وعلى كل حال ان العداء والمنازلة، والانتصارات والمغلوبيات، كل هذه تجري مع الأسف لما يفيد اذلال بعضنا البعض والافتخار في التغلب عليه، وتهييج العداء الكامن ... والوجهة ان نربح من هذه الأوضاع ونستخدمها لصالح الأمة وعزتها القومية، وأبهتها بين الشعوب، وفخرها على غيرها، ويعز علينا أن نجد صناديدنا وشجعاننا يذهبون ضحية وقائع أمثال هذه، ونخرب بيوتنا بأيدينا.! ولو كانت نشوة الانتصار هذه على عدو حقيقة ممن لم يكن من قومنا لشكل فخرًا كبيرًا، أما هذا فهو في الحقيقة ضياع لأكابر الرجال.. وكل واحد من هؤلاء يصلح أن يكون قائدًا لجيش عرمرم..
وملحوظتنا أن هذه الوقعة كانت بين شمر وعنزة، ولم تكن للحكومة علاقة بها مما دعا إن لم تدوّن ... وأعتقد أنها وقعة يوم بصالة، وتاليتها يوم سبيخة..
وكل حوادث البدو متقاربة، وتلخص بغزو بعضها بعضًا ... والمهارة المعروفة وقدرة القواد تبز بأوضاعها، وأحوالها الكثير من وقائع التاريخ مما لا يسع المقام تفصيله ...
٥ - المهاجم من عدوّه
والطرف المقابل الذي قد هوجم يتهالك في الدفاع، ويستميت عند ماله وحريمه، ويناضل نضال الأبطال، وهناك يشتهر بالشجاعة من يشتهر، وكم صدوا العدو واعادوه على أعقابه خائبًا، أو مغلوبًا بصورة فاحشة خصوصًا إذا علم القوم وأخبرهم (السبر) بنوايا عدوّهم، أو بتوجه الغزو الى ناحيتهم وما أصدق قول المتنبي على الكثير من قبائل البدو:
ولو غير الأمير غزا كلابا ... ثناه عن شمو سهم ضباب
ولاقى دون ثايهم طعانًا ... يلاقى عنده الذئب الغراب
وخيلا تغتدي ريح الموامي ... ويكفيها من الماء السراب
ويتحاشى البدو كثيرًا من الحرب عند الضعون، أو الهجوم على العدو عند البيوت ... وفي هذه الحالة تكون له (غوارات) وهي الخيول التي تهاجم، و(ملزمه) وهم الذين يكمنون ويحافظون خط الرجعة ولذا يقول المثل (غوارات وملزمة) ...
٦ - العمارية - العطفة
العمارية بنت يعدّ لها قتب في (هودج)، يقال له (العُطفة)، وهو حصار يزين لها بأنواع الزينة، والبنت في الغالب تكون من أعز بنات القبيلة، بنت الشيخ، أو العقيد، ومن جميلات البنات الأبكار، وفيها همة ونشاط، تحث القوم وتحرضهم على القتال، وإذل رأت منهزمًا عنفته، وطلبت اليه أن يعود لنصرة اخوانه وان لا تذل النساء بيد الأعداء و(العادة)، أو (العودة) الى القتال كثيرًا ما تؤدي الى انتصار المغلوبين بسبب ما يبدونه من استماتة، وشمر أهل العادة، ولهم الشهرة فيها ...
وهذه البنت تفرع (تكشف رأسها)، وتتدلع، وتنخى القوم وتشوقهم على القتال، وتكون من العارفات برجال الحي وأوصافهم المقبولة، ومزايا كل؛ تمدح في مواطن المدح، وتحض على الحرب ... ! ولما ان ترى رجوعًا في الرجال، وغلبة طرأت، أو كسرة عرضت تستحثهم على العودة، فلا يطيقون الصبر على لائمتها وعتابها، أو تقريعها، تشجع وتعيد المنهزم، تستعيده فيستميت القوم في القتال ... ! وكثيرًا ما يناضل الأبطال عنها وهي تقصد العدو، وتتقدم اليه، ليكون الحرب أشد وأقوى ... ! وبسبب هذا التشجيع والتثريب لمن ترى منه ضعفًا يعود القوم الكرة ... ولهذا نرى بني لام يسمونها (العيادة) باعتبار انها تدعوهم الى العودة وتعتلي بيتًا أو محلًا بارزًا، وتصرخ بهم قائلة: العودة! العودة! أو العادة، العادة! عليهم! عليهم! وعلى كل حال تعرف ب (العمارية) أيضًا، تسوق ناقتها الى الأمام بأمل أن ينقذوها، وأن يتقدموا نحو أعدائهم، ويتفادوا في سبيل خلاصها ... ! ومثل هذه تكون صاحبة جنان قوي لا تهاب الموت، وكثيرًا ما تصاب قبل كل أحد، ويقصدها العدو خشية أن تشجع القوم، وتجعلهم في حالة استماتة وتفاد عظيم في الدفاع ... ! وهذه عادة قديمة في البدو، ولم تكن من عوائد هذه الأيام، ولا دخيلة في العرب، وإنما هي موجودة من زمن الجاهلية:
يقدن جيادنا ويقلن لستم ... بعولتنا اذا لم تمنعونا
وغاية ما ينتفع من هذه العمارية، أو العماريات حينما يشعر القوم بضعف، أو قلة في العدد، وخور في العزائم، فيركن النساء الى ما يشجع ويقوي العزائم..
1 / 100