حيث إن الأمريكيين لم يمروا بثورة ديمقراطية، فإنهم لديهم فردية أقل من الشعوب الديمقراطية في أوروبا؛ فوفقا لتوكفيل، هم لديهم الميزة الكبرى المتمثلة في «أنهم ولدوا متساوين بدلا من أن يصبحوا كذلك.» وحيث إنهم مدركون لفرديتهم، فإنهم «يحاربونها» من خلال الجمعيات الحرة، ومن خلال الاعتقاد الأخلاقي الغريب المتمثل في المصلحة الشخصية المفهومة على نحو جيد، وهما أمران تناولهما توكفيل في الجزء الأول من كتابه. تأخذ الجمعيات المواطنين من الشعور بالارتياح الخاص بالفردية إلى النشاط العام، مما يرضي طموحهم ويحقق مصالحهم الشخصية، وفي نفس الوقت يعزز الصالح العام.
إن الاعتقاد الذي وصفه توكفيل هو من جديد «المصلحة الشخصية المفهومة على نحو جيد.» وقد ذكر أن مصدره الأخلاقيون الأمريكيون الذين قدموه للأمريكيين، وأنه «من بين كل النظريات الفلسفية الأكثر ملائمة لاحتياجات الناس في عصرنا الحالي.» فهو يستوعب الضعف الإنساني بأن يجعل المصلحة الشخصية تنقلب على نفسها: «فحتى توجه المشاعر، هي تستفيد من المثير الذي يحفزها.» لكن بالرغم من براعة هذا الاعتقاد، ترك توكفيل شكوكه تظهر من خلال المقارنة بين النظام الديمقراطي والأرستقراطي؛ ففي ظل النظام الأرستقراطي، يتحدث الناس عن الجانب المعنوي للفضيلة ويدرسون سرا فائدتها، لكن الآن في ظل النظام الديمقراطي، العلاقة معكوسة؛ فالأخلاقيون الأمريكيون يخشون الحديث عن الجانب المعنوي للفضيلة؛ فالجانب المعنوي للفضيلة ربما يستدعي التضحية، ويبحث الأخلاقيون الديمقراطيون - الذين لا يجرءون على النصح بذلك - عن حالات تكون فيها الفضيلة في مصلحة الشخص، ويستفيضون فيها محولين إياها إلى معتقد عام. لم يسم توكفيل أحدا من الأخلاقيين الأمريكيين، ولم يستشهد إلا بمونتين، لكن أبرز معلم أمريكي للمصلحة الشخصية المفهومة على نحو جيد سيكون بنجامين فرانكلين، الذي أوضح في سيرته الذاتية كيف يمكن للمرء شق طريقه في الحياة، وفي نفس الوقت يسعى لمساعدة الآخرين دون أن يحاول تحقيق كل طموحه.
لفت توكفيل في تحليله الانتباه إلى نقطة دقيقة كان فرانكلين قد أشار إليها أيضا ولكن ليس بهذا الوضوح؛ إذ أوضح توكفيل أنه في أمريكا لا تحتاج المصلحة الشخصية أن تخفي نفسها في شكل فضيلة - وهو نوع من النفاق العادي الذي تتم ممارسته في كل المجتمعات الإنسانية - وإنما الفضيلة هي التي تحتاج للتخفي في شكل مصلحة شخصية. وادعاء الفضيلة في أي ديمقراطية يعني أن تظهر نفسك بأنك أفضل من «المتشابهين» معك، وهذا يجعلك محل حسد من جانب الآخرين. ذكر توكفيل أن الأمريكيين «يفضلون احترام فلسفتهم أكثر من احترام أنفسهم»؛ هذا يعني أنهم يفضلون الاعتراف بحرصهم على مصلحتهم الذاتية على إنكارها. ويعني تفضيلهم احترام فلسفتهم أنهم يحترمون الحقيقة، لكن من أين تأتي تلك الحقيقة؟ ليس من ذات الشخص؛ فمعتقد المصلحة الشخصية لا يأتي من المصلحة الشخصية نفسها، وإنما من السعي المخلص وراء الحقيقة؛ بهذا يناقض الأمريكيون أنفسهم؛ فهم يثنون على أنفسهم بأنهم يتصرفون وفقا للمبادئ وليس المصالح، على الرغم من إنكارهم لهذا. وبثناء توكفيل على الأمريكيين لممارستهم الحرية السياسية، فقد فعل عكس ما قال الأمريكيون إنهم يفعلونه؛ فهو يثني على الأمريكيين وليس على فلسفتهم.
