وأرسل إلى الفرس والمتقدم عليهم يومئذ المرزبان عامل الملك على عمان؛ فأرسل إليهم يطلب منهم النزول في قطر من عمان؛ وأن يفسحوا له ويمكنوه من الماء والكلأ ليقيم معهم؛ فأتمروا بينهم وتشاورا في أمره حتى طال ترديد الكلام والتشاور بينهم؛ ثم أنهم أجمع رأيهم على صرفه؛ وأن لا يمكنوه مما طلب وقالوا لا نحب أن ينزل هذا العربي معنا فيضيق علينا أرضنا وبلادنا؛ فلا حاجة لنا في قربه وجواره.
فلما وصل جوابهم إلى مالك أرسل إليهم أنه لا بد لي من المقام في قطر من عمان , وأن تواسوني في الماء والمرعى , فإن تركتموني طوعا نزلت في قطر من البلاد وحمدتكم؛ وإن أبيتم أقمت على كرهكم؛ وأن قاتلتموني قاتلتكم؛ ثم إن ظهرت عليكم قتلت المقاتلة وسبيت الذراري ولم أترك أحدا منكم ينزل عمان أبدا؛ فأبت الفرس أن تتركه طوعا وجعلت تستعد لحربه وقتاله؛ وأن مالك ابن فهم أقام في مدته تلك بناحية الجوف حتى أراح واستراح واستعد لحرب الفرس وتأهب للقائهم , وحفر بناحية الجوف الفلج الذي بمنح ويعرف اليوم بفلج مالك؛ وكان معسكره ومضرب خيله وعساكره هناك إلى أن استعدت الفرس لحربه وقتاله.
مخ ۱۷
ثم أن المرزبان أمر أن ينفخ في البوق الذي يؤذن فيه بالحرب وأن يضرب الطبل وركب في جنوده وعساكره وخرج من صحار في عسكر جم , فيقال أنه كان في زهاء أربعين ألفا ويقال ثلاثون ألفا , وخرج معه بالفيلة وسار يريد الجوف في لقاء العرب , فعسكر بصحراء سلوت وبلغ ذلك مالكا ومن معه , فركبوا جميعا وكانوا في زهاء ستة آلاف فارس وراجل , وعلى مقدمته ابنه هناة في ألفي فارس من صناديد الأزد وفرسانها , فأقبل في تلك الهيئة حتى أتى صحراء سلوت فعسكر بإزاء عسكر المرزبان , فمكثوا يومهم ذلك إلى الليل ولم يكن بينهم حرب ولا قتال , ثم أن مالكا بات ليلته تلك يعبئ أصحابه يمنة ويسرة وقلبا , ويكتب الكتائب ويوقف فرسان الأزد مواقفهم , فولى الميمنة هناة بن مالك , وولى المسيرة ابنه فراهيد بن نالك , وصار هو في القلب في أهل النجدة والشدة من أصحابه , وبات المرزبان يعبئ ويكتب كتائبه حتى إذا أصبحوا تواقفوا للحرب وقد استعد كل واحد من الفريقين.
وركب مالك ابن فهم فرسا له أبلق وظاهر بين درعين ولبس غليهما غلالة حمراء , وتكمم على رأسه بكمة حديد , وتعمم عليها بعمامة صفراء , وركب معه ولده وفرسان الأزد على تلك التعبئة , وقد تقنعوا بالدروع والبيض والجوشن , فلا يبصر منهم إلا الحدق , فلما تواقفوا للحرب جعل مالك بن فهم يدور على أصحابه راية راية , وكتيبة كتيبة , ويقول يا معشر الأزد أهل النجدة والحفاظ حاموا عن أنفسكم , وذبوا عن مآثر آبائكم , وقاتلوا وناصحوا ملككم وسلطانكم , فإنكم إن انكسرتم وهزمتم اتبعتكم العجم في كافة جنودكم فاختطفوكم واصطادوكم بين كل حجر ومدر , وباد عنكم ملككم وزال عنكم عزكم وسلطانكم , فوطنوا أنفسكم على الحرب وعليكم بالصبر والحفاظ , فإن هذا اليوم له ما بعده.
