استقر بنا المجلس ورد هشام بن الحكم وهو أول ما اختطت لحيته فوسع له أبو عبد الله (ع) وقال ناصرنا بقلبه ولسانه ويده ثم قال يا حمران كلم الرجل فكلمه فظهر عليه حمران ثم قال يا طاقي كلمه فكلمه فظهر عليه الأحول ثم قال يا هشام بن سالم كلمه فتعاوقا ثم قال لقيس الماصر كلمه فكلمه فأقبل أبو عبد الله (ع) يضحك من كلامهما مما قد أصاب الشامي فقال للشامي كلم هذا الغلام يعني هشام بن الحكم فكلمه وقطعه واستبصر الشامي ثم التفت أبو عبد الله (ع) إلى حمران فقال تجري الكلام على الأثر فتصيب والتفت إلى هشام بن سالم فقال تريد الأثر ولا تعرفه ثم التفت إلى الأحول فقال قياس رواع تكسر باطلا بباطل إلا أن باطلك أظهر ثم التفت إلى قيس الماصر فقال تتكلم وأقرب ما تكون من الخير عن رسول الله أبعد ما تكون منه تمزج الحق مع الباطل وقليل الحق يكفي عن كثير الباطل أنت والأحول قفازان حاذقان ثم قال يا هشام لا تكاد تقع تلوي رجليك إذا هممت بالأرض طرت مثلك فليكلم الناس فاتق الزلة والشفاعة من ورائها انشاء الله والحديث مختصر وحيث يرخص فيه للضرورة فليقتصر منه على قدر الحاجة كما في سائر الاضطراريات و ربما وجب حينئذ نصرة للدين وحراسة للمذهب وحماية عن الحق كفاية أو عينا على الماهر بالصنعة الحاذق فيها مثل هشام بن الحكم والاطلاقات السابقة محمولة على الغالب من الأحوال وأفراد المتكلمين فهو كما قيل نظير منع الصبيان عن شاطئ الدجلة شفقة عليهم من الغرق ورخصة الماهر القوي تضاهي رخصة الكاملين في صنعة السباحة إلا أن ههنا موضع غرور ومزلة قدم وهو أن كل ضعيف في عقله يظن بنفسه أنه يقدر على ادراك الحقايق كلها وأنه من جملة الأقوياء فربما يخوضون ويغرقون في بحر الجهات لا من حيث لا يشعرون وهذا الوجه فيما قد ورد من التصريح بالتعميم فيما رواه محمد بن عيسى قال قرأت في كتاب علي بن هلال أنه سئل عن الرجل يعني أبا الحسن (ع) أنهم نهوا عن الكلام في الدين فتأول مواليك المتكلمون بأنه إنما نهى من لا يحسن أن يتكلم فلم ينهه فهل ذلك كما تأولوا أو لا فكتب (ع) المحسن وغير المحسن لا يتكلم فيه فإن إثمه أكبر من نفعه وربما أوردناه يتضح لك أمر المجادلة والتفصيل الذي أشرنا إليه ويتسهل عليك الإحاطة بقسميها ويزيد ذلك بيانا ما ورد أنه ذكر عند أبي عبد الله (ع) الجدال في الدين وأن رسول الله والأئمة صلى الله عليه وآله قد نهوا عنه فقال (ع) لم ينه عنه مطلقا وإنما لكنه نهي عن الجدال بغير التي هي أحسن قيل يا بن رسول الله فما الجدال بالتي هي أحسن والتي ليست بأحسن فقال أما الجدال بغير التي هي أحسن فإن تجادل مبطلا فيورد عليك باطلا فلا ترده بحجة قد نصبه الله (تع) ولكن تجحد قوله أو تجحد حقا يريد ذلك المبطل أن يعين به باطله فتجحد ذلك الحق مخافة أن يكون له عليك حجة لأنك لا تدري كيف المخلص منه فذلك حرام على شيعتنا أن يصيروا فتنة على ضعفاء إخوانهم وعلى المبطلين أما المبطلون فيجعلون ضعف الضعيف منكم إذا تعاطى مجادلته وضعف في يده حجة له على باطله وأما الضعفاء فتغتم قلوبهم لما يرون من ضعف المحق في يد المبطل وأما الجدال بالتي هي أحسن وهو ما أمر الله به نبيه أن يجادل به من جحد البعث بعد الموت واحياء الله له فقال الله له حاكيا عنه وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيى العظام وهي رميم فقال الله في الرد عليه قل يا محمد يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون إلى آخر السورة فأراد الله من نبيه أن يجادل المبطل الذي قال كيف يجوز أن يبعث هذه العظام وهي رميم فق الله قل يحييها الذي أنشأها أول مرة ا فتعجز من ابتداه لا من شئ أن يعيده بعد أن يبلي بل ابتداؤه أصعب عندكم من إعادته ثم قال الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون أي إذا كن النار الحارة في الشجر الأخضر الرطب ثم يستخرجها فعرفكم أنه على إعادة ما يلي أقدر ثم قال أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم أي إذا كان خلق السماوات والأرض أعظم وأبعد في أوهامكم وقدركم أن تقدروا عليه من إعادة الباقي فكيف جوزتم من الله خلق هذا الأعجب عندكم والأصعب لديكم ولم تجوزوا منه ما هو أسهل عندكم من إعادة البالي قال فهذا الجدال بالتي هي أحسن لأن فيها قطع عذر الكافرين وإزالة شبههم وأما الجدال بغير التي هي أحسن فإن تجحد حقا لا يمكنك أن تفرق بينه وبين باطل من تجادله وإنما تدفعه عن باطله بأن تجحد الحق فهذا هو المحرم لأنك مثله جحد هو حقا وجحدت أنت حقا آخر والحديث مختصر وحق العلم اخلاص النية في طلبه وبذله لله جل جلاله فإن مدار الأعمال على النيات وبسببها يكون العمل تارة خزفة لا قيمة لها وتارة جوهرة لا يعلم قيمتها لعظم قدرها وتارة وبالأعلى صاحبه مكتوبا في ديوان السيئات وإن كان بصورة الواجبات كما يأتي فيجب على كل من طالب العلم وباذله أن يقصد بعمله وجه الله سبحانه وامتثال أمره واستصلاح نفسه وغيره ولا يقصد بذلك شيئا من أغراض الدنيا من مال أو جاه أو شهوة أو امتياز عن أشباه وافتخار وترفع على الأقران أو غير ذلك من المقاصد الفاسدة التي ثمرتها الخذلان من الله عز وجل والبعد عن الدار الآخرة والثواب الدائم فيصير من الأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا وفي الحديث من طلب العلم ليباهي به العلماء أو يماري به السفهاء أو يصرف وجوه الناس إليه فليتبوأ مقعده من النار وفيه من أراد الحديث لمنفعة الدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب ومن أراد به خير الآخرة أعطاه الله خير الدنيا والآخرة وعن أبي عبد الله (ع) من تعلم العلم وعمل به وعلم لله دعى في ملكوت السماوات عظيما فقيل تعلم لله وعمل لله وعلم لله واخلاص النية مما يحق في كل عمل وإن كان في العلم أحق والعمل به فيما يطلب للعمل إذ بدون ذلك لا ينفعه عمله في سلامة العاقبة وكان كمن به مرض شديد وهو يعلم كيفية العلاج وترتيب الأدوية فيظن أن ذلك يكفيه في خلاصه عن مرضه ويشفيه بدون العمل به فلا يزال يزداد مرضه حتى يهلكه وفي الحديث لا تطلبوا علم ما
مخ ۱۰