لذا، فإن الصحافة الحرة لا تحث الناس على الوصول للاعتقاد العقلاني أو الحقيقة. ثمة ادعاءات تزعم اليوم - فيما يتعلق بالصحافة - أن الناس من حقها أن تعرف كل ما يمكن معرفته. لكن معظم الناس لا يعيشون على أساس المعرفة، وإنما على أساس الرأي القانع. إنهم متشككون؛ وكأن لسان حالهم يقول: «لا يمكن أن تصدق ما تقرؤه!» ونحن نقول اليوم إن وسائل الإعلام دائما ما تسيء فهم الأمور. بناء على ذلك، نحن نؤمن بأننا على حق، وأنه لا توجد سلطة أعلى منا تقول لنا إننا مخطئون. يحب الديمقراطيون الفخر باستقلالية فكرهم، وهو بالضبط أقل أنواع الاستقلالية التي يتمتعون بها. أشار توكفيل لميزتين خفيتين للصحافة الحرة؛ وهما استغلال طموح الكتاب الموهوبين في هجوم بعضهم على بعض، واستقرار الرأي الناتج عن البلبلة التي تجعل الناس لا يثقون فيما يقال لهم أو يستبعدونه.
في الجزء الثاني، ناقش توكفيل سلطة العلم التي تحاول خلق اعتقاد عقلاني من نوع ما لدى الناس؛ اعتقاد وسط بين المعرفة الكاملة والرأي غير المطلع. لكنه في هذا النقاش ركز على «الأهمية العظيمة» للصحافة الحرة، وفي نفس الوقت على الاستبداد اللاعقلاني لدى الأغلبية التي تعززه باسم التنوير. وبتميزها بالاعتدال، قيمها مقارنة بالصحافة التي توجد رقابة عليها، وهو مقابل معتاد بالنسبة إلى الليبراليين، وأيضا مقارنة بالعقل في أسمى معانيه، وهو مقابل غير معتاد. وكانت النتيجة صورة مختلفة تماما عن الثناء الشديد على «حرية الفكر والتعبير» الموجود في كتاب جون ستيوارت ميل «عن الحرية» المنشور في عام 1859، وهو العام الذي توفي فيه توكفيل.
كان ميل صديقا لتوكفيل وأحد أتباعه الأوائل بمراجعته لكتابه «الديمقراطية في أمريكا»، لكنهما اختلفا اختلافا بينا في رأيهما بشأن العلاقة بين العقل والإحساس بالفخر؛ اعتقد ميل أن تحيز الناس العاديين يمكن التغلب عليه بواسطة أشخاص نسميهم الآن «المفكرين»، الذين يمكنهم توجيه المجتمع دون أن يحكموه على نحو فعلي. وقد اعتبر الإحساس الإنساني بالفخر عائقا أمام تقدم المعرفة، والحرية السياسية وسيلة لإحداث هذا التقدم. على الجانب الآخر، كان توكفيل يعتقد أن الإحساس بالفخر يفيد الديمقراطية ويضرها في نفس الوقت؛ فهو يضرها عندما يمجد تحيز الأغلبية الديمقراطية، ويفيدها عندما يساعدها على تصحيح هذا التحيز في «المدرسة المجانية» التي تقدمها الحرية السياسية؛ فبالنسبة إليه، يمثل العقل في أسمى معانيه «الملاذ الأخير» للإحساس الإنساني بالفخر، وبالرغم من أن الاكتشافات النظرية قد تؤدي إلى تطوير المجتمع، فإنه يجب أن تكون هي نفسها هدفا في حد ذاتها. يتميز الإنسان عن الحيوان بعقله؛ هذا هو الأساس المنطقي للإحساس بالفخر، ويجب أن يحترم هذا الأساس لدى الأشخاص القادرين على استخدام عقولهم بفاعلية كبيرة، لكن معظم الناس يستخدمون عقولهم معظم الوقت للفخر بدفاعهم عن تحيزاتهم. إن نشر التحيز هدف ومهمة أي صحافة حرة.