إن اعتقاد المصلحة الشخصية المفهومة على نحو جيد ليس فقط متناقضا، وإنما أيضا مبالغ في تجريده؛ فهو يعني ضمنا أن هناك «ذاتا» إنسانية عمومية تفعل أو تستجيب دائما بالطريقة نفسها. مع ذلك، أكد توكفيل على أن تلك الذات العمومية المفترضة هي بالفعل الروح الديمقراطية. وفي الفصول التي تلت الفصل الذي تحدث فيه عن المصلحة الشخصية المفهومة على نحو جيد، تناول مرة ثانية الرفاهية المادية المميزة للروح الديمقراطية، وخلص إلى أن الديمقراطية تنتج مادية معتدلة ومقبولة لا تفسد الأرواح بقدر ما تهذبها؛ فالأمريكيون يشعرون بالاضطراب (وهو لفظ شائع في كتاب توكفيل) ولا يشعرون بالرضا بالرغم من رخائهم؛ إن إيمانهم باعتقاد «المصلحة الشخصية» لا تبرره الطبيعة الإنسانية، وإنما تحدده الديمقراطية التي يعيشون في ظلها، كما أنها ليست في الحقيقة «مفهومة على نحو جيد» من جانبهم.
في ضوء الطبيعة الأساسية للأمريكيين التي تتميز بالاضطراب والقلق، من المهم معرفة أن لديهم شيئا طويل الأجل يعملون من أجله، وهذا هو الموضوع التالي الذي سيتناوله توكفيل. إن مهمة الدين هي تحرير الديمقراطيين، بقدر الإمكان، من التكالب على الإشباع الفوري لرغباتهم، وجعلهم يكتسبون عادة العمل من أجل هدف مستقبلي. وعندما تكون الديمقراطية منفصلة عن الدين بسبب حبها للرفاهية المادية، فإن المهمة السابقة تكون أيضا مهمة «الفلاسفة ومن في السلطة.» من الضروري «استبعاد الصدفة قدر الإمكان من العالم السياسي»، ليس باستخدام العلم للتنبؤ بما سيحدث بغض النظر عن رغباتنا، وإنما لإعطاء الانطباع بأن الجهد الصادق ستتم مكافأته. إن الاعتقاد بأن الصدفة هي التي تحكم العالم يجعل الشعوب تتسم بالسلبية والبلادة؛ إما لأن هذا الاعتقاد يجعل التضحية من أجل الفضيلة شديدة الخطورة إذا كنت تعتقد أنك غير محظوظ، وإما لأنه يجعل النجاح يبدو بالغ السهولة إذا كنت تعتقد أنك محظوظ. وعلى الرغم من أن الصدفة لا يمكن - ولا يجب - استبعادها تماما من الحياة البشرية، فإنه يجب التقليل من حجمها إلى الحد الذي يمكن للناس عنده أن يعتقدوا على نحو معقول أنهم هم من يتحكمون في شئونهم ويسيطرون على حياتهم. حدد توكفيل تلك الوظيفة الوحيدة الموجهة للدين والفلسفة والسياسة على حد سواء؛ فيجب على الحكومات أن تعلم المواطنين أن «النجاحات العظيمة تأتي بعد تحقيق الرغبات الطويلة الأمد.» فتفكيرهم في مستقبلهم في هذا العالم سيردهم ثانية - دون وعي منهم بذلك - إلى الإيمان بالعالم الآخر. والفضيلة ذات الطابع الأمريكي، مهما تخفت في شكل مصلحة شخصية، ما دام أنها دائمة، يمكن إثبات أنها ليست حلما أو هبة تحققت بالصدفة، بل يمكن أيضا إثبات أنها متأصلة في النظام الطبيعي للأمور. ومع تحقيق «نجاحات عظيمة» مستحقة، فإن الإيمان الأمريكي بالقابلية اللامحدودة لبلوغ الكمال سيتحرر من القلق المضطرب المصاحب له، وسيكتسب بعض الصحة من خلال الثقة المعقولة بالنفس.
لكن توكفيل الذي ليس من نوعية الأشخاص الذين يبالغون في تفاؤلهم حذر من أن أمريكا في المستقبل قد تشهد نظاما أرستقراطيا جديدا تخلقه الصناعة؛ فقد توقع - كما فعل كارل ماركس تماما - أن العامل الديمقراطي سيستسلم للخضوع والتبعية؛ حيث إن التوسع في تقسيم العمل سيضيق من رؤيته وأهليته بحيث يترك كل عمليات التخطيط والتفكير لرئيسه في المؤسسة الصناعية. إن مثل هذا النظام الأرستقراطي سيكون قاسيا؛ لأنه سيعامل العمال باعتبارهم أشياء، لكنه ليس خطيرا؛ لأنه لن يتحول إلى طبقة حاكمة. ومن طبيعة الديمقراطية - لم يتحدث توكفيل عن الرأسمالية - أن تؤدي إلى الشعور بعدم الاستقرار وحب الصدفة؛ وهذا ما يجعل النظم الديمقراطية تتحول للتجارة، وهي لا تفعل هذا من أجل المكسب المادي فقط، وإنما من أجل المتعة أيضا؛ فالأزمات الصناعية جزء من المزاج الديمقراطي ؛ ومن ثم فهي متأصلة في الديمقراطية ومن المستحيل التنبؤ بها. إن الحلم الأمريكي القائم على المكافأة على ممارسة الفضيلة يتهدده تعقد التجارة، وهو عرضة للمفاجآت المباغتة.