مخ ۱۸
فجعل يحرضهم ويأمرهم بالصبر والجلد , ويدور عليهم راية راية , وكتيبة كتيبة , حتى استفرغ جميع كتائبه وعساكره. ثم إن المرزبان زحف بعسكره وجميع قواده وجعل الفيلة أمامه , وأقبل نحو مالك بن فهم وأصحابه , ونادى مالك أصحابه بالحملة عليهم فقال يا معشر فرسان الأزد: احموا معي فداكم أبي وأمي على هذه الفيلة فاكتنفوها بأسنتكم وسيوفكم , ثم حمل وحملوا معه على الفيلة بالرماح والسيوف ورموها بالسهام , فولت الفيلة راجعة بحملتها على عسكر المرزبان , فوطئت منهم خلقا كثيرا , وحمل مالك في كافة أصحابه وفرسانه على المرزبان وأصحابه فانتقضت تعبئة المرزبان وجالوا جولة ثم بانت العجم , ورجعت إلى بعضها بعض , وأقبلت في حدها وحديدها , وصاح المرزبان في أصحابة وكافة جنوده وأمرهم فحملوا , والتقى الجميع واختلط الضرب واشتد القتال , فلم تسمع إلا صليل الحديد ووقع السيف واقتتلوا يومهم ذلك ما يكون من القتال , وثبت بعضهم لبعض إلى أن حال بينهم ظلام الليل , فانصرفوا وقد انتصف بعضهم من بعض؛ وابتكروا من غد بالحرب , واقتتلوا قتالا شديدا , وقتل في اليوم الثاني من الفرس خلق كثير؛ وثبت لهم الأزد فلم يزالوا كذلك إلى أن حال بينهم الليل وانصرف بعضهم عن بعض وقد كثر القتل والجراح في الجميع.
فلما أصبحوا في اليوم الثالث زحف الفريقان بعضهم إلى بعض فوقفوا مواقفهم تحت راياتهم؛ وأقبل أربعة نفر من المرازبة والأساورة ممن كان يعد الرجل منهم عن ألف رجل حتى دنوا من مالك فقالوا هلم إلينا لننصفك من بأنفسنا ويبادرك منا رجل رجل؛ فتقدم إليهم مالك وخرج إليه واحد منهم وطارد مالكا ساعة؛ فعطف عليه مالك ومعه نجدة الملوك وحمية العرب؛ فطعن الفارس طعنة حطم بها الرمح في صلبه , فوقع الفارس إلى الأرض عن فرسه؛ ثم علاه مالك بالسيف فضربه فقتله.
مخ ۱۹
ثم حمل الفارس الثاني على مالك وضرب مالكا فلم تصنع ضربته شيئا , فضربه مالك على مفرق رأسه ففلق السيف البيضة وانتهى إلى رأس الفارسي حتى خالط دماغه فخر ميتا.
ثم حمل عليه الفارس الثالث وعليه الردع والبيضة , فضربه مالك على عائقه فأبانه مع الدرع نصفين حتى انتهى سيف مالك إلى زج دابة الفارسي فرمى به قطعتين , فلما نظر الفارسي الرابع ما صنع مالك بأصحابه الثلاثة كاعت نفسه , وأحجم عن لقائه فولى راجعا نحو أصحابه حتى دخل فيهم.
ثم انصرف مالك إلى موقفه وقد تفاءل في الظفر؛ وفرحت بذلك الأزد فرحا شديدا ونشطوا للحرب.
فلما رأى المرزبان ما صنع مالك في قواده الثلاثة دخلته الخيمة والغضب وخرج من بين أصحابه وقال لا خير في الحياة بعدهم , ثم نادى مالكا وقال أيها العربي أخرج إلى أن كنت ملكا , فأينا ظفر بصاحبه كان له ما يحاول؛ ولا نعرض أصحابنا للهلاك , فخرج إليه مالك برباطة جأش وشدة قلب؛ فتجاولا مليا وقد قبض الجمعان أعنة خيولهم فأوقفوها ينظرون إلى ما يكون منهما.
ثم إن المرزبان حمل على مالك بالسيف حملة الأسد الباسل؛ فراغ عنه مالك روغان الثعلب؛ وعطف عليه بالسيف فضربه على مفرق رأسه وعليه البيضة والدرع ففلق البيضة وأبان رأسه فخر ميتا.
وحملت الأزد على الفرس , وزحف الفرس إليهم فاقتتلوا قتالا شديدا من ظهر النهار إلى العصر , وأكل أصحاب المرزبان السيف وصدقتهم الأزد الضرب والطعن , فولوا منهزمين حتى انتهوا إلى معسكرهم , وقد قتل منهم خلق كثير , وكثر الجراح في عامتهم.