المساواة والتشابه
تقوم المؤسسات غير الرسمية على السيادة غير الرسمية للرأي العام. وفي هذا، اتفق توكفيل مع ميل، لكنه كان أقل تفاؤلا بكثير منه. اعتقد ميل أن الرأي العام يمكن قيادته من خلال مفكرين مثله هو شخصيا؛ مما يؤدي إلى مزيد من التنوير، لكن توكفيل - بالرغم من أنه اتفق مع ميل على أن قلة من الناس يكونون أكثر استنارة من غالبية الناس - اعتقد أن هناك احتمالا أكبر لأن يقود الرأي العام المفكرين وليس العكس، وأنهم لن يصغى إليهم إذا حاولوا أن يعظوا وينصحوا الناس متبعين أسلوب ميل؛ أي إنهم سيكونون مجبرين على خدمة الرأي العام. يميل المفكرون الديمقراطيون من أمثال ميل لأن يكونوا أكثر ديمقراطية من الأفراد الديمقراطيين، مع الاحتفاظ باستثناء لأنفسهم باعتبارهم معلمين للناس. هذا صحيح؛ فتوكفيل نفسه كان يسعى ل «تعليم الديمقراطية»، كما قال في مقدمة كتابه «الديمقراطية في أمريكا»، لكنه كان يفعل هذا من خلال تحليل صريح لمزاياها وعيوبها، ممزوجا بثناء مكبوت، بدلا من الدفاع عن الديمقراطية واللوم على معارضيها. ومن دون ضجر، قارن بهدوء بين النظامين الديمقراطي والأرستقراطي.
للرأي العام سلطة أعلى في النظام الديمقراطي مقارنة بسلطته في النظام الأرستقراطي؛ لأن الكل في ظل النظام الديمقراطي متساوون أو من المفترض أنهم كذلك. فلا يوجد فرد - أو جماعة - له سلطة أعلى من الشعب؛ ومن ثم لا يمكن لأحد أن يتحداه على نحو صريح، وهو الأمر الذي يحدث بسهولة في أي نظام أرستقراطي. إن سيادة الرأي العام تتفق مع الحالة الاجتماعية الديمقراطية، وهو المفهوم الذي وضعه توكفيل الذي يرى أنه سابق للسياسة ويتحدد من خلالها. وعلى الرغم من أن الرأي العام في واقع الأمر يسود في النظام الديمقراطي، فلا يبدو أنه يسود لأنه ليس له ممثل محدد يرجع إليه؛ فهو بالتأكيد يتشكل على يد مفكرين وسياسيين وصحفيين، لكن حيث إن كل هؤلاء يزعمون أنهم يتبعونه، فلا أحد يتحمل مسئوليته. وعندما يتغير الرأي العام، معتبرا حسن الصنيع سوء صنيع أو العكس، فإنه يفعل هذا دون تفسير؛ حيث إنه لا يوجد أحد مسئول عنه يمكن محاسبته. ربما يحاول البعض تأويل الرأي العام، لكن الرأي العام لن يحدد إن كان هذا التأويل صحيحا أم لا؛ فقراراته السيادية ليست خاضعة للعقل، ولا يمكن لأحد الاعتراض عليها نظرا لكونها متضاربة أو قصيرة النظر. سيتم الاستماع والالتزام بما يقوله الرأي العام، لكنه لن يستمع لأحد عندما لا تكون لديه الرغبة في ذلك.
يقوم الرأي العام الديمقراطي على المساواة، لكن طبيعة هذه المساواة تحتاج لأن يتم النظر فيها. كيف تتعامل الديمقراطية مع جوانب عدم المساواة الطبيعية الواضحة؟ ففي أي ديمقراطية، يعتقد كل شخص أنه ينعم بالمساواة مع غيره؛ ففكرة المساواة أقوى من حقيقة اللامساواة؛ لأنها يمكن أن تخلق مساواة في حالة عدم وجودها. فربما يكون جارك أكثر ثراء منك ، لكن إذا اعتقدت أنه مساو لك، فإنه سيصبح على هذا النحو. استخدم توكفيل مفهوم الشبيه أو النظير للإشارة إلى القوة الإبداعية للرأي العام الديمقراطي؛ فجارك ليس مساويا لك تماما، لكنه شخص يشبهك، على الرغم من أنه أكثر أو أقل ثراء أو جمالا أو ذكاء منك؛ لذا يمكنك التعامل معه على أنه مساو لك؛ مما يعني أن جوانب عدم المساواة بينك وبينه لا تمنح أيا منكما سلطة على الآخر.