كشف توكفيل في نقاشه أن هناك شعورين ديمقراطيين دائمين غير عقلانيين على نحو جوهري؛ وهما: الرغبة في الرفاهية المادية، والشغف للمساواة؛ فالأول لا يتوقف أبدا، في حين أن الثاني يفرض متطلبات لا تنتهي، ولا يمكن إشباع أي منهما. وكلاهما يميل لجعل الأشخاص الديمقراطيين ضعفاء؛ الأول عن طريق إضعاف الأرواح، والثاني عن طريق حرمان كل أشكال السلطة والطاعة من الشرعية. غير أن الأمريكيين، بممارستهم للحرية السياسية وعملهم من أجل الصالح العام إلى جانب مصلحتهم الشخصية، يثبتون أنهم جادون بشأن نظرتهم التي تعتبر أن هناك كلا هم أجزاء منه، وليس أنهم مجرد كل في حد ذاتهم. وهم يفندون «الفردية» من خلال أفعالهم دون أن يدركوا قيمتها، أو دون معرفة أنه من الأفضل لهم أن يقروا بقيمتها. وتوكفيل، بتوجيهه الأمريكيين على نحو يتعارض مع رؤى الأخلاقيين الخاصين بهم، سيساعدهم على فهم مصلحتهم الشخصية على نحو أفضل.
أعراف المساواة
تحول توكفيل من الحديث عن الأفكار ثم عن المشاعر، إلى الحديث عن الأعراف؛ فكل منها يؤدي إلى الآخر، مع اعتبار أن الأعراف هي السلوك الذي يقترحه الفكر ويحفزه الشعور. في هذا القسم من كتابه الرائع، تأمل توكفيل كيف تتعامل الديمقراطية مع جوانب عدم المساواة المستعصية التي يبدو أن الطبيعة (وهي كلمة تكررت كثيرا في كتابه) تعارضها، وحاول الإجابة على الأسئلة التالية: ما العلاقة بين السيد والتابع في ظل الديمقراطية؟ وماذا عن الأفضلية الواضحة للرجل على المرأة؟ وما الرغبة في الشرف التي تسعى لتمييز النفس على الآخرين؟ في كل حالة من تلك الحالات، تبذل الديمقراطية كل ما في وسعها لإنهاء جوانب عدم المساواة، محاولة تجميل الوضع وجعله أقل قسوة واستبدادا وقبحا. صحيح أنها لم تنجح في القضاء على عدم المساواة لكنها صبغتها بصبغة تذكر الجميع بالحقيقة الجوهرية المتمثلة في المساواة بين البشر، التي هي أساس التوافق مع عدم المساواة. وفي نفس الوقت، تقدم الديمقراطية - حتى مع توفيرها سبل المساواة - تبريرها لجوانب عدم المساواة تلك؛ ومن ثم يبدو أنها تعترف بأن هناك حدا معينا للمساواة لا يمكن تجاوزه، وأن عدم المساواة البشرية هي أيضا حقيقة جوهرية.
بدأ توكفيل بمقارنته المعتادة، معلنا أنه حيث أصبحت هناك مساواة أكبر في الأوضاع الاجتماعية، فقد أصبحت الأعراف أكثر اعتدالا ورفقا مما كانت عليه في ظل النظم الأرستقراطية. وأوضح رأيه بإحدى أكثر الفقرات تميزا في كتابه، مقتبسا جزءا من إحدى الرسائل التي كانت بين السيدة دي سيفينيه - وهي سيدة أرستقراطية كانت تعيش في القرن السابع عشر - وابنتها. كانت تلك السيدة تحكي بسعادة، وسط حديثها عن أحداث اليوم، حادثة تتعلق بتمرد دافعي الضرائب الذي تم القضاء عليه من خلال تعذيب المحرضين عليه وإعدامهم، في حين تم طرد الباقين، «كل هؤلاء البؤساء»، من بيوتهم. كان تعليق توكفيل كما يلي: «لا تستطيع السيدة دي سيفينيه أن تدرك بوضوح معنى المعاناة التي يلاقيها الشخص إذا لم يكن من النبلاء.» يجب أن يقرأ تلك الفقرة كل من يعتقد أن توكفيل كان متعاطفا جدا مع الأرستقراطية؛ فالعطف الديمقراطي يقلل من تأثير المصلحة الشخصية الديمقراطية، وهو بالطبع جزء من المصلحة الشخصية المفهومة على نحو جيد. لكن الديمقراطيين أيضا لا يدركون بوضوح معنى المعاناة، ويتضح هذا من سلوكهم تجاه العبيد والأعداء في الحرب، عندما لا يمرون بنفس تلك المعاناة، وعندما لا يرون أن الآخرين «مشابهون» لهم.
ناپیژندل شوی مخ