والقناعة بذلك عما يشغل القلب عن طلب العلم ويفرق الهم ويحب ويكره له ما يحب لنفسه ويكره ويزجره عن سوء الأخلاق وارتكاب المناهي وكلما يؤدي إلى فساد حال أو بطالة عن اشتغال أو إساءة أدب أو كثرة كلام لغير فائدة أو معاشرة من لا يليق أو نحو ذلك بطريق التعريض ما أمكن فإن لم ينجع نهاه سرا ثم جهرا وغلظ عليه القول إن اقتضاه الحال لينزجر هو وغيره ويتأدب به كل سامع فإن لم ينته فلا بأس حينئذ بطرده والاعراض عنه إلى أن يرجع لا سيما إذا خاف على بعض رفقته من الطلبة موافقته و أن يسامح في نشر العلم وتقريبه إلى ذهنه متلطفا في الإفادة برفق ونصيحة وتحريض على حفظ ما يبذله له من الفوائد النفيسة ولا يدخر عنه من فنون العلم شيئا يحتاج إليه ويسأل عنه إذا كان أهلا لذلك فإن لم يتأهل بعد لما سئل عنه نبهه على أن ذلك يضره وأنه لم يمنعه عنه شحا بل شفة ولطفا ثم يرغبه بعد ذلك في الاجتهاد والتحصيل ليتأهل لذلك ولغيره وقد ورد في تفسير الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره ويأمر الطلبة بالاجتماع في الدرس لما يترتب عليه من الفائدة التي لا تحصل مع الانفراد وينصفهم في البحث فيعترف بفائدة يقولها بعضهم وإن كان صغيرا ويسمع السئول من مورده على وجهه ولا يترفع عن سماعه فيحرم عن الفائدة ويطرح عليهم أحيانا من النكات والدقايق الغريبة ما تتشحذ به أذهانهم وإذا سلك أحدهم في التحصيل فوق ما يقتضيه حاله أو فهمه حمله برفق على الاقتصار على مقتضى الحال وقدر الفهم أو المراد أنه يقتصر له في بيان المسائل وتوضيح المشكلات التي لها وجوه متعددة متفاوتة على ما يبلغه فهمه ويكتم عنه ما لا يبلغه فهمه لأنه يفرق عليه الهم وينفر الطبع ويفسد الحال وفي الحديث النبوي نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن ننزل الناس منازلهم فنكلمهم على قدر عقولهم وفيه ما أحد يحدث قوما بحديث لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة على بعضهم وعلى الوجهين فهو من آداب المعلم ويحتمل أن يعتبر من آداب المتعلم بأن يكون المراد اقتصاره على ما يبلغه فهمه من المراتب مندرجا من كل مرتبة إلى ما فوقها ولا يخالف الترتيب فيتبلد ذهنه ويضيع سعيه وقطع الطمع عن المتعلمين لمنافاته الاخلاص فلا يسألهم عليه أجرا تأسيا بالأنبياء فإن العلماء ورثتهم بل يعلمهم لوجه الله لا يريد منهم جزاء ولا شكورا ولا يرى لنفسه منة عليهم وإن كانت المنة لازمة عليهم بل يرى الفضل لهم لأن ثوابه في التعليم أكثر من ثوابهم في التعلم عند الله ولولاهم لما نال هذا الثواب الجسيم والتواضع بخفض الجناح وحسن اللقاء والتلطف وبشاشة الوجه إلى غير ذلك للمتعلم لما له من المدخل في حصول الأجر للمعلم ولكونه باعثا لمزيد العلم له وتمرنه بالمذاكرة والتكرار معه وعن أبي عبد الله عليه السلام اطلبوا العلم وتزينوا معه بالحلم والوقار وتواضعوا لمن تعلمونه وتواضعوا لم طلبتم منه العلم ولا تكونوا علماء جبارين فيذهب باطلكم بحقكم وفي مرفوعة محمد بن سنان قال عيسى بن مريم يا معشر الحواريين لي إليكم حاجة اقضوها لي قالوا قضيت حاجتك يا روح الله فقام وقبل أقدامهم فقالوا كنا نحن أحق بهذا يا