مخ ۲۰
فعند ذلك أرسلوا إلى مالك بن فهم يطلبون منه أن يمن عليهم بأرواحهم ويجيبهم إلى الهدنة والصلح , وأن يكف عنهم الحرب ويؤجلهم إلى سنة ليستظهروا على حمل أهلهم من عمان , وأن يخرجوا منها بغير حرب وقتال؛ وأعطوه على ذلك عهدا وجزية على الموادعة؛ فأجابهم مالك إلى ما طلبوه وسألوا منه وهادنهم وأعطاهم على ذلك عهدا وميثاقا أنه لا يعارضهم بشيء إلا أن يبدأوه بحرب وقتال؛ فكف عنهم الحرب؛ وأقرهم في عمان على ما سألوه , فعادوا إلى صحار وما حولها فكانوا هناك؛ وكانت الأزد ملوكا في البادية وأطراف الجبال؛ وانحاز مالك إلى جانب قلهات.
فيقال إن الفرس في مهادنتهم تلك طمسوا أنهارا كثيرة وأعموها , ثم إنهم من فورهم كتبوا إلى الملك دارا بن دارا فأعلموه بقدوم مالك بن فهم ومن معه إلى عمان وقتله لقائده المرزبان في جل قواده وعسكره , وما كان من شأنه , ويخبرونه بما هم فيه من الضعف والعجز , ويستأذنوه في التحمل إليه بأهلهم وذراريهم إلى فارس , فلما بلغ ذلك الملك دارا غضب غضبا شديدا وداخله القلق , وأخذته الحمية لمن قتل من أصحابه وقواده فعند ذلك دعى بقائد من عظماء مرازبته وأساورته وعقد له على ثلاثة آلاف من أجلاء أصحابه وشجعان مرازبته وقواده وقدمه فيهم وبعثه مددا لأصحابه الذين بعمان؛ فتحملوا إلى البحرين ثم تخلصوا إلى عمان.
وكل هذا لم يدر به مالك بن فهم , فلما وصلوا إلى أصحابهم أخذوا يتأهبون للحرب حتى انقضى أجل الهدنة , فجعل مالك يستطلع أخبارهم فبلغه وصول المدد إليهم؛ فكتب إليهم أني قد وفيت لكم بما كان بيني وبينكم من العهد وتأكيد الأجل , وأنتم بعد حلول بعمان , وبلغني أنه قد أتاكم من قبل الملك مدد عظيم وأنكم تستعدون لحربي وقتالي , فإما أن تخرجوا من عمان طوعا وإلا زحفت عليكم بخيلي ورجلي ووطئت ساحتكم؛ وقتلت وسببت الذراري وغنمت الأموال.
مخ ۲۱
فلما وصل رسوله غليهم هالهم أمره وعظموا رسالته إليهم مع قلة عسكره وكثرتهم وما هم فيه من القوة والمنعة؛ وزادهم غيظا وحنقا وردوا عليه أقبح رد. فعند ذلك زحف عليهم مالك في خيله ورجاله وسار حتى وطئ أرضهم؛ واستعدت الفرس لقتاله ومعهم الفيلة فلما قربوا من معسكره عبأ أصحابه راية راية؛ وكتيبة كتيبة؛ وجعل على الميمنة ابنه هناة بن مالك وجعل على الميسرة فراهيد وقام هو وبقية أولاده في القلب؛ والتقوا هم والفرس فاقتتلوا قتالا شديدا ودارت رحا الحرب بينهم كأشد ما يكون مليا من النهار؛ ثم انكشفت العجم؛ وكان معهم فيل عظيم فتركوه فدنا منه هناة فضربه على خرطومه فولى وله صياح , وتبعه معن بن مالك فعرقبه فسقط.
ثم أن العجم ثابوا وتراجعوا وحملوا على الأزد حملة رجل واحد؛ فجالت الأزد جولة ونادى مالك يا معشر الأزد اقصدوا إلى لوائهم فاكشفوه من كل وجه؛ وحمل بهم على العجم حملة رجل واحد حتى كشفوا اللواء , واختلط الضرب؛ والتحم القتال؛ وارتفع الغبار؛ وثار العجاج حتى حجب الشمس فلم تسمع إلا صليل الحديد ووقع السيوف؛ وتراموا بالسهام فتفصدت؛ وتجادلوا بالسيوف فتكسرت؛ وتطاعنوا بالرماح فتحطمت وصبروا صبرا جميلا , وكثر الجراح والقتل في الفريقين.
مخ ۲۲