يجب أن نطبق مفهوم الشبيه على عبارة توكفيل التي تقول إن الثورة الديمقراطية تؤدي إلى مساواة أكبر في الأوضاع، وهي عبارة يعترض عليها بعض القراء؛ لأنها تغفل على ما يبدو جوانب عدم المساواة الواضحة التي تستمر فيما نسميه «الديمقراطية». لكن ما «نطلق» عليه ديمقراطية «يكون» ديمقراطية؛ فالديمقراطية هي سيادة الكل المتساوين منهم وغير المتساوين؛ حيث إن جميعهم يعتبرون أنفسهم متشابهين. فالناس الذين ينظر إليهم على أنهم متساوون يكونون متساوين في الواقع، على عكس تساويهم من الناحية النظرية، وهي مساواة نادرا ما تلاحظ، هذا إن حدثت، ويعتبرها المنظرون الليبراليون الحالة الطبيعية. استبدل توكفيل بالمساواة الطبيعية المزعومة للبشر المساواة العرفية التي يرى فيها الناس أن الآخرين مشابهون لهم. غير أن المساواة العرفية بين المتشابهين ليست اعتباطية تماما؛ فهي تقوم على أساس الفخر بالطبيعة الإنسانية التي بموجبها يعتقد الفرد أنه مهم؛ حيث يمكن للفرد أن يشعر بالفخر بأنه لا يوجد من هو أعلى مكانة منه (كما في الديمقراطية)، كما يشعر بالفخر بأنه أعلى مكانة من الآخرين (كما في الأرستقراطية).
عندما تذعن للرأي العام، فإنك لا تذعن لشخص أو جماعة قد يبدو أن لها سلطة عليك؛ فغموض الرأي العام لا يحميه فقط من الاتهام أو تحمل المسئولية، وإنما يسمح له أيضا بأن يصبح بمنزلة سلطة؛ فالتشابه داخل شعب ديمقراطي يجعل الديمقراطية تبدو طبيعية، بالرغم من أنها إلى حد كبير عرفية. وعلى الرغم من إقرار توكفيل بوجود فارق بين الطبيعة البشرية والعرف البشري، فإنه لم يحاول توسيع هذا الفارق كما فعلت النظرية الليبرالية، التي عارضت الاثنين كما لو كان كل منهما معاديا للآخر، لكنه بدلا من ذلك مزج بين ما هو معطى وما هو مصطنع.
إن الإحساس بالفخر يتم الثناء والهجوم عليه في نفس الوقت في ظل الرأي العام الديمقراطي؛ فعندما يقارن فرد نفسه بآخر، يشعر بالفخر لأنه متساو مع الآخرين، لكنه عندما يقارن نفسه مع «مجموع كل المشابهين له»؛ أي جمع كبير من الناس، يغلبه شعور بالضآلة وعدم الأهمية؛ لذا فإن الرأي العام «يضغط على نحو كبير على عقل كل فرد»، فيحاصره ويوجهه ويقهره. وكلما زاد تشابه الأفراد بعضهم لبعض، زاد شعور كل منهم بالضعف في مقابل الآخرين كلهم، ويبدأ في عدم الثقة والتشكك في نفسه عندما يجد نفسه مختلفا مع الأغلبية؛ وهكذا فإن الأغلبية «ليست في حاجة إلى قهره، وإنما هي فقط تقنعه.» وهذا هو سبب ندرة الثورات الكبيرة في الديمقراطية، بحسب اعتقاد توكفيل؛ فالشعوب الديمقراطية ليس لديها الوقت ولا الميل للبحث عن آراء جديدة، فهي لا تحيد عن الآراء الشائعة بالرغم من الأخطاء الموجودة بها دون النظر لشعورها بالخضوع لأنها تذعن لرأي الأغلبية.
ناپیژندل شوی مخ