روح الله فقال إن أحق الناس بالخدمة العالم إنما تواضعت هكذا لكيما تتواضعوا بعدي في الناس كتواضعي لكم ثم قال (ع) بالتواضع تعمر الحكمة لا بالتكبر وكذلك في السهل ينبت الزرع لا في الجبل والتملق وهو التودد ولين الجانب والمراد هنا أبلغ التواضع للمعلم زيادة على غيره من ذوي الحقوق حتى الأبوين كما يأتي من المصنف التصريح به لأنهما وإن تسببا لوجوده فإن ذلك إنما اتفق منهما من غير قصد له في الأغلب بل بمقتضى الشهوة البهيمية المركوزة فيهما وهو وجود ناقص في أخس المراتب يشترك فيه الديدان والخنافس والمعلم المرشد يتسبب بقصده وعنايته لتكميل هذا الوجود الناقص وايصاله إلى أقصاها واستخراج ما فيه بالقوة إلى الفعل فحقه أعظم و نعمته أحق بالشكر والموفق لا يألوا جهدا في تعظيمه وحسن الأدب والخدمة له في محضره ومغيبه وفي الحديث النبوي ليس من أخلاق المؤمن الملق إلا في طلب العلم وسئل إسكندر ما بالك توقر معلمك أكثر من والدك فقال لأن الوالد سبب لحياتي الفانية والمعلم سبب لحياتي الباقية والتسليم بأن يلقي إليه زمام أمره بالكلية ويذعن له في كل ما يعين له من العلم المناسب لمرتبته وحاله حتى يجعل نفسه بين يديه كالمريض المجاهل بين يدي الطبيب الحاذق يداويه بما يشاء من الدواء بل كالميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف يشاء فيذعن لما ينقله من علم إلى علم واحضار القلب والاقبال بكليته عليه في مجلسه متعقلا لقوله بحيث لا يحوجه إلى إعادة الكلام ولا يلتفت من غير ضرورة ولا سيما عند بحثه معه أو كلامه له وقد اشتمل على جملة من آداب المتعلم مرسلة الجعفري عن أبي عبد الله (ع) قال كان أمير المؤمنين (ع) يقول إن من حق العالم أن لا تكثر عليه السؤل ولا تأخذ بثوبه وإذا دخلت عليه وعنده قوم فسلم عليهم جميعا وخصه بالتحية دونه واجلس بين يديه ولا تجلس خلفه ولا تغمز بعينيك ولا تشر بيدك ولا تكثر من القول قال فلان وقال فلان خلافا لقوله ولا تضجر بطول صحبته فإنما مثل العالم مثل النخلة تنتظرها متى يسقط عليك منها شئ الحديث وفي حديث الحقوق وحق سايسك بالعلم التعظيم له والتوقير لمجلسه وحسن الاستماع إليه والاقبال عليه وأن لا ترفع عليه صوتك ولا تجيب أحدا يسأله عن شئ حتى يكون هو الذي يجيب ولا تحدث في مجلسه أحدا ولا تغتاب عنده أحدا وأن تدفع عنه إذا ذكر عندك بسوء وأن تستر عيوبه وتظهر مناقبه ولا تجالس له عدوا ولا تعادي له وليا فإذا فعلت ذلك شهد لك ملائكة الله عز وجل بأنك قصدته وتعلمت علمه لله جل اسمه لا للناس والسؤال فإنه دواء العي كما ورد عن أبي عبد الله (ع) إنما هلك الناس لأنهم لا يسألون وعنه (ع) أن هذا العلم قفل ومفتاحه السئول وينبغي ترك الحياء والاستنكاف عنه فإن من رق وجهه رق علمه ومن رق وجهه عند السئول ظهر نقصه عند اجتماع الرجال وفي الصحيح عن أمير المؤمنين (ع) قوام الدين بأربعة عالم ناطق مستعمل له وغني لا يبخل بفضله على أهل دين الله وفقير لا يبيع آخرته بدنياه وجاهل لا يتكبر عن طلب العلم فإذا كتم العالم علمه وبخل الغني بماله على مستحقه وباع الفقير آخرته بدنياه واستكبر الجاهل عن طلب العلم رجعت الدنيا على ورائها قهقري
مخ ۱۲